كتاب " نحن وأوربا " - الجزء الثاني - الخاتمة
 
 



الخاتمة

من يملك الحق في الحكم على التاريخ ؟ من يملك حق تقييم قرارات وسياسيات تم اتخاذها قبل قرون عديدة ؟ وهل يجوز أن يكون التقييم وفق نتائج نعرفها، ولم يكن يعرفها واضعوا السياسات التي أدت إلى هذه النتائج ؟ هل يجوز تطبيق مقاييس معاصرة على أحداث جرت قبل مئات السنين ؟

 

تقييم التاريخ

تزخر صفحات التاريخ بأحداث نتمنى لو لم تحدث. وهناك تغييرات لم تصبح واقعاً ملموساً، نتمنى لو أنها أصبحت. وفي كلا الحالين، لا يمكن أن تكون أحكامنا منصفة. بالإمكان أن نشجب قتل المنصور لأبي مسلم،  ولكن لو لم يقتله، ألا يمكن أن يتمكن أبو مسلم من قتل المنصور وتعيين من يشاء خليفة ؟  ويالتالي لحدث مع المنصور ما حدث فعلياً مع المتوكل، الذي لم يكن ضعيفاً. وبالتالي حرمان الأمة من عصر ذهبي دام قرناً من الزمان، بدأت خلاله نهضة علمية غيرت تاريخ البشرية. وربما نعتب على المتوكل تغاضيه عن استقواء وصفائه وخصيانه. ولولم يُقتل المتوكل لامتد العصر الذهبي العباسي لسنين أطول. وبالتالي لبنيت مزيد من المدارس والمستشفيات والمكتبات. صحيح أن حركة الإبداع، من خلال الترجمة والتأليف والابتكار، لم تتوقف، فكان من الممكن أن تأخذ أبعاداً أكبر وزخم أقوى. فالعالم الجزازي، الذي ترك لنا عدداً كبيراً من المخترعات في مجال الهندسة والموائع، كان يعيش  في كنف أمير أرتوقي مغمور، فكيف سيكون عطاؤه لو عاش في بغداد المأمون، بالإمكانيات الموجودة ودعم الخليفة الجزيل.

 

صنع التاريخ

من يصنع التاريخ؟ وماذا يصنع التاريخ؟ هل يقتصر صنع التاريخ على الساسة والعسكريين ؟ وهل التاريخ البشري هو تاريخ سياسي وعسكري ؟.

غالباً ما يُقصد بالتاريخ التاريخ السياسي، ولكن هناك فروعاً أخرى من التاريخ، مثل تاريخ العلوم أو تاريخ الملاحة أو تاريخ صناعة السكر.

أما التاريخ السياسي فيصنعه في العادة السياسيون، وعندما يحدث تغييرات سياسية بتأثير أشخاص وجماعات من خارج الوسط السياسي، فإن ذلك يشير إلى تغييرات جذرية ثورية شاملة، مثلما يحدث في الثورات الشعبية وفي حركات الإصلاح الديني.

في العصور القديمة كانت التحولات السياسية نادراً ما تتم بدون عمل عسكري أو التهديد به.  وفي العصور الحديثة، هناك وسائل ديمقراطية للتغيير، مثل تغيير الحاكم والحكومة. كما يمكن ان يتم نقل الحدود بين الدول بطرق سلمية، بالتفاوض أو بحكم محكمة. كما يمكن توحيد دولتين أو أكثر بوسائل ديمقراطية.

 

الفرص الضائعة

ضاعت فرصة في زمن معاوية لمصالحة عامة بين شيعة علي وشيعة بني أمية. من خلال الابتعاد عن شتم علي على المنابر ومطاردة أصحابه. وبالالتزام بتمرير الخلافة للحسن من بعده، حسب الاتفاق، بضمه إلى حكومته كوزير أو مستشار.

أضاع الأمويون فرصة بدء حركة الترجمة في عهدهم، وكان سيكون لذلك إيجابيتين؛ الأولى أن الترجمة في منتصف القرن السابع تعني توفر مخطوطات وكتب أكثر، يونانية وسريانية، والثانية أن ممارسة الترجمة في سوريا تعني وجود أعداد أكبر ممن يتقنون هذه اللغات.

ضياع فرصة فتح القسطنطينية في أيام عمر بن العزيز، الذي أجهض المحاولة بسحب جيش مسلمة.  هذا على اعتبار فتح القسطنطينية ضرورة إسلامية.

إضاعة الفرصة في بناء نظام حكم مؤسسي، ففي بداية حكم العباسيين كان هناك فرصة للمحافظة على مجلس النقباء الذي شكلوه أيام حركتهم. فيعطى صلاحيات اختيار الخلفاء، مما يضمن بقاء حيوية الدولة. 

إضاعة فرصة إقامة علاقات وتحالفات مع قوى أوربية من قبل عبد الرحمن الغافقي، برفضه للمعاهدة الذي عقدها واليه على البرتات مع دوق أكيتانيا.

إضاعة فرصة تحول إمارة صقلية إلى لاعب محلي بكسب بعض الصداقات نتيجةً لقيامهم بأعمال استفزازية مثل نهب كبريات كنائس إيطاليا.

إضاعة فرصة مواكبة نتاجات الأوربيين الفكرية بالعزوف عن الترجمة عن اللاتينية، كما ترجموا عن الإغريقية والهندية قبل خمسة قرون.

أضاع الأوربيون فرصة أن تبدأ نهضتهم قبلبثلاثة قرون لو لم يختاروا أن يتقوقعوا.

أضاع الأوربيون ثلاثة قرون بمقاومتهم الديانة المسيحية.

لقد تسببت الحروب الصليبية بهدر موارد دول عديدة من الطرفين لمدة تزيد عن قرنين وعززت الكراهية القائمة على الدين.

لقد تم إجهاض تجربة النورمان في صقلية القائمة على التسامح، وبذلك فُقدت فرصة في تشجيع هذا التوجه وإشاعة قيم جديدة.

 

أفراد وأحداث في التاريخ

لقد فرض العديد من الأفراد حالة من التميز من خلال إظهار قدرات غير عادية في مواجهة ظروف معينة وتحقيق نتائج غير متوقعة. كما أن هناك أحداث جرت باتجاه معاكس للمتوقع بشكل لافت للنظر.

وهنا يُطرح معاوية كمثال للشخص الذي حصل على نتائج كانت مستبعدة جداً في بداية سعيه للحصول عليها لدرجة أنه لم يفصح عما كان يسعى إليه، وهو الخلافة.

وعكس ذلك كان عبد الله بن الزبير.  فقد اجتمع عليه الناس في وقت ساد فيها الفراغ السياسي. ولكنه تردد في استثمار الفرصة حتى فقدها.

وأبدى ليو الإيسوري قدرة قيادية مميزة في وقت حصار العرب للقسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك حيث كان قد تسلم الحكم بطريقة انقلابية على حاكم أورثه خزينة خاوية وجيش محبط ومجتمع منقسم وكنيسة تخوض صراع عقائدي طويل على الإيقونات. كما كانت معظم أراضي الإمبراطورية في الجانب الأوروبي بيد البلغار. ولكن بيزنطة صمدت، وقد عزى معظم المؤرخين ذلك لقيادة ليو.

وكذلك لعب شارل مارتل دوراً بارزاً في الوقوف في وجه المد العربي.  ولم يكن شارل مارتل ملكاً، ولكنه كان يمارس صلاحيات ملك. استعد شارل ببناء جيش محترف وتدريبه، كما صادر بعض أملاك الكنيسة لتمويل تدريب هذا الجيش. ونجح في بناء تحالف لمواجهة المسلمين. وقد تمكن، كمحارب محترف، من تحديد مكان وزمان لقاء عدوه. على الأقل هذا ما يؤكده  المؤرخون الغربيون.  ولكن مؤرخينا العرب يؤكدون أن عبد الرحمن قام بمناورة واسعة وضع جيشه فيها بمكانٍ أفضل. ومهما كان الواقع فإن نتيجة المعركة جعلت منه بطلاً تاريخياً على صعيد القارة الأوربية، بل والعالم المسيحي بأكمله.

لقد نجح الأيوبيون بتجنيب مصر حملة صليبية أخرى بالرشوة. بل تمكنوا من توجيهها ضد عدوهم القسطنطينية، وهي حملة 1204م. وهذا ما تؤكده مصادر غربية،التي تذكر متى تم عقد الصفقة وما مقدارها. فقد كان من المفروض أن يقوم الجنويون بنقل جيش الحملة ومعداتها، ولكنهم ماطلوا إلى أن نفذت مؤونة الجيش، فطلبوا من قادته أن يستولوا على مدينة على ساحل الأدرياتيك الشرقي لصالح جنوة ومن هناك انقضوا على القسطنطينية. التي لم تقم لها قائمة إلى أن فتحها العثمانيون. وتؤكد المصادر التاريخية أن الأيوبيين رشوا الجنويين، الذين كانت تربطهم مصالح تجارية كبيرة في مصر. إذا صحت هذه الرواية المرجحة، فإن "المقلب" الذي أكلته القسطنطينية يعادل كل ما ادعته القسطنطينية لنفسها من مهارة في جعل خصومها يختلفون فيما بينهم، كوسيلة من وسائل بقائها. وهذا حدث لا يوجد له مثيل في التاريخ.

في مجال الغلبة العسكرية فهناك مثال روبرت جسكارد الذي جاء من نورمندي ببضع عشرات من الفرسان والمشاة واستطاع في حياته أن يؤسس دولة في جنوب إيطاليا وصقلية حارب من أجل تحقيقها كل من البيزنطيين والمسلمين واللومبارد والبابا، وكان منقطعاً عن قومه جغرافياً.

كما أن إمارة صقلية الإسلامية المتفرعة من إحدى الولايات العباسية، كانت تدخل في مواجهات في جنوب إيطاليا مع تحالف يضم الإمبراطوريتين البيزنطية والفرنجية وتنتصر.

كما أن احتلال كريت من قبل جماعة من اللاجئين الأندلسيين لمدة قرن في مواجهة بيزنطة يعد أمراً مثيراً للإعجاب والدهشة.

وقد سجل تاريخنا المشترك عدداً من المعارك كان للحماس الديني أثر واضح على نتائج المعركة. مثل حصار الصليبيين لأنطاكيا. وفك حصار روما من قبل أبناء القرى المحيطة بها. وكذلك معركة ملاذكرد التي انتصر فيها ألب أرسلان بخمسة عشر ألف مقاتل في مواجهة جيش يزيد عدده على المائة ألف أُعد لاجتياح العراق وفارس. وكذلك كانت معركة عين جالوت. وفي ملاذكرد وعين جالوت وقف فقهاء صالحين وراء الانتصار مثلما وقف قادة عسكريين.

 

هذا التاريخ المشترك

لقد ازدحمت القرون الخمسة، موضع بحث هذا الجزء من الكتاب، بالأبطال.  فهناك زعماء القبائل الأوربية وملوكها الذين فرضوا شعوبهم على القارة التي كانت حكراً سياسياً للإمبراطورية، التي تصر على تسمية بقية شعوب العالم بالمتبربرين، وانخرطوا في مجتمعها وأعطوها بقدر ما أخذوا منها وشاركوا بصياغة شخصيتها.

إن المتابع يقف بإعجاب أمام شخصية عبد الملك بن مروان، الذي أعاد بناء الدولة الأموية بجند الشام المنقسمين على أنفسهم.  وأكثر ما يعجبني في شخصه أنه أحسن تربية أبناءه بحيث ضمن ترابط البيت المرواني لأكثر من سبعين سنة فضمن هيبة الدولة.

وبينما نقف إعجاباً أمام صلاح الدين الأيوبي، ولكن نأخذ عليه عدم ترك تأثير على من بعده، فكثر الاقتتال بين أبناءه وبينهم وبين أخيه، وتابع الجيل التالي الإختلاف على توريث الحكم فلم تستقر دولة الايوبيين في زمن كانت بحاجة إلى التفرغ.  فلو وضع صلاح الدين نظام توريث للحكم وربى أبناءه على التوحد والتكاتل لتجنبت الأمة صفحات غير مشرقة من تاريخها. 

وفي زمن الحروب الصليبية لا بد من ذكر بعض الأنذال إلى جنب حديثنا عن الأبطال الكثر. فمنهم تنكرد، أمير طرابلس، الذي أُهدي إليه حصان في بعض الهدنات من أحد الأمراء المسلمين، فأُعجب بالفارس الذي أحضره، بلباسه الكردي الجميل، فقال له "إذا تجدد القتال بيننا ووقعت في أسري، فسأكرمك وأطلق سراحك". وفي العام التالي تجدد القتال ووقع الفارس الكردي في الأسر.  فقام تنكرد بقلع عينيه [1] . ومنهم أيضاً الملك الكامل، الذي عرض القدس خمس مرات لحماية عرشه.

ومن أبطال الحروب الصليبية فريدريك الثاني، الذي تمكن من الاستيلاء على القدس بدون قتال. والأغرب هو أن ذلك لم يسر قادة أوروبا، بل إن بعضهم عمل على أن لا يحدث ذلك.

ومن حكام المسلمين المثيرين للإعجاب المعتمد بن عباد، الذي قال "رعي الإبل خيرٌ من رعي الخنازير"، فأصبحت مقولته قاعدة تصلح لتقييم الحكام على مر العصور. وتثير الإعجاب شخصية ابن تاشفين البعيدة عن الأنانية والمليئة بالاقتدار والإقدام. لم يثر إعجابي أي من ملوك الإسبان، فلم تحوي شخصياتهم  عناصر البطولة، ولذلك استغرقت عملية الاسترداد أكثر من سبعة قرون.

من بين خلفاء بني العباس يبرز المأمون وكأنه يسبق زمانه بعصور طويلة.  فقد كان متنوراً لا يحب الانتقام.  ومن المفارقة أن يخلفه أخوه المعتصم الذي كان أمياً.

لقد كان بعض الخلفاء الفاطميين مميزين، مثل المعز، الذي كان عالماً ومهندساً، ونجح في بناء اقتصاد قوي مبني على خطوط تجارة ترعاها الدولة.

لا تقتصر البطولة على السياسيين والعسكريين، فإعجابي كبير بالعلماء الذين عاشوا في كنف المأمون الذين كانوا يخاطرون بحياتهم ويسافرون إلى اليونان للحصول على مخطوطة لترجمتها. بينما لم يستفد منها مثقفو بيزنطة، الذين بنوا حضارة سطحية لم تفد منها البشرية.  وأثار إعجابي كذلك رجال الكنيسة الإنكليز والألمان والطليان الذين سافروا إلى إسبانيا وتعلموا العربية وترجموا الكتب بتخصصات مختلفة وأطلقوا عنان النهضة الأوربية، ولم يفعل ذلك الإسبان، الذين كان كثيرٌ منهم يتقن العربية، وكان بإمكانهم عمل ذلك قبل قرنين أو ثلاثة.  وأذكر بإعجاب شديد الراهب الإنكليزي جون الباثي، الذي ترجم مائة كتاب في عشرين سنة.



[1]  الحروب الصليبية، أر سي سميل.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter