كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثالث - خاتمة - قصة مدينتين
 
 



قصة مدينتين

وصلنا إلى النهاية مع قصة مدينتين، المدينة والقسطنطينية، إنتهى الصراع بينهما بسقوط مدينتين، القسطنطينية ذاتها وغرناطة، التي كانت إمتداداً للتجربة التي بدأت بالمدينة.  ولكنالقسطنطينية لم تنتهي، بل إستمرت عاصمة لإمبراطورية لا تقل حجماً عن إمبراطوريتها السابقة، ولكن تتفوق عليها بالتسامح.  فقد إستمرت مركزاً لواحد من أعظم الأطياف الدينية في عالمنا، وهو الكنيسة الأرثوذكسية، كما إحتضنت ملايين اليهود الذين فروا من بطش أوربا غير المتسامحة.  لم تطفأ شعلة القسطنطينية، سواءاُ عندما كان مزاجها إغريقياً وثنياً أو رومانياً مسيحياً أو تركياً إسلامياً.

ولكن شعلة غرناطة طُمست.  فلم يبقى منها إلا قصر الحمراء، فتوقفت عن التوهج وإنقطع عطاؤها.

أما المدينة المنورة فقد إستمرت بعطائها، وإن فقدت دورها كعاصمة، ولكن دورها السياسي إستمر بمقادير متراوحة عبر العصور.  وحققت أكبر إنجازتها في فترة لم تتجاوز أربعة عقود، فيها إحتضنت المشروع الإسلامي وفيها تشكلت الدولة ومنها إنطلقت جيوش للدفاع عن العقيدة الجديدة.

كان المسلمون الأوائل يتوقعون تقبل الروم لدينهم الجديد، أو على الأقل عدم مناصبته العداء، في عالم وثني بغالبيته.  فلم يكن إتباع الديانات السماوية يتجاوزون حوض البحر الأبيض المتوسط إلا في جيوب قليلة.  وبناء على ذلك تألم المسلمون عندما مُني الروم بهزيمة على أيدي الفرس، لقد إنحاز المسلمون إلى الروم دون تردد.  كان هذا في مكة، ولكن الصورة تغيرت بعد الهجرة إلى المدينة، فقد رأى الروم بهذه الدولة الفتية المنبعثة في قلب الجزيرة العربية عاملاً مخلاً بالتوازن بينهم وبين فارس.  التوازن الذي كان المحرك الأعظم لسياسة الروم الخارجية في شرق المتوسط خلال القرون الثلاث السابقة.  لم تتمكن بيزنطة من تفهم الدين الجديد، وسارعت إلى عداءه.  تماماً كما فعلت روما مع الدين الذي جاء به السيد المسيح عليه السلام.  فحلت حالة العداء مكان حالة التقبل والإتفاق المأمولين.  فوقع الصدام.  وإستمر لقرون.  هُددت فيها القسطنطينية نفسها مراراً.  وفي أوج الصراع هرعت تطلب مساعدة أوربا، فكانت الحروب الصليبية.  التي كانت وبالاً على الإمبراطورية البيزنطية بقدر ما كانت وبالاً على الشرق الإسلامي.  فقد وجهت الحملة الصليبية الرابعة ضد القسطنطينية، ونهبت ثرواتها وأستبيحت بشكل وحشي جداً، وأستهدفت أماكن العبادة، وكان من بينها مسجد القسطنطينية، الذي هاجمه فرسان غرب أوربا ليجدوا مجموعة من المسيحيين والمسلمين يدافعوا عنه، الأمر الذي كان من الصعب إستيعابه بالنسبة لفرسان بيرجندي والراين وبروفانس ونورماندي وغيرهم.

وعندما إشتد الخطر العثماني على القسطنطينية، أو ما تبقى منها بعد الإستنزاف الفرنجي، كان هناك من يردد أنهم يفضلون العمامة التركية على الطاقية اللاتينية.  لقد سقطت القسطنطينية وسقطت بغداد وسقطت غرناطة وسقطت القدس مراراً.  وكان لسقوط كل منها قصة تروي قصة الصراع بين الشرق والغرب.

لقد كانت القسطنطينية أحصن مدينة عبر التاريخ في العالم أجمع.  أما المدينة المنورة فلم يكن لها سور، ولم تكن تحيطها أبراج.  ومع هذا صمدت.       


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم   
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)    
التعليق  
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter