كتاب " نحن واوربا " - الجزء الثالث - الفصل الحادي عشر - دول غرب أوربا
 
 



 

دول غرب أوربا

 

نتيجةً لحركة الهجرات الدؤوبة في أوربا نشأت كيانات سياسية حكمتها إملاءات الجغرافية وتشكلت في رحم النظام الإقطاعي، وسرعان ما تطورت إلى دول.

 

الدنمارك

يكتنف تاريخ الدنمارك القديم غموض شديد، على الرغم من أن الأراضي الدنمركية كانت مأهولة منذ زمنٍ بعيد.  ولكن إبتداءاً من القرن الثامن إرتبط تاريخ الدنمرك بتاريخ الفايكنج، كما إرتبط بتاريخ النرويج والسويد.  وقد برع الفايكنج بالملاحة البحرية والنهرية، كما كانوا مقاتلين أشداء.  وقد كان لهم إنجازات جغرافية غير مسبوقة، فقد إكتشفوا آيسلندة وجزر فارو وأجزاء من أميركا الشمالية.  وقد إستخدموا مهاراتهم الملاحية وقدراتهم القتالية بتوظيفها في القرصنة وأعمال السلب والنهب والدمار.  ولم ينج منهم أي إقليم في أوربا، حيث مارسوا هجماتهم على طول السواحل، ثم عبروا الأنهار بسفنهم، كما تركوا السفن وزحفوا على اليابسة إلى أهداف داخلية.

وقد إستقر الفايكنج في أقاليم أوربية مختلفة من ضمنها إنجلترة وفرنسا.  كما إستقروا في بلادهم وتوقفوا عن القرصنة وأخذوا يمارسون التجارة.

وفي منتصف القرن العاشر دخل الدنمركيون في المسيحية في عهد ملكهم هارالد السن الأزرق Harald Bluetooth الذي يعد الملك الثاني للدنمرك، على أثر زيارة مبشر ألماني.  وقد تمتعت الدنمرك بتنصرها بمزايا كثيرة منها تعاطف الإمبراطورية الرومانية المقدسة والبابوية، كما أصبحت جزء من النظام الأوربي. 

وقد إستطاع ملك آخر، وهو كانوت توحيد الدنمرك وإنجلترة والنروج لمدة ثلاثين سنة.  ولكن إنفصلت إنجلترة بعد وفاة كانوت سنة 1035م.  وبعد فترة من الفوضى، أصبحت خلالها الدنمرك هدفاً للقراصنة من النروج.  ثم تمكن إبن أخ كانوت وإسمه سوين إستريدسون من لم شمل البلاد وإستعادة قوة الملكية فيها.

وظهر في القرن الثاني عشر فلادامار Vladamar الكبير، الذي فرض الإستقرار وقوى إدارتها.  وفي زمنه تم بناء قلعة، التي تطورت لتصبح كوبنهاجن، عاصمة الدنمرك الحديثة.

عرف التاريخ الدنمركي صفحات طويلة من الصراع بين الملكية والأمراء الإقطاعيين، كما عرفت العصور الوسطى خلافات مع البابوية.   ولم تشارك الدنمرك في الحروب الصليبية، وقد ربطتها بإمارة الأندلس علاقات وإتفاقيات وتبادل سفراء وتجارة.  وكان العرب يسمونها دنمرقة.

وفي القرن الثالث عشر أجبر النبلاء الملك على تبني ميثاق شكل الدستور الأول للدنمرك.     

 

النمسا

في مرحلة الهجرات كانت جبال الألب هدفاً لهجرات السلاف، الذين تركوا أراضيهم بسبب زحف الآفار في القرن السابع.  إمتزج السلاف مع الشعوب ذات الأصول الكلتية الرومانية التي تقطن الجبال.  وقد نشأ عن ذلك ما عُرف بكرانتانيا، التي غطت وسط وشرق النمسا.  وفي هذه الأثناء ظهرت قبيلة بافاريا الجرمانية في الجزء الغربي من النمسا وفيما عُرف ببافاريا في المانيا.  بينما إستقر في إقليم فورارلبيرغ جماعة من الأليمانِ Alemans .  إختلطت هذه الشعوب فيما بينها ومع الشعوب الأصلية المقيمة في الإقليم مثل الرومان والكلت، وتوغلوا في الجبال. 

وقبيل إنتهاء القرن الثامن أصبحت كارنتانيا مقاطعة تتبع بافاريا.  وخلال القرون التالية زحف مهاجرون بافاريون بإتجاه الجنوب وفي حوض الدانوب وفي جبال الألب، مما تسبب في تغليب الطابع الجرماني على النمسا.

وقد جرت محاولات لإستقلال بافاريا في زمن شارلمان، الذي قمعها وأسس مقاطعة تابعة لدولة الفرنج الكارولنجية، سُميت المقاطعة الشرقية.  ولكن هذه المقاطعة تم إجتياحها من قبل المجر في العام 909. 

وبعد هزيمة المجر على يد أوتو الكبير سنة 955، ظهرت مقاطعات جديدة في هذا الإقليم، من بينها المقاطعة الشرقية التي سلمت إلى ليبولد دو بابينبيرغ، كحاكم تابع يحمل لقب يعادل كونت.  وفي هذه الفترة ظهر إلى الوجود إسم النمسا  Austria ، وتحديداً في العام 966.  والإسم يحمل دلالات قريبة في معناها من الترجمة اللاتينية للمقاطعة الشرقية ( os t تعني شرق ) .

وخلال القرون التالية أخذ الكيان النمساوي يتشكل، بالتوسع العمراني على حساب الغابات، وبناء المدن والأديرة وإستصلاح الأراضي.  وفي العام 1156 إرتقت النمسا إلى مرتبة دوقية.  وأصبح زعماء أسرة البابنبرغ دوقات.  حيث اصبحوا عائلة ذات نفوذ واسع في القرن الثاني عشر، وكان الدوق ليوبولد ( 1198 – 1230) من أعظم رجالاتهم.  وقد خلفه إبن أخيه، وبموته إنتهى حكم هذا البيت، لعدم وجود وريث.  فدخلت البلاد في فترة من الفوضى إلى أن تولى حكمها آل هابسبيرغ، الذين إستمروا في حكمها لمدة 640 سنة، أي لغاية الحرب العالمية الأولى.

فبعد إنتهاء حكم آل بابنبرغ ، وقعت البلاد تحت حكم الملك أوتاكر، ملك التشيك.  الذي عارض إنتخاب رودولف الأول آل هابسبرغ لمنصب الإمبراطور، فحاربه رودولف وهزمه وسلم البلاد لأبناءه في العام 1278.          

في القرون التالية توسعت النمسا وأصبحت إمبراطورية واسعة.

 

سويسرا

سكنت ما يعرف اليوم بسويسرا شعوب عديدة منذ عصور قديمة، وخاصة على شواطئ البحيرات والمناطق السهلية المنخفضة.  فقد سكنها الكلت بحدود 1500ق م، كما سكنتها قبائل الرايتي في الشرق والهيلفيتي في الغرب.

وفي العام 58 ق م هزم يوليوس قيصر قبيلة الهلفيتي، فأصبحت الأجزاء الجنوبية جزءاً من الإمبراطورية الرومانية، فتطبع شعب المنطقة بالثقافة الرومانية. 

وفي العام 259م عبر جماعات من قبيلة الأليماني حدود الإمبراطورية وإستقروا في الأراضي السويسرية.

ظهرت الأسقفية الأولى في الأراضي السويسرية في القرن الرابع.  فإنتشرت المسيحية بين أفراد الشعب.

وبعد إنهيار الإمبراطورية الغربية إجتاحت البلاد موجات من الهجرات الجرمانية، فإستقر البرجنديون في الغرب، بينما دفع مهاجرون من قبيلة الأليماني السكان الأصليين إلى الجبال وإستقرت في الشمال. 

قامت دولة الفرنج في أوج قوتها في ضم إقليمي برجندي والأليمان في القرن السادس.  وعانت هذه الأقاليم من نظام التوريث الكارولنجي، من التقسيم والتوحيد، الذي لم يكن يجري بطريقة سلمية.

كما عانت الأراضي السويسرية من غزوات المسلمين في القرن العاشر، الذين إستقروا في جنوب فرنسا وسيطروا على أقاليم واسعة في سويسرة وإيطاليا.

وفي القرن الثاني عشر، أُعطي دوقات زهرينجن جزءاً من برجندي، الذي يشكل الجزء الغربي من سويسرة الحديثة.  ثم تولى إدارة هذا الجزء بيت كايبرغ. 

وفي عهد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، إزدادت أهمية هذا الإقليم، وممراته الجبلية، لكونه يربط بين ألمانيا وإيطاليا، حيث كانت الجيوش الإمبراطورية تعبر هذه الممرات تحت قيادة الأباطرة كل أربع أو خمس سنوات.  فمنحت بعض المدن حكماً ذاتياً وسميت كانتونات الغابات Forest Cantons .

وعندما إعتلت أسرة الهابسبرغ عرش الإمبراطورية، أطبقت السيطرة على أقاليم أوسع مما يعرف اليوم بسويسرة، كما فقدت الكنتونات إستقلالها .  الأمر الذي دعا بعضاً منها في العام 1291إلى تحالف فيما بينها، بحيث شكل نواة الكونفدرالية السويسرية.   التي خاضت معارك مع الجيش الإمبراطوري في القرن التالي، حتى حصلت على الحق في تشكيل كيان سياسي ضمن الإمبراطورية.  ولم تحصل سويسرة على إستقلالها النهائي إلا في العام 1499.  وإبتداءاً من العام 1504 أصبح حرس البابا من السويسريين، وإستمر هذا التقليد إلى يومنا هذا.              

 

الأراضي المنخفضة  

كانت الأراضي المنخفضة جزءاً من الإمبراطورية الرومانية المقدسة.  في بداية العصور الوسطى كان الفرنجة الساليون يسكنون في هذه الأراضي.  وقد كانت الأراضي المنخفضة وحدة سياسية جغرافية واحدة في زمن شارلمان.  وعند تقسيم إمبراطوريته، إنقسمت الأراضي المنخفضة أيضاً.  فأصبح إقليم الفلاندرز تابعاً لفرنسا، بينما إنضم الجزء الشرقي، اللورين الأدنى، إلى ألمانيا.  فوقع كل منهما لمؤثرات ثقافية ولغوية منفصلة.  وقد إستمرت مجزأة هكذا إلى القرن الخامس عشر.  وفي هذه الأثناء نمت المدن وحكمت نفسها مثل معظم مدن أوربا.  وكانت هذه المدن تعمل بصناعة غزل ونسج الصوف منذ زمن بعيد.  وقد خضعت المدن لأرستقراطية التجار القوية في ذلك الوقت.  ولكن تأسس بيت حاكم في القرن الرابع عشر على يد لوك فيليب الجسور، الذي كان أحد أمراء البيت البرجندي.  وخلفه سنة 1404 إبنه جون الشجاع الذي تولى حكم برجنديا وفلاندرز، بينما تولى الإبن الآخر دوقية برابانت.  ثم جاء فيليب الطيب بن جون الشجاع، الذي ورث حكم فلاندرز وبرابانت سنة 1420م.  وهكذا توحدت الأراضي المنخفضة. 

وأخذ حكام هذه الدولة من امراء البيت البرجندي يدعمون سلطاتهم الملكية في الوقت الذي سمحوا لرعاياهم من أهالي الأراضي المنخفضة بقسط وافر من الحرية.  وهذا ما سارع في بناء شخصية مستقلة لشعب هذا البلد متميزاً عن شعبي فرنسا وألمانيا.           

 

نمو المجتمعات الوطنية : فرنسا الثورة وإنجلترة الديمقراطية

في العام 1215م وقع الملك الإنكليزي جون الماجنا كارتا بضغط من بارونات إنكلترة .  وقد حدد الميثاق الأعظم ، كما هي الترجمة بالعربية ، بلغة قانونية رصينة حقوق الملك على رعاياه وفي أملاكهم .  وقد إستمر العمل به في زمن هنري الثالث ، الذي أقره وإحترمه.  ولكنه كان ينفق الأموال على مغامرات عسكرية فاشلة في خارج البلاد ، فأجمع البارونات أن لا يعطوا الملك أكثر من حقه كما ينص عليه الميثاق .  ومن هذه المغامرات تورط هنري في صقلية سنة 1258.  فقد إلتزم أمام البابا إسكندر الرابع بأن يدفع مبالغ أكثر مما تسمح موارده ، الأمر الذي يستوجب عليه فرض ضرائب إضافية.  وهذا يتطلب موافقة البارونات .  وعندما اخذ البارونات في نقاش الشروط التي بموجبها يساعدون الملك على جباية ضرائب إضافية ، وجدوا أن إطار الميثاق الأعظم غير كافية، فقرروا أن يضعوا شروط أخرى ، فعقدوا سلسلة إجتماعات إمتدت على مدى عام ، توصلوا خلالها إلى عدد من المطالب تقدموا بها إلى الملك . فقد طالبوا أن يكون مستشاري الملك معروفين ويوافقون هم عليهم ، كما يجب على الملك أن يحكم من خلال هؤلاء المستشارين .  وإختاروا من بينهم إثني عشر شخصاً وإشترطوا أن يجتمع الملك ومجلسه الإستشاري ثلاث مرات سنوياً مع هذه المجموعة.  وعينوا واحداً منهم لكي يكون رئيس قضاة .

وقد تسبب هذا بنشوب حرب أهلية قادها سيمون مونتفورت ، والتي إنتهت بمصرعه سنة 1265.

وكان الملك إدورد الأول على النقيض من والده ، فقد كان لماحاً وطموحاً ومحارباً .  وقد خاض حروب عديدة في الجزر البريطانية وفي القارة ، وإحتاج الأموال لخوضها.  وقد أدرك حاجته لتأييد المجتمع من أجل إستخدامه للسلطات والحقوق الموروثة في رصد الأموال .

لقد كان من المعتاد أن يتم دعوة ممثلي المجتمعات المحلية للمثول أمام الملك ومجلسه الإستشاري للتداول في المسائل المهمة.  فقام إدورد بتعزيز هذه الممارسة وتطويرها ، بحيث يدعو ممثلين عن كل مقاطعة بين الحين والحين لمناقشة قضايا تهم الدولة ، وقد كانت هذه الإجتماعات تضم بارونات وممثلين عن العامة ، أصبحت تسمى برلمانات ، وشكلت البذرة التي تطور منها البرلمان البريطاني .  وفي العام 1297 وأثناء الحرب الفرنسية الأسكتلندية إضطر إدورد على تقديم تنازل آخر ، فقد إلتزم بعدم فرض ضرائب إضافية بدون موافقة المجتمع ممثلاً بالبرلمان ، كما ألزم بذلك خلفاءه .  ثم تطورت وسيلة إختيار الحضور لهذه الإجتماعات ، وفي قانون صدر في العام 1322 في عهد إدورد الثاني ( الغبي ) وسع قاعدة الحضور وحددها .  وقد أصبحت البرلمانات تعقد أكثر من ذي قبل  [1] .

وفي فرنسا كانت الأمور تسير بإتجاه معاكس ، فبينما كانت سلطات الملك تتقلص في إنجلترة كانت سلطات الملك في فرنسا تصبح مطلقة يوماً بعد يوم .  فقد تلقب لويس التاسع بالقديس من قبل الكنيسة .  ويعود ذلك ، بشكل رئيسي ، لسبب بسيط وهو أن حاجة ملك فرنسا لرضا دوقاته وأمراءه وموافقتهم لجمع ضرائب لحروبه ، فقد كان ريع ممتلكاته الخاصة تكفيه لتمويل أي مغامرة عسكرية يود خوضها .

وهناك فروقات أخرى بين المجتمع الإنكليزي والمجتمع الفرنسي ، ففي فرنسا يوجد لكل مقاطعة شخصيتها الخاصة ، وتراثها الثقافي الخاص وقانونها العرفي الخاص.  وقد إلى الملك طلباً للحماية والعدالة .  مثلما حدث في الفلاندرز في نهاية القرن الرابع عشر ، حيث تفجر العنف عندما عمد الكونت إلى الحد من إمتيازات الكوميونات التجارية الحاكمة في المدن ، فلجأوا إلى الملك فقدم لهم الدعم والحماية .  وقد كان هذا التدخل كثيراً ما يؤدي إلى صدام مع الدوقات والكونتات .  وقد كان لويس التاسع نموذجاً ناجحاً للملك العادل المدفوع بمخافة الله في معاملة رعاياه .  ولكنه كان غير متسامح مع المذاهب الأخرى ، ناهيك عن الأديان الأخرى ، فقد دعم محاكم التفتيش في مقاطعة لانجدوك ضد المذاهب الدينية المنشقة .  وكان لويس يرسل بعثات تقصي الحقائق في المقاطعات حول ممارسات الأمراء والموظفين الحكوميين.  ولم يكن هذا كافياً لنشر العدالة ، فقد كان يتسلم تقارير عن قصص كثيرة عن التجبر والطغيان ، وكان الإستنتاج أن الإنسان البسيط الذي لا يتمتع بالحماية ، كان يسعى لشراء مصالحه من الموظفين ، لا أن يقاومهم [2] .  لقد كان لويس التاسع حالة خاصة ، وقد إختلفت الأمور كثيراً في زمن حفيده فيليب الرابع.

فالمقارنة بين لويس التاسع ( 1226- 1270) وفيليب الرابع ( 1285 – 1314 ) ، تبين إرتفاع مستوى الإحتراف في زمن الحفيد وتعزيز المؤسسية ، فقد أصبح المجلس الإستشاري القضائي الذي تشكل في زمن لويس هيئة من القضاة المحترفين .  كما تم تنظيم الأموال الملكية في هيئة يعمل بها موظفون محترفون .  كما تم تنظيم الإدارات الإقليمية بصورة حرفية .  وقد عُرف من بينهم الكثير من الموظفين الذين أظهروا براعة في إدارة أعمالهم، كما أنهم تلقوا تعليم في القانون الروماني ، وهذا ما لم يكن موجود في عصر لويس التاسع .  وأصبحت الأولوية لتطبيق القانون وليس منع إلحاق الضرر بالمواطن .  فزادت عدد القضايا المرفوعة في المحاكم .

وظهر في زمن فيليب الرابع " الهيئات العامة " Estate General ، وتجمع ممثلين عن الكنيسة وممثلين عن نبلاء المقاطعات التي تحكم حكماً مباشراً ونواب المدن الكبرى ، ويتم إختيارهم بناء على دعوة من الملك ، وكان هذا المجلس بمثابة برلمان.  إلا أن هناك فروق بين البرلمان الإنكليزي والبرلمان الفرنسي ( الهيئات العامة )، فقد كان هناك فصل بين نواب المقاطعات ونواب المدن في فرنسا بعكس ما كان الحال بين فرسان المقاطعات وسكان المدن في إنجلترة ، مما منع توحد الأرستوقراطية مع عامة الشعب في فرنسا ، فبقيت الفوارق الطبقية معززة .  كانت إدارة الإجتماعات والإعداد لها يتم بصورة أفضل في فرنسا .  وقد كانت الهيئات العامة الفرنسية تجتمع أقل من البرلمان الإنكليزي ، كما لم يكن لدى الهيئات العامة صلاحية رفض فرض ضرائب جديدة .  بل كانوا يكتفون بنقاشها . 

لقد سار الفرنسيون والإنكليز في طريقين مختلفين في بناء منظومتيهما السياسيتين ، وقد كان لكل منهما منظريه الذين يسوقون فكرة الملكية المقيدة في إنجلترة والملكية المطلقة في فرنسا .  وفي كلا البلدين ، وفي أوربا الغربية عموماً أخذت السلطة العلمانية في التنامي ، وشكلت تحدي للسلطات الدينية .  كما طغت المصالح الإقليمية على مصالح العالم المسيحي.              

 

التحول الاجتماعي الاقتصادي

شهدت نهاية القرن الثالث عشر تحولات إجتماعية وإقتصادية واكبت تغييرات أخرى مثل بداية تبلور فكرة المجتمعات الوطنية في أوربا وخصوصاً في إنجلترة وفرنسا.  وعند الحديث عن تحولات من هذا النوع من الصعب تحديد تواريخ لبداية هذه التحولات ، كما أنه من الصعب تحديد حجم هذه التحولات من مجتمعٍ لآخر.  والقرن الثالث عشر هو القرن الذي إنتهت فيه الحروب الصليبية، وكان من أهم أسباب إنتهاءها تزايد الحس العلماني في أوساط الدوائر الحاكمة في دول أوربا المختلفة وتغير أولوياتها .

وقد شهدت أوربا إعتدال مناخي نسبي في القرن الثاني عشر ، كما شهدت أوربا زيادة في عدد السكان .  وفي القرن الثالث عشر كانت هناك أراضي واسعة قج تم إستصلاحها في الرون الأخيرة، الأمر الذي نجم عنه زيادة في الإنتاج الزراعي .  وقد زاد الإنتاج الزراعي نتيجةً لتحسن وسائل الزراعة وإدخال زراعات جديدة .

كما أن التبادل السلعي والنشاط التجاري وصل إلى درجة عالية من التقدم [3] .  لوقت طويل إقتصرت صادرات أوربا على الأقمشة الصوفية ، التي كانت تغزل وتنسج في الفلاندرز ، من بين مناطق أخرى ، مثل إنجلترة ، التي كانت تنتج كميات كبيرة من الصوف.  وكان الخشب ، المستخدم في صناعة السفن والأثاث المنزلي ، يصدر إلى الشرق الأوسط .  كما كانت صادرات أوربا تشمل الحديد ومعادن أخرى ، مثل القصدير ، كما كانت صادراتها تشمل العبيد والفراء بأنواعه ، وخاصةً من شرق وشمال شرق أوربا.  وكانت أوربا تستورد التوابل والحرير والملابس القطنية  والبردى ثم الورق ، إلى أن تم نقل صناعته إلى أوربا ، وكذلك السكر والزجاج والصابون. 

وقد كان حجم التبادل التجاري محدود جداً ، وكان محتكراً من قبل بيزنطة.  ومع ضعف التواجد البيزنطي في غرب المتوسط ، نشأت المدن الإيطالية ، مثل البندقية وبيزا وجنوة ، كما أصبحت مدن أخرى ، في الداخل الأوربي ، مراكز تجارية هامة ، مثل ، لوبيك ودانزينج ومدن الراين .  وفي جميع هذه المدن أملت الحاجة للسيطرة على أوضاعها الإقتصادية وجود نظام سياسي يسهل ذلك ، فنشأت حكومات محلية مستقلة .  وهكذا ظهرت الجمهوريات الإيطالية .  وكان الخطر الذي يتهدد هذه المدن ، طمع القوى الكبرى فيها ومنافسة المدن الأخرى تجارياً .  ولهذا أنشأت أساطيل حربية مثلما أنشأت أساطيل تجارية ، ثم نشطت دبلوماسياً لضمان علاقات جيدة مع دول الشرق لضمان الحصول على إمتيازات أكثر من المدن المنافسة الأخرى .  وقد نشبت الكثير من الحروب فيما بينها .  وقد لجأ تجار مدن البلطيق إلى إقامة العصبة الهانزية ، كما أقيمت عصبة الراين بين تجار مدن حوض الراين ، لحماية حقوقهم وضمان حركة السلع .  كما ظهرت عصبة أخرى ، وهي العصبة السوابية ، التي تكونت قي العام 1376 وضمت أكثر من ثمانين مدينة .  كانت هذه العصب تحدياً للنظام الإقطاعي ، وقد فرضت وجودها بالقوة ، وكان الحكام يهابونها .  وقد نجم عن ذلك إنتعاش التبادل التجاري ،  مما در دخل كبير على الدول ، التي فرضت الرسوم الجمركية والضرائب .  وأدى ذلك أيضاً إلى تركيز الثرة وإزدهار الصناعة ونمو المدن .  كما وعي لدى الحكام للإعتناء بإقتصاد بلادهم ، ومن النماذج الناجحة حكم آل فالوا البرجنديين في الفلاندرز، الذين فرضوا السلام ومنحت التجار حريات أكبر وأزالت الضغوط الإجتماعية الناجمة عن القيود التي كانت تفرضها النظم القديمة.  ومن الأمثلة كذلك قيام الملك الفرنسي لويس الحادي عشر بتشجيع صناعة الحرير في ليون ، ويذكر أن هذه الصناعة دخلت أوربا بعد الحروب الصليبية.

أصبح حكام أوربا يتنبهون لأهمية مثل هذه الإجراءات ، بينما كان حكام المماليك يقتلون صناعات عريقة قائمة منذ قرون بسياساتهم الغبية.

ترك الطاعون آثاراً إجتماعية وإقتصادية تطلبت إعادة تنظيم المجتمع نتيجةً لبروز قوى جديدة فيه.  فأهم ما نجم عن الطاعون الذي ضرب معظم بقاع العالم في أواسط القرن الرابع عشر الميلادي ، هو نقص شديد في السكان ، فأصبح بالتالي هناك نقص بالأيدي العاملة ، مما غير معادلة العرض والطلب لصالح العمال الذين أصبحوا يطلبون أجوراً أعلى .  فمنذ عقود تحول الأقنان في إنجلترة وفرنسا وغيرهما إلى أجراء .  كما تم إستبدال العمل لدى الإقطاعي بالمال ، فقد كان الفلاح يعمل لدى الإقطاعي يومين في الأسبوع مقابل الأرض التي منحها له ليفلحها.  فحدثت فوضى في سوق العمل ، مما حدى حكومتي إنجلترة وفرنسا إلى إصدار مرسوم ملكي ينظم العملوألسعار والأجور، بحيث تعود إلى مستواها قبل الطاعون ، ويمنع المرسوم من ترك أعمالهم بحثاً عن أجرٍ أفضل [4] .  ولم تنجح هذه الإجراءات ، وقد جرت أحداث شغب عديدة عند محاولات تطبيق القانون .  وكان ممثلي الفرسان وأصحاب الأعمال يطالبون الملك بفرض قانون تخفيض الأجور .  وقد أدى هذا التوجه إلى أول ثورة فلاحين في فرنسا وإنجلترة سنة 1358 في عدة مقاطعات في كلا البلدين. 

وقد نجم عن هذا الوضع تنامي الحس بالتضامن داخل الطبقات الإجتماعية ، سواء كانت الفلاحين والعمال أم الملاك ، صغارهم وكبارهم .  كما نجم عن ذلك تدخل الحكومة في العلاقات بين الطرفين ووجود تشريعات وقوانين تسعى إلى تنظيم هذه العلاقات .     

وفي هذه الفترة ، القرن الرابع عشر، شهدت أوربا تحولاً في تقتيات الحروب من خلال إستخدام المدافع وغيرها من الأسلحة التي تعتمد على البارود .  كما حدث تطور آخر في عمليات نقل الأموال وإيداعها وإقراضها بظهور مؤسسات مصرفية إنتشرت في معظم أنحاء القارة .

تطور النظام المصرفي في أوربا في تُسكاني في شمال إيطاليا ، من خلال تضامن التجار الذين كان لديهم الإستعداد للمغامرة بأموالهم .  وقد تركزت بدايةً حول صناعة وتجارة المنسوجات الصوفية ، التي أصبحت من أكبر الصادرات الأوربية .  وقد تطلب هذا تعيين ممثلين لهم في مراكز بيع وشراء الثياب والأقمشة الصوفية مثل لندن وبروج وغيرها ليقوم بالعمليات المختلفة نيابة عنهم .  وكان نقل الأموال الضرورية لهذه العمليات ينضوي على مجازفة كبيرة .  وكانت العملة الذهبية والفضية تحتاج الكميات الكبيرة منها إلى وعاء كبير لنقلها ، الذي قد يكون كيساً أو صندوقاً ، ليس من السهل إخفاءه وحمايته .  وقد عانى من ذلك التجار عبر العصور .  وقد كانوا يفضلون نقل سلع على نقل أموال ، لأن الأموال مطموعٌ بها أكثر.  وقد تم حل ذلك بإقامة شركات الصيرفة في أوربا التي كانت تستلم مبلغاً من المال في إحدى المدن وتسلمه في مدينةٍ أخرى مقابل إيصال .  وكانت هذه الشركات تتقاضى رسوماً مقابل ذلك .  وكان من المستفيدين من ذلك البابوية التي تحتاج إلى نقل الأموال بإستمرار ، نقل الضرائب من الأقاليم المختلفة .  ثم تطور النظام إلى قبول الودائع ، وتقديم خطابات الإئتمان ، والتحويل من عملةٍ إلى أخرى .  فلما إتسعت نشاطات هذه الشركات قامت بفتح فروع جديدة .  ثم أخذت بتقديم قروض مقابل فوائد شهرية وسنوية .  ثم بدأت تُعطي المودعين أرباحاً لتشجيعهم على إيداع أموالهم .  وقد أدانت الكنيسة هذه الممارسة لشبهة الربا فيها ، وقبل نهاية العصور الوسطى بزمن طويل كان دفع الأرباح قد صار أحد الملامح العامة لكل عمليات التمويل الرأسمالي الكبيرة .  وقد دخلت الكنيسة في هذا النظام بنفسها [5] .  وأصبح لدى هذه الشركات مبالغ طائلة ، وهذا مكن هذه الشركات أن تصبح بحوزتها مبالغ ضخمة موضوعة تحت تصرف المستقرضين .  ففتح هذا باباً جديداً أمام الحكومات ، التي كانت تحتاج إلى المال لمشاريعها الحربية ، التي كانت في السابق تحتاج إلى فرض ضرائب جيدة من أجل تأمينها .  وكانت المجازفة في هذه العمليات عالية ، فقد أفلست الكثير من الشركات بسبب تعاملاتها المالية مع حكومات تخوض حروب لعجزها عن السداد .  ومع هذا إستمرت هذه الشركات بالإزدهار وممارسة هذا النشاط طوال العصور الوسطى ، وقد حقق الكثير منها أرباحاً طائلة ، كما حصلت على نفوذ سياسي كبير [6] .

ويذكر أن شركات تجارية ، ذات طابع دولي قد تأسست في العالم الإسلامي قبل أوربا بأربع قرون على الأقل ، وقد مارست نشاطات عديدة ، وقد مولت بعضها حرب المماليك في زمن السلطان برقوق .

وقد إزدادت تكلفة الحروب مع تقدم تقنياتها .  فقد تنوعت الأسلحة وأصبحت القلاع أكثر كلفة نتيجةً لتعقيد تصاميمها للتعامل مع إحتياجات جديدة ، كما تطورت الدروع وأصبحت أكثر كلفة .  ودخلت المدافع والبارود في خدمة الجيوش ومجهودها الحربي.  فمنذ سنة 1324 تم إستخدام المدافع في فلورنسا [7] . 

وقد كانت بدايات إستخدام البارود في الحروب ، لم تكن عملاً ثورياً قلب موازين الحروب كما قد يتراءى للمتتبع ، فقد كانت قليلة التأثير ، وقد إستغرقت وقتاً طويلاً لتصبح ذات تأثير حاسم .  فقد كان هناك مشاكل في التصويب وفي حجم الدمار الذي تُحدثه القذيفة ، ويذكر أن القذيفة لم تكن متفجرة ، وإنما كانت كرة معدنية تدفعها الشحنة المتفجرة.

هذا إستعراض لأهم التحولات الإقتصادية والإجتماعية التي شهدتها أوربا قبل نهاية العصور الوسطى .  وكان العالم الإسلامي يسير بطريق معاكس تماماً .  فبينما كانت رقعةالأراضي الزراعية في إزدياد في أوربا نتيجةً لإزالة الغابات وتجفيف المستنقعات ، كانت مساحات الأراضي الزراعية في تقلص نتيجةً لضعف العناية بالمشاريع المائية ، ونتيجةً للتصحر .  وبينما كانت التجارة في أوربا تزدهر بإيجاد خطوط تجارة جديدة ، وبناء أساطيل تجارية كبيرة تدعمها أساطيل حربية وجهود دبلوماسية تعمل على الدوام ، كانت التجارة في الدول الإسلامية تتراجع بسبب الحروب وبسبب الضرائب والسياسات الغبية للحكام .  وكانت الصناعة تتراجع لنفس الأسباب وكذلك أعمال الصيارفة وغيرهم .  كما تراجع التعليم والتأليف والإبتكار ، في الوقت الذي كانت شهية أوربا للإبتكار والعلم منفتحة .

 

ظهور الجمعيات العسكرية

لقد نجم عن الحروب الصليبية ، وكذلك حروب الإسترداد في إيبيريا وحروب أوربا الطويلة مثل حرب المائة عام ، أن أصبح هناك أعداد كبيرة من المقاتلين المحترفين ، الذين قاتلوا مع هذا الطرف أو ذاك .  وفي مرحلة لاحقة نظم هؤلاء أنفسهم في " مجموعات حرة " ، التي أصبحت عصابات حرب ذات تأثير كبير.  وكانت تخدم الطرف الذي يقدم أفضل العروض .  وعندما لا تتوفر ما يشغلوا به أنفسهم ، كانوا يمارسون السطو المسلح .  وقد كانوا محترفين لدرجة أن قال أحدهم :" بدون الحرب لا يمكن أن تعيش ولا تعرف كيف تعيش ". 

وقد نشأت هذه الظاهرة في وقت لم تكن هناك في أوربا جيوش نظامية .  وقد أصبحت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر على جانب من القوة لدرجة أنها شاركت في كل حرب خاضتها أوربا ، داخلياً ، أو مع عدو خارجي .  وعندما كان القتال يتوقف ، كانوا يتحولون إلى مشكلة صعب السيطرة عليها ، فيتعذر حلها أو التصرف بها ، فكان هذا يشجع القيام بما يمكن أن نصفه بأنه " مغامرات الطبقة الحاكمة ".  فلم تكن الحروب في أوربا في ذلك الوقت بين شعوبها وأممها، وإنما كانت ناتجة عن إختلافات بين أسرها الحاكمة ، والحقيقة أن لمسة من التنافس الصبياني أحياناً إستمرت في أوربا بين أسرها الحاكمة لغاية الحرب العالمية الأولى .  وقد ساعد على ذلك أن غالبية دول أوربا لم تؤسس على أساس قبلي ، وإنما من مزيج من الشعوب والقبائل .  كما أن مفهوم " الأمة " لم يكن قد تطور في أوربا والعالم .  فكانت الملكيات تحكم مجموعة من الأمراء الإقطاعيين ، الذين بدورهم كانوا يحكمون مجموعة من الإقطاعيين الأصغر أملاكاً وهكذا إلى أن تصل إلى الفرسان ، وهناك ألقاب تتدرج بأهميتها وتختلف قليلاً بمدلولاتها من بلد أوربي إلى آخر ، مثل الدوق والكونت والإيرل والبارون .  وكان هؤلاء الإقطاعيين ، عملياً ، ملوكاً في إقطاعياتهم .  ولكن سلطات الإقطاعيين السياسية بدأت تتراجع منذ القرن العاشر ، وأخذت السلطة المركزية تزداد قوةً وتتدخل أكثر وأكثر في شؤون الدوقيات والكونتيات الداخلية .  وكانت الجيوش تتكون من مساهمات الدوقات والكونتات والفرسان من المقاتلين الأحرار ، الذين كانوا يعودون إلى قلاعهم وإقطاعياتهم بعد إنتهاء الحرب. ولكن هذا الوضع تغير ، وتحولت الممالك إلى أمم ، وأخذت جيوش دائمة محترفة مدفوعة الأجر تظهر إلى الوجود . 

وكانت أسباب التي تندلع من أجلها الحروب بين الإقطاعيين وبين الملوك ، هو التوريث .  فكان النزاع على العروش ، الذي يضع لملك او لأمير الحق في عرش بلدٍ آخر ويدخل في نزاعات من أجل إثبات أحقيته .  وكانت حرب المائة عام مثالاً على ذلك ، عندما إدعى الملك الإنكليزي إدورد الثالث حقه في العرش الفرنسي .  وقد تكرر ذلك كثيراً ، وكان ذلك سبباً في توحيد أقاليم .  مثل توحيد صقلية وألمانيا ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة.  ومن الأمثلة على ذلك مطالبة جون ، دوق لانكستر في إنجلترة في عرش قشتالة في إسبانيا بحق زوجته في وراثتها ، لأنها كانت إبنة الملك المخلوع . وهذا مثال من أمثلة كثيرة ، وقد نشبت نزاعات كثيرة ، ولم تكن الجيوش التي قادها المطالبون بالعروش تعود ، بالضرورة ، إلى شعبهم نفسه الذي يحكمون .  وكان هؤلاء المقاتلين، الذين جاؤوا بدافع الحصول على الغنائم وحب المغامرة ، غالباً ما يبقون في أماكنهم ، مما يطيل زمن التعافي من آثار الحرب ، بل قد يكونوا السبب في تجددها .     

ومن الأمثلة على هذه الجماعات ، المقاتلين الأرجونيين والكتالونيين ، الذين إحترفوا القتال مع المسلمين في الأندلس ، وكان يُطلق عليهم إسماً عربياً وهو المغبرين .  وقد أرسلوا إلى صقلية للمشاركة في حربها المسماة Sicilian Vespers ( الصلوات الصقلية )، ثم أُرسلوا للوقوف في وجه المد العثماني ولم يحققوا شيء ، بل قاموا بالشغب على الدولة البيزنطية . 

 

الطاعون

إجتاح العالم في العامين 1348 و1349 وباء خطير عُرف بالوباء الأسود أو الموت الأسود، إجتاح إقاليم واسعة دون أن يميز عرقاً أو ديناً أو لوناً.  وقد جاء إلى أوربا من آسيا ، وتحديداً من صحراء جوبي ، في عشرينات القرن الرابع عشر. وسار على إمتداد الخطوط التجارية الواقعة شمال البحر الأسود، فظهر أولاً بشرق أوربا ثم إنتقل إلى وسط أوربا وغربها.  وفي العام 1347 ضرب القسطنطينية، وفي العام التالي ظهر في الإسكندرية، وكان ينتقل بسرعة شديدة، وإنتقاله بحراً أسرع من إنتقاله براً، فخلال أشهر من ظهوره في الإسكندرية ظهر في موانئ غرب المتوسط.  وكانت وطأته تقل كلما إتجه جنوباً [8] .

وكان الوباء قد وصل إلى الدول الإسلامية من روسيا بنفس الوقت الذي وصل فيه إلى أوربا.  وقد ظهر أولاً في الإسكندرية ثم في غزة، ومنها وصل إلى المدن الساحلية ثم المدن الداخلية.  ثم وصل إلى إنطاكيا وآسيا الصغرى.  ووصل إلى مكة في العام 1349، كما وصل إلى الموصل وبغداد .  إنتقل الوباء من القاهرة إلى اليمن في الوقت الذي أُطلق فيه سراح السلطان مجاهد الذي كان معتقلاً في القاهرة.

وكانت أعراض المرض تظهر على شكل حمى شديدة وآلام في المفاصل ومراجعة دم .  ويكسو الجسم حبوب بحجم حبة العدس . كما يظهر ورم واضح في الغدد اللمفاوية، فتظهر سوداء تحت الجلد مما أعطى الوباء إسم الموت الأسود.

وقد نجم عن هذا الوباء موت أعداد كبيرة من البشر.  فقد إنخفض عدد سكان أوربا بنسبة تتراوح ما بين الثلث والنصف [9] .  وإنخفض سكان الصين من 125 مليون إلى 90 مليون خلال القرن الرابع عشر، كما كان ضحايا الوباء في الإسكندرية ألف شخص يومياً وفي القاهرة بين ألف وألف وخمسمائة يومياً [10] . ونقل أبو الفداء في تاريخه عن قاضي القرم، على الساحل الشمالي للبحر الأسود،  أنه قال أن مجموع ما قتل في بلاده بلغ خمسة وثمانين ألفاً [11] .  وذكر أبو الفداء أن أول ما ظهر المرض كان في بلاد الأوزبك سنة 747 هـ . 

فأحدث ذلك تحولاً كبيراً في الحياتين الإجتماعية والإقتصادية نتيجةً للنقص الشديد في الأيدي العاملة وضعف القدرة الشرائية وإرتفاع الأسعار وتراجع الإنتاج والتجارة.  وتبع ذلك إختلال في النظام الإجتماعي الذي كان سائداً في أوربا العصور الوسطى.  فبدأ الناس يلجأون إلى الكنائس والأديرة، متضرعين طالبين الرحمة وكشف البلاء.  ثم إنتشرت شائعات في أوربا مفادها أن اليهود تسببوا في هذا الوباء بتسميم الآبار، فزاد إضطهاد اليهود في مختلف مدن وأرياف أوربا.  كما إعتقد كثيرون أن الوباء ناجم عن غضب الله على الناس، وبالتالي فإن المخرج هو التوبة بتعذيب النفس، فظهرت في أوربا طائفة جديدة سُميت طائفة الشياطين Flagellants ، الذين كانوا يقتلون اليهود ويقتلون من ينهاهم عن قتلهم .  وقد شجبهم البابا في العام 1349م.

ولم يكن التعامل مع الوباء يخلو من بعض الممارسات العلمية، مثل العزل، والتعقيم ومحاولة العلاج.  كما لجأ كثيرون إلى التعاويذ والسحر والشعوذة. 

وقد أرسل البابا يطلب تفسير من جامعة باريس، فكان الجواب أن الذي جرى ناجم عن إلتقاء زحل والمشتري والمريخ في ذلك في برج الدلو في العام 1345م.  وتضمن الرد إحتياطات لتجنب الوقوع في المرض، من بينها الإمتناع عن أكل الدواجن والسمك، وتجنب النوم في النهار، وعدم أكل زيت الزيتون مع الطعام، وعدم الإستحمام.  ومع هذا فقد كان البابا يجلس بين موقدين كبيرين ليضمن أن يتنفس هواءاً نقياً، وهو إجراء علمي.  

وقد إستمرت آثار الوباء حتى نهاية القرن الرابع عشر، وكان لنقص تعداد السكان والغلاء والتحولات الإقتصادية والإجتماعية المرافقة له، وراء الكثير من التطورات السياسية التي جرت في ما تبقى من القرن، من ثورات وتحولات سلمية.   توقفت حرب المائة عام في العامين 1348 و1349 ولكنها أُستؤنفت فيما بعد.  لم يوفر الوباء الملوك والأمراء، فقد كان من بين ضحاياه ألفونسو العاشر، ملك قشتالة، الذي مات بالطاعون أثناء حصاره لإحدى المدن الأندلسية.

توقف إنتشار الطاعون ، ولكنه عاد ثانيةً وثالثة.  فقد كان يظهر في كل جيل خلال القرنين التاليين، ولكنه لم يكن في أيٍ منها بحجم هذه المرة، وقد ظهر في بريطانيا سنة 1665م.  وهو لا يزال موجود كمرض، ولكن يوجد له علاج، ومع هذا فلا يزال له ضحايا، فهو سريع الإنتشار ويقتل بسرعة، فإذا ما أصاب صياد في غابة، حيث أن بعض حيوانات الغابة تنقل المرض، فإن هذا الصياد قد لا يجد الوقت لوصول المستشفى [12] .      

ولم تُفقد أخبار الطاعون المروعة أبو الفداء ملكة الصياغة المنمقة ، فكتب " .. وكم قصم من ظهر فيما وراء النهر ، ثم إرتفع ونجم وهجم على العجم ، وأوسع الخطا إلى أرض الخطا ، وقرم القرم ، ورمى الروم بجمرٍ مضطرم .. وأبرق على برقة .. وغزا غزة وعك عكا .. " [13]

من أغرب ما حدث في مسيرة هذا الوباء أنه إجتاح جميع دول أوربا ما عدا بولندة.

   



[1]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

[2]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

 حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين . [3]

[4]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

[5]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

[6]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

[7]  حضارة أوربا العصور الوسطى ، موريس كين .

[8]  تاريخ دولة المماليك في مصر، موير، نقلاً عن المقريزي.

[9]  عاشور.

[10]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير، نقلاً عن المقريزي.

[11]  تاريخ أبو الفداء .

[12]  مقالة للدكتور سكيب نوكس، موقع تاريخ الحضارة الغربية.

[13]  تاريخ أبو الفداء .


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter