أوراق من دفتر أيار (15) - الخامس عشر من أيار
 
 


الخامس عشر من أيار 
في الخامس عشر من أيار من العام 1948 غادر آخر مندوب سامي بريطاني، السير ألن كنينجهام Sir Alan Cunningham ، فلسطين بعد ثلاثين سنة من الإنتداب البريطاني، تمكن البريطانيون فيها من إجراء تغييرات ديمغرافية وإجتماعية وسياسية تتفق مع رغبتهم وعقيدتهم الدفينة أدت إلى خلق دولة مصطنعة في وسط يرفضها، لا يزال العالم كله يتأثر بنتائجه ويدفع أثماناً متفاوته. 
في عقب الحرب العالمية الأولى دخل الجنرال ألينبي القدس كفاتح، على الرغم من تحالف العرب مع الحلفاء.  وبعد حصولهم على حق الإنتداب من عصبة الأمم بادروا بتعيين أول مندوب سامي، وكان يهودياً، صامويل، وكانت مهمته تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. 
بعد الثورة البلشفية في روسيا تم الكشف عن بعض وثائق الخارجية القيصرية الروسية، وكان من بينها وعد بلفور وسايكس بيكو.  فوصل ذلك إلى مسامع العرب ومن بينهم الفلسطينيين، الذين خرجوا بمظاهرات ضخمة عمت جميع مدن فلسطين تطالب بإستقال فلسطين.  وأصبحت نوايا الإنكليز واضحة، وأن الغدر كان مبيتاً للعرب جميعاً. 
عند ذلك بدأ الفلسطينيون يعارضون الهجرة اليهودية، سلمياً أولاً، إلى أن حاولت منظمة بيطار Betar ، وهي جماعة يهودية متطرفة أسسها جابوتنسكي، رفع علمهم على حائط البراق في القدس، فثار العرب، وسقط في هبة البراق قتلى من الطرفين. 
عند ذلك إتضح أن العمل المسلح أصبح الخيار الوحيد، فكانت ثورة القسام، الذي صمد حتى الشهادة في أول مواجهة، ولكن دماءه ودماء رفاقه لم تذهب هدراً فتشكلت قوى مسلحة تعلمت تكتيكات مبتكرة، كان لها أثر كبير. 
كانت بريطانيا ما بين الحربين لا ينازعها في القوة العسكرية أحد، ومع هذا – وصفها جواهر لال نهرو في كتابه معالم تاريخ العالم – " فلسطين الصغيرة تهزها " -    little Palestine shakes them up -  لقد إستطاع الثوار أن يفرضوا سلطتهم على مساحات واسعة – فيما يعرف بالأراضي شبه المحررة، ومن ينها بعض المدن لعدد من الأيام. 
في العام 1936 أضربت فلسطين لمدة ستة أشهر، وهو أطول إضراب شامل في التاريخ، ولم ينته إلا بعد تدخل سبع ملوك عرب، الذين طمأنوا شعب فلسطين إلى أن الحليفة البريطانيا تتفهم إحتياجاتهم ... 
تمكن الإنكليز من القضاء على الثورة بعد جهد.  وقد أحضروا لهذه الغاية أفضل جنرالاتهم، الجنرال ديل Dill ، الذي لعب دوراً محورياً في الحرب العالمية الثانية لاحقاً بفضل ما إكتسب من خبرات في فلسطين.  لقد إستخدمت القوات البريطانية كل ما في وسعها للقضاء على الثورة.  وعندما قررت بريطانيا الخروج من فلسطين، كانت قد أفرغتها من السلاح ( كانوا يصادرون سكاكين المطبخ عند دهمهم للبيوت ) ومن القادرين على حمل السلاح.  لقد غادر بعض الثوار فلسطين إلى دول عديدة لم يتسنى لبعضهم العودة إليها أبداً. 
غادر الإنكليز فلسطين وقد إرتكبوا أنذل ما يمكن من أعمال.  ولم تبدأ النكبة بمغادرتهم، فقد كانت حيفا ويافا وطبريا وأجزاء واسعة محتلة من قبل العصابات الصهيونية، وكان التهجير والقتل والمذابح قد بدأ بوجود الإنكليز على أرض فلسطين، التي دخلوها كحلفاء، ثم تحولوا إلى محتلين ثم إقترفوا ما سيشهد التاريخ عليه أنه أغبى وأنذل عمل في التاريخ. 
نكبتنا بدأت عندما دخل ألينبي القدس، أما خروج كننجهام من حيفا، فإنه كان حدثاً أصغر من أن يلاحظ،  فقد غطت عليه أحداث أكثر إيلاماً وأشد وقعاً.                                                                             

نديم أسـعد

لقراءة باقي سلسلة مقالات أوراق من دفتر أيار:

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter