كتاب " نحن وأوربا " الجزء الثالث - الفصل الرابع - الوضع في الأندلس
 
 



 

الوضع في الأندلس

 

ديمقراطية المجتمعات المقاتلة

ينشأ نوع من العلاقة بين رفاق السلاح نتيجةً للتعرض المستمر للمخاطر والتحديات المشتركة التي تذيب الفروقات فيما بينهم ويعبر عن ذلك بحرية التعبير.

ضمن الإسلام حرية التعبير، على أن أحداً لم يقم بوضع قنوات وأطر للاستفادة من الاراء المعبّر عنها.  وحرم الإسلام عقاب الخارجين عن النهج السياسي للدولة .

في مملكة القدس الصليبية ، وهي مجتمع محارب ، وجدت المجالس courts التي حدت من سلطة الملك، و كان هذا قبل الماجنا كارتا، التي ظهرت في زمن الحروب الصليبية وبعد تأسيس مملكة القدس.

تقوى الرغبة في المجتمعات المقاتلة لإبداء الرأي، وأحياناً لفرضه على الآخرين ، كما تنمو  طموحات الأفراد فإن لم توجد القنوات والقوانين المنظمة تنجم الفوضى ويشيع التشرذم ويسود اللجوء إلى القوة ، وهذا ما حدث في الأندلس والقيروان وصقلية والكوفة ، التي كانت جميعاً مجتمعات تكونت من مقاتلين .  في هذه الأقاليم كثر الشغب وتزايدت الثورات على الحكام لأصغر الأسباب .

أما في الامارات الصليبية فقد وجدت المجالس التي شكلت القناة لصب الاراء وطبخها. حتى المغول تنبهوا إلى ذلك ووضعوا نظاماً لحياتهم السياسية.  ولذلك لم تحدث فتن كثيرة في أوساط الصليبيين ، بينما إتسم تاريخ كل من الكوفة والقيروان وصقلية والأندلس بالفتن والثورات والمزاج السياسي المتقلب .

يقول تعبير سياسي معاصر أن "الثورة تأكل نفسها" ، وهذا صحيح .  ويعود ذلك إلى أن الذين يقومون بالثورة ينمو لديهم "صوت عالٍ"، يصعب عليهم إسكاته لأنهم دفعوا ثمناً له.  وفي غياب آلية للتعبير عن الآراء المتباينة يحدث تصادم يؤدي إلى تصفية رفاق السلاح بعضهم بعضاً.

من خلال هذا المدخل ، نأمل أن نلقي الضوء على المجتمع الأندلسي ، الذي إمتلك خصائص مختلفة إتصفت بالتقلب والتحزب واللجوء إلى السلاح لحل الخلافات.  كما كان هذا المجتمع ينقسم بالكامل عند الأزمات الداخلية ، ولم يكن هناك مكان لما يسمى " الأكثرية الصامتة " .  ففي إحدى الفتن قُتل رجل في المسجد لأنه إقترح اللجوء إلى التفاهم وحل الخلاف سلمياً.    

 

سقوط الخلافة الأموية ونمو الممالك الإسبانية

 

عندما أعلن عبد الرحمن الناصر ، الذي تولى الحكم سنة 912م ، نفسه خليفة ، كانت الخلافة في بغداد قد وصلت قمة ضعفها .  وكان الوضع في الأندلس لا يبشر بخير ، فكثير من حكام المدن النائية يمنون أنفسهم بالإستقلال ، حيث كان يُعبر عن ذلك بثورة هنا وعصيان هناك .  كما كانت الممالك الإسبانية تزداد قوة وتتربص الفرص .  فقام بشن حملة فرض الإستقرار في أقاليم دولته ، وإستعاد الكثير من الأراضي  من الممالك الإسبانية ودفع حدودها إلى المناطق الجبلية .  وقد إمتد حكم عبد الرحمن الناصر ، الذي بشار إليه بالثالث أيضاً ، لمدة خمسين عاماً . 

وقد وجهت القوى المسيحية في أوربا إتهاماً علنياً لعبد الرحمن ، وهو إغتصاب صبي قاصر مسيحي من سكان قرطبة ، وهو الذي لم يعرف عنه إضطهاده للمسيحيين من رعاياه .  وتم إعلان الصبي قديساً ، بإسم " القديس بيلاجيوس القرطبي ".  وقد شاع الأمر في أوربا ، وأصبحت الدعوة للإنتقام للصبي المغتصب صيحة حرب ترددت أصداؤها في معظم أنحاء أوربا .  وقد تغذت حرب الإسترداد الإسبانية على هذه الحكاية وغيرها ، لعدة أجيال ، كما إستمدت منها القوة في وقت ضعف .  ويرى بعض الباحثين الغربيين أن القصة تم فبركتها للإساءة للإسلام.

وتولى الحكم بعد عبد الرحمن إبنه الحكم الثاني ، الذي حكم ستة عشر عاماً ، وكانت فترة حكمه عصراً ذهبياً في التاريخ الأندلسي ، ولكن خليفته كان صبياً فإستولى على الحكم الحاجب محمد بن أبي عامر .  وحكم بعده إبنه ثم حفيده ، وقد أدى ذلك إلى إستقلال عدد من الأمراء بمدنهم وقلاعهم وظهور ما سمي بدول الطوائف [1] . 

 

دول الطوائف

على إثر الإعلان عن نهاية الخلافة الأموية، برز إلى الوجود عددٌ كبيرٌ من الكيانات السياسية موزعة على أقاليم الأندلس المختلفة ، التي كانت مستقلة عن بعضها البعض ، بل تتنافس وتتقاتل فيما بينها ، وتتعدى ذلك إلى تحالف بعضها مع الإسبان ضد البعض الآخر .  وقد بلغ عددها أربعاً وثلاثين.

وكان قرار إنهاء الخلافة الأموية في الأندلس قد تم إتخاذه جماعياً من قبل النخبة السياسية في قرطبة، التي كان يتزعمها أبو الحزم بن جهور ، الذي أسس دولة قرطبة وترأسها ، وكانت تضم مناطق إلى الشمال والجنوب .  كما تأسست مملكة طليطلة وحكمها إسماعيل بن ذي النون , وفي مدينة بطليوس إنفرد مسلمة بن الأفطس في حكمها .  ثم تأسست في سرقسطة مملكة يحكمها بنو هود .  أما إشبيلية فقد أصبح أميرها المعتمد بن عباد وحكمها بنو عباد من سنة 1023 إلى سنة 1091م ، وتسلم غرناطة بنو زيري ، الذين حكموا في المغرب من قبل الفاطميين .  أما بلنسية فقد تأسست فيها إمارة حكمها جماعة من الصقالبة ، ثم تسلم الحكم فيها بنو عامر ، كما كان هناك العديد من المدن الصغيرة المستقلة .

وقد إنتهت دولة طليطلة بسقوطها بيد الإسبان سنة 477هـ ( 1085م ) ، بعد أن حكمها ثلاثة من أبناء أسرة ذنون ، كان آخرهم القادر بالله بن ذي النون.  وقد حاصرها الأذفونش ( ألفونسو السادس ) ، ملك قشتالة  سبع سنين [2] . 

أما بطليوس فقد سقطت بيد الإسبان سنة 487 هـ ( 1094 م ) ،  بعد أن حكمها بنو الأفطس منذ سنة 1022م لغاية سقوطها .

كما حكم بنو رزين شنتمرية الشرق من سنة 1011 إلى سنة 1106م .

لقد كان ثلاثة من الثمانية بيوت الكبيرة الحاكمة في الأندلس من البربر ، وهذا يدل على بقاءهم بأعدادٍ كبيرة ، على عكس ما يذكره المؤرخون الغربيون .

وقد إزدهر الشعر والغناء في عهد الطوائف لتعدد القصور المفتوحة لإستقبال المبدعين في هذه المجالات.  ولكن الطابع العام كان يدل على شرذمة وضعف ولامبالاة وحياة مترعة بالمتع والترف [3] .

وبرز في هذه المرحلة الملك فرديناند الأول ، الذي هاجم دول الطوائف وفرض عليها الإتاوات ، وكان يعتقد أن هذه الدول بالإمكان إضعافها بالحرب وبالإستنزاف المالي .

وإستطاعت جيوش ألفونسو السادس ملك قشتالة من الإستيلاء على مواقع عديدة ، بالإضافة إلى طليطلة ،  حتى بلغت جزيرة طريف بالقرب من مضيق جبل طارق ، فزادت حماسة الإسبان .  وكان للإستيلاء على طليطلة، عاصمة القوط القديمة، وقع كبير في جميع أنحاء أوربا.  فسمى الفونسو نفسه " إمبراطور جميع الإسبان".
عند ذلك قرر ملوك الطوائف الإجتماع في قرطبة ، حيث أشار عليهم المعتمد بن عباد الإستعانة بالمغرب .  فردوا عليه أن سيفان لا يجتمعان في غمدٍ واحد ، وأن الموحدين سيسيطرون على الأندلس ، فقال لهم المعتمد قولته المشهورة أن " رعي الإبل خيرٌ من رعي الخنازير".  أي أن يكون في خدمة سلطان المرابطين ويرعى إبلهم خير من أن يكون في خدمة ملك الإسبان ويرعى خنازيرهم . 

وقد عزم قادة الأندلس طلب المساعدة من عرب المغرب، فإعترض البعض خوفاً من أن يكرروا ما فعلوه في تونس ( والإشارة هنا لبني هلال وبني سليم الذين إجتاحوا إفريقيا وخربوها ) ،  ففضلوا عليهم المرابطين لصلاحهم [4] .

وكان المعتمد بن عباد يدفع إتاوة للملك القشتالي، ولكنه رفض تسليمها بعد أن إستولى على طليطلة.  وقام بإرسال وفد يطلب من المعتمد إخلاء جميع قلاعه الجبلية، وكان الوفد يتكون من خمسمائة فارس، فقام المعتمد بقتلهم وقتل قائدهم [5] .

                                        

                                       

السيد

كان رودريجو دياز دي فيفار أحد نبلاء قشتالة ، وعاش في القرن الحادي عشر وكان محارباً شجاعاً وعرف بهذا الإسم الذي أطلقه عليه العرب ، ولكن المؤرخين العرب كانوا يسمونه بلقبه الآخر القنبيطور Campeador ويعني المبارز .  وقد تربى في بلاط قشتالة ، وأصبح كبير قادة الجيش في زمن ألفونسو السادس في حرب قشتالة مع المسلمين .

وفيما بعد غضب عليه ألفونسو ، فوضع نفسه ، كمقاتل محترف ، تحت تصرف مختلف حكام إسبانيا ، مسلمين ومسيحيين .  وكان السبب أنه هاجم غرناطة بدون موافقة مسبقة من قبل الملك ، كما يقال أنه أتهم بإقتطاع جزء من إتاوة إشبيلية ، وقد حدث هذا في العام 1079 ، أي أثناء حرب ألفونسو ضد الطوائف وقبل وصول المرابطين .

عمل السيد مع الأمير يوسف ، حاكم سرقوسطة .  وقد ساهم في جهد الأمير يوسف الحربي الموجه ضد أخيه الذي كان يحكم ريف سرقوسطة ( بينما يوسف يحكم المدينة ) وضد سانشو الأول ملك أرغون ورامون كونت برشلونة .  وكان كونت برشلونة قد رفض خدماته قبل توجهه إلى سرقسطة .  

في هذا الوقت كان السيد يقود جيشاً من المسيحيين والمسلمين ، قادةً وجنود ، فأخذ يعمل على إيجاد كيان خاص به ويحكمه بنفسه .  فوقع إختياره على فلنسية ، التي كان يحكمها القادر بالله ، أحد ملوك الطوائف ، ولم يكن العائق الوحيد ، إذ أن دوق برشلونة المجاورة كان يعارض خطط السيد .  ولكنه وقع في أسر السيد بعد إنهزامه في إحدى المعارك مع جيش السيد ، فأطلق سراحه مقابل فدية وتعهد بعدم معارضته .  ثم قامت ثورة في فلنسية قادها القاضي إبن جحاف ، فقام السيد بمهاجمة المدينة ومحاصرتها ، فدام الحصار عدة سنوات .  وفي 1094 إستولى على المدينة وأصبح له إمارة خاصة به يحكمها إسمياً بإسم ملك أرغون ، ألفونسو الأول .  وقد حافظ السيد بدايةً على طابع تعايشي إسلامي مسيحي ، ولكن بعد عامين قام بتحويل مساجد المدينة التسعة إلى كنائس ، كما يُنسب إليه حرق قاضي المدينة حياً. 

وشرف التسامح هذا ، الذي ناله روجر في صقلية كحالة أوربية خاصة ، ما كان ليناله إسباني ، على الرغم من أمثلة التسامح الموجودة في المدن الأندلسية .  كان من الممكن لهده التجربة أن تتطور إلى نموذج يغير وجه التاريخ .

في العام 1099 مات السيد متأثراً بجراح سهم أصابه في إحدى المعارك.  وفي العام 1109 إضطرت زوجته التي خلفته في الحكم لمغادرة المدينة، مصطحبة معها جثمان زوجها ، حيث سقطت المدينة في يد المرابطين الذين حاصروا المدينة وإقتحموها بعد أن أمر الفونسو الأول ، ملك أرغون ، الذي هرع للمساعدة ، بحرق المدينة.  وقد ترك السيد وراءه إبنتين تزوج واحدة ملك نافار والثانية ملك أرغون [6] .   

 

المرابطون

إذا كان يحلو لبعض المؤرخين والباحثين وصف القرن الثالث على أنه قرن إنتصار الحركات الشيعية ، فإن القرن الخامس يعد قرن ظهور حركات سنية ذات طابع ديني وعسكري وسياسي.  وقد ظهرت في المغرب وفي أوساط القبائل التركية القادمة حديثاً من أعماق آسيا ، وكذلك في منطقة خراسان وغيرها من الأقاليم الشرقية .

وكانت حركة المرابطين ودولتهم واحدة من هذه الحالات التي لها دلالات خاصة وتلقي الضوء على كيفية إنتشار الإسلام خارج البلاد المفتوحة .  فقد إنتشر في أقاليم واسعة بواسطة التجارة والدعاة لا تقل مساحتها عن تلك التي تم فتحها حتى نهاية العهد الأموي .  ومنذ عهد الرسول ( ص ) والخلفاء الراشدين  لم يتم تأسيس مؤسسات تبشيرية تهدف إلى نشر الإسلام بين الشعوب وتفقيههم به .  ولذلك فقد كانت المبادرات جميعاً تأخذ طابعاً فردياً .  وقد لعب التجار دوراً كبيراً في هذا المجال .  فكانوا بطبيعة عملهم يتوغلون بعيداً في بلادٍ أجنبية ، وكانوا يحتكون مع سكانها المحليين بطريقة تُظهر معدنهم بغير زيف ، فكان المؤمنون منهم يمتنعون عن الكذب والمبالغة وإطالة التفاوض وتبخيس الآخرين سلعهم ويلتزمون بالعهود ، حسب تعاليم دينهم ، فكان ذلك يترك إنطباعاً حسناً لدى السكان المحليين يجعلهم يتسائلون عن ما وراء هذا الخلق الرفيع، الأمر الذي كان يدفع بهم إلى تقبل الإسلام ، وقد حدث هذا في غرب الهند وفي الملايو وإندونيسيا وغرب إفريقيا وشرقها .  وفي غياب الدعاة الدارسين كان الدين يصلهم أحياناً مشوهاً ومنقوصاً .  وهذا ما حصل في غرب إفريقيا بين البربر.

ينقسم البربر إلى قسمين ؛ الأول يسمى البرانس وهم سكان المدن والقرى الساحلية ويعملون بالزراعة والتجارة والصناعة ، مثل صنهاجة وأوربة وكتامة ومصمودة وعجيسة وأوريغة وأزداجة ولمطة وهسكورة وجزولة ، وأكبرها صنهاجة .  أما القسم الثاني فيسمى البتر وهم رحل ويسكنون البوادي ويعيشون على رعي المواشي ، وهم أكثر عدداً .  ومن البتر ضريسة ونفوسة وأداسة ولواتة .  ويتفرع من ضريسة مكناسة وزناتة ، ومن زناتة جراوة ومغراوة ويفرن وزيان ومرين [7] . 

وكان يحيى بن إبراهيم الجدالي ، وهو من أبناء إحدى قبائل البربر ، وتسمى جدالة ، عائداً من الحج عندما إلتقى في القيروان بالشيخ أبي عمران الفاسي وأُعجب بعلمه وشخصه ، فشكى إليه حال أهله وقبيلته جدالة ، وحاجتهم للتفقه في الدين .  وكان الشيخ أبو عمران الفاسي متبحراً بالدين محباً للخير ، فطلب من بعض طلبته المنتشرين في أصقاع المغرب المختلفة ، أن يتوجهوا إلى حيث تقطن هذه القبيلة في الصحراء الواقعة بين جنوب المغرب وموريتانيا ومالي والنيجر .  فلم يلق ذلك تجاوباً بسبب طبيعة هذه البلاد وبعدها، ولكن أحدهم ، ويبدو أنه كان يقيم في مكانٍ قريب وافق على ذلك ، وهو وجاج بن زلو .  وفي رواية أخرى عن النويري يذكر الفقيه الذي وافق على الذهاب إلى الصحراء بإسم عبد الله بن ياسين ، ويسمي الحاج الجدالي بإسم الجوهر ، وتبدو هذه الرواية أدق لأنها موثقة ومطابقة لروايات أخر من بينها روايتي إبن الأثير والمقريزي .

ودخل الجوهر وإبن ياسين الصحراء ، فإنتهوا إلى قبيلة لمتونة.  ولما رأى وجهاء القبيلة الجوهر يقود جمل إبن ياسين ، وكانوا يعرفونه ويعرفون مكانته .  فأخبرهم أن الذي يركب الجمل فقيه جاء يعلم أهل الصحراء دين الإسلام .  فرحبوا به .  ومكث فيهم زمناً ، ولكنهم لم يقبلوا منه أموراً مثل معاقبة السارق ، فرحلا عنهم حتى إلتحقوا بقبيلة جدالة ، قبيلة الجوهر ، وكانت تسكن بالقرب من الساحل.  فوعظهم عبد الله فاستمع إليه قسمٌ من أبناء القبيلة وأعرض عنه قسمٌ آخر.  ولما يئس منهم عبد الله وإستمروا في غيهم ، طلب عبد الله ممن تبعه من جماعته أن يغزوهم ، وعرض القيادة على الجوهر فرفض، فعرضها على أبي بكر بن عمر اللمتوني فقبل ، وسماه أمير المسلمين ، وسمى الجماعة المرابطين [8] .

ويذكر أن المرابطة حركة ظهرت في الشام ، وكانت حركة ذات طابع ديني عسكري ، كان بمقتضاها " يرابط " الراغبون في الدفاع عن البلاد من هجمات الروم في الثغور لبعض الوقت أو لبقية حياتهم .  ثم أُستحدث نوعٌ آخر من الرباط يقتصر على العبادة في أماكن منقطعة .  وفي المغرب أصبح الرباط وسيلة لتأسيس حركات سياسية ودول.

ولم يبادر المرابطون قومهم والقبائل الأخرى بالحرب إلا بعد أن بقي زمرةً منهم أصروا على المضي في الفساد فإستئصلوهم .  وكثرت الجماعة وتتبعوا المفسدين بين القبائل .  وقد أسسوا مدينة قريبة من مصب نهر السنغال [9] ، فكانت رباطاً لهم .  وكان قد زاد عددهم عن الألف ، فطلب منهم الإستمرار بوعظ أقاربهم وأهلهم ، وإستمروا على ذلك إلى أن تضاعفت أعدادهم وغلبوا على الصحراء ، بقبائلها ، التي تعود إلى قبيلة صنهاجة البربرية ، ومن بينها لمتونة وجدالة ومسوفة ومسراتة ومداسة وبنو وارث .  وكانت هذه القبائل تستخدم الجمال في تنقلها الدائم بحثاً عن الماء والكلأ.  وبقي عبد الله بن ياسين هو الزعيم الحقيقي للحركة ، يعين من يراه مناسباً لقيادتها ، وكان يثبت أنه قادر على الإختيار الصحيح ، فقام بتعيين يحيى بن إبراهيم الجدالي أميراً .  وقد تلقى الزعيمان رسائل من سجلماسة ، يدعوه أهلها لتولي المدينة وإنقاذهم من ظلم حكامها ، وكانت تحكمها قبيلة زناتة .  فغزاها جيش المرابطين وتمكن من السيطرة عليها وقتل زعيمها بعد قتال شديد [10] .  وكانت مدينة سجلماسة تقع في جنوب المغرب الحديث ، بينما تقع مدينة أوغشت ، وهي مدينة أخرى سيطر عليها المرابطون ، وتقع في موريتانيا الحديثة .    

وفي العام 450 هـ ( 1058م )  قرر قادة المرابطون غزو الشمال ، ويعزو ذلك بعض المؤرخون إلى جدب أصاب الصحراء ذلك العام ، ولكن عبد الله بن ياسين توفي قبل مغادرة الصحراء ،  فاستمر أبو بكر بن عمر في تولي القيادة ، فكان أول صدامهم بقبيلة مصمودة التي تسكن الجبال .  وتقدم المرابطون يفتحون المدن المغربية ، وقبل أن يكتمل فتحها وقع الخلاف بين قبيلتي لمتونة ومسافة في الصحراء ، فرجع أبو بكر في سنة 452هـ إلى الصحراء ، بعد أن ترك القيادة لإبن عمه يوسف بن تاشفين في المغرب [11] .  وفي الصحراء تمكن من إصلاح ذات البين ، ووجه أتباعه للجهاد في الجنوب .  أما يوسف بن تاشفين فقد مكث فترة على أطراف المغرب ثم تقدم وإستولى على مدنها واحدة بعد أخرى .  وبعد أن فرغ أبو بكر من الصحراء عاد إلى المغرب ، ليجد إبن تاشفين قد أصبح القائد المطلق للجيش والحركة ، ومما يدل على نبل نوايا رجال هذه الحركة ، لم يجنح أبو بكر إلى منازعة إبن تاشفين ، فقفل راجعاً إلى الصحراء .  وتوفي فيها سنة 480 هـ .  وقام يوسف بن تاشفين ببناء مدينة مراكش سنة 454 هـ  ( 1062 م ) ، وقد إشترى موضع بناءها من قبيلة مصمودة ، وأسكنها اتباعه من القبائل البربرية المختلفة ومن المهاجرين الأندلسيين الذين إنضموا للحركة.  وقد قدر لهذه المدينة أن تلعب دوراً محورياً في الدفاع عن الأندلس وأهلها وحضارتها لأكثر من أربع قرون .

 وإستمر يوسف بن تاشفين بفتح شمال المغرب ، ففتح مدن طنجة ومليلة وسبتة ، كما إتجه شرقاً ففتح تلمسان ووهران والجزائر.  ثم راسل امير برغواطة في مدينة أنفا ، وهي الدار البيضاء الحديثة ، التي كانت تحشد المقاتلين لقتال المرابطين ، فقاموا بقتل الرسل ، فغضب لذلك يوسف غضباً شديداً ، فجمع جيشاً كبيراً ووصل إقليم برغواطة خلال ثلاثة أيام .  وإستطاع الإستيلاء على كامل الإقليم بعد تشتيت جيشه ، وأصبحت فاس في متناول يده ، فدخلها ، وكانت تعاني من حرب أهلية بين سكانها من الأندلسيين والقرويين ، وكان يفصل بينهما سور فقام يوسف بهدمه ، وذلك سنة 467 هـ.  وعظم أمر المرابطين وأصبح جيشهم يزيد عن المائة ألف مقاتل [12] . 

ثم جاء الصريخ من الأندلس  سنة 478 هـ ، بعد إستيلاء الإسبان على طليطلة وبلنسية [13] .  وكان إبن تاشفين قد وظف الكثير من الأندلسيين في إدارته ، مستفيداً من خبراتهم وعلمهم ، مما حولها إلى دولة عصرية تسك نقودها ولها دواوينها.  كما ضم إلى جيشه الكثير من المقاتلين الأندلسيين الذين كانوا قد هاجروا من الأندلس في العقود السابقة .  وجلب من الأندلس العبيد والسلاح .  وجاء طلب النجدة في كتاب من أمراء الأندلس ، وبعث يوسف رداً مصاغاً بدقة ، لم يتضمن وعداً قاطعاً بأن لا يضم إماراتهم إلى مملكته ، ولم يكن يوسف بن تاشفين يتقن اللغة العربية .  ثم بادر بالكتابة إلى القبائل البربرية للمساهمة في الجهاد في الأندلس ، فقدموا عليه وبايعوه ، كما كتب بذلك إلى قبائل الصحراء ولقي منهم نفس التجاوب .  كما جال أنحاء المغرب ليرتب أوضاعها ويضمن ولاءها أثناء إنشغاله في حربه في الأندلس [14] .  كما أرسل للخليفة العباسي يطلب منه الولاية على المغرب ، فحصل على ذلك ، وكانت أخبار المرابطين قد وصلت إلى بغداد ولاقت إستحساناً لدى علماء الشرق ، ومن بينهم الغزالي ، الذي كاتب إبن تاشفين . 

كما وصلته رسالة من ألفونسو السادس يهدده ، ويتبجح فيها ويستعرض قوته ،  ويقول فيها أنه مستعد أن يعبر إليه إلى المغرب .          

وقد إستعد المرابطون للعبور بصورةٍ مفصله ، لم يهملوا فيها شيء.  فقد طلبوا إخلاء الجزيرة الخضراء لتكون قاعدة إنطلاق لهم ، فأرسلوا إليها طليعة من الفرسان وقاموا بتحصينها .  وعبر يوسف بن تاشفين إلى الجزيرة الخضراء وتفقدها ، ثم عاد إلى سبتة للإشراف على عبور قواته .

ثم عبر المضيق وتقدم في البلاد الأندلسية حتى إلتقى مع جيش قشتالة في معركة الزلاقة سنة 479 هـ ( 1086 م ) وهزمهم ، أو سنة 481هـ حسب إبن خلدون [15] . 

 

الزلاقة

وقعت المعركة بالقرب من مدينة بطليوس [16] ، حيث وقفت جيوش الأندلسيين في ميدان المعركة منفصلة عن جيش المرابطين .  فرابط جيش المعتمد والجيوش الأندلسية الأخرى على سفح جبل في مقابلة الجيشين القشتالي والأرغوني البالغ عددهما ستين ألف مقاتل ، بينما عسكر يوسف بن تاشفين خلف الجبل الذي عسكر عليه الأندلسيون ، فظن ألفونسو أن ما يراه يشكل جميع جيوش المسلمين .  فأرسل للمعتمد يحدد موعد بدء المعركة بعد يومين [17] ، فكتب له أن غداً الجمعة عيدكم، وبعده السبت عيد اليهود وهم كثر في دولتنا وبعده الأحد وهو عيدنا فنقاتلكم يوم الإثنين، فتركوه وما يريد [18] .  ففي اليوم المحدد هاجمت طليعة الإسبان الجيوش الأندلسية ، التي تزحزحت عن مكانها ما عدا جيش إشبيلية فقد بقي صامداً .  فتعقبت خيالة أرغون البقية .  ثم قام قلب الجيش الإسباني بمهاجمة المرابطين ، فتصدت لهم قبيلة لمتونة ، التي شكلت عماد جيش المرابطين ،  فتراجعوا إلى معسكرهم عندما أحسوا بحركة إلتفافية من قبل إبن تاشفين .  وعندما عاد الأرغونيين إلى الميدان هالهم ما رأوه فتراجعوا بصورة فوضوية تحولت إلى هزيمة .  فلحقهم المرابطون والأندلسيون ، فلجأ ألفونسو إلى تلة مع 500 من فرسانه ، حيث إنسحبوا تحت جنح الظلام .  وقد أُبيد معظم جيش الإسبان في هذه المعركة ، بل يؤكد بعض المؤرخون أن الخمسمائة فارس الذين نجا معهم ألفونسو ، كانوا كل ما نجا من الجيش، ولم يصل جميعهم سالمين إلى طليطلة ، حيث مات بعضهم متأثرين من جراحهم [19] .  ونجم عن المعركة إخلاء الإسبان لمدينة بلنسية التي كانوا قد إستولوا عليها.

وبعد المعركة توجه أمراء الطوائف إلى عواصمهم، وعاد السلطان يوسف بن تاشفين إلى المغرب بعد أن ترك جزءاً من جيشه للمشاركة في الدفاع عن الأندلس في حال تجدد القتال.  أما ملوك الطوائف فعادوا إلى حياتهم الطبيعية.

ما إن عادت جيوش المرابطين إلى المغرب ، حتى إستأنف الإسبان تحرشاتهم . وقد نشبت الصراعات بين الأندلسيين من جديد ، كما أنهم لم يستثمروا إنتصار الزلاقة كما يجب.  وإستأنف ألفونسو السادس هجماته على الحصون الأندلسية ، بعد أن أعاد تنظيم جيشه وعوض خسائره.  فقد نشبت صراعات بين المعتمد بن عباد وأمير آخر إسمه إبن رشيق .  كما أخذت جماعات من المقاتلين الإسبان بمهاجمة مواقع أندلسية ، وقد إشتهر بعد قرنين جماعة المغبرين  Almogavars ، وهي جماعة عسكرية غير نظامية من محترفي القتال ، الذي أشتهروا في محاربة المسلمين ، ثم خاضوا حروب في مناطق أوربية أخرى ، فربما لجأ الإسبان إلى حرب عصابات بعد تصفية جيشهم في الزلاقة.  ثم قاموا ببناء حصن منيع ، سمي لييط في موقع متقدم إتخذوه قاعدة لمهاجمة المواقع الإسلامية في الشرق والغرب والجنوب .  وخلال العامين التاليين لمعركة الزلاقة تردت الأوضاع أكثر وأكثر ،  فقام فقهاء الأندلس بالإستغاثة بالسلطان يوسف بن تاشفين ثانيةً ، كما قام المعتمد بن عباد بمقابلة يوسف بن تاشفين بالقرب من تطوان .  ومرة ثانية لبى السلطان المرابطي النداء وعبر المضيق بعد أربع سنوات من حملته الأولى ، وذلك سنة 483 هـ ( 1090م ) .

فألتقت الجيوش الإسلامية بالقرب من حصن لييط ، وكان منيعاً جداً فلم يقدروا على إقتحامه .  ثم وصل ألفونسو على رأس جيش ، حيث أخلى المحاصرين واحرق الحصن .  ولم يشتبك الجيشان ، فقد تجنبا ذلك لأسباب مختلفة ، فقد كان ألفونسو قد تلقى ضربة قاسمة مؤخراً ، أما إبن تاشفين فلم يكن راضياً عن جبهته الداخلية .

ومكث إبن تاشفين في الأندلس أربعة أشهر ، وعندما قفل راجعاً كان قد حزم أمره على ضم إمارات الأندلس إلى دولته .  وكان شعب الأندلس وفقهاءها يؤيدون هذا المسعى ، بل إن بعض الفقهاء حرضوا الناس على عدم دفع الضرائب لأمراء الطوائف .  الذين كانوا يدفعون إتاوات لملك قشتالة ، فقد قام الأمير عبد الله بن بلقين ، أمير غرناطة بدفع إتاوة ثلاث سنوات مقدماً.  وكانت هذه الإتاوات تهدف ، بين أمور أخرى ، إلى إستنزاف قدرات إمارات الأندلس المالية .

ثم قام ابن تاشفين بمراسلة الخليفة للحصول على تفويض لحكم المغرب والأندلس ، فحصل عليه ، وكان ذلك في زمن المقتدي العباسي.  وفي سنة 483 هـ ( 1090م ) عبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس ، ولكن هذه المرة بدون دعوة .  فقد دخل إلى بلاد يعدها من ضمن مملكته ، بتفويض من الخليفة ، وبفتوى من فقهاء الأندلس .  فبعث الرسائل للأمراء يطلبهم الدخول في طاعته .  فقام بضم غرناطة ثم قرطبة وإشبيلية ، وكانت مقاومة إشبيلية شديدة ، وهرب المعتمد إلى الشمال الإفريقي ، حيث عاش بقية عمره في فقر مدقع .  ثم سيطر المرابطون على بلنسية ومرسية ودانية وشاطبة .  ثم سيطروا على المرية فأصبحت معظم الأندلس في أيديهم .  وكانت بلنسية تحت حكم يحيى بن ذي النون ، وكانت تحت حماية قشتالة ، وكانت تعسكر فيها حامية بقيادة الأمير الإسباني السيد ، كما ذكرنا آنفاً ، ومع هذا إستطاع المرابطون هزم القوة المشتركة المدافعة عن المدينة .  ولم يبقى سوى سرقسطة ، المجاورة لمملكة أرغون .  فعاد ابن تاشفين إلى المغرب دون العمل على ضم سرقسطة .

ولكن في العام 485 هـ ( 1092 م ) أرسل إبن تاشفين جيشاً بقيادة أحد قادته للتعامل مع أحد أمراء الطوائف المتحالفين مع الإسبان ، فسيطر على شرق الأندلس .  فقام عند ذلك ألفونسو بمهاجمة بلنسيا والسيطرة عليها .  ولكن المرابطين إستطاعوا إستعادتها [20] .   

وقام إبن تاشفين بزيارة رابعة للأندلس في العام 496هـ ( 1103 م ) ، وكان قد شاخ وهرم ، ومع هذا فقد تجول فيها وتفقد حصونها ، وكان بصحبته إثنين من أولاده . 

توفي يوسف بن تاشفين سنة 500 هـ ( 1107م ) في مراكش وقد تجاوز عمره المائة .  وقد بلغت دولته أوج قوتها وإتساعها بعد ضم الأندلس ، والتي ضمت النيجر وموريتانيا الحديثة والجزائر والأندلس ، إضافةً للمغرب . 

وتولى الحكم بعده إبنه علي بن يوسف ( 500 – 537 ) ، الذي لم يكن أكبر أبناءه ، وكان ورعاً نبيهاً محباً للعدل .  وكان أبوه قد أوصاه بترتيب عدد معين من الفرسان في أقاليم الأندلس المختلفة للدفاع عنها [21] . 

كما أوصاه بعدم ضم إمارة سرقسطة ، والإحسان إلى أهل قرطبة وعدم إثارة أهل الجبال في المغرب من قبائل المصامدة .  وكانت العشر سنوات الأولى من حكمه إستمراراً لحكم أبيه، فوصلت دولة المرابطين إلى ذروة قوتها وإتساعها .  وبعد ذلك بدأ التراجع . 

وكان علي بن يوسف قد ضم سرقسطة سنة 503 هـ ، ولكنه فقدها للإسبان سنة 512 هـ ، وكان ذلك مخالفاً لوصية والده ، الذي كان يرى ببقاءها مستقلة ضمان لبقاءها .  ثم بدأ أهل الأندلس يتململون من حكم المرابطين ، حتى ثارت قرطبة ، مما إضطر علي إلى الذهاب إلى قرطبة لمعالجة الوضع .   وفي المغرب ظهرت حركة الموحدين ، بقيادة المهدي محمد بن تومرت . 

وبعد وفاة علي سنة 537 هـ  تولى الحكم إبنه تاشفين . وثارت الأندلس مجدداً سنة 539هـ ، وفي العام التالي ثار الموحدون بقيادة عبد المؤمن بن علي ، خليفة المهدي .  وكانت ثورة الأندلس غير موحدة ، فقد ثار كل إقليم على حدة ، وكان هناك ثورة المريدين في غرب الأندلس وإبن حمدين في قرطبة وإبن أضحى في غرناطة وإبن عبد العزيز في بلنسية ومرسية.  وحشد تاشفين الجيوش ولاقى جيش الموحدين بالقرب من تلمسان سنة 539 هـ ، حيث جرت معركة فاصلة بين الطرفين وهُزم المرابطون وقُتل أميرهم تاشفين [22] . 

ثم بويع لإبنه إبراهيم ، الذي نظم الدفاع عن العاصمة .  وكان دفاعاً بطولياً .  ولكنه لم يستطع إيقاف مد حركة شابة ، فسقطت عاصمته بأيدي الموحدين . 

وعلى الرغم من قصر فترة حكم المرابطين في الأندلس البالغة أقل من قرن فقد أنجبت علماء عظام مثل إبن رشد وأبن باجة وإبن زُهر وإبن طُفيل .  كما أنها من الدول القليلة في التاريخ التي لم تعرف الشيخوخة ، فقد حكمها أربع حكام أظهر جميعهم تمسكاً بالمبادئ التي بنيت عليها حركتهم من الأساس ، إلا أن بعض المؤرخين يشيرون أن علي كان شديد التدين وإنشغل بأمور الدين لدرجة أهمل معها أمور الدولة .  قبل هذا الزمان بثلاثة قرون رفض الخليفة العباسي المأمون أن يُمدح  ببيت يقول :

                 إنشغل أمير الهدى المأمون بالدين       والناس أضحوا بالدنيا مشاغيل

فالقائم بأمر الناس يجب أن لا ينشغل عن مصالحهم ، ولا حتى بأمور الدين .      

 

الموحدين

نشأت دولة الموحدين على أساس حركة عقائدية دينية أولاً وسياسية ثانياً ، تماماً مثل حركة المرابطين .  ومثل المرابطين بدأت الحركة في أوساط قبيلة بربرية وهي المصامدة .  على يدي الداعية محمد بن تومرت ، الذي ينتسب إلى قبيلة هرغة في إقليم السوس من المغرب. 

وكان قد سافر لتلقي العلم بحدود سنة 500 هـ ، وقد بدأ بالأندلس ثم سافر بحراً متجهً شرقاً ، فوصل إلى الشام ثم إلى العراق ، وعلى أيدي فقهاء المشرق تلقى علوم مختلفة في التاريخ والفقه والفلسفة وعلم الكلام .  فإكتسب معارف وقدرات ، التي أضيفت إلى طموحات ربما تكون قديمة لديه أو تشكلت مع تملكه لناصية العلم والمعرفة . 

ثم عاد متحمساً لإصلاح أوضاع الأمة ، وباشر نشاطه بمجرد أن دخل أرض طرابلس .  ولكن نشاطه أثار حفيظة الحكام فطردوه .  وحدث معه الشيء نفسه في المهدية فهرب إلى بجاية ومنها إلى مليلة ، حيث قابل شاب يسمى عبد المؤمن بن علي متجه إلى المشرق لتلقي العلم ، فعرض عليه أن يعلمه ، فلزمه وكان أول تلامذته وأتباعه .  ثم وصل إلى مراكش حيث اوشك أن يتعرض للسجن من قبل المرابطين ففر إلى قبيلته مصمودة التي تعادي قبيلة لمتونة ، وفي أوساط عشيرته ومحيط معادي للمرابطين لقيت دعوته القائمة على الإصلاح ومعاداة المرابطين قبولاً وتأييداً .  وقد قامت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أساس التوحيد على طريقة الأشاعرة  ، ومن هنا عُرفوا بالموحدين .  وقد كان محمد بن تومرت متزمتاً في دعوته ، مما لم يرق للكثيرين .  ومع هذا فقد كثر أتباعه لإستقامته وورعه.  عند ذلك نسب نفسه لآل البيت وتسمى بالمهدي .  وشرع بتنظيم أتباعه بطريقة مبتكرة .  فنظمهم في ثلاثة عشر صفاً ؛ بحيث يكون أتباعه على مراتب ، فكان الصف الأول يسمون الأصحاب وعددهم عشرة ، والصف الثاني يتكون من خمسين رجلاً يشاورهم عند الحاجة ، وهكذا .. ثم قام بالبحث عن مكان حصين فوجد قرية إسمها تينملل في جبال أطلس فحصنها وبنى فيها حصن وأصبحت منيعة جداً ، وتذكر هذه القرية بقلعة الموت التي كانت في أوج نشاطها عندما كان إبن تومرت في الشرق [23] . ومن هذا المقر بدأ بمهاجمة مواقع المرابطين. ولما إشتدت وإتسعت دعوته وعظم خطره قامت الدولة بمهاجمته وقبيلته ، ولكنه تمكن من الإنتصار عليها في مواقع عديدة ، وذلك سنة 515 هـ ( 1120م )، وإستغرق السجال بينه وبين الدولة 31 سنة .  ففي عام 546هـ       ( 1151 م ) تمكن الموحدون من بسط نفوذهم على المغرب كله .  ومات محمد بن تومرت في هذه الأثناء سنة 524 هـ، ولم يتزوج إبن تومرت طوال حياته ، فقد كرس حياته لهذه الدعوة .  وتولى القيادة عبد المؤمن بن علي الكومي (  524 -  558) ( 1145 – 1163 ) .  الذي يعد باني دولة الموحدين ، مثلما كان إبن تومرت باني حركة الموحدين ، فهو الذي أقام صرحها السياسي والتنظيمي .  وهو من مواليد إقليم تلمسان .  وقد تلقب بلقب أمير المؤمنين ، وهو لقب كان يقتصر على الخلفاء .  وقد هزم المرابطين في معركة فاصلة بالقرب من تلمسان مسقط رأسه ، ثم إتجه لحصار مراكش ، عاصمة المرابطين . 

وفي الأندلس شجع القتال في المغرب الذي دام واحداً وثلاثين سنة ملوك قشتالة وأرغون على الإستيلاء على عددٍ من المواقع الأندلسية .  وفي العام 541 هـ ( 1146 م ) عبر عبد المؤمن بجيشه إلى الأندلس ، وكان أعيان الأندلس قد أرسلوا بيعتهم له أثناء حصاره لمراكش وطلبوا منه حمايتهم .  فجهز جيشاً وأسطولاً ووجهه إلى الأندلس. وتابع عملية الإستيلاء على مدن المغرب ، فإستولى عليها جميعها ، وكانت مدينة المهدية تحت الإحتلال النورماندي فحررها منهم . 

وإستعاد ما فُقد من مواقع ومدن الأندلس ، وقام بضم مدنها وأقاليمها إلى دولته وعين إبنه ابا يعقوب يوسف والياً عليها وجعل مقره في إشبيلية .  

ولكن في العام 543 هـ ( 1149م ) خسر المسلمون عدداً من المواقع مثل طرطوشة بما في ذلك قلاعها جميعاً ، وحصون لاردة وأفراغة [24] .

 

ومن أهم إنجازات عبد المؤمن تحويله طابع الدولة إلى طابع عقائدي بدلاً من طابع قبلي .  فقام بإستدعاء الصف الخامس ، حسب تشكيلات المهدي ، وهم صغار الطلبة ، فدرسهم كتب المهدي وعلمهم ركوب الخيل وفنون القتال والسباحة والتجذيف .  فهيئهم لإستلام المناصب العامة ، وسلمهم الوظائف الإدارية .

وتولى أبو يعقوب يوسف ( 558 – 579 ) ( 1163 – 1184 ) الحكم بعد أبيه  .  وخاض معارك عديدة مع الإسبان .  كما إنشغل في البناء .  وحكم بعده إبنه أبو يوسف يعقوب المنصور (579- 595) ( 1184 – 1199 ) ، الذي حكم خمسة عشر سنة .  وقام بدوره بمنازلة جيوش قشتالة وأرغون والقوى الأوربية المساندة لهما .  وكان قد تلكأ في الجواز إلى الأندلس بسبب مرض أصابه، فطمع الإسبان فجاثوا خلال ديار الأندلس ، فقرر العبور على الرغم من أحواله الصحية ، وفي سهل واسع خلف سلسلة جبال الشارات ، إلتقى أبو يوسف يعقوب مع جيش قشتالة وحلفاءه بقيادة ألفونسو الثامن .  فكانت معركة الأراك Alarcos سنة 591 هـ ( 1195 م ) التي إنتصر فيها نصراً حاسماً [25] ، وقد وقعت بالقرب من حصن يحمل الإسم نفسه [26] .  ويذكرأن جيش قشتالة خسر فيها أكثر من مائة الف قتيل ، بالإضافة إلى ثلاثة عشر الف من الأسرى ، وغنائم تضمنت ستة وأربعين ألف حصان وبغال وحمير وخيام وأسلحة بكميات كبيرة [27] .  وقد وصل خبر هزيمة قشتالة وأوربا محمومة بالتحضير للحملة الصليبية الثالثة .  وتكررت إنتصارات الموحدين في العامين التاليين ، فطلب الإسبان الصلح، فوافق أبو يعقوب ، ووُقعت هدنة بين الطرفين.  وبعد ذلك بسنتين توفي أبو يوسف وحكم بعده الناصر لدين الله إبنه ( 1199-1213 ) ، وفي زمنه ثار بنو غنية في تونس ، فقام بتعيين محمد بن أبي حفص والياً عليها ، مما مهد لقيام الدولة الحفصية في تونس.  ويبدو أنه إطمأن لوضع الأندلس بعد معركة الأراك ، التي إنتصر فيها أبوه ، والتي تلتها هدنة مع الإسبان ، فلم يتنبه لما كان يخطط إليه الإسبان والأوربيون . 

وعلى الرغم من الهدنة الموقعة ، إلا أن البابا إنوسنت الثالث ، رجل أوربا القوي في ذلك العهد، إتخذ قراراً بشن حملة صليبية ضد المسلمين في الأندلس هذه المرة ، وكان البابا أربان الثالث قد طلب من المتطوعين الأوربيين البقاء في إبيريا وعدم الإنضمام إلى الحملة الصليبية الثالثة لتحرير القدس ، التي إستعادها صلاح الدين مؤخراً، ووعدهم بالثواب نفسه .  كما تأسس في هذه الأجواء المحمومة نظم فروسية جديدة في إسبانيا مثل سانتياجو ومونتيسا وكالاترافا ، كما دُعي فرسان الهيكل للمشاركة في الحرب في إسبانيا .   ودعا البابا فرسان أوربا للتوجه إلى إسبانيا ، كما دعا جيوش فرنسا ونبارة وقشتالة والبرتغال وأرغون إلى  التوحد في مواجهة المسلمين في حملة صليبية.  وبذل ألفونسو الثامن جهداً كبيراً لتوحيد الممالك الإسبانية وتوحيد الجبهات الداخلية بإزالة الخلافات بين النبلاء والملوك .

ويبدو أن الفرسان الجدد هم الذين خرقوا الهدنة الموقعة بين الطرفين ، فقد عبر محمد الناصر مضيق جبل طارق على رأس جيش كبير وهاجم مقر فرسان كالاترافا في سالفاتيرا ، وإستولوا عليه . 

فإلتقت الجيوش في سهل تولوسا فيما عرف بمعركة العقاب  Las Navas de Tolosa   سنة609 هـ ( 1212 م ) إلى الشمال من جيان ، حيث إنتصر التحالف الأوربي وإنهزم المسلمون هزيمةً كبيرة .  وقد إشترك فيها ألفونسو الثامن ، ملك قشتالة  وسانشو السابع ملك نبارة وبيدرو الثاني  ملك أرغون وألفونسو الثاني ملك البرتغال .  وقد كانت خسائر المسلمين بالأرواح عالية جداً ، بحدود مائة ألف حسب بعض المصادر ، وكان معظمهم قُتل بعد حسم المعركة .  بينما كانت خسائر الأوربيين في الأرواح قليلة نسبياً ، ولكن كان هناك خسائر كثيرة بين الفرسان وقادتهم ، بما في ذلك فرسان الهيكل الذين قُتل رئيسهم master من جراح أُصيب بها في المعركة. 

وكان من نتيجة المعركة خسارة مواقع ومدن عديدة في الأندلس ، وضعف دولة الموحدين في الأندلس والمغرب .  فقد إستطاع القشتاليون السيطرة على المدينتين المحصنتين بايزا وعبيدة القريبتان من أرض المعركة .  وفي العام التالي توفي الناصر وخلفه إبنه أبو يعقوب يوسف الثاني ( 1213 – 1224).

وفي سنة 633 هـ ( 1236 م ) تمكن الملك القشتالي فردناندو الثالث ( 1217 – 1252 ) الملقب بالقديس ، من الإستيلاء على قرطبة ، بعد حصار طويل وتخاذل من إبن هود حاكم سرقسطة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة وغيرها ، والذي عُرف عنه عدم مبالاته [28] .

وسقطت بلنسية ومرسية في العام 634هـ ( 1237م ).

تقدمت جيوش قشتالة ووضعت إشبيلية تحت الحصار .  فصمدت سبعة عشر شهراً حتى سقطت عام 645 هـ ( 1248 م ) .  كما إستولت مملكة أرغون على ما تبقى من جزر الباليار .

إنتهت دولة الموحدين في الأندلس بعد ذلك ، فقد تسلم الخلافة أشخاص ضعاف سيطر عليهم وزراءهم ، فمات أبو محمد عبد الواحد مخنوقاً في قصره وحكم أقل من سنة ، كما مات عبد الله غريقاً في مغطس في قصره وحكم ثلاث سنوات ، وفي عهده بدأ ملوك قشتالة وأرغون يتدخلون في الشؤون الداخلية للمغرب .

وقد حل محلها أربع دول؛ الأولى دولة بني مرين في فاس سنة 668 هـ ( 1269م ) .  والثانية دولة بني عبد الواد في تلمسان سنة 633 هـ ( 1235م ) .  والثالثة الدولة الحفصية في تونس سنة 627 هـ ( 1230 م ) والرابعة دولة بني الأحمر سنة 635هـ ( 1238م ) ، التي أقيمت في غرناطة وما تبقى من جنوب الأندلس مثل بسطة ووادي آش وشريش ومالقة وجيان والمرية .   

لم يتبقى بيد المسلمين سوى عُشر إيبيريا ، ولم يتمكن الإسبان من إستعادة بلادهم ، أو معظمها ، إلا بمساعدة أوربية ودعم تعبوي قوي من البابوية، وعلى كل حال فقد إستغرق ذلك خمسمائة عام منذ وجه أمير إسباني الدعوة لطارق بن زياد لعبور المضيق.

وهكذا تقسم المغرب إلى كيانات ، مع نهاية دولة الموحدين ، تشبه التقسيمات السائدة حالياً .

 



[1]  وردت تفاصيل فترة نهاية الحكم الأموي في الأندلس في الجزء الثاني من كتاب نحن وأوربا .

[2]  إبن الأثير .

[3] حكايتنا في الأندلس ، عدنان فائق عنبتاوي .

[4]  إبن الأثير .

[5]  إبن الأثير.

[6]  موجز تاريخ الأندلس.

[7]  الأندلس ، التاريخ والحضارة والمحنة ، د . محمد عبدة حتاملة .

[8]  تاريخ الأندلس ، د سهيل زكار، د فايزة الكلاس .

[9]  إبن خلدون ، ج 6 .

[10]  إبن خلدون ، ج6.

[11]  إبن خلدون ، ج6.

[12]  تاريخ الاندلس ، زكار وكلاس، نقلاً عن روض القرطاس .

[13]  إبن خلدون ، ج6.

[14]  تاريخ الأندلس ، زكار وكلاس ، نقلاً عن روض القرطاس .

[15]  تاريخ إبن خلدون ، ج 6.

[16]  الروض المعطار، الحميري .

[17]  إبن الأثير .

[18]  تاريخ الاندلس ، كلاس وزكار ، تقلاً عن الحلل الموشية .

[19]  الروض المعطار .

[20]  تاريخ إبن خلدون ، ج 6 .

[21]  تاريخ الأندلس ، نقلاً عن الحلل الموشية .

[22]  تاريخ الأندلس ، نقلاً عن الحلل الموشية .

[23]  تاريخ الأندلس ، زكار وكلاس.

[24]  إبن الأثير .

[25]  تاريخ الاندلس ، زكار وكلاس .

[26]  الروض المعطار .

[27]  إبن الأثير .

[28]   التاريخ الأندلسي ، د عبد الرحمن الحجي .


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter