أوراق من دفتر أيار (21) - من قصص المعاناة
 
 


من قصص المعاناة
تردد لسنوات عديدة الكثير من القصص التي تحكي المعاناة الإنسانية التي عاناها أفراد وأسر سمعت بعضها وقرأت عن البعض الآخر، أسوقها لأضع القارئ الكريم في صورة تلك الأيام الحالكة وما تلاها.
أذكر قصة كاتب من يافا غادر على متن قارب، وفي عرض البحر طُلب من الركاب تخفيف الحمولة حتى لا يغرق القارب، فكان بيده مخطوطة كتاب عن التراث الفلسطيني فإضطر إلى رميها في البحر.  وأذكر قصة إمرأة فقدت أخاها فعادت مشياً إلى حيفا تبحث عنه، وتكبدت بذلك مشقة شديدة حيث إضطرت إلى الدخول إلى الجبانات ( المقابر الجماعية ) وتقليب الموتي وتفقد وجوههم لتجد أخاها المفقود.
لقد عاد كثيرون إلى بيوتهم لإحضار متاع أو مونة.  ذكر لي صديق أن أباه عاد من جنوب لبنان إلى قريتهم في الجليل الأعلى لإحضار تنكة زيت زيتون.  كما تسلل آخرون لإحضار بعض رؤوس الماشية، وهذت تتطلب جسارة شديدة، من الواضح أنها مدفوعة بحاجة شديدة ورغبة بإستعادة بعض ما يملكون.  لم تكن الحدود مضبوطة تماماً في تلك السنين فنشأت حركة تهريب سلع وعملة على جانبي الحدود، كما نشأت حركة من بعض الأشخاص الذين إمتهنوا العبور إلى المستوطنات الصهيونية الحدودية والعودة بأي شيء يمكن العودة به معرضين أنفسهم للقتل في كل متر يمشونه على جانبي الحدود.  لقد نُسجت حولهم قصص كثيرة مجَّدتهم وصنعت منهم أبطالاً.  لقد شجع هؤلاء قيام حركات فدائية إبتداء من منتصف الخمسينات.   
هناك قصص كثيرة تتعلق في كيفية لم شمل الأسرة الواحدة أو أبناء العائلة أو حتى أبناء القرية.  نجم عن ذلك إعادة جزئية للتركيبة الإجتماعية.  مع ذلك فهناك أهالي قرية إجزم الواقعة إلى الجنوب الشرقي من الكرمل، على سبيل المثال، فهم موزعون على طرابلس ودمشق وبغداد، إضافة إلى الضفة الغربية والأردن.
هناك قصص عن بعض التحولات في أوضاع بعض الأسر، فقد ذكر لي صديق أنه كان سائراً في شوارع بيروت في أواسط الخمسينات عندما سمع صوت بائع ينادي على تفاح، معلناً أن الكيلو بليرة.  ويبدو أن السعر كان مغرياً حتى في ذلك الزمان مما جعل الناس يتحلقون حوله، وعلى الفور أدرك صاحبنا أن الصوت مألوف لديه فدخل في الحشد ليعرف مصدر الصوت ليجد أنه زميل دراسة في يافا، متذكراً أنه كان يأتي إلى المدرسة بسيارة أولدزموبيل كشف يسوقها سائق.  كان ذلك قبل سنوات قليلة.  كما أن قصة ترددت في عمان في مطلع الخمسينات عن شخص كان معروفاً في موطنه على الساحل الفلسطيني وبملكيته الواسعة للأرض.  وكان هذا الرجل يمشي على قدميه صاعداً إلى جبل الويبده، فيما يعرف بطلوع الويبده.  فسأله أحد معارفه مخاطباً إياه بالباشا ومتسائلاً لماذا لا يركب المواصلات ( السيرفس ) فغضب من كلامه وقال ما يوحي أنه لا يملك الخمسة فلوس الضرورية لدفع أجرة السيارة.  ومضى ماشياً ولكنه لم يكمل طريقه فقضى في نهاية الطلوع.
هناك قصص كثيرة مشابهة، كثيرون من أصحاب الجاه من ما يسمى بأرستوقراطية الريف التي كانت ثروتها تعتمد على المحاصيل في موسمها، ولم تكن السيولة النقدية أحد مظاهر ثروتهم، هؤلاء عانوا كثيراً.
عانى المتعلمون بشكل أقل فشهاداتهم وخبراتهم كانت مطلوبة في أكثر من قطر عربي.  وكذلك أبناء المدن ممن كانت بحوزتهم نقد سائل، وأظنهم كانوا قلة.
عانى كثيرون، ودفع البعض حياته في محاولاتهم للخروج من الوضع الإقتصادي السيء الذي وجدوا أنفسهم فيه، ولم يكن ما كتبه الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في روايته " رجال في الشمس " من نتاج خياله.                                                                       نديم أسـعد   


لقراءة باقي سلسلة مقالات أوراق من دفتر أيار:

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter