بسم
الله الرحمن الرحيم
تمهيد
لا
يمكن إعتبار الفترة التي يغطيها هذا الجزء حقبة عربية ، بل هي بكل تأكيد إسلامية،
أي كانت السيطرة السياسية فيها لشعوب إسلامية غير عربية . فقد شهدت القرون الثالث عشر والرابع عشر
والخامس عشر تصفية الخلافة العباسية وظهور الدولة العثمانية في الشمال، التي سطرت
تاريخاً عظيماً تضمن وضع نهاية للدولة البيزنطية وعسفها، وظهر في الغرب دول قبلية
بربرية عززت الوجود الإسلامي في غرب إفريقيا وجعلت من الصمود الأندلسي أمراً
ممكناً في مواجهة هجمة صليبية لم تستهدف إخراج المسلمين من الأندلس فقط بل إستهدفت
المسلمين بشكل عام . وفي الشرق نشأت دول
ذات طابع فارسي تركي عززت الوجود الإسلامي في وسط آسيا وجنوبها . وفي القلب قامت دولة المماليك التي إستطاعت
تصفية بقايا الوجود الصليبي في الشام وأوقفت الزحف المغولي .
كما
إنطبعت هذه المرحلة بالبعد المغولي ، الذين إجتاحوا 60% أراضي العالم الإسلامي ،
وتم تقسيم إمبراطوريتهم إلى أربعة أقسام ، كل منها يستحق إسم إمبراطورية ، وخلال جيل أو
جيلين تحولت ثلاث منها إلى الإسلام ، بينما تصينت الرابعة ، التي نقلت عاصمتها إلى
بكين . وظهر في إحداها تيمور لنك ، الذي
قام بحملات متتابعة في جميع الإتجاهات ، نشر فيها الدمار، الذى يجوز أن يعزى إليه
إدخال المنطقة في عهد مظلم لقرون، كما أخر حسم الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية
إلى ما يقارب القرن.
وكانت
أوربا قد بذلت جهداً كبيراً في كسب المغول دينياً وسياسياً وعسكرياً ، لتحقيق هدف
واضح وهو تدمير الإسلام . وقد صرح بذلك
علناً بعض مفكريهم . وقد أرسلوا من أجل
تحقيق ذلك العديد من السفارات ، التي تم إستقبالها في البلاط المغولي في قراقورم
وفي بكين لاحقاً ، نجم عنه بناء كنائس وتعيين أسقف لبكين . كما نجم عن ذلك أيضاً توصل بعض المبشرين إلى
قناعة بأن الحضارتين الإسلامية والمسيحية قريبتين من بعضهما ، وأفضل لهما أن
تتفاهما ، بدلاً من خطب ود حكام المغول المتعجرفين . وهذه الحقيقة لا يزال الكثير من المفكرين
المسلمين والمسيحيين بعيدين عن فهمها بعد سبعة قرون من إنتهاء الحروب الصليبية
.
لقد
نجم عن الإجتياح المغولي تدمير بغداد والعراق بأكمله وإنهاء الخلافة . ويذكر أن الخان الأعظم مونكة خان أوصى أخاه ،
أن لا يتعرض للذين يستسلمون ، ويعاقب الذين يقاومون ، فتقيد هولاكو بالشق الثاني
فقط ، فكان يوقع العقاب الشديد في سكان كل مدينة تقع تحت سيطرتهم . لم تفق بغداد ، ولم تستعد العراق عافيتها لزمنٍ
طويل . فلم تعد العراق تلعب دورها كمركز
للإشعاع الحضاري الذي لعبته دون إنقطاع منذ السومريين . وهذا يقودنا إلى سؤال هام . هل كانت الهجمة المغولية حملةً صليبية ؟. فقد
كان محاولات تنسيق بين البابوية وخانات المغول ، وهذه الجهود ، التي بُذلت لإقامة
تحالف ، خلقت حالة من التحريض ضد الإسلام ، وإن لم ينجم عنها تنسيق فعلي . كما أن أم هولاكو وزوجته كانتا نسطوريتان ، كما
كان كيتبوقا ، صديقه وقائد معركة عين جالوت ، نسطورياً . ولكن لماذا يحقد النساطرة على المسلمين ، فقد
تعرضوا للإضطهاد على يدي الدولة البيزنطية ، ولم يتعرضوا للإضطهاد من قبل الدول
الإسلامية ، وقبل الإسلام كانت الحيرة العربية ملاذاً للنساطرة الهاربين من بطش
بيزنطة . لقد كان المذهب النسطوري مذهباً
سامياً عربياً . لقد كان عدي بن حاتم الطائي نسطورياً ، وكذلك كان الأخطل .
وكان
المسلمون قد إتصلوا بوثنيي أوربا ، مثلما إتصلت أوربا بوثنيي آسيا ، قبل ذلك بثلاث
قرون عندما أرسل الحكم الثاني الشاعر الغزال إلى دنمرقة ، حيث أمضى سنة كاملة في
ضيافة ملك الفايكنج ، وقد ذكر المؤرخون أنه إنشغل بحوارات كثيرة ، ومن الواضح أن
ذلك لم ينتج عنه شيء ، فيبدو أن ديانتهم الوثنية كانت مقنعة ، فقد رفضوا المسيحية
بشدة وقاوموها ولم يتنصروا إلا بصعوبة بالغة .
لقد
كان الصدام بين " نحن " و " أوربا " في هذه المرحلة ، على
جبهتين رئيستين ؛ هما جبهة المغرب / الأندلس و جبهة الأناضول / شرق أوربا . فنشط في الأولى المرابطون والموحدون وبنو مرين
بالتعاون مع الأندلسيين . ونشط على الجبهة
الثانية العثمانيون ، الذين بنوا دولتهم وحافظوا على درجة عالية من الثبات طوال
تاريخهم في هذه الفترة ، وإستعادوا عافيتهم ولملموا أشتات دولتهم بعد هزيمتهم من
قبل تيمولنك وأسر أميرهم بايزيد .
أما
الجبهة المغاربية فقد نشأت فيها ثلاث دول تباعاً في ظروف متشابهة إلتزمت كل منها
بحماية الأندلس الصغرى ، التي نشأت فيها دولة أقامتها أسرة من سلالة سعد بن عبادة
، الذي أراد أن يخلف الرسول ( ص ) بعد وفاته ، ولما خاب مسعاه إعتزل العمل السياسي
وهاجر إلى الشام.
لقد
أظهر سلاطين المرابطين والموحدين وبني مرين سمات قيادية فريدة وإلتزام عالي
بأولويات الأمة ، جعلت الصراع الملحمي الذي دام ثلاثة قرون بين الأندلس مدعومة من
المغرب وبين تحالف قشتالة وأرغون والبرتغال مدعومة من قبل فرنسا وإنجلترة وألمانيا
والبابوية . فإستحقت مراكش أن تكون عاصمة
الحشد الهادف إلى الصمود في وجه أوربا ، التي لم تكن تطمح إلى إستعادة الأراضي
الإسبانية ، بل تعدت ذلك إلى إحتلال أراضي في البر المغربي .
لقد
كان للصمود الأندلسي المغربي الفضل في فشل المشروع الصليبي . فلو إنهار الوجود الأندلسي في القرن الحادي عشر
أو الثاني عشر ، لما توقفت الجيوش والأساطيل الإسبانية والأوربية من خلفها ، عند
مضيق جبل طارق ، كما حدث في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، بل لعبرت هذه الجيوش
إلى البر المغربي ، ولتركزت الهجمات على الشمال الإفريقي متجهةً إلى الشرق . ولا نستطيع التكهن ماذا كان من الممكن أن يحدث
أمام قارة أوربا بمواردها الغنية ، وفرسانها المتعطشين للدماء ، التي لم يوقف
حروبها الصليبية ضد قلب العالم الإسلامي إلا الإخفاقات المتكررة ، وليس فتور الروح
الصليبية ، كما يدعي بعض المؤرخين الأوربيين ، فقد إستمرت الحملات الصليبية ضد
العثمانيين وضد الأندلس . كما إستمرت ضد
أهداف أوربية ، من بينها مملكة أرغون ، ومن بينها أيضاً ما سمي " الحملة الصليبية الشمالية " ، والتي شنها
فرسان التيوتون الصليبيون في منتصف القرن الثالث عشر ضد سكان سواحل البلطيق ، من
ليثوانيين وغيرهم ، الذين كانوا على وثنيتهم ، كما كانت موجهة أيضاً ضد الروس ،
الذين كانوا قد نعموا بالإيمان ، ولكن على مذهب مختلف قليلاً عن مذهب غرب أوربا ،
لقد بلغ الحال بجنون أوربا أن لا تميز بين درجات الإختلاف ، فقد عمت عينيها
كراهيتها لكل ما هو مختلف بصرف النظر عن درجة الإختلاف .
في
القرون التي يغطيها هذا الجزء أصبحت معظم أوربا مسيحية ، ومعظم غرب آسيا وشمال
إفريقيا مسلماً . وكان الصراع يبدو وكأنه
بين الدينين العظيمين . ولم يكن هذا الأمر
دقيقاً ، فمن ناحية لا يوجد تناقض بين العقيدتين ، ولا يوجد سبب لأن يتقاتل أتباعهما
من أجله ، فالإختلاف قائم بين أتباع الدين الواحد لوجود مذاهب ومدارس فكرية . كما أن التحالفات كانت تعبر حاجز الدين على
الدوام . وقد حدث مراراً في الأندلس ،
التي شهدت ثورات كثيرة ضد سلاطين بني الأحمر في غرناطة وملوك قشتالة ، من قبل
الأمراء والنبلاء ( ولم تكن أرغون كذلك ، فقد كانت علاقة ملكيتها ونبلاءها جيدة )
، أن يطلب أحد الحكام من عدو الأمس المساعدة في الحفاظ على عرشه المهدد بالخطر من
رعاياه . كما تشابكت الأوراق كثيراً كذلك
أيام الحروب الصليبية .
لقد
عزز مؤرخون أوربيون كثر هذا المفهوم الخاطئ .
فقد كانوا يصرون على أن أي هجوم لجيش إسلامي على أراضي دولة أوربية ، إنما
يستهدف الديانة المسيحية . ولا أعتقد أن
هذا كان في خاطر طارق بن زياد أو أسد بن الفرات أو محمد الثاني الفاتح .
لقد
شهدت هذه الفترة تحسن شهية أوربا للإقبال على ترجمة الكتب العربية ، فتسلمت أوربا
راية العلم والبحث العلمي من العرب ، وقد حملتها ومضت بها بجدارة مثيرة للإعجاب
. وقد حدث هذا في أقبية كاتدرائيات طليلطة
وكنائسها ، حيث نظمت عمليات الترجمة من العربية إلى اللاتينية ، تماماً كما حصل في
قصور المأمون قبل أربعة قرون . وعلى الرغم
أن التاريخ يكتب للقادة السياسيين والعسكريين ، ويُكتب عنهم ، فإن أبطالي في هذه
المرحلة هم المترجمون من أمثال إسحاق بن حنين وأديلارد الباثي . لقد تحولت أوربا ، وعلى الرغم من قيام الإسبان
في حرق مليون ونصف المليون كتاب بالقرب من باب الرملة في غرناطة في نهاية القرن الخامس
عشر ، تماماً كما فعلوا بآلاف الكتب الإغريقية في أثينا قبل ذلك بما يزيد قليلاً
عن ألف سنة . لقد باركت أوربا دمار بغداد
ولم تمانع أن تسيطر همجية المغول على حضارة المسلمين . لقد عملت أوربا ، ممثلةً بقيادتها الدينية وبعض
ملوكها المملوئين بالكراهية مثل لويس التاسع على كسب المغول . وفي نهاية المطاف أسلمت ثلاث سلالات حاكمة
مغولية ، دون أن يبذل المسلمون مجهود منظم لتحقيق هذه الغاية ، ودون تكليف أحد
للقيام بهذه المهمة ، فقد قام بها فقهاء ورجال دولة تعاملوا مع قادة المغول وتحقق
لهم ما أرادوا بالمثل الصالح وبمبادرة فردية.
لم
تنتهي حالة العداء بين العالمين الإسلامي والأوربي بإنتهاء الحروب الصليبية ، كما
لم تنتهي بإنتهاء هجمات المسلمين عبر جبال البرانس وعلى أهداف في إيطاليا قبل ذلك
. ولا تزال الكراهية المتراكمة والمتبادلة
بين الثقافتين قائمة . وقد خصت هذه الكراهية
الروم والإفرنج ولم تشمل المسيحيين جميعاً .
فالمسيحي العربي في الفولكلور الشامي والمصري غير مكروه . وإنما الكراهية تنصب على القادمين من الغرب ،
وفي الغرب ترسخت في ذهنية الأجيال المتعاقبة كراهية للمسلمين " الساراسين
" و " المور " و " الأتراك " . وهذا يعود إلى بعض التصرفات الغبية وغير
المسئولة من قادة وأفراد أحد الطرفين ، إضافةً إلى مبالغات الطرف الآخر . وقد عانت سمعة المسلمين من تشويهات وإفتراءات
كثيرة من بينها " أغنية رولاند " ، التي نُسب فيها قتل رولاند إلى جيش
إسلامي قوامه 440 ألف جندي ، ومن بينها كذلك إدعاء إغتصاب عبد الرحمن الناصر لصبي
إسباني ، أعلنته الكنيسة قديساً ، وقصة إغتصاب قائد جيش أسلامي في جنوب إيطاليا
لراهبات دير بشكل يومي حتى مات بشكل إعجازي ، وغيرها من القصص التي شوهت صورة
الإنسان المسلم في الذهنية الأوربية .
وكان بعض ذلك ناجم عن جهد منظم .
كما أن المبالغات ملموسة في بعض الروايات عن مذابح إقترفتها الجيوش
الصليبية والقشتالية والأرغونية في المدن الإسلامية التي إستولوا عليها . وهنا لا نريد أن نبرئ الصليبيين من الفظائع
التي إرتكبوها بالفعل ، من أجل إنهاء هذه المقدمة بنغمة تصالحية ، فالغريب أن
تتطابق الأرقام الغربية والعربية حول عدد الذين تم ذبحهم في القدس عند إجتياحها من
قبل الصليبيين ، فالكل يتفق على رقم السبعين ألف ، وهو رقم تجاوز عدد ضحايا
هيروشيما .
لقد أهلكت الحروب المتكررة عدداً من المدن ،
التي إزدهرت في عصور سبقت الفترة التي يغطيها الجزء الثالث من الكتاب ، فتحولت إلى
شيخوخة ، أو حتى دخلت في موت سريري . فقد
تحولت عكا ، التي كانت عاصمة الصليبيين لمعظم وقت تواجدهم في المنطقة ، إلى قرية
صيادين صغيرة ، ولم تستعد مكانتها إلا في منتصف القرن الثامن عشر . كما شاخت روما وكادت تفقد دورها وأهميتها لولا
مكانتها الدينية ، فقد إنخفض عدد سكانها وفرغت أحياء كاملة من السكان وتهدمت كثير
من مبانيها ذات الماضي التليد وسلبت حليها ونصبها . وكانت بغداد قد قطعت شوطاً كبيراً في عملية
الإضمحلال عندما ظهر المغول خارج أسوارها ، فسرعوا العملية . كما شاخت القسطنطينية ، لدرجة أنها لم تفق لما
تعرضت له على أيدي فرسان الحملة الصليبية الرابعة ، وعندما إقتحمت أسوارها الجيوش
العثمانية كانت مدينة معدمة ، ومثل روما وبغداد ، كانت تحوي الكثير من الأحياء
الخربة غير المأهولة . ولكن القسطنطينية
لم تسقط فقد عادت حاضرة إمبراطورية أكبر من ذي قبل ، يحكمها رجال جاؤوا من الشرق ،
حيث يشير تمثال الإمبراطور جوليان على صهوة حصانه البرونزي .