أوراق من دفتر أيار (29) - الشتات
 
 


الشتات 

نتيجة لحرب عام 1948 أصبح نصف الشعب الفلسطيني لاجئاً في دول الجوار ( 711000 حسب إحصائيات الأنروا في حينه).  وان تصبح لاجئاً يعني أن تقاسي ما هو أشد من الموت.  لقد أصبح الشعب الذي إبتكر الكتابة[1] والميجنة[2] مشرداً.  وقد أثبت أنه مفيداً في تشرده مثل ما يمكن أن يكون مفيداً في موطنه.  لقد نزح الفلسطينيون ينتابهم قناعة أنه نزوح مؤقت.  نزحوا إلى ما تبفى من فلسطين؛ الضفة الغربية وقطاع غزة، كما نزحوا إلى الأردن وسوريا ولبنان والعراق ومصر وبلدان أخرى عربية وغير عربية.
تم إقتلاع شعب منتج محب للحياة مرتبط بأرضه ومتمسك ببنية مجتمعه.
لقد قاوم الفلسطينيون الإستيطان الصهيوني وإضطروا للتحارب مع أعتى قوة في العالم في ذلك الزمن، والتي رمت بكل ثقلها لإجهاض قدرات هذا الشعب القتالية وإضعاف مقومات صموده، فشنت حكومة الإنتداب حرباً على المزارع الفلسطيني وعلى الإقتصاد الفلسطيني عموماً، ومع هذا فقد بنى الفلسطينيون إقتصاداً، ما بين عامي 1922 و1948 ينافس الإقتصاد اليهودي القائم على الكفاءات الجاهزة المستوردة ودعم المنظمات الصهيونية الجزيل.  حقق الإقتصاد اليهودي معدل نمو السنوي في هذه الفترة بلغ 13.2% بينما بلغ معدل النمو الإقتصادي 6.5% لدى العرب الفلسطينيين، وهو إنجاز عظيم.  كما أن تقريراً للأمم المتحدة غطى إقتصادات 39 دولة من بينها فلسطين، فكان ترتيب اليهود في فلسطين رقم 15، بينما بلغ عرب فلسطين 30، وكان ترتيب مصر 33 وتركيا 35.
لقد ترك الفلسطينيون وراءهم مزارع عامرة ومصانع مزدهرة ومدارس ومعاهد وشركات تأمين وشحن ونقل وطيران وفنادق ومنظومة بنكية متقدمة وصحافة عريقة وإعلام.  كل ذلك خرّج كفاءات في شتى الميادين، لم تنتفع منها دول النفط فقط، بل إنتفع منها الجميع.
أسس الإنكليز إذاعة الشرق الأدنى في يافا سنة 1930، فتربى جيل من الإذاعيين الفلسطينيين، لم تكن تخلو منهم إذاعة عربية لغاية الستينات.  وحدث الشيء نفسه في قطاع التأمين وقطاع البنوك.  أما في مجال الزراعة، فقد أدخل الفلسطينيون زراعة الحمضيات في غور الأردن وجنوب لبنان وسهل الغاب في شمال سوريا.
وفي مجال التعليم لعب المعلمون الفلسطينيون دوراً محورياً في النهضة التعليمية في العالم العربي، وصل بعضهم إلى الكويت في الثلاثينات ووصل البعض الآخر إلى السعودية في الأربعينات، أي قبل النكبة.  أما بعد النكبة فقد إمتهن الكثير من المتعلمين الفلسطينيين التعليم وعملوا في مدارس ومعاهد عليا في دول عربية كثيرة ( ربما جميعها )، وكان لهم الفضل في إدخال تعليم اللغة الإنكليزية إلى سوريا، على سبيل المثال.
ربما عُدَ ذلك نعمة، للبعض، ولكنه شرف آخر حظي به الفلسطينيون، إضافة إلى تصديهم إلى مخطط لم يستهدف أرضهم فحسب، إنما إستهدف الأمة لإبقاءها ممزقة وضعيفة، لقد حظوا بشرف المساهمة الفاعلة في إعادة بناء الأمة.           
نديم أسـعد        


[1] تم إبتكار الكتابة في مناجم النحاس في سيناء المصرية من قبل عمال آسيويين – كما تقول الرواية.

[2] حسب رواية الفنان اللبناني ملحم بركات في مقابلة- حيث قال أن الفلسطينيين هم اللذين حافظوا على الموسيقى الشامية، بينما إنخرط اللبنانيون والسوريون في التعاطي بالطقطوقة التركية واضاف أن الميجنة بدأت في الجليل.


لقراءة باقي سلسلة مقالات أوراق من دفتر أيار:


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter