كتاب " نحن واوربا " - الجزء الثالث - الفصل الثامن - عصر الرحالة العظام
 
 



عصر الرحالة العظام

 

إبن بطوطة

وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بإبن بطوطة.  وهو من مواليد سنة 703 هـ في طنجة.  وقد بدأ رحلته قاصداً الحج إلى بيت الله الحرام سنة 725هـ        ( 1325 م ) ، فسافر مع قافلةٍ من الحجاج متجهة شرقاً .  فمر بمدن الشمال الإفريقي إلى أن وصل إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة التي كان السلطان بها الناصر محمد بن قلاوون.  فيمتدحه إبن بطوطة ويصفه بأنه صاحب السيرة الكريمة والفضائل العظيمة.  فهو يساعد الحجاج ويحمل من تأخر منهم.  ويقعد للنظر في المظالم ورفع قصص المشتكين كل يوم إثنين وخميس .  ثم يعدد أمراء مصر ويضيف أنهم يتنافسون فيما بينهم في عمل الخير وبناء المساجد والزوايا.  ثم سافر إبن بطوطة بإتجاه الجنوب ، فيصف مدن صعيد مصر واحدة بعد أخرى، كما يعدد علماءها وفقهاءها وقضاتها ومن يقابل من وجهائها .  ويظهر حنينه إلى المغرب كلما قابل مراكشي أو فاسي أو طنجي، وفي ذلك الزمان ، وعلى الرغم من تقسيم العالم الإسلامي إلى كيانات سياسية عديدة ، فإن وجود مغاربة في صعيد مصر كان أمراً غير مستغرباً.  وعندما وصل الأقصر تحول إلى قافلة جمال متجه إلى عيذاب على البحر الأحمر ، وكان أحد العرافين قال له أنه لن يوفق في حجه هذا العام، وأنه سيحج العام القادم عن طريق الشام.  فعندما وصل إلى عيذاب وجدها في حالة حرب.  فقد إختلف أميرها مع المماليك، وتعطل السفر في البحر.  فعاد أدراجه إلى القاهرة ، حيث مكث يوماً واحداً وسافر إلى الشام .  وزار مدنها واحدة بعد أخرى مبتدأً بغزة.  ولعدة أشهر يتنقل بين المدن الشامية شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً دون إتباع خطة محددة. ويلفت نظره وجود مدن مدمرة على الساحل، وهي المدن التي كانت لعقود قليلة خلت بيد الصليبيين، مثل عكا وصور وعسقلان.  ويطنب في حديثه عن دمشق، فيصف مساجدها ومدارسها ومبانيها.  ويتكلم عن علمائها ورجالاتها.

ومن دمشق يتجه مع حجيج الشام إلى الحجاز، فيصف محطات الحج، سواء منها الواقعة في بلاد الشام، أو تلك الواقعة في الحجاز، والتي تلقى رعاية الدولة وإهتمامها.

ويصل المدينة المنورة ويعبر عن فرحه الشديد بوصولها.

وبعد إتمام فريضة الحج، توجه إبن بطوطة إلى العراق مع حجيجها.  فزار الكوفة وزار ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وزار قصر الخورنق، وإنفصل عن الحجاج وذهب إلى البصرة التي كانت مركز علمي يأتيه الطلاب من أماكن بعيده.  وكان بالقافلة التي رافقها عدد من طلاب العلم متوجهين إلى البصرة.  حيث يسهب في وصفها ويشرح حال علمائها.

ومن البصرة يتجه إلى عبادان ، حيث أشار عليه بعض أهل البصرة أن يسافر إلى " عراق العجم " ثم إلى " عراق العرب " ، فيدخل بذلك في أرض اللور ، وهي التي تقع فيها عبادان، في أرض سبخة على ساحل البحر.

وقد كان إبن بطوطة يدير رحلته بكفائة عالية، فهو لديه دائماً صحبة، من الدراويش وطلاب العلم والفقهاء، وكان يعطف عليهم ، وهو لا يتكلم عنهم كثيراً .  وكان يقدر تقديراً منطقياً عدد الأيام التي تستحق مدينةٌ ما أن يمضيها فيها.  وكان يعرف كيفية إنتقاء وسيلة المواصلات الأنسب .  كما كان يخطط لمكان إقامته في البلدة التالية، من خلال توصيات من رجالات المدينة السابقة .  وكان إبن بطوطة ، كفقيه ومتحدث ، مرحباً به في المجالس التي تتوق لسماع الغريب من الحديث عن أخبار بلاد أخرى.  كما كان إبن بطوطة يتوق لمقابلة مشاهير العلماء والقضاة والفقهاء والإستماع إليهم .     

ومن بين المدن التي زارها في هذا الإقليم تستر وإيذج ، التي كان عليها " السلطان افراسيب بن السلطان أتابك أحمد ".  وكان هذا السلطان أحد ولاة الدولة الإلخانية، وعاصمتها تبريز ، وكان سلطان المغول في زمن وصول إبن بطوطة إلى العراق وإيران هو أبو سعيد بهادور.  

وكان السلطان افراسيب " ملكاً صالحاً " عمر أربعمائة وستين زاوية في بلاده .  والزوايا مكان لإقامة عابري السبيل وإطعامهم.  وقد تكون في مدينة أو في قرية أو مكان منقطع على طريقٍ عام، لإيواء المسافرين .  وقد كان السلطان ينفق ثلث خراج بلاده على الزوايا.  وكانت الزوايا منتشرة في بقاع أخرى من العالم الإسلامي، وقد تكون ناتجة عن جهود فردية ، أو يُصرف عليها من أوقاف وقفها عليها مؤسس الزاوية.  وقد كانت تفيد كثيراً المسافرين في طلب العلم والباحثين عن جديد والعلماء الفارين إلى حاضن أفضل، الأمر الذي عزز وحدة العالم الإسلامي ثقافياً وعلمياً .  وعموماً لم تبنى الزوايا لخدمة التجار الذين كان هناك خانات تستقبلهم مقتبل أجر.

  وقد تسنى لإبن بطوطة مقابلة السلطان ، الذي توفي إبنه أثناء إقامتة في المدينة ، فذهب لتعزيته، ثم قابله ثانيةً وقدم له موعظة نهاه فيها عن شرب الخمر، الذي كان قد إعتاد عليه وأُشتهر به.

ثم سافر ألى أصفهان  وشيراز ، حيث قابل " الشيخ القاضي الإمام قطب الأولياء فريد الدهر ذي الكرامات الظاهرة مجد الدين اسماعيل بن محمد بن حداد " ، وعندما قابله عانقه الشيخ وطلب منه أن يصلي إلى جانبه، وهذا يدل على أن سمعة إبن بطوطة كانت قد سبقته.

ثم وصل مدينة الكوفة عن طريق كازرون، فوصف أسواقها ومبانيها وأضرحتها.  ومن الكوفة توجه إلى بغداد، التي يُظهر فرحته بزيارتها شعراً ونثراً.  فيذكر أن لبغداد جسران معقودان ، والناس يعبرونهما ليلاً ونهاراً رجالاً ونساء، فهم في ذلك في نزهة متصلة.  ويذكر أن في بغداد مساجد كثيرة ولكن صلاة الجمعة تقام في أحد عشر مسجداً.  وكذلك مدارسها كثيرة ولكن معظمها خرب،  وأن أكثر الجانب الغربي قد خرب ، ولم يبقى منه إلا ثلاث عشر محلة.  وهذا يدل على إنكماش مدينة بغداد بعد ما حل بها من نوائب.  وعلى الرغم من تراجعها فقد كان فيها أفضل حمامات شاهدها إبن بطوطة في البلاد التي زارها. وجدران غرفها مطلية بالقار إلى نصف إرتفاعها، والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض الناصع.  وفي داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما للماء الساخن والآخر للبارد.  ويدخل الخلوة منفرداً ويعطى ثلاث فوط، الأولى ليلفها على جسمه عند الدخول، والثانية لتجفيف جسمه، والثالثة ليلفها على جسمه عند الخروج.  وكعادته يحرص إبن بطوطة على زيارة العلماء وتعدادهم، كما زار قبور الخلفاء المدفونين في بغداد ، وآخرهم المستعصم قتيل المغول.

 

السلطان المغولي أبوسعيد بهادور خان

وهو السلطان المغولي الثامن الذي يحكم في العراقين من تبريز.  وزار إبن بطوطة العراق وإيران في عهده.  وقد رآه إبن بطوطة في بغداد ، حيث وصفه بأنه جميل الصورة ولا نبات بعارضيه.  وقد شاهده إبن بطوطة في دجلة ، حيث إعترض طريقه جماعة من العميان فأمر لكل واحد منهم بغلام يقوده وأعطاهم بعض المال.  ويصف إبن خلدون بتفصيل موكب السلطان وكيف يسافر من بلدٍ إلى آخر.  وقد ذكر إبن خلدون أن السلطان مات مسموماً من قبل إحدى زوجاته لأنه تزوج بأخرى.  حيث كان آخر خانات المغول، فبدأ حكم الدولة الجلائرية بعده.

وسافر إبن بطوطة مع موكب أحد الأمراء إلى تبريز حيث وصلها في عشرة أيام ، ولم يمكث فيها طويلاً بسبب ذهاب الأمير لمقابلة السلطان فذهب معه، وهناك قابل السلطان ، الذي سأله عن بلاده وكساه وأركبه.  ثم أخبره الأمير بنية إبن بطوطة التوجه إلى الحج، فكتب له إلى أمير بغداد لينضم لحملة الحجيج ذلك العام ويسهل له أمره.  فعاد من فوره إلى بغداد ، وكان قد بقي لسفر الحجيج شهرين ، فإستغل الفرصة وسافر إلى الموصل وديار بكر .  حيث إرتحل في تلك النواحي لبعض الوقت وعاد إلى بغداد لينضم إلى الحجاج.

وأدى إبن بطوطة مناسك الحج تلك السنة ، وكان قد وصل مكة هزيلاً من مرضٍ ألم به أثناء الرحلة فقرر المجاورة في مكة ذلك العام والعام الذي يليه.  والمجاورة هي تفرغ المسلم للعبادة في مكان مقدس. وفي ذلك العام ذكر إسم إبي سعيد في الخطبة بعد الملك الناصر والخليفة، وذلك بعد أن صفت الأمور بين دولة المماليك ودولة الإلخانات.     

ومن مكة سافر إبن بطوطة إلى اليمن ، حيث ركب البحر من جدة.

وصل إبن بطوطة إلى تعز التي كانت عاصمة اليمن حينئذٍ ، وقال عنها أنها من أحسن مدن اليمن وأعظمها ، وأهلها ذوو تجبر وتكبر وفظاظة ، ويبرر إبن بطوطة أن هذا طبيعة المدن التي يسكنها الملوك.  وفي تعز قابل " السلطان المجاهد " ، الذي أكرمه ، ووصف إبن بطوطة نظام التشريفات المتبع في بلاط هذا الملك، فمثلاً عندما كان الملك يقعد أو ينهض ، كان الحرس والحاشية يصيحون قائلين " بسم الله ".  ثم سافر إلى صنعاء ثم عدن ، التي كانت ميناءاً هاماً ، وسكانها إما تجار أو حمالين أو صيادي سمك. 

ومن عدن سافر إلى زيلع ومنها براً إلى مقدشو ، في ما يعرف اليوم بالصومال .  وكان أهل الصومال قد دخلوا الإسلام .  وكانت مقدشو يحكمها " شيخ " ، ولا يوجد بها سلطان.  ثم سافر جنوباً إلى كلوا ومنبسى ، وهي ممباسا في كينيا اليوم .  ويصف الحياة في هذه البلاد التي كان أهلها مسلمين، ويلفت نظره أن جميع أهلها يسيرون حفاة.  وكان في كلوة سلطان إسمه أبو المظفر حسن، وكان كريماً متواضعاً ، قابله إبن بطوطة وأحسن إستقباله ، وقد كانت معظم عطاياه من العاج.

ومن كلوة ركب البحر إلى ظفار.  وهي ميناء مهم على بحر العرب يرتبط بخط بحري مهم مع مدينة قاليقط في غرب الهند ، التي تستغرق السفينة في رحلتها إليها شهراً كاملاً.  وأكثر أكل أهل ظفار السمك وخاصةً السردين ، المتوفر لديهم منه كميات كبيرة منه ، بحيث أصبح طعام دوابهم وغنمهم.  وهذه المدينة تعيش على التجارة ، ولتشجيع السفن على الرسو في ميناءها يقوم سلطانها بإرسال من يستقبل كل سفينة تدخل الميناء، حاملين هدايا لصاحبها وربانها وكاتبها.  ويدعوهم لتناول الطعام مع السلطان.  والظفاريون أهل تواضع وفضيلة ويحبون الغرباء. 

ومن ظفار سافر بحراً إلى عُمان ، حيث نزل في مرسى صور ، ومنها سار إلى مدينة قلهات.  وكان أكثر أهلها على المذهب الإباضي.  ثم سافر إلى نزوا ، وهي عاصمة البلاد، وكان السلطان فيها أبو محمد بن نبهان، وهو من قبيلة الأزد.  وكان جميع سلاطينهم يلقبون بأبي محمد.

ثم سافر إلى هرمز ، وهي ميناء مهم في مدخل الخليج، وأهلها يأكلون التمر والسمك بشكل رئيسي.  وقد إرتحل إبن خلدون على ساحلي الخليج ، وعندما حان موعد الحج إنطلق مسرعاً إلى مكة .  وبعد إتمام شعائر الحج ، حاول السفر إلى الهند ولكنه لم يوفق، فذهب إلى الشام عن طريق مصر، مستخدماً الطريق نفسه الذي سلكه قبل سنين.  ثم سافر بحراً من اللاذيقية إلى الأناضول ، وقد إستخدم مركب جنوي لم يأخذ منه أجرة . 

وكانت أناضول القرن الرابع عشر تمر في عملية أسلمة وتتريك جذرية، وقد وقف إبن بطوطة شاهداً على هذه العملية.  فقد زار وقابل معظم عواصم وأمراء الإمارات والممالك التركية التي إنتشرت في شرق ووسط الأناضول ، وكانت آخذة بالتوسع غرباً على حساب الإمبراطورية البيزنطية ، وكذلك كانت تتوسع على حساب بعضها بعضاً .  وقد لاحظ إبن خلدون كرم الأتراك وحبهم للغريب، شعوباً وحكاماً .  وكانت هناك زوايا في كل مكان تستضيف الغريب وتأويه.  وكانت أكثر تنظيماً من تلك الموجودة في أقاليم إسلامية أخرى.  فكان هناك " أخوة " ترعاها، وهي مبنية على مهنة محددة أو سكان حي معينة أو قرابة دم إلخ.. وكان رئيسها المسمى " أخي " يدير هذه الزوايا ، التي كان يجتمع فيها أعضائها ويأكلون ويلهون معاً .

   كانت أول سلطنة زارها العلايا ثم أنطاليا ثم أكريدور ثم قل حصار ثم لاذق ثم ميلاس ثم اللارندة ثم بِركي ثم مغنيسية ثم برغمة ثم بلي كسري ثم برصا ثم قصطمونية .  وبرصا كانت عاصمة العثمانيين ، وكان سلطانها أورخان بن عثمان ، وقد وصفه إبن خلدون على أنه أكبر ملوك التركمان مالاً وبلاداً وعسكراً، وله من الحصون ما يقارب المائة.  وقد واجه إبن بطوطة صعوبة في التفاهم في كثير من المواقف، وذلك أن اللغة العربية غير منتشرة وغير مستخدمة في بلاط الأمراء وهي ليست لغة تجارة، رغم تدين الأتراك الشديد.  وقد إضطر إبن بطوطة أن يحتمل رفقة رجل كان يسرق منه ومن جماعته لأنه كان يترجم لهم.  

 ثم ركب إبن بطوطة البحر إلى القرم ، سنة 734 هـ ( 1333م) حيث كانت دولة القفجاق المغولية، أو القبيلة الذهبية.  وكانت زيارته في زمن سلطانها أوزبك خان ( 1312- 1341م) ، الذي جعل الدين الإسلامي الدين الرسمي للدولة.  فوصل غلى مدينة الكفا وهي قاعدة تجارية جنوية وبها مسجد.  ومنها سافروا إلى مدينة القرم ، وهي من اعمال دولة القفجاق.  ثم إتجه إلى عاصمة بلاد القفجاق السرا ، فساروا في اراضي جرداء وصلوا إلى مدينة إسمها أزاق وهي على ساحل البحر ، يقصدها الجنويون وغيرهم للتجارة .  وقد كان سفر إبن بطوطة بصحبة جماعة من أمراء القفجاق ، وكان لدى أمير هذه المدينة علم بمقدمهم فكان بإستقبالهم، حيث وصلت الجماعة التي كان بينهم إبن بطوطة، وفي اليوم التالي وصل الأمير تلكتمور ، وهو أمير القرم .  فنصبت لهم ثلاثة خيام متصلة ، وقد وصفها إبن بطوطة على أنها واحدة من الحرير وإثنتان من الكتان ، ولم يذكر أنها كانت ذهبية ، أو عليها رسومات ذهبية، كما يعتقد بعض الباحثين ، الذين يعتقدون أن ذلك وراء تسميتهم بالقبيلة الذهبية.  ولكنه عندما يصف خيمة الخان يذكر أن عليها زخارف ذهبية .   كما وصف الإستقبال الذي تضمن مواعظ دينية وأناشيد بالعربية والفارسية والتركية ثم قدموا الطعام ووزعوا الهدايا على الحضور.

ثم سافر إلى مدينة الماجر، التي قد تكون الماجيار ، أي المجر ، ولا يقدم الكثير عن هذه المدينة سوى أنها تقع على نهر كبير وفيها بساتين كثيرة ، وبها زاوية ومشايخ وجاليات إسلامية عديدة ، مما يدلل على أنها ليست المجر ، التي هي دولة وأمة وليست مدينة.  وهناك قابل شخص يهودي قال له أنه قدم براً من الأندلس ، مما أثار عجب إبن بطوطة.

ومن هذه المدينة إتجه إبن بطوطة إلى معسكر أُزبك خان .  ويقدم تفاصيل عن مراسيم البلاط المغولي في دولة القفجاق في زمن أُزبك خان ، الذي قابله وأكرمه.  ومن هناك يسافر إلى بلاد بلغار الفولجا ويمضي فيها أيام قليلة ، ويعود والشيء الوحيد الذي يلفت نظره هو قصر الليل وطول النهار، خاصةً وأن سفره كان في رمضان .

 ثم يسافر إلى القسطنطينية بحدود 732هـ ( 1331م )  بصحبة إحدى زوجات أُزبك خان ، وهي إبنة إمبراطور القسطنطينية ، التي ذهبت في زيارة لأهلها ولم تعد.  وقدم وصفاً لقسطنطينية القرن الرابع عشر قبل قرن من سقوطها.  وقد قابل الإمبراطور ، وهو أندرونيكوس الثالث ، وطلب منه أن يكلف من يسهل عليه رؤية المدينة ، وفعلاً تجول المدينة ووصف سورها ، الذي قال أنه منيع وداخل السور يوجد ثلاثة عشر قرية بالإضافة إلى القسطنطينية، ويذكر أن الجانب الشرقي منها يسمى إسطنبول، أما القسم الثاني فإسمه غلطة ويسكنه الجنويون والبنادقة والروم والفرنج.  ولا يذكر إبن بطوطة شيء عن الخراب الذي كان في المدينة في هذه الفترة ، حيث كان جزءاً من المدينة خرباً لا يسكنه أحد، كما لا يذكرشيئاً عن مسجد القسطنطينية .   ثم يعود من غير الملكة ، التي فضلت البقاء عند أهلها ، ويذكر أن هذا الإمبراطور كان له بنتين ماريا وإيرين .

وكان الفصل شتاء، وكان شديد البرد لدرجة أن إبن بطوطة كان يرتدي ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن، فكان يحتاج من يساعده على إمتطاء حصانه. 

ثم وصل إلى مدينة السرا ، أو سرا بركة، وهي عاصمة القفجاق.  ويصف إتساعها وأسواقها ، ويذكر أن فيها ثلاثة عشر مسجداً يقام فيها الجمعة.  ومنها سافر إلى مدينة سراجوق.  والسفر في عربات تجرها الجمال ، وقلما يرتاحون في سفرهم لعدم وجود الماء والعشب في هذه الصحراء.  وصل إبن بطوطة إلى خوارزم وهي تابعة لدولة القفجاق، وهي مدينة كبيرة كثيرة السكان وأسواقها عامرة.  وأهلها من أحسن أهل الدنيا أخلاقاً.  ثم يزور مدينة ترمذ وقرية زمخشر وبخارى وبلخ وسمرقند ، التي خلدها علماء مميزون من أبناءها لا تزال إبداعاتهم تقدم فائدة كبيرة للدارسين.  وقد كانت بعض هذه المدن قد فقدت أهميتها بعد تدميرها من قبل المغول قبل زيارة إبن بطوطة بأقل من قرن من الزمان.

ثم يصل إلى دولة مغولية أخرى ، وهي دولة المغول فيما وراء النهر، الجقطاي .  ويذهب مباشرةً إلى معسكر السلطان علاء الدين طرمشيرين ، الذي تولى السلطنة بعد أخيه الجكطي ، الذي لم يكن مسلماً وولي بعد أخيه كبك.  وقد كان طرمشيرين رجلاً صالحاً وهو أول من أسلم من خانات المغول في هذه الدولة .  وقد شهد إبن بطوطة موقفاً في المسجد عندما طلب أحد مساعديه من الإمام أن يؤخر الصلاة ريثما يصل السلطان ، فقال الإمام أن الصلاة لله وليست لطرمشيرين ، وأقام الصلاة .  فوصل السلطان متأخراً فصلى حيث يصلي الذين يأتون متأخرين إلى المساجد ، بالقرب من الباب بين الأحذية، ولكنه بعد أن أتم الصلاة إتجه معتذراً نحو الإمام ، ثم نظر إلى إبن بطوطة ، الذي كان بمثابة مراسل صحفي، وقال له إذا سرت إلى بلادك فحدثهم عن ما رأيت.

وفي سنة 734هـ ( 1333م ) وصل إبن بطوطة إلى البنجاب في شمال الهند.  وقد أمضى وقتاً طويلاً قي الهند ، فوصف مدنها وأسواقها وقصورها ، وقابل فقهاءها وامراءها وسلاطينها ، وعمل لهم حيث تولى القضاء .  لقد أبدى إبن بطوطة إعجابه بكفاءة نظام البريد المعمول به في الهند ، الذي كان يعتمد على الخيل والعدائين، الذين كانوا ينطلقون بسرعة شديدة لمسافات قصيرة ، حيث يتسلم صندوق الرسائل خيال أو عداء آخر يكون جاهزاً في محطة محددة، فتصل الرسائل بأيام قليلة .  وقد تحمل الفاكهة من إقليم لآخر ، فتصل طازجة .  كما يستخدم هذا النظام لنقل المعلومات ، فتصل المعلومات عن أي شخص يدخل الهند إلى السلطان قبل وصوله العاصمة بأسابيع.

ويستعرض إبن بطوطة تاريخ الهند منذ فتح المسلمين لدلهي بتفصيل، ويُعتبر مصدراً هاماً لتاريخ الهند في هذه الفترة .  وقابل سلطانها محمد أبا المجاهد ، ووصفه بأنه كان " أحب الناس في إسداء العطايا وإراقة الدماء .  فلا يخلو بابه من فقيرٍ يغنى ، أو حي يُقتل " ، ومع ذلك كان متواضعاً ومحباً للعدل والحق.  ويورد أمثال عن كرمه ، ولكنه يقسم على صحتها خوفاً من أن يتهم بالمبالغة، لما فيها مما يدعو إلى ذلك . كما يورد أمثلة كثيرة على تفننه في قتل من يغضب منهم ، ومع هذا تحداه أحد الفقهاء وقال له بوجهه أنه ظالم ، فعذبه أياماً ، ولما رفض الرجوع عن كلامه قتله.  وكان أهل دلهي يكتبون كتابات في الليل يتهمونه بالظلم ، فأمر أهل المدينة أن يرحلوا عنها ، فرحلوا حتى فرغت ، بحيث لم يجد حرسه في المدينة إلا أعمى ومُقعد فقتلوهما .  ثم طلب من أهل المدن المجاورة أن ينتقلوا للعيش في دلهي ، فلم تعمر جميعها لكبرها .

وكلفه سلطان الهند أن يوصل رسالة وهدية إلى إمبراطور الصين ، فسافر عن طريق جنوب الهند ، وهناك سُلب ، ففقد الهدية والرسالة ، ولم يجرؤ على العودة إلى دلهي، وهذا مبرر، إذا كان السلخ حياً، أحد وسائل القتل عنده .

وتجول في أقاليم عديدة مثل جزيرة سيلان والمالديف والمليبار وجاوة وفيتنام ثم الصين.

ولم تعجبه الصين على حسنها لغلبة الكفر عليها .  ووصل إلى مدينة إسمها خنسا وهي غالباً ما تكون هانجو Hangzhou ، وقابل بها العديد من المسلمين الذين إستقروا بها من أقطار العالم الإسلامي المختلفة، لدرجة أن لهم حيٌ خاصٌ بهم ، به مساجدهم وأسواقهم .  وهناك قابل القان قرطي ، الذي إستقبله وقدم له طعاماً أعده طباخون مسلمون .  ثم سافر إلى مدينة الدست ، ومنها سافر إلى بلاد الخِطا.  ومدينتها خان بالق Khanbalig ، هو الإسم المغولي لمدينة بكين الصينية بعد أن إتخذوها عاصمةً لهم .  وتبعد مسيرة أربعة وستين يوماً عن خنسا ، وليس بها مسلمون .  وتسمى أيضاً خانقو. وهي عاصمة الصين والخطا ، أي المغول . وهي بكين ، التي نقل المغول عاصمتهم إليها من قراقورم ، التي تبعد مسيرة ثلاثة أشهر ، على ما يقوله إبن بطوطة .  وحتى في هذه المدينة يجد إبن بطوطة من يستضيفه بترتيب مسبق ، فينزل عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي .

وقد شهد إبن بطوطة حرب أهلية بين المغول ، حيث ثاروا على الخان وقتلوه ، ويقدم وصفاً لمراسيم دفن الخانات لدى المغول ، فيذكر أنهم بنوا بيتاً تحت الأرض ووضعوا فيه الجثمان بكامل سلاحه وأواني الذهب والفضة وأربعة من الجواري وستة من خواص مماليكه.  ثم دفن البيت فأصبح كالتل.

وفي هذه الأجواء المفعمة بالقلاقل نصحه الشيخ برهان أن يغادر المدينة ، فغادرها إنحداراً في النهر إلى الخنسا و قنجنفو والزيتون ، ومنها غادر بحراً إلى الهند , ومنها إلى ظفار فبغداد فدمشق فالقدس فمكة ، وبعد أداء فريضة الحج عاد أدراجه إلى المغرب ، حيث وصل فاس سنة 750هـ ( 1348م ) ، بعد خمسة وعشرين سنة من مغادرة المغرب .   فمثل بين يدي " أمير المؤمنين ، المتوكل على رب العالمين ، أبي عنان ، فأنستني هيبته هيبة ملك العراق ، وحسنه حسن ملك الهند ، وحسن أخلاقه حسن أخلاق اليمن ، وشجاعته شجاعة ملك الترك ، وحلمه حلم ملك الروم ، وديانته ديانة ملك تركستان ، وعلمه علم ملك جاوة " [1] .  ويذكر أن هناك الكثير من العائلات التي يعتقد أبناؤها أنهم من سلالة إبن بطوطة، حيث أنه إضطر، أكثر من مرة ، إلى ترك زوجاته أو جواريه مع أبنائهن في عدد من مدن العالم الإسلامي .   

    

إبن جبير

وهو أبو الحسن محمد بن جبير الكناني ، الأندلسي ، البلنسي ولد في مدينة بلنسية سنة 539هـ ( 1100 م ) .  وكان فقيهاً محدثاً شاعراً.  وقد أُشتهر برحلته ، التي خلدها في كتاب " رحلة إبن جبير ".  وبدأ رحلته سنة 578 هـ من غرناطة.  وكان هدفه الأول الذهاب إلى مكة بغية أداء فريضة الحج.  وقد ركب في سفينة جنوية مبحرة من سبتة ، في المغرب ، إلى ميناء الإسكندرية في مصر.  وكان مسار الرحلة بمحاذاة السواحل الأوربية ، فأبحرت بالقرب من جزر ميورقة ومنورقة وسردينية ، حيث رست للمرة الأولى بعد إقلاعها من سبتة، وهناك شاهد أحد زملاء إبن جبير المسافرين معه في سوق المدينة التي رسوا بها نحو ثمانين من الرجال والنساء المسلمين يباعون عبيداً .  ثم أبحروا بمحاذاة جزيرة صقلية ، ومنها إتجهت السفينة نحو جزيرة كريت ،  ودون أن يرسو بأحد موانئها إتجهوا نحو الإسكندرية ، وبعد ثلاثين يوماً شاهدوا منارة الإسكندرية.  جرت هذه الرحلة في بداية فترة الحروب الصليبية، عندما كانت أوربا في قمة تعبئتها ضد المسلمين، ومع هذا تجد فقيه أندلسي يسافر إلى الحجاز على متن سفينة جنوية تمر في موانئ أوربية وعربية بحرية كاملة دون إعتراض أحد، وعلى الرغم من أن الحرب التي تجري على بعد آلاف الأميال، إلا أن نتاجها وصل إلى سردينيا.

في مصر يقدم إبن جبير وصفاً دقيقاً لمبانيها الفرعونية والقبطية والإسلامية.  ولكنه يبدي إعجاباً شديداً في شخصية السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي زار مصر في عهده.  فيذكر تخفيفه للضرائب وعطفه على الغرباء ومن بينهم المغاربة، حيث أمن لهم السلطان الإقامة والأرزاق.  كما يصف مستشفى القاهرة ، " وعين قيماً من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من إستعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها" .  ويوجد قسم للنساء، كما يوجد مكان للمرضى العقليين.  كما يبدي إعجابه بالمدارس وبعناية صلاح الدين بها.

ثم غادر القاهرة بمركب نهري في النيل، حيث نزل في قوص ومنها إرتحل على الجمال إلى عيذاب ، وهي ميناء على البحر الأحمر.  وهو موضع لا يوجد به زراعة ويعيش أهله على الترزق من المسافرين.  ومنها إرتحل إلى جدة بحراً ، ومنها إلى مكة على ظهور الجمال.  وقد أبدى إبن جبير إستياءه الشديد من إستغلال أهل المحطات التي مر بها.  وفي مكة أدى إبن جبير مناسك الحج وإجتمع إلى العلماء والفقهاء ، وقدم وصفاً للأماكن المقدسة.

غادر الحجاز إلى العراق، فمر بالكوفة والحلة وصولاً إلى بغداد.  

وكانت بغداد تمر بإحدى صحواتها من الموت السريري الطويل الذي مرت به، فكان الخليفة الناصر يحكم فيها، وقد كان نجيباً شجاعاً محباً للعلم ، كما كانت فترة حكمه طويلة.  لم يعجب إبن جبير بأهل بغداد ،  فقال عنهم أنهم لا يحبون الغرباء. وأطنب في وصف المدينة التي كانت قد تقلصت، فكان الجانب الغربي منها مدمر وغير مستخدم.  ولكن وصف مستشفى المدينة ومدارسها الثمانية، والتي يرعاها الخليفة وينفق عليها.  وقد تمكن من مشاهدة الخليفة مرتين، وكان في إحداهما متنكراً بلبس الأتراك، وكان الناصر عندئذٍ شاباً في الخامسة والعشرين تعلو وجهه لحية شقراء.

غادر بغداد إلى الموصل في محاذاة نهر دجلة مع حجاج الموصل والأقاليم الأخرى التي وراءها.  وكان في القافلة خاتونين من خواتين ذلك الزمان؛ الأولى والدة حاكم الموصل، والثانية إبنة سلطان سلاجقة الروم .  فقد كان حجاج الأناضول وشمال الشام ضمن القافلة، وذلك تجنباً لغارات الصليبيين على قوافل الحجاج.

وعندما وصل إبن جبير إلى الموصل أبدى إعجابه بأهلها، وهذا أمرٌ لا يزال غير مستغرب عنهم من عطفهم على الغريب وترحيبهم به.  وقد كان حاكم الموصل بإستقبال الحجاج الذين بينهم والدته، حيث دخل حجاج الموصل مدينتهم بموكبٍ مهيبٍ وجميل.   

وبعد مكوث أربعة أيام في الموصل غادر القافلة إلى نصيبين وحران ومنبج .  ثم وصلت حلب، التي يصفها بإعجاب شديد ويصف قلعتها.  وبعد أربعة أيام غادرت القافلة حلب إلى حماة حيث تمر القافلة بمحاذة المناطق التي كانت تكثر فيها قلاع الإسماعيلية، فيصفها كما يصف لبنان أيضاً، التي تمر القافلة بمحاذاة جبالها أيضاً.  ثم تصل القافلة إلى حماة ثم حمص فدمشق.  حيث يمعن في وصف البيوت والأنهار والقلاع والجوامع والمدارس بأسلوب يغلب عليه السجع.  فيقول أن بها أكثر من عشرين مدرسة ومستشفى قديم وآخر جديد ومائة حمام وأربعين داراً للوضوء فيها ماء جاري.  كما أن بها مرافق للغرباء كثيرة ، ولا سيما لحفاظ كتاب الله، فيقول " فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا فليرحل ألى هذه البلاد ويتغرب في طلب العلم فيجد الأمور المُعينات كثيرة". ثم يتكلم عن أناس منقطعين للعبادة في هذه الأنحاء وفي جبال لبنان ، حيث يقدم لهم الناس الطعام سواء كانوا مسلمين أن مسيحيين.

ويطنب إبن جبير في الحديث عن بعض عادات أهل دمشق، التي يتكلم عنها بإعجاب شديد.

وبينما إبن جبير في دمشق خرج صلاح الدين على رأس جيشٍ كبير متجهاً إلى الكرك ، الذي كان أميرها الصليبي يقطع طريق الحج.  وهذه إحدى محاولات صلاح الدين للإستيلاء على هذه الإمارة التي كانت تفصل مصر عن الشام وكان أميرها مغالياً في عداءه للمسلمين ومبادراً إلى العداء دوماً.

وكانت قوافل التجار بين مصر ودمشق غير منقطعة، كما يقول إبن جبير، وتجار المسلمين يذهبون إلى عكا ، وكذلك تجار الفرنج يأتون إلى دمشق ، وكلٌ يدفع ضرائب مقررة عليه، " والإتفاق بينهم والإعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون  بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب." ويضيف أن هذا الحال ينطبق عندما تقع الفتنة بين المسلمين. " ولا تعترض الرعايا ولا التجار، والأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلماً أم حرباً ." ويبدو أن إبن جبير يتحسر على وضع الأندلس، سواءاً فيما بين المسلمين ، أم بينهم وبين الإسبان، حيث لا تراعى حرمة ولا يتمادى الجميع في العداء .     

وأثناء إقامة إبن جبير في دمشق تمكن صلاح الدين من الإستيلاء على مدينة نابلس، حيث حصل الجيش على غنائم كثيرة وسبوا سبياً كبيراً.

وغادر إبن جبير دمشق إلى الأراضي الواقعة تحت حكم الصليبيين، فبات في قرية داريا ، وبات الليلة التي تلتها في قرية بيت جن، التي يصفها بأنها بين الجبال، ومنها رحل إلى مدينة بانياس.  فبات فيها ليلة ثم دخل بلاد الإفرنج ، فمر في قلعة تبنين ، حيث يُستوفى ضرائب على المسافرين.  وأبدى إبن جبير إستغرابه لوجود ضريبة خاصة على المغاربة، وتعزى لبلاء المغاربة في محاربة الفرنج.   ولكنه يعلق مستغرباً أنه وصحبه دخلوا بلاد الإفرنج بينما كان سبيهم يُنقل إلى بلاد المسلمين دون أن يحاول أحد من الإفرنج الإنتقام منهم.  والإشارة هنا إلى سبي مدينة نابلس المستولى عليها مؤخراً .

ويقول عن سكان منطقة تبنين أنهم من المسلمين وأنهم يدفعون نصف غلتهم ضريبة للفرنج إضافةً إلى ضريبة الرؤوس.

وصلت القافلة إلى عكا، حيث إكترى منزلاً من إمرأة لمدة يومين ، ويقدم وصفاً لحال مدينة عكا تحت الإحتلال الصليبي، كما يصف صور ، التي سافر إليها ، ويقارنها مع عكا، فقال أن صور أنظف وأقل إزدحاماً وأهلها من الفرنج ألطف، وربما كان ذلك السبب أنه مكث فيها أحد عشر يوماً يبيت في أحد المساجد التي بقيت بيد المسلمين.  وقد شاهد إبن جبير أسرى المسلمين ، من رجال ونساء، يعملون عبيداً في الأسواق والبيوت .  ثم يضيف أن المسلمين في بلاد الشام يعملون بشكل منظم على فدائهم .  فكثيرٌ من الموسرين يوصون بجزء من وصاياهم لفكاك الأسرى، وذكر إبن جبير أنهم كثيراً ما يُعطوا الأولوية للمغاربة ، لبعد ديارهم . 

ويبدو أنه كان يهدف لإيجاد سفينة متجهة إلى غرب المتوسط، ولكنه لم يوفق فعاد إلى عكا، وإكترى مكاناً في مركبٍ كبيرٍ متجهً إلى مسينا في صقلية.  حيث كان الركاب جماعة من الحجاج المسلمين المغاربة وجماعة من حجاج المسيحيين الأوربيين. 

وأقلعت السفينة الجنوية بحمولتها من المسلمين والمسيحيين، بينهم جماعة من حجاج القدس وحجاج مكة، متجهين إلى موانئ في غرب المتوسط ، ومن ثم إلى بلادهم بعد إتمام رحلة العمر.  ولم تكن الرحلة سلسة، فإضطروا إلى الرسو بإحدى الجزر اليونانية، حيث كان الخطر على الجنويين أكثر من الخطر على المسلمين.  كما إضطروا للرسو على ساحل قلوريا في إيطاليا الجنوبية.  ثم وصلوا إلى مسينا في صقلية، وقد تجول إبن جبير في صقلية بحرية تامة، وقدم وصفاً لمدنها الرئيسية.  وقد جاء ملك صقلية وليم ، المعروف بتسامحه، لمشاهدة السفينة التي تحطمت على الشاطئ، فقام بمساعدة فقراء المسلمين من بين الركاب.  ثم غادر إبن جبير صقلية بسفينة إلى الأندلس، فوصل إلى أهله بعد غياب سنتين وثلاثة أشهر.

لقد أعطت رحلة إبن جبير وصفاً دقيقاً وموضوعياً للوضع السائد في حوض المتوسط أثناء الحروب الصليبية، حيث كان المسافر بحراً يخاف أن يقع في الأسر، فيُستعبد إلى الأبد، أكثر مما يخاف من  الغرق.    !!

 

ماركو بولو

ينتمي ماركو بولو إلى عائلة من التجار عاشت في الحي البندقي في مدينة القسطنطينية .  وقد عاش فيها في ظل الإمبراطورية اللاتينية التي أسسها الصليبيون في العام 1204 بعد إجتياح القسطنطينية وإنهاء حكم البيزنطيين فيها.  وفي العام 1259 ، بعد مضي أكثر من نصف قرن من الحكم اللاتيني للإمبراطورية ، كان البندقيون جزءاً من الطغمة الحاكمة ويتمتعون بإعفاءات ضريبية .  وقد كان ماركو يعيش مع أبيه وعمه ، نيكولو ومافيو ، الذين كانوا يفكرون بنقل مركز تجارتهم إلى الشرق ، إلى مدينة صولدايا في القرم .  ولاحقاً ثبت أن قرارهم كان صائباً ، إذ إنتهت الإمبراطورية اللاتينية في القسطنطينية ، وعادت المدينة إلى البيزنطينيين كعاصمة لهم .  حيث تم الإنتقام بقسوة من البنادقة وغيرهم من أبناء الشعوب اللاتينية الموجودين على أراضي الإمبراطورية .    

وكانت صولدايا جزءاً من دولة المغول في شمال البحر الأسود المسماة القبيلة الذهبية .  ثم إتجهوا شرقاً نحو العاصمة سراي ، حيث كان يحكم بركة خان .  وفي سراي مكثوا ما يقارب العام .  ولكنهم تابعوا المسير شرقاً إلى بخارى ، مبتعدين عن جو الحرب ، التي إشتعلت بين مغول القبيلة الذهبية ، بقيادة بركة خان ، وبين مغول فارس ، بقيادة هولاكو خان .  وبقيت العائلة في بخارى لمدة ثلاث سنوات حيث عملت بالتجارة. 

وفي العام 1264 إنضم الثلاثة إلى سفارة من هولاكو إلى قبلاي خان ، وهو الخان الأعظم للمغول ، وكان مقره في مدينة بكين الصينية ، التي أطلق عليها المغول إسم خان بالق .  حيث إستقبلهم الخان ، حيث عرضوا عليه خدمات تبشيرية ، فلم تكن مهمتهم تجارية وإنما تبشيرية.  فقد كانت أوربا تسعى في هذا الوقت إلى كسب المغول وتنصيرهم لمحاربة المسلمين ، وخاصة أن الحروب الصليبية لم تكن قد إنتهت على الرغم من فتورها .  وهنا يجب التنويه أن بركة خان ، خان القبيلة الذهبية كان قد أسلم ، بينما كان هولاكو معادياً للإسلام ، وكان يبدو عليه قربه من المسيحية لوجود نساطرة في بلاطه .   عادوا يحملون رسالة من الخان إلى البابا يطلب إرسال أشخاص متعلمين لتثقيف المغول بالديانة المسيحية والعادات الأوربية . 

فعادوا إلى عكا التي كانت العاصمة الفعلية لبقايا المملكة اللاتينية حيث قابلوا لويس التاسع بعد فكاكه من الأسر .  ولم تستطع البابوية فعل شيء لفراغ المنصب البابوي بين وفاة كليمنت الرابع في العام 1268 وإنتخاب جريجوري العاشر في العام 1271.  وعادوا إلى البندقية في العام 1269 أو 1270 بإنتظار إنتخاب بابا جديد .

ولدى حصولهم على رسالة جوابية من البابا إنطلق الثلاثة يصحبهم إثنين من رجال الكنيسة في العام 1271م.  وعندما وصل ثلاثتهم إلى حاضرة الخان ، حيث خاف رجلا الكنيسة من إكمال الرحلة، تعلق الخان بماركو الذي كان متحدثاً لبقاً ، وكلفه بسفارات عديدة إلى مختلف أنحاء الإمبراطورية المغولية ، وكان يعود في كل مرة محملاً بالقصص التي كان يستمتع لسماعها الخان ، لدرجة أنه لم يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم ، على الرغم من طلبهم ذلك تكراراً ، فمكثوا في بلاطه سبعة عشر سنة .  كما عينه قبلاي خان حاكماً لإحدى المدن .

وفي العام 1291 كلفه الخان بمرافقة أميرة مغولية إلى قصر خطيبها أرغون في تبريز ، فأبحر حول سومطرة إلى المحيط الهندي فبحر العرب ، حيث رست السفينة في ميناء هرمز .  وعندما وصلوا إلى تبريز في سنة 1293 أو 1294 كان أرغون قد توفي وخلفه جايخاتو .  ومن تبريز غادروا إلى ترابزون ، ومنها أبحروا إلى البندقية ووصلوها سنة 1295م.

وينكر بعض الباحثين على ماركو بولو وصوله للصين ، مثل فرنسيس وود ، بحجج أنه لم يكتب عن بعض معالم الصين الهامة مثل سور الصين .  كما أنه لم يكتب عن بعض عادات الصينيين التي تلفت نظر الغرباء في العادة مثل شرب الشاي وعادة الصينيين في ربط القدمين وغير ذلك .  كما أن أسماء الأماكن الصينية تبدو وكأنها مأخوذة عن اللغة الفارسية وليست الصينية والمغولية .  وهناك مغالطة تاريخية خطيرة ، فهو يدعي أنه كان موجوداً في حصار هسيانج يانج سنة 1273 ، بينما كان وصوله للصين سنة 1274 أو 1275.  كما أنه يدعي أنه كان حاكماً لمدينة يانج شو لمدة ثلاث سنوات ، ولم يرد ذكر لإسمه في التواريخ الصينية [2] . 

 

بنجامين التوديلي

بدأ بنجامين رحلته سنة 1160 م من مدينة توديلا ، المنسوب إليها ، وهي مدينة إسبانية صغيرة ، وحسب الرواية الرسمية فقد بدأ الرحلة من سرقسطة، التي كان قد إنقضى خمسين عاماً على إنحسار الحكم الإسلامي عنها[3].  توجه بنجامين شمالاً إلى فرنسا ، ثم أبحر من ميناء مرسيلية .  فوصل إلى روما ، ثم إنتقل إلى القسطنطينية ومن هناك سافر إلى سوريا وفلسطين ، حيث زار القدس ومدن أخرى ، وكانت القدس تحت حكم الصليبيين ، ومع هذا وجد بها جالية يهودية صغيرة .  وكان في كل مدينة يزورها يكتب عن الجالية اليهودية فيها ، تعدادها وأحوالها .

ثم توجه إلى بغداد ، فوصلها في عهد الخليفة العباسي المستنجد بالله ، وقدم لها وصفاً يدل على إنبهاره بها لدرجة أنه بالغ كثيراً في وصف ثرواتها ومبانيها وأهلها.

وقد ذكر أن جالية يهودية من أربعين ألف يهودي تعيش في بغداد، وأن بها عشر مدارس يهودية.  وكان بنجامين يخصص حيزاً كبيراً للجاليات اليهودية في كل مدينة يزورها.  وفي حديثه عن بغداد تطرق إلى كيفية تعيين وتنصيب رأس الجالوت، وهو زعيم اليهود في معظم المشرق، على يدي الخليفة، حيث كان يتسلم الخاتم من الخليفة.  وكان رأس الجالوت موضع إحترام الجميع على أساس أنه من نسل النبي داود، فكان المسلمون، واليهود بكل تأكيد، يقفون إحتراماً لموكبه المتوجه لقصر الخلافة لإستلام الخاتم وتولي المنصب. 

ومن بغداد توجه إلى إيران ، ومنها عاد إلى مصر من خلال الجزيرة العربية، فزار القاهرة والإسكندرية .  ومن مصر سافر إلى إسبانيا من خلال شمال إفريقيا ، ووصلها في العام 1173م.  زار بنجامين خلال رحلته التي دامت أحد عشر سنة ثلاثمائة مدينة .

وقد ترك كتاباً إسمه " كتاب الرحلات " ، يعتبر مصدر هاماً لما يرد فيه من معلومات عن حياة الشعوب التي إرتحل إلى بلادها .   

 

رحالة و سفراء ومبشرين

في بداية القرن الثالث عشر برز المغول كقوة موحدة تهدد كلا العالمين الإسلامي والمسيحي ، الذي كانا يتحاربان لأكثر من مائة عام في شرق المتوسط .  وقد فكرت قيادة غرب أوربا الدينية والسياسية بإستمالة المغول وتشكيل حلف معهم ضد المسلمين ، وإمكانية تنصيرهم.  فبدأ رجال دين دومينيكان وفرانسيسكان يتقاطرون على عاصمة المغول كراكولم ، ثم على بكين بعد نقل العاصمة إليها من قبل قبلاي خان في الفترة الواقعة بين أواسط القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر.

وكان أول من إنطلق في هذه المهمة جونمارينيولي ، الذي كان مبعوثاً إلى البلاط المغولي بين عامي 1330 و1340م .  وقد ترك مذكرات ركيكة .  وقد أرسله البابا إنوسنت الرابع ، لحث المغول على عدم مهاجمة الدول المسيحية ، والعمل على التقارب فيما بينهما. 

ثم تلاه الراهب الفرنسيسكاني جيوفانيكاربيني سنة 1246م.  وكان قد أرسل إلى روسيا من قبل البابا إنوسنت الرابع لإقناع الكنيسة الروسية بالإعتراف بالقيادة البابوية لتشكيل حلف ضد المغول.  وكان المغول قد أسسوا دولة القفجاق على الأراضي الروسية منذ عام 1240م.  ولم الروس على إستعداد للدخول في تحالف ضدهم .  فتوجه الراهب جيوفاني إلى معسكر باطو خان القبيلة الذهبية ، التي أسست دولة القفجاق ، حيث شرح له مهمته وأنه يرغب بالسفر إلى عاصمة المغول لمقابلة خانهم الأعظم .  فسهل له ذلك ، فإنطلق جون راكباً حمارأ ، حيث كان سميناً جداً لا يقدر على إمتطاء الخيل . وعبر المسافات الكبيرة ، إلى أن وصل ضواحي قره قولم ، حيث كان مؤتمراً على وشك الإنعقاد لإنتخاب خليفة للخان أوجيدي ، الذي توفي مؤخراً .  وجرى إستقبال السفير في المخيم الذي أُقيم لهذه الغاية في آب من العام نفسه.  وقد تم إنتخاب جويوج خاناً للمغول ، الذي أرسل رداً سلبياً للبابا مع جون .  وقد ترك جون مذكرات عن رحلته ، وصف فيها عادات وحياة المغول وبلادهم .         

 

وليم روبروك ، ولد William of Rubruck في شمال فرنسا سنة1220م ، وإرتبط بلويس التاسع .  وقد رافق لويس التاسع في حملته على مصر سنة 1253، وكان معه في عكا ، كما كان معه في طرابلس .  وبناءاً على طلب من لويس التاسع إنطلق في مهمة تبشيرية في أوساط التتار في أيار 1253، حيث كان يأمل لويس أن ينصرهم بحيث يتحالفوا مع الصليبيين ضد المسلمين .  إنطلق وليم من القسطنطينية عابراً البحر الأسود بصحبة زملاء ومساعدين وخادم ومترجم إسمه عبد الله.  وقد كان عددٌ من السفراء قد أُرسل سابقاً إلى البلاط المغولي، وقد تشجع لويس التاسع ليرسل هذا الوفد عندما سمع بوجود مسيحيين نساطرة في بلاط خان المغول. 

رست السفينة التي أقلت وليم في القرم، ومن هناك سار بإتجاه الشرق وعبر نهر الدون، وبعد تسعة أيام إلتقى بسرطق خان، أحد أمراء المغول وحاكم الإقليم ، الذي كان يُعتقد أنه تنصر .  فأرسله إلى أبيه باطو خان، الذي كان مقره بساراي على نهر الفولجا.  ورفض باطو فكرة التنصر، ولكنه أرسل الوفد إلى الخان الأعظم منجو.  فإرتحل الوفد إلى قره قولم. فوصل إليها في نيسان 1254. 

مكث وليم ورفاقه  في قره قورم لبعض الوقت دون تحقيق أي إنجاز، ثم غادروها فوصلوا قبرص، حيث كان لويس التاسع موجود بعد تحرره من الأسر في مصر.  وكان التقرير الذي قدمه وليم يحتوي جغرافيا أكثر مما يحتوي أخبار في السياسة والدين .

ترك وليم كتاباً باللغة اللاتينية عن رحلته، أظهر فيها أنه كان ملاحظاً جيداً.  فكتب عن جغرافية الأقاليم التي مر بها، وطباع الشعوب التي إحتكوا بها.  ولم يبدي وليم إعجاباً يالعاصمة المغولية، فقد وصفها أنها أصغر من مدينة سان دينيس ، الواقعة بالقرب من باريس ، إذا ما تم إستثناء القصر الإمبراطوري .  ولكن الحفريات الروسية الحديثة أثبتت أن قره قولم أكبر من ذلك .  وقد وجد وليم العديد من الأجانب في عاصمة المغول بعضهم من جنسيات أوربية والآخرين من دول إسلامية ، وبعض هؤلاء أخذوا سبايا وتم إستخدامهم كعبيد لممارسة مهن مختلفة [4] .   

أندرو لونجوميو،   وه و راهب دومينيكاني عاش في القرن الثالث عشر.  وقد رافق البعثة التي أرسلها البابا إنوسنت الرابع إلى المغول سنة 1247م. 

جون مونتكورفينو ، وهو راهب فرنسيسكاني وصل إلى قره قولم سنة 1291م وبنى فيها كنيسة مع برج وناقوس .  ونظم فيها فرقة منشدين من أطفال قره قولم النساطرة .  وقد أنشدوا في حضرة الخان .  وقد ترك جون رسائل وصف فيها رحاته والصعوبات التي واجهها .  ووصف الحياة في العاصمة المغولية ، ويبدو أن وجود أوربيين في قره قولم كان أمراً عادياً ، فقد قابل شخص إيطالي تبرع لبناء كنيسة ثانية في قره قولم .  كما قابل طبيب لمباردي كان يتكلم بسوء عن الكنيسة وروما [5] .

أُدوريك بورديني ، وهو راهب فرنسيسكاني بوهيمي ، سافر إلى الصين بين عامي 1320 و1330 .  وقد سافر إلى الهند أيضاً . 

 

وهناك العديد من الأسماء الأخرى من المبشرين الدومينيكان والفرانسيسكان ، الذين تجشموا متاعب السفر آملين في تحقيق تغيير في معتقدات المغول وجذبهم إلى صفوف الكنيسة الكاثوليكية .  ولكنهم فشلوا جميعاً .  كما فشلوا في إقامة تحالف عسكري سياسي بين الصليبية والمغول ضد المسلمين .  ولكنهم حققوا بعض النجاح في تحقيق صلة مع مسيحيي المغول ، الذين كانوا على المذهب النسطوري ، كما نجحوا في تحريض المغول ضد المسلمين ، فجاء إجتياح بغداد يحمل في طياته عداء دفين للإسلام يبدو مستغرباً من قبل أمة لم يغزوها المسلمين من قبل .

كما كان يحدو هؤلاء الرحالة المبشرين أن يتصلوا بشخصية أسطورية آمنت بها أوربا في ذلك الزمن، وهي وجود حاكم مسيحي في أعماق آسيا إسمه " الأب يوحنا " [6] . 

 

 

 



[1]  رحلة إبن بطوطة .

[2]  هل وصل ماركو بولو إلى الصين ، فرانسيس وود ، ترجمة فاضل جتكر .

[3] رحلة بنجامين التطيلي، ترجمة عزرا حداد عن العبرية، إصدار المجمع الثقافي – أبو ظبي.

[4]  هل وصل ماركو بولو إلى الصين ، فرانسيس وود ، ترجمة فاضل جتكر .

[5]  هل وصل ماركو بولو إلى الصين ، فرانسيس وود ، ترجمة فاضل جتكر .

[6]  هل وصل ماركو بولو إلى الصين ، فرانسيس وود ، ترجمة فاضل جتكر .


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter