كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثالث - الفصل السادس عشر - فتح القسطنطينية
 
 



الفصل السادس عشر

 

فتح القسطنطينية

 

آخر أيام الإمبراطورية 

أسس اللاتين مملكة خاصة بهم  في القسطنطينية نتيجةً للحملة الصليبية الرابعة في العام 1204م حيث تم تحويل مسار الحملة الموجهة إلى مصر، وتنصيب بلدوين إمبراطوراً . وفي نفس السنة قام بلدوين بقيادة قوة من الفرسان الفرنج لإبعاد خطر البلغار الذين هاجموا أراضي الإمبراطورية، ولكنه خسر المعركة ووقع في الأسر، حيث مكث عدة أشهر مكبلاً في الحديد قبل أن يُعدم.  فقام الصليبيون بتعيين أخاه هنري إمبراطوراً .  وقد حاول هنري الإنتقال إلى الأناضول لفرض سيطرة دولته على ممتلكات بيزنطة الآسيوية، ولتوزيعها على أمراءه وفرسانه، فتصدى له ثيودور لاسكاريس، وهو قائد في الجيش البيزنطي إلتف حوله بقايا قطاعات الجيش ، وفتحت له مدن غرب الأناضول أبوابها حيث تُوج إمبراطوراً في نيقية في العام 1206م. 

ونتيجةً لذلك أصبحت مملكة اللاتين لا تتعدى حدودها مناطق ضيقة حول أسوار المدينة وعلى سواحل الأناضول مقابلها، فقد تمسك البيزنطيون بأجزاء واسعة من بلادهم، وتُوج أحدهم إمبراطوراً.  

لم يكن الإمبراطور البيزنطي المتوج في نيقيا بدون منازع.  فقد لجأ أحد أحفاد أندرونيكوس الأول وأسس دولة على سواحل البحر الأسود الشرقية ، وقد حاول ضم الأراضي التي سيطر عليها ثيودور، ولكنه لم يتمكن من ذلك.  وقد بقي هذا الشريط الساحلي تحت حكم أحفاده لمدة ثلاثمائة سنة، أي إلى ما بعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين.  كما ظهر في غرب البلقان حاكم آخر تربطة صلة دم بسلالة إمبراطورية، فأسس ثيودور دوكاس دولة في سالونيك وبنى جيشاً من مقاتلين ألبان.  حيث توسع على حساب الدوقية الفرنجية المزروعة في منطقته.  فأصبحت الإمبراطورية اللاتينية محاطة بإمبراطوريتين بينزنطيتين.

وفي القسطنطينية توفي هنري وعقبه بيتر الذي قتل في إحدى المعارك مع إمبراطورية سالونيك.  فخلفه إبنه روبرت في العام 1217، وعاش لغاية العام 1228م فإعتلى العرش الإمبراطوري أخوه بلدوين الثاني ، الذي كان غير قادر على تدبير أمور الدولة، فتقلصت حدودها أكثر وأكثر. 

أما في نيقيا فإن الحكم إنتقل بعد وفاة ثيودور إلى زوج إبنته جون الثالث.  الذي أثبت أنه حاكماً مقتدراً إدارياً وعسكرياً.

وفي العام 1230م قامت قوات نيقيا بعبور المضيق إلى الجانب الأوربي، حيث تمكنت من طرد الفرنج من جنوب تراقيا.  وفي العام 1235م قام جون الثالث بمحاصرة القسطنطينية .  ولكنه إضطر لفك الحصار عند تقدم أسطول بندقي.  ثم إتجه جون الثالث ، بعد إخفاقه في حصار القسطنطينية إلى التعامل مع أحد منافسيه.  فهاجم دولة سالونيك وهزمها في الميدان ووصل إلى عاصمتها وحاصرها في العام 1241م .  فأذعن حاكمها للتنازل عن اللقب الإمبراطوري، والقبول بلقب آخر بحيث يكون تابعاً له. ولكن بعد وفاته بأربع سنوات قام جون بمهاجمة سالونيك وضمها. 

مات جون الثالث في سنة 1254 وترك العرش لإبنه ثيودور الثاني، الذي عاش أربع سنوات إستطاع فيها إبعاد خطر البلغار والألبان.  فتولى الحكم إبنه جون الرابع الذي كان طفلاً في الثامنة،  مما شجع أحد القادة العسكريين وهو ميخائيل باليولوغس أن يغتصب السلطة بعد تمهيد وتآمر إمتد لسنتين.  وقد أدى إغتصاب السلطة إلى تكالب جميع أعداء الإمبراطورية البيزنطية وتوحدهم ضدها.  فإلتقى جيش نيقيا وجيش الفرنج وحلفائهم اليونانيين والأوربيين في معركة تم حسمها لصالح جيش نيقيا وتدمير الجيش الآخر، بحيث أصبحت القسطنطينية جاهزة لتستعيد سادتها التاريخيين .

وقد إستطاع أحد قادة ميخائيل الثامن بمساعدة ثمانيمائة فارس وعدة مئات من المتطوعين أن يدخل المدينة بمساعدة من الداخل سنة 1261م، وهرب الصليبيون وإمبراطورهم من القسطنطينية ، وكان آخر أباطرة اللاتين الصليبيين في القسطنطينية بالدوين الثاني قد أمضى معظم وقته في العواصم الأوربية يستجدي المساعدة والدعم ، وكان نجاحه محدوداً جداً ، فقد قدم له لويس التاسع مبلغاً من المال مقابل التحف البيزنطية التي قدمها له، وكانت حالة الدولة قبل سقوطها مزرية ، فقد كانت مفلسة لدرجة أن إحتاج الإمبراطور لبيع صفائح الرصاص التي تحمي سقف القصر من الأمطار [1] .  

ولدى دخوله إلى القسطنطينية ، بعد عشرين يوم من تحريرها ، ألغى ميخائيل الثامن جميع القوانين والمراسيم اللاتينية، وأصلح الكنائس والمباني التي تركها اللاتين مجرده من حليها ، وأعاد توطين المدينة بسكانها الذين تركوها قبل عقود، فأعاد إلى النبلاء قصور آباءهم وأجدادهم [2] . 

بادر إمبراطور القسطنطينية الجديد إلى تحسين العلاقة مع البابا، فعمل على توحيد الكنيستين.  وكان يهدف من ذلك إلى تحييد مؤيدي اللاتين الذين أخرجهم من القسطنطينية مؤخراً والذين لا يزال لهم وجود في البلقان. وقد عورضت سياسته هذه في القسطنطينية معارضة شديدة، فلجأ إلى قمع معارضيه وسجنهم.  ولكن الأمور لم تسر كما أراد، فقد إنتهت بإصدار قرار حرمان بحقه من قبل البابا مارتن الرابع، الذي إنحاز تماماً مع اللاتين . 

توفي ميخائيل سنة 1282م بعد أن أسس أسرة حكمت لأكثر من قرنين ، وهي الأطول في التاريخ الروماني .

تولى الحكم بعد وفاة ميخائيل إبنه أندرونيكوس الثاني ، الذي كان قد تُوج في حياة أبيه.  وقد تابع سياسة التقارب مع الغرب ، كنسياً وسياسياً .  وقد واجه وضعاً إقتصادياً صعباً.  وبعد أن مني بهزائم في الأناضول على يد العثمانيين إستعان بقوات مرتزقة إسبانية المسماة المغبرين  Almogavars ، وهي مجموعات أرغونية وكتلانية من المقاتلين المحترفين، تأسست في إسبانيا وتمرس مقاتلوها في حروبهم ضد المسلمين.  ثم لعبت دوراً فعالاً في حرب صقلية بقيادة روجر دي فلور، الذي وصل إلى القسطنطينية بصحبة 6000 مقاتل، الذين كانوا يعدون أفضل محاربي العالم المسيحي [3] ، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق مكاسب ثابتة على الأرض، فقد حققوا بعض الإنتصارات ولكنهم لم يوقفوا زحف العثمانيين ، الذين تمكنوا من الإستيلاء على بورصا وإتخذوها عاصمة لهم.  وفي عهد إبنه ميخائيل التاسع ، الذي حكم معه، وقع الخلاف مع هذه القوات، الذين بدأوا بجمع الضرائب لأنفسهم ، فقام أحد ضباط الإمبراطورية بإغتيال قائدهم روجر، فثاروا ووقعوا في تراقيا ومقدونيا تخريباً ونهباً.  وقد قاد ميخائيل التاسع الجيش البيزنطي ضدهم ولكنه جرح في المعركة وسرعان ما  توفي سنة 1320م، بينما كان أبيه على قيد الحياة.  

وقع الخلاف بين أندرونيكوس الثاني وحفيده أندرونيكوس الثالث، حيث أراد الجد إستبعاد الحفيد من ولاية العهد وقد أدى هذا الخلاف إلى قتال متقطع إستمر إلى العام 1328م ، حيث وافق الجد على التنازل بعد حكم إستمر خمسين سنة، فقضى آخر أيامه في أحد الأديرة. أما المرتزقة الإسبان فقد إستطاعوا السيطرة على دوقية اثينا من دوقها الفرنسي اللاتيني. 

وفي عهده تآكلت الممتلكات البيزنطية في غرب آسيا تحت ضغط العثمانيين.  وقد عمل على تقوية الأسطول البيزنطي .

توفي أندرونيكوس الثالث في العام 1341م ، وخلفه إبنه جون الخامس، الذي كان في التاسعة من العمر.  وقد وقع الإمبراطور ضحية رئيس وزراء أبيه جون كونتاكوزين، الذي كان طموحاً ، وقد بذل جهداً كبيراً في أن يكرر ما فعله ميخائيل الثامن، ورغم أنه كان ماكراً ، إلا أنه كان لا يتقن توقيت تحركاته، فقد كان متأخراً دائماً [4] .  ولكن الإمبراطورة اليقظة إستطاعت أن تشكل جبهة معادية لكونتاكوزين.  وعندما إتضح له أنه يخسر المعركة لجأ للأعداء.  فإتصل بالأتراك  العثمانيين وغيرهم.  وقد نجم عن ذلك أن أصبحت جاليبولي تحت سيطرة الأتراك في زمن أورخان ، الذي وطن فيها مئات العائلات التركية.  ثم توصل الطرفان إلى حل بأن يصبح جون كونتاكوزين إمبراطوراً بجانب جون الخامس بإسم جون السادس في العام 1347.  ولكن جون السادس كونتاكوزين لم يعش أكثر من خمس سنوات، وقد خلفه إبنه ماثيو لسنوات قليلة.    

وقد توجه جون الخامس إلى أوربا للمساعدة، وقد عرض على البابا توحيد الكنيستين تحت قيادة كنيسة روما.  وبينما كان في البندقية سنة 1369 تم إيقافه على خلفية ديونه لبنوك المدينة.

وفي زمن مراد أصبحت تراقيا بكاملها ، من البحر إلى البحر، بحوزة الأتراك ، وقد إعترف  الإمبراطور بهيمنة الأمراء الأتراك ، الذين لم يتلقبوا رسمياً بلقب السلاطين بعد.  فقد طلب مراد من جون الخامس وإبنه مانويل أن يزحفا على رأس جيش للإستيلاء على مدينة فيلادلفيا التي إستسلمت بسهولة لدى مشاهدة الأعلام الإمبراطورية خارج أسوارها [5] .  وبهذا تم ضم واحدة من                     المدن الرومانية الأخيرة في آسيا إلى الممتلكات التركية بجهود بيزنطية.        

وفي العام 1379 ساعد مراد الإمبراطور، طويل العمر ، الذي حكم ما يقارب من ستين سنة، على إستعادة عرشه الذي إغتصبه إبنه أندرونيكوس الرابع، من زوجته هيلينا إبنة كونتاكوزين،  قبل ذلك بثلاث سنوات .  ولم تتوقف المؤامرات على عرش الإمبراطور، فبعد وفاة كونتاكوزين وإبنه، ثم هزيمة إبنه أندرونيكوس الرابع، جاء دور الحفيد جون السابع، الذي إغتصب العرش لبعض الوقت. 

ويذكر أن ثورة إبن جون الخامس تزامنت مع ثورة إبنٍ لمراد، وعندما هزم العاهلين إبنيهما بقبض مراد على الإبنين الثائرين، قام مراد بسمل عيني إبنه، وطلب من جون أن يفعل الشيء نفسه بإبنه، فقام جون بسمل عين واحدة من عيني إبنه، ويبدو أن عملية السمل لم تكن ناجحة، بحيث إستطاع الإبن، الذي بقي له شيءٍ من البصر ، أن يقوم بمحاولة ثانية للإطاحة بأبيه. 

وفي العام 1390 حاول جون الخامس تدعيم البوابة الذهبية في القسطنطينية مستخدما الرخام من الكنائس الخربة في المدينة، ولكن بايزيد منعه من ذلك، ويقول بعض المؤرخين أنه مات كمداً في بداية العام التالي.

إعتلى مانويل الثاني العرش الإمبراطوري سنة 1391 م.   لم يكن بيد مانويل سوى إنتظار مصير بلاده، التي لم يتبقى منها الكثير، وذلك ليس لعجزٍ منه ، فلم يكن من النوع العاجز، ولكن موارد الدولة كانت معدومة وقدراتها العسكرية ضعيفة.

ولكن ما إن بدأ القرن الخامس عشر حتى لاح بريق أمل لم يكن في الحسبان ، فقد هاجمت جيوش تيمورلنك الأناضول وهزمت العثمانيين في معركة أنقرة، ومزقت جيوشهم واسرت بايزيد ، الذي خلف أبيه مراد.  وإجتاحت الجيوش التترية بقية ممتلكات العثمانيين، حيث أعادت الأمراء الأتراك الآخرين إلى مدنهم وقلاعهم، التي إستولى عليها العثمانيون خلال عقود وبنوا دولتهم على أراضيها.   ومات بايزيد في الأسر، وإنشغل أبناءه في صراع داخلي على السلطة إستمر عشر سنين.

طوال تاريخها كانت بيزنطة تتقن الإستفادة من خلافات الوراثة في دول الجوار، وفاخر بذلك ساستها ومؤرخوها، فشكل ذلك فرصة ذهبية لمانويل، الذي تمكن من إستعادة أجزاء كبيرة من ممتلكاته الأوربية ، بما في ذلك ساحل البحر الأسود من البسفور إلى فارنا، وذلك مقابل مساعدات قدمها للإخوة المتصارعين. 

إستطاع محمد أصغر أبناء بايزيد حسم الوضع لصالحه، وإستطاع إستعادة معظم ممتلكات أبيه، ولكنه فقد بعضها للأمراء الأتراك ولبيزنطة وللسيرفيين Servians .  ولحسن حظ مانويل فقد تحسنت علاقاته مع محمد في آخر أيام الصراع. 

لقد أضاعت أوربا فرصة تاريخية للقضاء على العثمانيين في الفترة من 1402 إلى 1421م.  فقد إنشغلت المجر بحربها مع الهصيين Hussites ، كما خاف السيرفيين من مطامع المجر ببلادهم، ولم يكن الصرب والمجر ليتفقوا حتى في ظل خطر إسلامي داهم [6] .  

وفي العام 1421 توفي محمد وتولى إبنه مراد الثاني ، وقد نافسه على الحكم إثنين من الأمراء العثمانيين ، إسم كل منهما مصطفى ، أحدهما عمه والثاني أخوه.  وقد حاول مانويل أن يساعدهما ، مما أنزل غضب مراد على مانويل وعلى الإمبراطورية فوضعها امام مصيرها الذي تأخر منذ عهد مراد الأول.  فأعلن مراد الثاني الحرب على القسطنطينية ، فإستولى على القلاع التي تسلمها البيزنطيون عام 1403 ثم أطبق الحصار على القسطنطينية.  ولم يتمكن مراد من السيطرة على المدينة رغم إستخدامه المدفعية للمرة الأولى ، حيث إضطر لفك الحصار عندما ظهر خطر منافسه مصطفى من جديد.  فعقد إتفاقاً مع مانويل. لم يبق للإمبراطورية سوى العاصمة وسالونيك ومقاطعة بيلوبنيسيا.  توفي مانويل في العام 1425، وكان قد علق في إحدى المناسبات أن الإمبراطورية بحاجة إلى حاجب كي يحكمها وليس إمبراطوراً.  وخلفه في الحكم إبنه جون السابع.  الذي كان عهده هادئاً نسبياً ، ولكن في بداية عهده قام أحد إخوته ببيع سالونيك للبندقية مقابل خمسين ألف دينار، فقام العثمانيون في العام 1430 بمهاجمة المدينة وطرد البنادقة منها وضمها لدولتهم [7] .  وفي العام 1438 سافر جون إلى روما بصحبة بطريرك القسطنطينية والعديد من الأساقفة، وهناك أعلن تحوله إلى الكاثوليكية ، وذلك في عهد البابا يوجين الرابع ، الذي لم يكن مثل إنوسنت الثالث وغيره من البابوات الأقوياء، الذين كانوا يحركون الجيوش ويعزلون الأباطرة ، وكل ما حصل عليه جون كان مبلغاً من المال وقوة من ثلاثمائة جندي.  فكان ثمن تحوله المذهبي زهيداً جداً، بل دفع ثمناً غالياً فقد قاطعه سكان القسطنطينية وإمتنعوا عن الصلاة في كنيسة ايا صوفيا بعد إقامة الصلاة الكاثوليكية فيها.  وقد عززت هذه الخطوة الكراهية نحو الغرب ، لدرجة أن الدوق جون نوتاراس قال أنه        " يفضل العمامة التركية في القسطنطينية على طاقية البابا " [8] . 

وفي هذه الأثناء ثار أمير القرمان التركي في الأناضول، وبدأت قوى أوربية مختلفة بقيادة ملك هنغاريا تعد لحملة صليبية ، فتمكن مراد من عقد هدنة لمدة عشر سنوات وغادر إلى الشرق لقمع حركة القرمان .  وقبل مغادرته للعاصمة قام بخطوة فاجأ بها الجميع ؛ فقد تنازل عن العرش لصالح إبنه محمد ، ليضمن عدم حدوث نزاع على السلطة بعده .  وكان محمد ثالث إبن مراد ، وكان أخواه اللذين يكبراه توفيا ، فأخذ ابوه يعده للسلطنة .  فخصص له المعلمين ، فتعلم ستة لغات نصفها لغات أوربية .  وكان عمره عندما تسلم السلطنة إثني عشر سنة .  وعند سماع ذلك ، وجد البابا في ذلك فرصة لوجود سلطان حدث ، فأعفا الملك الهنغاري لاديسلاس من التعهد بعدم الإعتداء المضمن بإتفاقية الهدنة الموقعة مع العثمانيين.   

فقام الملك الهنغاري ( المجري ) لاديسلاس بمهاجمة الدولة العثمانية على رأس حملة صليبية ، حيث إستطاع تحقيق بعض الإنتصارات في البلقان.  وعند سماع ذلك، عقد مراد صلحاً مع أمير القرمان وعاد مسرعاً إلى غرب الأناضول.  وكان أسطول البندقية قد إنتشر في الدردنيل لمنع الجيش العثماني من العبور إلى البر الأوربي،  فإستعان مراد بالأسطول الجنوي، الذي تقاضى قطعة ذهبية مقابل عبور كل جندي .  وإلتقى الجيشان وهُزم الملك الهنغاري وحلفاءه هزيمة منكرة في معركة فارنا الفاصلة على البحر الأسود سنة 1444، وقتل الملك نفسه ، فعادت سيطرة العثمانيين من جديد على البلقان.  ولم يحرك جون ساكناً طوال الحرب خوفاً من إنتقام مراد. 

توفي جون سنة 1448م وخلفه أخوه قسطنطين الحادي عشر ، وفي العام 1451 توفي مراد الثاني وإنفرد محمد بالسلطة .  وقد كان قسطنطين ميالاً للكاثوليكية مثل أخيه ، ولم يكن محبوباً من قبل رعيته ، ولكنه كان شجاعاً تقياً كريماً ومتسامحاً، وأكثر من ذلك كان جندياً من طراز رفيع، وقد كان أفضل شخص أنتجه بيت باليولوجوس .  أما محمد فقد كان شخصية قيادية لم يظهر في البيت العثماني أفضل منه .  ومنذ يومه الأول وضع نصب عينه الإستيلاء على القسطنطينية ، المركز الطبيعي لدولته [9] .

وقد قدم قنسطنطين العذر لمحمد.  فقد كان هناك أمير عثماني منشق يقيم في القسطنطينية إسمه أورخان ، وكان قد طالب بالعرش ، وكان العثمانيون يدفعون مبلغاً سنوياً مقابل إبقاءه في المدينة تحت الرقابة.  فقام قسطنطين بالكتابة لمحمد طالباً زيادة المبلغ وملمحاً إلى الأمير وحقه في العرش العثماني.  فقام محمد على الفور بتحريك قواته وجلب أدوات الحصار وباشر ببناء أبراج خارج القسطنطينية.  وبنى قلعة روملي حصار على البسفور في ستة أشهر  لعزل القسطنطينية عن البحر الأسود.  فتم بذلك إطباق الحصار على القسطنطينية.  

وكان محمد قد شارك مع أبيه في معركة كوسوفو الثانية سنة 1448 ، التي إنتصر فيها العثمانيون على الهنغار إنتصاراً حاسماً آخر .  وقد أكدت هذه المعركة تفوق الأتراك .  وقد أشار أحد المراقبين إلى أن المغول ( والمماليك ) هزموا العثمانيين أكثر من مرة ، أما ألأوربيين فلم يهزموهم البتة [10] .

 

فتح القسطنطينية

لقد وصلت القسطنطينية درجة كبيرة من الضعف في زمن محمد الثاني ، فقد فقدت معظم أراضيها ، كما دب الخلاف في صفوف أهلها الذين أصابهم الترف ، وتعمق الخلاف مع كنيسة روما،  حيث لم تنفع جميع المحاولات التي جرت لرأب الصدع بين الكنيستين ، وأضافت تصرفات الصليبيين أثناء مرورهم بالقسطنطينية في طريقهم إلى الشرق إلى تعميق الخلاف، وعند إجتياحهم وإستباحتهم للمدينة سنة 1204م.  ومع ذلك ظل بعض أشكال التضامن قائم. فهرعت أوربا في عدة مرات في العقود الأخيرة للوقوف في وجه العثمانيين في أوربا، دون طائل.  كما أن حكام بيزنطة الأواخر سعوا للوحدة المذهبية مع روما في السنوات الأخيرة لضمان تأييدها، ولكن المعارضة كانت شديدة.

بدأ محمد الثاني جهوده بعقد إتفاقيات مع الدول المجاورة في الأناضول وأوربا .  ثم باشر ببناء حصن على الساحل الأوربي للبسفور أصبح يعرف بروملي حصار، ليكمل الدور الذي يلعبه الحصن الذي بناه جده بايزيد على البر الآسيوي، على الدردنيل والمسمى أناضولي حصار.  ويقع على بعد سبعة كيلومترات من أسوار القسطنطينية شمالاً.  وقد نصب عليه المدافع والمنجنيقات. وباشر بفرض حصار على السفن القادمة من البحر الأسود.  ويذكر أن أهالي القسطنطينية كانوا يعبرون عن إحتجاجهم على توحيد الكنيستين عندما أطلقت مدافع الحصن الجديد قذائفها على سفينة جنوية رفضت التوقف، مما خفف حدة الإحتجاج.

كما إستعان محمد بمهندس مجري إسمه أوربان ، كان قد عرض خدماته على ملوك أوربا ، بما في ذلك إمبراطور بيزنطة ، فرفضوها وقبلها محمد .  فصنع له مدفع عملاق ، طوله أكثر من ثمانية أمتار وقطره بحدود 75 سم ، وبإمكانه إطلاق قذيفة ( كرة ) وزنها 554 كغم لمسافة ميل .  وقد كانت المدافع إختراع مضى على ظهوره وإستعماله ما يقارب مائة عام ، وكان لدى الطرفين مدافع ، ولكنها من الحجم المعتاد ، كما لم تكن القذائف متفجرة في ذلك الزمان فقد كانت عبارة عن كرة معدنية أو جرانيتية، فكان تاثيرها يشبه تأثير المنجنيق نوعاً، الذي لم يكن مداه يتجاوز 300متر ولم يكن يُصدر صوتاً. 

كما قام العثمانيون ببناء سفن جديدة ، وتعزيز جيوشهم بالتسليح والتدريب والإستنهاض ، حيث ركز محمد الفاتح على البعد الجهادي لأعماله الحربية ، وخصوصية فتح القسطنطينية وأهميتها ، ومذكراً بحديث الرسول الكريم القائل:" لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".  وقد كان محمد متعلم ويتقن لغات عديدة بينهما العربية والفارسية وكذلك الإغريقية واللاتينية والصربية إضافةً للتركية [11] .

حاول إمبراطور القسطنطينية قسطنطين أن يحول دون وقوع النهاية للإمبراطورية ، فعرض الزواج من أُم السلطان العثماني محمد ، وأرملة مراد الثاني ، وهي سيدة بيزنطية بقيت على ديانتها المسيحية وإلتزمت أحد الأديرة بعد وفاة زوجها، ولكنها رفضت، كما رفض إبنها.  ثم توجه للبابا ودول أوربا طالباً المساعدة ، ولم يُقابل طلبه بالعناية والإهتمام الذي توقع .  فقد كانت قوى أوربية عديدة قد تلقت هزائم متكررة على أيدي العثمانيين ، كما أن نفوذ البابا كان قد ضعف ولم يعد له تأثير على دول أوربا كما كان في السابق .  ومع هذا فقد إستطاع الجنويون والبنادقة والكتلان وفرسان رودس وآخرون بتجميع قوة بحرية لمساندة المدينة المحاصرة .

تقدم الجيش العثماني نحو القسطنطينية بقيادة محمد الثاني ، حيث أطبق عليها الحصار من جميع الجهات .  لقد كانت القسطنطينية محاطة بأسوار وخنادق بطول 20 كم جعلتها أحصن مدينة في العالم .  منها 5,5 كم سور بري يسمى السور الثيوديسي و7كم على القرن الذهبي ، و 7,5 كم على بحر مرمرة  .  

إختار العثمانيون السور الثيوديسي ، حيث لا يوجد مياه .  فبدأ المدفع العملاق بقصف الأسوار .  وقد أثبت هذا المدفع أنه ليس حلاً سحرياً ، فقدرته على التصويب كانت ضعيفة ، ويحتاج إلى ثلاث ساعات لإعادة تعبئته ، وهذا وقت كافي لإصلاح الضرر الذي أحدثته القذيفة السابقة في الأسوار.  وإستمر القصف المدفعي والمنجنيقي لأسابيع .  وفي هذه الأثناء حاول الأسطول العثماني دخول القرن الذهبي ، ولكن وجود سلسلة كبيرة منعته من ذلك .  ولتجاوز ذلك وضع العثمانيون الخشب المهون بالزيت على الأرض المحاذية للقرن الذهبي ، ثم دفعوا السفن عليها إلى أن وصلت إلى الماء، فإكتمل الحصار وأصبح وصول المساعدات من الخارج معدوماً . 

هاجم العثمانيون الأسوار عدة مرات، محاولين تسلقها، ولكنهم إرتدوا عنها وقد مُنيوا من وراء ذلك، بخسائر كبيرة.  كما حاولوا حفر أنفاق تحت الأسوار، ولكن البيزنطيون ملؤوها بالماء ، مما أفقدها قيمتها. 

بادر السلطان محمد الثاني بإرسال رسالة إلى الإمبراطور قسطنطين عارضاً عليه الإستسلام حقناً للدماء ، ولكنه رفض .  وبعد خمسين يوماً من الحصار والمناوشات بدأ الهجوم . 

أمر السلطان محمد جنوده بالصيام قبل الهجوم لتطهير أنفسهم وتزكيتها .  وفي تلك الليلة تعالى التكبير وقراءة القرآن .  وجمع محمد الثاني قواده وأوصاهم أن يتجنبوا الكنائس والأديرة ، وأمور أخرى تذكر بوصية أبي بكر الصديق.

وفي اليوم التالي ( 29 أيار ) بدأ الهجوم .  شارك في الموجة الأولى القوات التي تشكلت حديثاً والمسماة " أزاب " ، وهي عبارة عن جيش يشبه الجيش الشعبي ، حيث التدريب والتسليح دون المستوى .  وقد كان الهدف تحييد أكبر عدد من المدافعين .  وتركز الهجوم الثاني على جزء من السور كان قد أُصيب بأضرار كبيرة من قبل المدفع العملاق ، وقد شارك فيه جيش الأناضول ، الذي تمكن من إحداث إختراق ولكنه توقف بسبب مقاومة البيزنطيين .  كما نجح البيزنطيون في مواجهة الهجوم الثالث ، الذي قام به الإنكشاريون ، جيش النخبة العثماني .  ولكن إصابة القائد الميداني للمدافعين ، الجنرال الجنوي جيوفاني جستينياني ، بجروح تسبب بإنهيار الجبهة .  فدخل الجيش العثماني إلى المدينة .  وكان هذا الجزء من السور هو الذي إستطاع الصليبيون إختراقه قبل 250 سنة .

وفي رواية تاريخية أخرى ، يُذكر أن بوابة في ذلك القطاع من السور وُجدت مفتوحة في ذلك اليوم .  والأمر يتراوح ما بين الإهمال والخيانة .  وقد كان من بين قتلى المدافعين عن المدينة قنسطنطين السادس ، آخر أباطرتها .

لقد شكك بعض المعاصرين في جدية جرح القائد الجنوي ، وإعتبروه جرحاً خفيفاً تحجج به القائد ليخلي موقعه ، وهذا إتهام بالجبن ، دعا حكومة جنوة إلى إرسال رسائل إلى حكومات أوربا الغربية تفند هذا الإدعاء .

وعلى الرغم من وعد محمد الفاتح ، كما أصبح لقبه ، جنوده أن يستبيحوا المدينة لمدة ثلاثة ايام ، ولكنه أوقف أعمال النهب والسلب بعد 24 ساعة واعاد النظام ، كما أرسل قوة خاصة لحماية بعض المباني ، وخصوصاً الدينية منها . 

دخل محمد الثاني المدينة ، حيث سمى نفسه قيصر الروم ، وسماه الناس الفاتح ، وكان عمره خمساً وعشرين عاماً ، وقام بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد ، مع الإحتفاظ بالكنيسة ، كما قام بتعيين بطريرك جديد للقسطنطينية . 

لقد هرب الكثير من العلماء الإغريق من سكان المدينة إلى أوربا الغربية بمعارفهم وعلومهم وكتبهم ، مما ساعد على بدء النهضة الأوربية .

توقفت خطوط التجارة البرية بين آسيا وأوربا ، وأصبح الأوربيون يفكرون بإيجاد طرق جديدة للشرق .  كما دفع سقوط القسطنطينية الأوربيين إلى التفكير الجدي بالتخلص من الوجود الإسلامي في غرب أوربا ، والمتمثل في غرناطة ، مما تسبب في نهايتها بعد نصف قرن.  أُعتبرت السنة التي سقطت فيها القسطنطينية نهاية العصور الوسطى .

 




[1] The Byzantine Empire, Oman.

[2] Roman Empire, Gibbon, VII.

[3] The Byzantine Empire, C. Oman.

[4] The Byzantine Empire, C. Oman.

[5] The Byzantine Empire, C. Oman.

[6] The Byzantine Empire, C.Oman.

[7] The Byzantine Empire, C.Oman.

[8] The Byzantine Empire, C. Oman.

[9] The Byzantine Empire, C. Oman.

[10] The Holy War For Constintenople, Roger Crowley.

[11] The Roman Empire, Gibbon, VIII.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم   
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)    
التعليق  
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter