كتاب " نحن واوربا " - الجزء الثاني - الفصل الثامن
 
 



الحروب الصليبية

 

مقدمات الحروب الصليبية

بعد إنهيار الدولة الكارولنجية، قامت في أوربا الغربية كيانات سياسية عديدة، إمبراطوريات وممالك ودوقيات، وتطور الإقطاع القائم على القوة العسكرية للإقطاعي، الذي يملك جيشاً يتكون من أتباعه من النبلاء الذين تربوا على الحياة العسكرية وعلى الفروسية. وتزايدت ضرورة نمو القوة العسكرية، على جميع الصعد،  بسبب تزايد الفوضى وتهديد القرى والمزارع من قبل الجماعات التب كانت تمارس الغزو والنهب بشكل منهجي، والتي غطت عملياتها معظم أوربا. فبدأت تظهر تشكيلات إجتماعية جديدة، قائمة على ملكية الأرض ومن عليها.  فتحول الفلاحين إلى أقنان في الأرض التي يعملون بها، ضمن تشكيل تراتبي يقوم على حجم الملكية، كما يقوم على قدرات حربية لرجال الإقطاع. فالإقطاعي، مهما كانت مرتبته، كان بطبيعة دوره وموقعه، يمارس الفروسية ويعمل على الدوام على تطوير قدراته الحربية.  ويقضي وقته في نشاطات وهوايات قائمة على اللياقة الجسدية ومهارات القتال، مثل الصيد والمبارزة والتدرب عليهما.  وكانت فرصة نشوب حرب مصدر سعادة للإقطاعي الفارس، فهو سيمارس قتال فعلي تدرب عليه كثيراً وإنتظره.  فنشأت طاقات عسكرية هائلة أخذت تنفس عن نفسها، بعد زوال العدو الخارجي، في حروب لا تنتهى بين الجيران.  وقد حاولت الكنيسة، التي كان دورها السياسي يتعاظم، الحد من هذه الحروب بفرض " سلام وهدنة الرب "، حيث حققت نجاحاً جزئياً.  ولكن المقاتلين المحترفين كانوا بحاجة إلى التنفيس عن طاقاتهم ورغباتهم في خوض الحروب،  فإنتشرت الرياضات العنيفة، وكثرت المبارزات بين الفرسان، كما كثرت الحروب بين الأمراء. فلجأ الكثيرون إلى التطوع في الجيوش الإسبانية التي كانت في حالة حرب شبه دائمة مع الأندلسيين.

 فات على الدولة الإسلامية وأوربا المسيحية أكثر من ثلاثة قرون وهم في حالة حرب دائمة تخللتها بعض الهدنات الهشة، كما تخللها الكثير من التحالفات غير المبنية على الدين.  وكان كثيرٌ من الفرسان الذين شاركوا في معارك ضد المسلمين في الأندلس، عادوا إلى أوربا ليرووا قصص بطولاتهم وإنتصاراتهم وإخفاقاتهم، لتكرس في الذهنية الأوربية عدواً مكروهاً إسمه المسلمين، الساراسين، المور، العرب..  وقد نُسجت حكايات ترسخت في الفولكلور الأوربي تكرس هذا العداء نحو المسلمين. وفي بدايات هذه المشاركات الأوربية في الحروب ضد الأندلس، في القرن الثامن، كُتبت " أغنية رولاند " عن فارس يحمل هذا الإسم، وهو إبن أخت شارلمان، كان قد قُتل على يد مقاتلين من الباسك هاجموا مؤخرة جيش شارلمان المنسحب من إسبانيا بعد فشل مهمته.  وفي هذه الأغنية، التي تردد صداها في مدن وقرى أوربا لثلاثة أو أربعة قرون حتى أُستخدمت في الحروب الصليبية، حيث تم إستبدال مقاتلي الباسك، الذين كانوا بالمئات، بأربعمائة وأربعين ألف جندي مسلم، حيث قضى رولاند في التصدى لهم في معركة غير متكافئة. 

وإنتشرت في زمن عبد الرحمن الناصر قصة صبي مسيحي تم الإدعاء أن الخليفة إعتدى عليه جنسياً.  وقامت الكنيسة بإعلانه قديساً، مما أعطى مصداقية للقصة، حيث كان لها وقعاً قوياً على الوجدان الأوربي وعزز من الكراهية ضد المسلمين لعدة قرون، وهذا مستبعد تماماً من قبل الناصر.

وقد ساعد بعض المسلمين، من خلال تصرفات غبية لا يقبلها الإسلام، على الإساءة لصورة المسلم بنظر المواطن الأوربي. مثل المجموعات التي عاثت فساداً في مناطق واسعة من فرنسا وإيطاليا وسويسرا، والتي تكلمنا عنها في الفصل الخامس. وكذلك قيام الجيش الصقلي الإسلامي بنهب كنيستي القديسين بطرس وبولس. وقيام الحاكم بأمر الله بهدم كنيسة القيامة، وما يعزى للسلاجقة من تضييق على الحجاج الأوربيين.  هذه الممارسات غطت على قرون من التسامح الذي مارسه المسلمون حكاماً وشعوب.

كما كان يشاع أن طريق الحج غير آمن، وأن الحجاج يتعرضون لمضايقات، والثابت أن الحج لم ينقطع إلى بيت المقدس، فقد حج المطران أركولف سنة 670م، وهو فرنسي.  كما حج الإنكليزي ويليبارد في سنة 722م.  وحتى أثناء حملة ريشارد قلب الأسد لإستعادة بيت المقدس قام عدد من الحجاج الأوربيون بأداء شعائر الحج فيها[1].    

وبعد هزيمة الإمبراطور أوتو الثاني على يد المسلمين في جنوب إيطاليا، حيث نجى بصعوبة من المعركة بعد أن تمزق جيشه. دعا، بالتنسيق مع البابا بندكت السابع، الذي أعاده مؤخراً إلى منصبه في روما، إلى عقد مجمع ديني في فيرونا سنة 983م.  حيث برزت الروح الصليبية بوضوح.  مات أوتو الثاني بنفس السنة، ولكن المبادئ التي تم الإتفاق عليها في فيرونا أسست لتوجه جديد يدعو للتوحد في وجه المسلمين والتركيز على مواجهتهم.  مما أطلق هجوماً معاكساً ضد المسلمين نجم عنه إخراجهم من إيطاليا وصقلية وأجزاء مهمة من إسبانيا، مثل طليطلة.  وهذه كانت مقدمات للحروب الصليبية.       

على هذه الخلفية وصلت صيحات حكام بيزنطة إلى أوربا بعد هزيمة ملاذكرت سنة 1071م فوجدت تجاوباً وحماساً كبيراً، على الرغم من أن القطيعة بين الكنيستين في روما والقسطنطينية قد وصلت إلى إنقسامٍ نهائي شابه العداء. 

لقد إستنجد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث بالبابا جريجوري السابع في العام 1074 م، كما إستنجد الإمبراطور أليكسيوس الأول بالبابا اوربان الثاني في العام 1095 م.  وفي زمن جريجوري السابع وأوربان الثاني كانت الخلافات بين البابوية والإمبراطورية البيزنطية على أوجها وتشغل أوربا بأكملها.  فلا يستبعد أن دعوة أوربان الثاني لمجمع كليرمونت، الذي تقررت فيه الحروب الصليبية، جاء ليضع نهاية للخلافات التي كانت تعصف في البيت الأوربي.

وكان بعض الخطباء قد ذكروا في خطبهم التحفيزية أن كنيسة القيامة قد تم تحويلها إلى مسجد، وهذا لم يحدث. وكان المسلمون يعملون وفق العهدة العمرية، التي تم تسليم القدس على أساسها، وهي تضمن حرية العبادة والحفاظ على دور العبادة.  كما إستمرت جالية مسيحية كبيرة في العيش في القدس، وغيرها من مدن الدولة الإسلامية، دون التعرض لها أو محاولة إجبار أبناءها على إعتناق الإسلام، بل لقد سجل التاريخ مشاركة فعالة للمسيحيين في الحياة الثقافية والعلمية والسياسية، بل شاركوا في الفتوحات وخصوصاً البحرية منها.  كما أن الإعتقاد الأوربي أن المسلمين يعادون المسيحية والمسيحيين، إعتقاد خاطئ.  فلم تكن اوربا تشكل العالم المسيحي كله، فقد كان هناك دول مسيحية، مثل الحبشة، التي لم تدخل في حرب مع الدولة الإسلامية على الإطلاق، كما كان هناك دولة النوبة المسيحية التي ربطتها بالدولة الإسلامية إتفاقية دامت سبعة قرون.  كما أن العلاقة مع أرمينيا المسيحية تخللتها فترات سلام وتعاون كثيرة.

 

قرارالحربالأوربي

لقد جاء الرد الأوربي للنداء البيزنطي مبالغاً فيه.  فقد كان الإمبراطور البيزنطي يأمل بوصول عدد من المتطوعين الأوربيين، الذين من خلال إنخراطهم بالجيش البيزنطي، يحسنون من فرص الإمبراطورية في إستعادة أراضيها المفقودة، وذلك تحت شعار " مسيحيو الغرب يساعدون مسيحيي الشرق "، كما فكر أليكسيوس.  ولكن إستجاب لهذه الدعوة عشرات الألوف من الأوربيين من دول مختلفة، وقد جاؤوا ليستعيدوا القدس، وليس لترميم الدولة البيزنطية.

لقد نشبت الحرب في زمن البابا اوربان الثاني وليس جريجوري، الذي لم يكن أقل تجاوباً مع القضية، ولكنه كان لديه مشاغله التي منعته من إطلاق الحملة الأولى في زمنه. فلم يستطع الإعتماد على الألمان، أما أوربان فقد كان اكثر إعتدالاً من جريجوري، فكان يرى في الحرب الصليبية وسيلة لتوحيد الكنيسة وتقوية البابوية وضم الأراضي المقدسة إلى النفوذ الأوربي.  كما أن إعتماده كان على قومه الفرنسيين (الفرنج)، وفعلاً صبغت الحملة الأولى بصبغة فرنجية لدرجة أن العرب ومؤرخيهم وصفوا الصليبيين بالفرنجة.

وقد حدث هذا من خلال حملة واسعة غطت معظم أصقاع أوربا المختلفة.  وقد بدأت الحملة في مجمع كليرمونت عام 1095م.  وقد عُقد هذا المجمع على الأراضي الفرنسية.  وشارك البابا اوربان الثاني بنفسه في هذا المجمع، حيث ألقى خطاباً بين فيه أهمية شن هذه الحرب ضد المسلمين الذين يحتلون مقدسات المسيحيين وينتهكون حرمتها.  وقد مضت الخطب في المجمع، والتجمعات الأخرى التي عقدت في أماكن مختلفة من أوربا، تثير النخوة الدينية وتعزز الكراهية ضد المسلمين، وتعد المشاركين بجائزة دنيوية كبيرة وهي حيازة البلاد المقدسة التي يصفها الكتاب المقدس ببلاد اللبن والعسل [2] ، كما يمنحهم، بطبيعة الحال، الخلاص والغفران. 

وقد حدد البابا موعداً لإنطلاق الحملة، وطالب الحشود ببذل المساعدة وإنضمام المتطوعين للمشاركة في هذه الحرب.

وقد لعب دعاة من أمثال بطرس الناسك وغيره الذين كانوا يطوفون المدن والقرى الأوربية يشجعون الناس على دعم الحرب والتطوع في صفوفها.  وفي هذه الحملات كانت تطلق التهم وكانت تنسب إلى المسلمين والعرب أعمال لم يرتكبوها وليست من طباعهم.  وقد علقت هذه الصورة التي رسمت شعراً ونثراً، في ذهنية الإنسان الأوربي لقرون طويلة، وربما لا تزال آثارها باقية.

وكان من بين الأكاذيب التي أُشيعت أن المسلمين حولوا كنيسة القيامة إلى مسجد.  وهذا لم يحدث وما كان ليحدث.  وقد حدث وحول المسلمون كنائس أخرى إلى مساجد (كما حول المسيحيون مساجد إلى كنائس) وهذا، في كلا الحالتين غالباً ما يعد مبرراً، إذا ما فرغت مدينة ما من سكانها من أتباع أحد الأديان، بينما يتبقى وراءهم دور عبادة كثيرة، فيحولون بعضاً من دور العبادة لتخدم ديناً آخر. أما الذي لا يغتفر، في جميع الأحوال، فهو إجبار الناس على ترك بيوتهم وإتباع عقائد أخرى.

وما لبثت المدن التجارية الإيطالية والفرنسية أن تبنت المشروع لأسبابها الخاصة.  وهي تأمين خطوط تجارية مع الشرق، والعمل على تخفيف مضايقات الكيانات الإقطاعية الأوربية التي تهدد وجودها [3] .

وقد نجم عن هذا جذب حشود ضخمة من المسيحيين المتعصبين في تجمعات زادتهم تعصباً، وأثناء مسيرتهم إلى الشرق مارسوا كل أنواع الفظائع ضد مواطنيهم اليهود، وعندما عبروا إلى شرق أوربا، تعاملوا بخشونة مع المسيحيين الأرثودوكس، وقد تتوج ذلك بنهب القسطنطينية سنة 1204م.

هناك حدثين يسرا القيام بالحروب الصليبية ؛ الأول إكتمال تنصر هنغاريا في العام 1050، مما جعل إنتقال قوات عسكرية من ألمانيا إلى بيزنطة ممكناً.  والثاني السيطرة على صقلية عام 1091، مما جعل أساطيل المدن الإيطالية تتحرك بحرية في البحر المتوسط. 

 

الحملة الأولى

ومع بداية العام التالي (1096 م) (490 ه ـ )  كانت طرق أوربا تزدحم بمائة وخمسين ألف شخص ويسيرون بإتجاه الشرق، حيث كانت هناك حملتان متزامنتان؛ " حملة الدهماء "   بقيادة بطرس الناسك، وكانت تتكون من أفراد من عامة شعوب أوربا، وخصوصاً الفرنسيين والألمان.  أما " حملة الأمراء " فقد كانت تتكون من فرسان، أي مقاتلين محترفين، بقيادة دوقاتهم وكونتاتهم الذين كانوا يقودوهم في حروبهم الداخلية.  كان الفرق في تكوين الجيشين فرقاً إجتماعياً بالدرجة الأولى، فمعظم جنود الجيش الأول من الأقنان، أي الذين يشكلون قعر الهرم الإجتماعي الأوربي في زمن الإقطاع، أما الجيش الثاني فيتكون من الجزء الحر من الهرم الإجتماعي، فرسان وكونتات ودوقات، وهم مقاتلون متمرسون، وإن كانوا أقل عدداً من الجيش ألأول، إلا أنهم أكبر تأثيراً. 

وكان يقود الجميع الدوق جودفروا دي بويون، دوق اللورين الأسفل، كما كان يقود إحدى الفرق الأربعة بنفسه.  كما كان بوهيمند النورمندي يقود فرقة أُخرى.  وكان ريمون دوسان جيل، كونت تولوز يقود فرقة ثالثة تتشكل من فرسان وسط فرنسا.  وكان روبرت هيوز، كونت نورمانديا يقود فرسان شمال فرنسا.  وقد وضعت تحت تصرف هذه الجيوش كل الإمكانيات التي تحتاجها من تموين وتسليح ووسائل نقل وغير ذلك، وكانت مساهمة الدوقات والكونتات في هذا المجال كبيرة.

وكان البابا قد إتفق مع الإمبراطور على أن تمر الجيوش من أراضي الإمبراطورية.  وكان الإمبراطور لا يثق كثيراً بنقاء حماس الصليبيين، وتوقع الأسوأ منهم.ولكن عندما وصلت حملة الدهماء حدود الدولة البيزنطية عند بلغراد، لم يكن لدى حاكمها تعليمات بهذا الخصوص.  فنجم عن ذلك أعمال نهب في المناطق الريفية، ثم قام الحاكم بإرسال قوة مرافقة للحملة إلى القسطنطينية.  وكان الإمبراطور يأمل أن يعيد إليه الصليبيون الأراضي التي أخذها السلاجقة، كما كان يرجو أن تدخل هذه القوات في طاعته فيستعيد أحلام الإمبراطورية الرومانية القديمة في أوربا، شرقاً وغرباً.  وقد أثبت الصليبيون أنهم ضيوف ثقلاء على بيزنطة وعلى غيرها، كما أثبتوا وجود تباين ثقافي عميق بين الطرفين، وقد نجم عن خلاف على سعر زوج أحذية في مدينة سيملين الهنغارية، مقتل أربعة آلاف شخص، ثم مهاجمة بلجراد القريبة منها ونهبها بالكامل بعد هروب أهلها.  أطلق المؤرخ جيبون لقباً طريفاً على مقاتلي الحملة الصليبية الأولى، فقد سماهم " اللصوص الأتقياء "[4].

وحتى الدوقات والكونتات أظهروا قدراً من الجلافة والبعد عن الكياسة جعلت الإمبراطور يمل وجودهم ضيوفاً على بلاطه.  ولم تتوقف الأمور على مسلكيات الأمراء، بل كان هناك تجاوزات من الجنود الذين كانوا يقيمون خارج أسوار المدينة ما فاق ذلك.  فقد مارسوا نهب القرى والكنائس وحاولوا الدخول عنوةً إلى المدينة.

وكان من أشد ما أثار إستغراب وإستنكار الأمراء الصليبيين وجود مسجد في القسطنطينية. 

عمل الإمبراطور أليكسيس على جعل الأمراء الصليبيين الأغبياء والمتعجرفين [5] يقسمون يمين الولاء له، وأن يعدوا بتسليمه ممتلكاته المستعادة من السلاجقة الأتراك. وقد إستخدم من أجل ذلك جميع الأساليب، ولكنه إستخدم الذهب بكثرة [6] .

عندما قطعت الجيوش الصليبية مضيق البسفور، كانت الصورة في العالم الإسلامي قاتمة.  فقد كان  السلاجقة، الذين هزموا الروم هزيمة منكرة قبل خمسة وعشرين عاماً فقط، قد تغيرت أحوالهم بموت ألب أرسلان وموت خليفته ملكشاه وإختلاف الأبناء على وراثة الحكم.  وكانت الخلافة العباسية عاجزة عن تنظيم مواجهة للحرب الصليبية بسبب ضعفها وتقلص مساحة دولتها وقلة إمكانياتها.  كما كانت الخلافة الفاطمية تعاني من ضعف أيضاً فقد خسرت القدس للسلاجقة ولكنها إستعادتها في العام السابق للحملة الصليبية مستغلة ضعف السلاجقة.

وقد عانت هذه الكتلة البشرية في مسيرتها الواناً شتى من الشدائد والأهوال والثورات والغزوات والمذابح والإنشقاقات والإشتباك بمعارك جانبية مع المسلمين والهرب من الوحدات العسكرية،  بحيث لم يصل منها إلى نهاية المطاف إلا خمسة وثلاثين ألفاً [7] ، وأكثر حسب تقديرات أخرى.  وقد كان التناقص بشكل خاص في أوساط حملة الدهماء، الذين كان يقودهم بطرس الناسك. 

كان أول إنتصار حققوه هو السيطرة على نيقية، في الأناضول.  وكانت مدينةً أماميةً لسلاجقة الروم، وملكهم قلج أرسلان، الذي كان يقود حملة عسكرية ضد إمارة تركمانية أخرى .  هلعت حامية المدينة عندما شاهدت الأعداد الهائلة للجيش المحاصر، فإختاروا أن يستسلموا للروم ففتحوا لهم الباب دون الصليبيين، الذين جن جنونهم لحرمانهم من نهب المدينة، فإستخدم أليكسيس ذهبه مرة ثانية فمضى الجيش الصليبي، ومضى جيش الروم على أثره يستثمر ويعزز إنتصاراته فيستولي على المدن والقلاع من السلاجقة [8] . فنجح خلال فترة وجيزة في نقل حدوده لأكثر من ثلاثمائة كيلومتر.  وصلت جيوش أوربا إلى أنطاكيا وحاصرتها.  وإستمر الحصار تسعة أشهر، ومات كثيرٌ من الجنود الصليبيين أثناء الحصار [9] .  ولمدينة أنطاكيا أهمية خاصة في الديانة المسيحية، وقد كان يسكنها أعدادٌ كبيرةٌ من المسيحيين، ويروي إبن الأثير أن واليها السلجوقي إحتال عليهم لإخراجهم من المدينة، فأخرج قبل وصول الجيش الصليبي مسلمي المدينة لحفر خنادق حول المدينة، وفي اليوم التالي أخرج مسيحيي المدينة لإكمال حفر الخندق، وفي المساء منعهم من دخول المدينة، ولكنه تعهد لهم بالحفاظ على عائلاتهم وممتلكاتهم، وقد حافظ على العهد [10] .

بعد تسعة شهور تمكن الصليبيون من دخول المدينة.  وفي رواية إبن الأثير أن نافذة في أحد الأبراج فُتحت لهم من قبل شخص متواطئ، فدخلوا المدينة وقتلوا من فيها من المسلمين [11] . 

ولما سمع قوام الدولة، ملك السلاجقة بقدوم الصليبيين، خرج بجيشه وعسكر بمرج دابق، فجاء إليه الأمراء من مناطق عديدة بجيوشهم.  فخرجوا جميعاً وحاصروا أنطاكيا.  وطال الحصار بحيث نقص التموين مما أضر بحال الجيش الصليبي الذي فكر قادته بالتفاوض.  وفي هذه الأثناء رأى أحد الجنود السيد المسيح في منامة، مما بث روحاً معنوية كانت مفقودة.  فقرر الجيش الخروج من المدينة ومجابهة المسلمين.  فعندما بدأوا بالخروج، أشار أحد الأمراء على قوام الدولة أن يقاتلهم قبل أن ينظموا صفوفهم، فلم يلتفت إلى رأيه، وكان متعجرفاً مكروهاً من قبل الأمراء.  فعندما إصطف الصليبيون لم يصمد المسلمون، الذين كانوا مستائين من تصرفات قائدهم.  بينما كان الجنود الصليبيون في قمة التحفز والإستعداد للتضحية [12] . 

وبعد إنطاكية وصل مدد من جنوة بحراً.  وبدأت الخلافات تظهر بين الصليبيين والبيزنطيين. وقام القادة الصليبيون  بإستفزاز القائد البيزنطي المرافق لهم للتخلص من التعهدات المقطوعة للإمبراطور البيزنطي، حيث إتهموه بالتآمر مع الأتراك السلاجقة.

ثم إتجه الجيش الصليبي إلى معرة النعمان، وقد إستعاد حيويته، فقد إكتسب معنويات أفضل، كما غنم من جيش المسلمين كميات كبيرة من التموين والأسلحة.  وسيطر على معرة النعمان بعد حصار وقتل وسبى الآلاف.  ثم ساروا إلى عرقة وحاصروها أربعة أشهر، فصالحهم عليها منقذ امير شيزر.  ومنقذ هذا، هو والد أسامة، الذي ربطته بالأمراء الصليبيين علاقات مميزة، فيما بعد.  كما صالحهم امير حمص. 

وعلى أثر هذه التطورات كتب الخليفة إلى السلطان السلجوقي بركيارق يحثه على التصدي للفرنج قبل أن يستفحل أمرهم.  وكان بركيارق منشغلاً بخلافات داخلية مع أخيه.

عجز الصليبيون عن السيطرة على عكا، فإتجهوا إلى بيت المقدس، حيث كان الفاطميون قد إستعادوها من السلاجقة مؤخراً، فحاصروها أكثر من اربعين يوماً، وإستخدموا برجين لحصارها، أحرقت حامية المدينة أحدهما وأُستخدم الآخر بنجاح في إقتحام أسوار المدينة[13].  فسقطت بأيديهم، بعد مقاومة باسلة [14] ، على الأمان [15] . فإرتكبوا فيها المذابح والفظائع ما لا ينكره المؤرخون الأوربيون، فيذكر إبن الأثير أن القتل إستمر أسبوعاً كاملاً، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً [16] . ولكن جيبون يؤكد أن القتل إستمر لثلاث أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً [17].  كما شمل القتل اليهود الذين حُرقوا في معبدهم.  ولم يحد من غلواء أتباع بطرس الناسك وجود الكنائس العامرة ووجود جالية مسيحية مزدهرة تعيش جنباً إلى جنب مع المسلمين.  وقد أسس الصليبيون مملكة عاصمتها القدس،  وإنتخبوا جودفري ملكاً في اليوم الثامن،  فإتخذ من المسجد الأقصى قصراً ملكياً له، ومن فرط القول أن الصلاة تعطلت فيه.

وصل عدد من وجهاء القدس وفقهاءها إلى بغداد، ولم تكن الخلافة تملك جيشاً، فما كان من الخليفة المستظهر بالله  إلا أن وجههم إلى حلوان فوجدوا الأخوين السلجوقيين بركياروك ومحمد يستعدان للإقتتال، ولم يستطيعوا إقناعهم بنبذ خلافاتهم ومواجهة العدو المشترك فعادوا إلى بغداد.

أما الخلافة الفاطمية فقد حشدت جيشاً، بعد شهر من سقوط القدس، وإلتقوا مع الفرنج في عسقلان في عدة معارك إنتصروا في واحدة منها، ولكنهم لم يتمكنوا من فعل الكثير[18].  ولم يتمكن السلاجقة من التفرغ للصليبيين، فقد إنشغلوا بحروبهم ومكائدهم.  ولكن سجل العام 493 هـ (1099 م) إنتصاراً تكتيكياً لأميرٍ تركي على أمير صليبي [19] .

 

 

خريطة القدس في زمن الصليبيين

 

سيطر الصليبيون على الساحل الشامي بكامله، بعد مقاومة إمتدت طويلاً بمساعدة الأسطول الفاطمي.  وقاموا بتأسيس اربع كيانات سياسية؛ القدس وملكها جودفروا دي بويون، وكونتيات أنطاكيا وطرابلس والرها.  وملك القدس يتولى زعامة الجميع.  فسيطر البرجنديون على القدس والرها والنورمان على انطاكيا والبروفانسيين على طرابلس.

توفي جودفروا متأثراً بجرح أصيب به أثناء حصار عكا.  فتنازع الأمراء على خلافته، إلى أن النزاع بلدوين ملك الرها، الذي حضر على رأس جيشٍ كبير وتولى حكم القدس.  وكان بلدوين، هذا، يقلد العرب في الملبس والمأكل والمظهر.  وهذا تأثر سريع.

وباشر الفرنجة بإنشاء الحصون وإقامة الإقطاعيات، حيث أشرفوا من هذه الحصون على إدارة الأراضي الزراعية. ومع إستمرار تدفق المهاجرين بحراً، بدأت الحياة في هذا الجزء من العالم تأخذ منحى معقداً لدرجة أن تاريخ هذه الفترة ربما كان الأمتع قراءةً وبحثاً، ولكنه قطعاً لم يكن كذلك بالنسبة للذين عاشوها وذاقوا ويلاتها.

أسس الصليبيون مجتمعاً شبيهاً للمجتمعات الأوربية، وعلى الرغم من إدعاء المؤرخين الكاثوليك حول ذوبان الفوارق الإجتماعية بين الفرسان والأقنان، الذين شاركوا جميعاً في الحملة الصليبية الأولى والحملات التالية، فأن الفوارق إستمرت، بل إستمر إستغلال الأغنياء للفقراء. فقد كان الفرسان المحيطين بالكونت دي تولوز يقتلون الخيل سراً ويبيعون لحومها لفقراء الصليبيين بسعر مرتفع [20] .    

لقد إستمر القتال بين المسلمين والصليبيين، كما إستمر القتال بين المسلمين أنفسهم، ولم يحاول أحد إقامة تقارب يؤدي ألى نوعٍ من التنسيق بين العباسيين والفاطميين.  كما مارس الصليبيون الإقتتال والتآمر فيما بينهم.  وإعتبر البيزنطيون الصليبيين خونة، وإشتبكوا معهم في معارك كثيرة.  ولم يشهد تاريخ الحروب بين المسلمين والبيزنطيين كساداً طوال أربع قرون، كما شهده في هذه الفترة لإنشغال الطرفين بالصليبيين.  وقد أرسل الإمبراطور البيزنطي موفداً إلى السطان السلجوقي محمد، الذي تولى السلطنة بعد وفاة أخيه بركيارك، يحضه على مواجهة الصليبيين وطردهم.

وفي هذه الأثناء وصل وفد من حلب يشرح إعتداءات الصليبيين للخليفة وأهل بغداد، مما تسبب في إحتجاجات عنيفة من قبل أهل بغداد، حيث عيروا الخليفة بأن الروم اكثر حرصاً في مواجهة الفرنجة منه.  لقد كانت الخلافة عاجزة تماماً، وكان من عوامل ضعفها سيطرة السلاجقة، الذين كانوا قد فقدوا قوتهم أيضاً، حيث إنفرد عددٌ من أُمرائهم بمدن وقلاع يحكمونها بشكل مستقل، وكان همهم الأكبر الحفاظ على إماراتهم، التي كانوا يعتقدون أن الخطر يتهددها من أمراء آخرين، غالباً ما كانوا أبناء عمومتهم.  وقد توصل بعض هؤلاء الأمراء إلى تفاهم منفرد مع الصليبيين.  ولكن على الصعيد الشعبي فقد قويت نزعة الجهاد.  فإذا كان الحكام المعاصرين عاجزين، فإن رحم المجتمع كان يحمل إفرازات حتمية. 

  

الرد على الصدمة

قام مودود أتابك الموصل بإعلان الجهاد ضد الصليبيين بالتحالف مع عددٍ من الأمراء، فتوجه إلى الرها بعد أن طلب أهلها الأرمن مساعدته في تخليصهم من الصليبيين، وهي أقرب الممالك اللاتينية إلى الموصل، فحاصرها سنة 1111م.  ولكنه إضطر إلى التخلي عن حصارها ليتولى قيادة جبهة أخرى في مواجهة الصليبيين.  فكان هذا أول تحالف اسلامي جدي ضد الفرنج.  ولم يكن موفقاً فقد دفع الأرمن ثمناً باهظاً، قتلاً وتنكيلاً وإبعاداً من قبل الصليبيين ، بسبب إستعانتهم بالمسلمين. 

مات مودود إغتيالاً من قبل الحشاشين، الذين كانوا إحدى القوى اللاعبة في المنطقة، ولم يكونوا أقلها أثراً، وقد إعتمدوا أسلوب الإغتيالات السياسية ونجحوا في ذلك.

ثم قاد نجم الدين إيلغازي امير ماردين تحالفاً لمواجهة الصليبيين.  وقد ساعد على إنقاذ حلب من حصار ملك انطاكيا روجر، الذي قُتل في معركة حصار حلب.

وظهر نور الدولة بلك امير قلعة خربوط، الذي إستطاع أسر قائدين من قادة الصليبيين، وهما جوسلين ملك الرها، الذي إستطاع الهروب من معتقله، وبلدوين ملك القدس، الذي وقع في الأسر بينما كان متوجهاً إلى حلب، وبقي في الأسر إلى أن مات بلك.  كما برز أقسنقر البرسقي اتابك الموصل.  وقد تولى حكم الموصل بعده عماد الدين زنكي.

في العام 1118 كانت مدينة حلب وما حولها في خطر هجوم صليبي يقوده روجر أمير الرها.  فتحرك أمير ماردين غازي بن أرتق، الذي حشد مساعدة قبائل التركمان القاطنين في منطقة ديار بكر، وجمع الجيوش وغزا منطقة أنطاكيا، ولم ينتظر أمير أنطاكيا مساعدة طرابلس والقدس فواجه جيش الأمير غازي في حزيران 1119م، فهُزم روجر وقتل وتمزق جيشه، فنجم عن ذلك خسارة عدد من المدن والحصون شرق العاصي بينها معرة النعمان، وكان من الممكن لأنطاكيا أن تسقط [21] .  لقد حقق غازي إنتصاراً تاريخياً غير المعادلات، وجعل الصليبيين أكثر حذراً، كما شجع المسلمين على الإعداد والمواجهة.  وكان بإمكان غازي أن يقطف ثمار أكبر لإنتصاره الساحق، فلم يبق في إنطاكيا للدفاع عنها سوى قلة من سكانها الفرنج ورجال الدين، ولكن إدمانه على السكر جرد جيشه من قائد يقظ وموجود.

وخلال السنوات السبع التالية تمكن امراء أراتقة مغمورين من إبقاء صليبيي شمال سوريا مشغولين بإستمرار، فحدثت معارك عديدة فيما بينهم، وكان الصليبيون يستهدفون حلب، بينما إستهدف الأراتقة مدن مختلفة أصغر حجماً بيد الصليبيين، وقد تبادلا حصار المدن أكثر من مرة دون أن يحرز أي من الطرفين شيئاً، وظل ذلك السجال حتى ظهر عماد الدين زنكي.

 

الأراتقة

وهم أتراك حكموا عدد من الإمارات في شمال الجزيرة وجنوب الأناضول في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وقد كانوا جزءاً من الموزاييك السياسي في المشرق الإسلامي حين بدأت غزوات الصليبيين للمنطقة حيث كانوا ممن تحمل أعباءها وواجهها في بداياتها.

وقد تأسست هذه السلالة الحاكمة من قبل أرتوق، الذي كان أحد قادة ملك شاه السلجوقي، ثم كان في خدمة تتش السلجوقي أمير دمشق.  فعينه والياً على القدس في العام 1086م، ولكنه توفي بعد ذلك بخمس سنين.  وفي العام 1098م إستعاد الفاطميون القدس من السلاجقة فهرب أولاد أرتوق، سقمان وإلغازي من وجه الفاطميين.  ثم إستقر الإبنان في ديار بكر وماردين وحصن كيفا فس شمال الجزيرة.  وقد أدى هذا إلى الصدام مع الدولة السلجوقية التي كانت تعاني من الضعف.  وفي هذه الأثناء كان الغزو الصليبي قد بدأ، فإستمد الأراتقة شرعيتهم من خلال مقاومتهم للفرنج.  فهزمهم سقمان أمير ماردين في حران سنة 1104 وحررها، وحققوا نصراً آخر تم أسر قمص الرها،  فأطلقوا سراحه مقابل خمسة وثلاثين ألف دينار وإطلاق مائة وستين من أسرى المسلمين [22] ، وقد خلف إلغازي أخاه على ماردين ولكنه تمكن من مد سيطرته إلى حلب بدعوة من القاضي إبن الخشاب في العام 1118 م.  وفي العام التالي أوقع هزيمة بأمير أنطاكية.  وفي العام 1122 توفي إلغازي وخلفه إبن أخيه بلك.  وبوفاة بلك إنقسمت دولة الأراتقة إلى ثلاثة أقسام ماردين وديار بكر وحصن كيفا، أما حلب فقد إستولت عليها دولة عماد الدين زنكي. 

وبهذا دخلت دولة الأراتقة مرحلة الشرذمة والضعف، التي يصبح فيها الأمراء مستعدين لبذل أي شيء للحفاظ على عروشهم.  فتحالف أرسلان، حفيد سقمان، وأمير حصن كيفا، مع جوسلين أمير الرها ضد عماد الدين زنكي.  ولكن عماد الدين تمكن من الإستيلاء على الرها، وأصبح حصن كيفا تابعاً له.  ولكن الأراتقة تعاونوا مع صلاح الدين من أجل السيطرة على الموصل.  وبقيت إمارات صغيرة تحت حكم الأراتقة في شمال الجزيرة تحت حكم الأيوبيين لزمنٍ طويل.

لقد تولى الأراتقة دوراً نشطاً في مقارعة الصليبيين في وقت كان السلاجقة قد دخلوا في مرحلة ضعف شديد، وقبل ظهور الزنكيين، وحققوا إنتصارات في وقت كانت الأمة متعطشة إليها.   

 

الزنكيين

تولى عمادالدينزنكي (1127 – 1146) إمارة الموصل بعد أقسنقر البرسقي. وهو إبن  آق سنقر بن عبد الله آل ترغان، وينتمي إلى قبائل الساب يو التركمانية.  وكان أبو عماد أحد رجالات الدولة السلجوقية، وقتل في إحدى معاركها، بينما كان عماد الدين إبن عشر سنين فنشأ في كنف السلاجقة وخدمتهم.  وقد تولى عدة مناصب، كما شارك في معارك عديدة، من بينها معارك ضد الصليبيين تحت قيادة مودود [23] ، أتابك الموصل. وكانت إمارة الموصل تتبع بغداد، بخلافتها العباسية الضعيفة، وسلطنتها السلجوقية المتآكلة، وبالتالي فإن التبعية لهما كانت نسبية وإسمية.  وقد كان عماد الدين طموحاً بحيث تجاوزت طموحاته حدود إمارته.  فقام بالتوسع شمالاً وغرباً، فضم جزيرة إبن عمر، ونصيبين والخابور وحران.  وقد إستخدم في ذلك جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك القوة العسكرية.  وكانت عينيه على الأقاليم التي إنتزعها الفرنج وأسسوا فيها ممالك لهم.  وقد تعلم من تجارب سابقيه أن إمارة صغيرة لا تستطيع مواجهة الصليبيين، فلا بد من توحد أو توحيد كيانات عديدة لتتمكن من تحرير المدن والقرى والقلاع التي إحتلها الصليبيون.  فقام ببسط سلطانه على حلب وحمص وحماة [24] .  وقد حاول ضم دمشق أيضاً ولكن أميرها معين الدين أنر تحالف مع مملكة القدس الصليبية،  مما منع ضمها.

و لعماد الدين يعود فضل إفشال الخطة البيزنطية الصليبية في الإستيلاء على حلب.  فقد زحف حنا كومنينوس، إمبراطور بيزنطة سنة 1137 م (532 هـ) على أنطاكية من أجل إرغام ريمون دي بواتيه على تسليم أنطاكية لبيزنطة، وبالمقابل يعمل الطرفان معاً على إقامة مملكة صليبية جديدة في حلب وحمص بعد الإستيلاء عليها من المسلمين.  ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق ذلك، بسبب مقاومة عماد الدين، وبسبب خلافات البيزنطيين والصليبيين.  فما كان من حنا إلا أن هاجم أنطاكيا وإنتزعها من الصليبيين، فثارت عليه جماهيرهم المقيمين في المدينة، مما جعله يهرب بجيشه بإتجاه عاصمته، دون أن ينسى حلم إستعادة أنطاكيا، حيث عاد ليكرر المحاولة، بجيش اكبر، بعد خمس سنين.    

إستطاع عماد الدين تحرير مملكة الرها سنة 1144م (539هـ)، وكانت أكبر إنجازاته. وساعد على فتحها الجفوة التي حصلت بين أميرها وأمير إنطاكيا.  وقد أصبح هذا الطابع الطاغي على علاقات الأمراء الصليبيين فيما بينهم، فبعد أن كانت الفرقة الطابع المسيطر على علاقات الأمراء المسلمين ببعضهم، أصبحت الطابع المسيطر على أمراء الجيل الثاني من حكام الممالك الصليبيين، فبعد وفاة فولك الخامس ملك القدس، تولت زوجته مليزاند الحكم كوصية على إبنها بلدوين الثالث، ففقد الصليبيون بموته القائد الموحد، فغدا الأمراء يحرضون عماد الدين على بعضهم.  ومن الأمثلة على ذلك إستعانة زوجة بوهيمند امير أنطاكية بعماد الدين على أبيها بلدوين الثاني بعد وفاة زوجها، كي ترث الإمارة [25] .

قُتل عماد الدين، إغتيالاً على يد بعض مماليكه،  سنة 541 هـ (1146م) [26] ،  بعد أن أصبح يقود جبهة المواجهة الوحيدة مع الصليبيين، وإستطاع إجهاض خططهم في التوسع تكراراً، كما جردهم من واحدة من ممالكهم الأربعة.  وقد كان يلقى دعم السلاجقة وولاتهم في حروبه، ولكن عندما عزم السلطان السلجوقي مسعود ضرب زنكي، لخلاف دب بينهما، عارض ذلك قادة السلطان ومساعديه حفاظاً على إمارة الموصل وأميرها اللذان كانا يشكلان رأس حربة في وجه الصليبيين. 

لقد كان تحرير الرها حدثاً مهماً جداً، إستقبله المسلمون والأرمن والمسيحيون الأرثودوكس بفرح كبير، حيث كان بعضهم قد أُبعد من قبل الصليبيين عن المدينة فأعادهم عماد الدين وأعاد إليهم ممتلكاته، كما عامل الصليبيين أيضاً معاملة طيبة.

 

نور الدين محمود (541-569) (1146-1174)

بعد وفاة عماد الدين، تم تقسيم دولته، التي حصلت على درجة عالية من الإستقلال عن الدولة العباسية والدولة السلجوقية، بين ولديه نور الدين محمود وسيف الدين غازي، فتولى غازي، الأكبر، الموصل، وتولى محمود حلب.  وبينما إنصب إهتمام غازي على حماية دولته من جيرانه المسلمين.  تركز جهد نور الدين محمود على مقارعة الصليبيين.  وجاء دوره مع تعاظم النقمة على الخطر الأجنبي لدى جماهير الشعوب في المشرق الإسلامي، فبرز كقائد فذ يحظى بإحترام الجميع [27] .

وقد خاض نور الدين حروباً كثيرة ضد الصليبيين، من بينها حرباً أنقذ فيها حوران من الوقوع بأيدي الصليبيين بالتعاون مع خصمه وخصم أبيه أنر، الذي كان متحالفاً مع الصليبيين، فأصبح بعد ذلك حليفاً مخلصاً لنور الدين.  كما أفشل نور الدين محاولة قام بها جوسلين الثاني أمير الرها لإسترداد الرها سنة 1150م، فوقع في الأسر، حيث بقى معتقلاً في حلب لمدة تسع سنوات.  ثم أنتزع  حصون أخرى مما تبقى من إمارة الرها، التي كانت تديرها بياترس زوجة جوسلين. 

 

الحملة الصليبيةالثانية : (1145–1149)

بعد إستعادة المسلمين، بقيادة عماد الدين زنكي، للرها عام 1144م، نودي لحملة صليبية جديدة من قبل البابا، فنشط لذلك رجال الكنيسة، مثل القديس برنارد، في كافة أرجاء أوربا لحث الناس على النهوض ومجابهة القوة الإسلامية المتعاظمة في الشرق، والقضاء على الوجود الإسلامي في إسبانيا.  فإستجاب الملك لويس السابع، ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا والملكة إليانور، ملكة أكيتانيا، وفرسان آخرين. 

زحفوا بجيوشهم عبر آسيا الصغرى، ولم يتجهوا إلى الرها، بل ذهبوا إلى القدس مباشرةً في العام 1147 م. 

وكانت حملة أخرى قد جرى تنظيمها، بعد الحملة الأولى لغايات تدعيمها سميت حملة عام 1101.  وقد تشكلت من الذين أقسموا على المشاركة في الحملة الأولى ولم ينضموا إليها.  وقد تكونت من الفلاحين اللومبارد غير المدربين، الذين قاموا، بدورهم بأعمال النهب والسلب في أراضي الدولة البيزنطية، بما في ذلك القسطنطينية نفسها.  فتم نقلهم إلى شرق البسفور حيث إنضم إليهم عدة أمراء مع فرسانهم، كما ضم إليهم الإمبراطور جيشاً بيزنطياً وعين عليهم قائداً.  فتوغلوا في الأناضول حتى إلتقوا بالسلطان قلج أرسلان، سلطان سلاجقة الروم، الذي تعلم من درس الحملة الأولى، فتحالف مع قوى إسلامية أخرى في المنطقة، فجابهوا الحملة الجديدة وهزموها.  ثم سرعان ما لحق بهذه الحملة وليم الثاني وإلتقى مع جيش قلج أرسلان في هرقليا، حيث أُبيد معظم جيشه.  كما لحق جيشٌ ثالث بالحملة بقيادة وليم التاسع دوق أكيتانيا وولف الأول دوق بافاريا وإيدا النمساوية والدة ليوبولد الثالث.  إنقسم الجيش إلى مجموعتين، واحدة إتجهت بحراً إلى فلسطين، والثانية إتجهت إلى هرقلية حيث إنهزمت، بدورها، أمام قلج أرسلان.  نجا الدوقات بصعوبة بالغة من أرض المعركة ما عدا إيدا التي فُقدت (!)، ويعتقد أنها كانت من سبايا عماد الدين زنكي، حيث يعتقد أنها أنجبت له نور الدين، ألد أعداء الصليبيين.  لقد فشلت هذه الحملة بسبب فقدان الثقة بين الصليبيين والبيزنطيين، مما نجم عنه تجزئة الحملة، الأمر الذي أعطى الفرصة لقلج أرسلان أن يعوض خسائره مع الحملة الأولى.

وقد اثارت الحملة الصليبية الثانية مخاوف الإمبراطور البيزنطي عمناويل الأول، الذي بادر إلى مصالحة الأمير مسعود، سلطان قونية، سلطان سلاجقة الروم.  ويعتقد بعض المؤرخين أنه حرض مسعود على قتالهم في الوقت الذي كان يستعد لإستقبالهم [28] .

وقد رفض قادة الحملة فكرة مهاجمة حلب، عاصمة نور الدين.  فإتجهوا إلى القدس، حيث قرروا مهاجمة دمشق، الدولة الإسلامية الوحيدة المتحالفة مع الفرنج.  فإنحرفت الحملة، بالتالي، عن هدفها المرسوم وهو إستعادة الرها. 

زحفت الجيوش الفرنسية والألمانية والمقدسية وإحتلت القرى المحيطة بدمشق، وحاصرتها في عام 543ه (1148 م).  فقاوم أهلها الحصار وإستنجد أميرها بنور الدين وسيف الدين وغيرهما من أمراء المسلمين. 

إنسحبت الجيوش الصليبية دون تحقيق مرادها، وقبل أن تصل جيوش سيف الدين ونور الدين. ويعزى ذلك إلى أسباب عديدة من ضمنها جهود أنر الموصوف بالدهاء، حيث قدم رشوة لبعض قادة الصليبيين، كما قام بتخويفهم من سيف الدين , الذي إن سيطر على دمشق سيشكل خطراً كبيراً على الممالك اللاتينية.  كما قام بجهد تفاوضي مع الصليبيين تنازل بموجبه عن قلعة بانياس. 

وما لبث العاهلين الألماني والفرنسي أن غادرا إلى بلديهما. 

 

حكام مملكة القدس اللاتينية ومعاصريهم

الأيوبيين

الزنكيين/حلب

الفاطميين

ألمانيا

إنجلترة

فرنسا

العباسيين

الفاتيكان

القدس

ميلادي

هجري

 

 

المستعلي بالله

هنري 4

وليم 2

فيليب 1

القادر

اوربان2باسكال2

جودفري

1099

492

 

 

الآمر بالله

 

هنري 1

 

 

 

بلدوين 1

1100

493

 

 

 

هنري 5

 

 

 

 

 

1105

498

 

 

 

 

 

لويس 6

 

 

 

1110

503

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1115

508

 

 

 

 

 

 

 

جلاسيوس 2كلكتكس

بلدوين 2

1120

513

 

عماد الدين

 

لوثر 2

 

 

 

هنريوس 2

 

1125

519

 

 

الحافظ

 

 

 

القائم

انوسنت 2

فولك

1130

524

 

 

 

 

ستفن

لويس 7

 

 

 

1135

529

 

 

 

كونراد 3

 

 

 

 

 

1140

534

 

نور الدين

 

 

 

 

 

كلستين 2يوجنيوس3

بلدوين 3

1145

539

 

 

الظافر

فريدريك 1

 

 

 

انسطسيوس 4

 

1150

544

 

 

الفائز

 

هنري 2

 

 

ادريان 4

 

1155

550

 

 

العاضد

 

 

 

 

اسكندر 3

 

1160

555

 

 

 

 

 

 

 

 

اموري 1

1165

560

صلاح الدين

 

 

 

 

 

 

 

 

1170

565

 

الصالح

 

 

 

 

المقتدي

 

بلدوين 4

1175

570

 

عماد الدين 2

 

 

 

فيليب اوغسطس

 

لوكيوس 3

 

1180

575

 

 

 

 

 

 

 

اربان3جرجوري8

بلدوين5-جاي

1185

580

 

 

 

هنري 6

رتشارد 1

 

 

كلمنت3كلستين3

كونراد-هنري

1190

586

العزيز

 

 

فيليب 2

 

 

المستظهر

 

أموري 2

1195

591

العادل

 

 

اوتو 4

جون

 

 

انوسنت 3

 

1200

596

 

 

 

 

 

 

 

 

أموري 3

1205

601

 

 

 

فريدرك 2

 

 

 

 

جون برين

1210

606

 

 

 

 

هنري 3

 

 

 

 

1215

611

الكامل

 

 

 

 

لويس 8

المسترشد

 

 

1220

617

 

 

 

 

 

لويس 9

 

هنريوس 3

يولاند برين

1225

622

 

 

 

 

 

 

 

جريجوري 9

فريدريك 2

1230

627

 

 

 

كونراد 4

 

 

الراشد/المقتفي

 

 

1235

632

الصالح

 

 

 

 

 

 

كلستين 4

 

1240

637

 

 

 

وليم

 

 

 

انوسنت 4

 

1245

642

تورانشاه

 

 

 

 

 

 

 

 

1250

648

 

 

 

 

 

 

 

اسكندر 4

 

1255

653

 

 

 

 

 

 

المستنجد

 

 

1260

658

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1265

663

 

 

 

 

ادورد 1

فيليب 3

المستضيء

 

هيو لوزينيان

1270

668

 

 

 

رودولف 1

 

 

 

 

 

1275

673

 

 

 

 

 

 

الناصر

 

 

1280

678

 

 

 

 

 

فيليب 4

 

 

 

1285

684

 

وقد عزا الأوربيون هزيمتهم، وفشل الحملة ككل، إلى خيانة الإمبراطور البيزنطي.  الذي، لا شك، تواطئ مع المسلمين، فقد كان له مخاوفه وأسبابه، إن  ثقافة الأعذار الأوربية وإلقاء اللوم على الآخرين يجب أن لا تؤخذ بجدية دائماً.  لقد كان للإمبراطور البيزنطي ما يكفي من الأسباب ليحقد على الصليبيين، فقد نُهبت بلاده من قبل كل جيش صليبي مر بها (بإستثناء  جيش وليم الثاني)، وهذا له دلالاته التي تشير إلى القطيعة التامة بين الإقليمين والمذهبين والثقافتين، وقد تعززت هذه القطيعة من خلال معاملة الصليبيين لمسيحيي الشرق الأرثودوكس، حيث فُرضت عليهم ضرائب عالية، كما عملوا على كثلكتهم.  كما قام ملك صقلية روجر النورمندي بمهاجمة الدولة البيزنطية مع بدء الحملة

الصليبية، هذا بالإضافة إلى طرد البطريرك الأورثودكسي وتنصيب بطريرك لاتيني مكانه في كلٍ من القدس وأنطاكيا.

 

سيبيلا ملكة القدس

هي أكبر بنات أمارلك الأول، ملك القدس، كانت سيبيلا ملكة القدس وكانت كونتيسة يافا لزواجها من وليم السيف الطويل William Longsword ، كونت يافا وعسقلان، فأصبحت الأميرة كونتيسة يافا وعسقلان.  وخلال أقل من سنة توفي وليم تاركاً أرملته حامل. 

فطمع كثيرون في الزواج منها لتحقيق طموحات سياسية، خاصةً ,ان أخيها بولدوين الخامس، الذي أصبح ملك القدس، لم يعقب وكان مريضاً بالجذام.  فجرت محاولات فاشلة للزواج منها، وكان يشاع أنها ترتبط بعلاقة غرامية ببولدوين العبليني، الذي وقع في أسر صلاح الدين، وتوسطت لديه ليطلق سراحه. أطلق صلاح الدين بولدوين العبليني (نسبة إلى عبلين في فلسطين) على أن يدفع الفدية بعد أن يتدبرها، فسافر إلى القسطنطينية وقابل الإمبراطور عمناويل، الذي أعطاه الثمانين ألف دينار المطلوبة.  وقد كانت رغبة الإمبراطور أن يتزوج العبليني من سيبيلا، ولكنها تزوجت جاي لوسينيان، القادم حديثاً من فرنسا، قبل عودة بلدوين العبليني من القسطنطينية.

تولى جاي الوصاية وتمتع بصلاحيات واسعة في عهد بلدوين الرابع المريض، ولكن تم الحد من هذه الصلاحيات بسبب تصرفاته الرعناء، بإلغاء الوصاية، كما حاول تطليق أخته منه.  وتم تتويج إبن سيبيلا، من زواجها الأول، ليحكم بجانب خاله بإسم بلدوين الخامس، وذلك في العام 1184، أي قبل حطين بثلاث سنوات. وفي العام التالي مات بلدوين الرابع، فأصبح إبن سيبيلا ملكاً تحت وصاية رايموند أمير طرابلس بإسم بلدوين الخامس.  ولكنه مات في العام 1186م.  فقامت سيبيلا بتتويج زوجها جاي ملكاً، حيث سلمها البطريرك تاجين وطلب منها أن تختار شريكاً، فتوجهت إلى زوجها وقالت له " لا أجد من هو أجدر بهذا التاج منك " [29] .

وقد كان جاي متعجرفاً، فقام بعدة أعمال إستفزازية ضد المسلمين أدت إلى إشتعال الحرب من جديد، وهزيمة حطين في الصيف التالي، 1187م، وإستعادة القدس ومعظم المدن من قبل المسلمين في نفس السنة.  وقع جاي في الأسر وأطلق سراحه بعد دفع فديه، ولكنه منع من دخول صور الصليبية، فتوجه مع ما تبقى من جيشه وحاصر عكا، الحصار الذي دام سنتين.

أما سيبيلا فقد كانت ضمن حشود الصليبيين الذين شوهدوا يغادرون القدس، دون أن يحاول أحد إعتراض طريقها، حيث أرسلها صلاح الدين لتنضم إلى زوجها الذي كان معتقلاً في قلعة نابلس، حيث بقيت برفقته إلى أن أُطلق سراحه.  ماتت سيبيلا أثناء حصار عكا الذي بادر به زوجها سنة 1190م،  ففقد جاي حقوقه في الملك بعد أن فقد مملكته ذاتها.  ولكن لقب ملك القدس ظل يحمله بعض نبلاء أوربا لأكثر من خمسمائة عام.  

وكان هناك إمرأة صليبية أخرى تحمل نفس الإسم وهي زوجة بوهيمند الثالث، سيبيلا دي بورزي، وتسميها المصادر العربية دام سيبل. وكانت جاسوسة لصلاح الدين "تهاديه وتناصحه وتطلعه على أسرارهم، والسلطان يكرمها لذلك.." [30] .

 

إنجازات نورالدين  

في العام 546هـ (1151 م) تمكن نور الدين من ضم دمشق صلحاً.  وكان منذ زمنٍ بعيد يعتقد أن ضمها ضرورة إستراتيجية لمواجهة الفرنج، والدفاع عن حوران، ونجدة عسقلان، اللتان كانتا تهاجمان من قبل الجيوش الصليبية بإستمرار.  ثم إتخذها عاصمةً له.  كما تمكن من ضم ما تبقى من مملكة الرها غرب الفرات، وسيطر على أجزاء كبيرة من مملكة أنطاكية، وقد وقع أميرها رينالد في الأسر في إحدى المعارك.

في العام 1149 حشد ريموند أمير أنطاكيا جيشاً في مواجهة الزنكيين، ولكنه هزم في معركة فونزموراتوس، فسقطت على أثر ذلك حارم وأفامية بيد نور الدين.  كما إستعاد نور الدين بانياس بعد ذلك [31] .

حاول بلدوين الثالث ملك القدس مساعدة جوسلين، الذي كان في أسر نور الدين، ولكنه بادر إلى طلب مساعدة الإمبراطور البيزنطي عمناويل الأول، الذي كان يأمل بهزيمة الصليبيين والمسلمين على حدٍ سواء.  وما لبث عمناويل أن طلب من بياترس بيع ما تبفى من إمارة الرها.  فغضب لذلك بلدوين.  ولكنه لم يجد بد من إقناع الأميرة من بيع ممتلكاتها لبيزنطة للتخلص من عبء حمايتها [32] .  ولكن سرعان ما تقاسم هذه الممتلكات كل من الزنكيين وسلاجقة الروم والأراتقة، الذين تحالفوا وخاضوا حرب لهذه الغاية.  وأمام هذه التطورات قدم الصليبيون تنازل آخر للإمبراطور وهو تسليم قلعة أنطاكيا، الذي قدم إليها على رأس جيش.  وجاءه بلدوين الثالث وطلب منه التحالف ضد المسلمين، وعلى الرغم من ترحيب عمناويل به إلا أنه تحالف مع نور الدين بدلاً منه، وذلك سنة 1159 م.

وقع نور الدين في المرض وحُمل إلى قلعة حلب، وقد كان مرضه شديداً لدرجة أنه أوصى.  فإغتنم بلدوين الفرصة وهاجم حصن شيزر، وكان يأمل أن يساعده الإسماعيليون، ولكنهم هاجموه.  وكان الحصن غير خاضع للزنكيين في ذلك الوقت.  وسرعان ما شفي نورالدين وقام بضم الحصن قبل أن يستولي عليه الصليبيون. 

وعندما توفي بلدوين إقترح مساعدي نور الدين عليه مهاجمة القدس بدلاً من عسقلان التي كانوا يعدون لمهاجمتها، ولكن نور الدين رفض الفكرة، وأرسل وفداً للعزاء.

تمكن أمالريك الأول، ملك القدس الذي خلف بلدوين، من الإستيلاء على عسقلان من الفاطميين.  فأطلق ضم دمشق من قبل نور الدين والسيطرة على عسقلان من قبل أمالريك، السباق بينهما من أجل السيطرة على مصر الفاطمية.

من أجل ذلك أرسل نور الدين أحد قادته على رأس جيشٍ للإستيلاء على مصر، وكان إسمه أسد الدين شيركوه، وهو عم صلاح الدين الأيوبي.

 

الأيوبيين

ولد صلاح الدين بن نجم الدين أيوب في قلعة تكريت سنة 532 هـ [33] . وهي قلعة حصينة تقع إلى الشمال من سامراء، على الضفة الغربية لدجلة.  وفي نفس السنة التي وُلد فيها، إضطر أبوه وعمه إلى مغادرة تكريت، بعد أن قتل شخصاً فيها.  وقد غادرتها الأسرة إلى بعلبك، حيث كانت تحت سيطرة الزنكيين.  وتعود العائلة إلى أصول كردية.

وضعت العائلة نفسها في خدمة الزنكيين، الذين كانوا يتولون مقارعة الفرنجة في بلاد الشام، فأصبح أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين أحد قادة جيوش نور الدين محمود وموضع ثقته. وفي العام 588 هـ وجه نور الدين محمود أسد الدين شيركوه إلى مصر على رأس جيشٍ للسيطرة عليها.  وكان الخلفاء الفاطميون يتحكم بهم وزراءهم.  وكان الوزير شاور قد طلب مساعدة نور الدين، لأن ضرغام، الوزير الآخر،  إغتصب الوزارة منه.  وكان من المعروف أن ملك القدس يخطط للإستيلاء على مصر، التي لم تكن قادرة على الدفاع عن نفسها.

وعندما تقدم الجيش بقيادة شيركوه إلى مصر، هددت الأطراف المتصارعة بطلب مساعدة الصليبيين.  فرجع على أن لا يتدخلوا.  ولكن الصليبيين تدخلوا بناءاً على طلب شاور، فزحف شيركوه لمحاربة شاور والصليبيين، فإنتصر عليهم، ثم إتفق الأطراف الثلاثة على إنسحاب كلا الجيشين من الأراضي المصرية.  وقد دفع الفاطميون للصليبيين مبلغ مليون دينار، كما كانت قوة من فرسان الفرنج تقف على أحد أبواب القاهرة.

ولكن الصليبيين نكثوا الإتفاق سنة 564هـ (1169 م) وغزوا مصر بجيش كبير، فطلب الوزير والخليفة مساعدة نور الدين [1] .  الذي أغاثهم بجيش شيركوه.  حيث تمكن من طرد الصليبيين، ويصبح وزير الخليفة الفاطمي العاضد. 

ويبدو هذا أمراً غايةً في التعقيد، فشيركوه أحد قادة نور الدين، الذي يعتبر أحد ولاة العباسيين، وهو بنفس الوقت وزير الخليفة الفاطمي.  يبدو أمراً مستغرباً ما لم نعي أن التبعيات إسمية وأن الوزير أقوى من الخليفة. 

ثم ما لبث شيركوه أن مات بعد توليه الوزارة بشهرين، فتولاها صلاح الدين.

 

صلاح الدين بن أيوب (564–589) (1171–1193)

عندما إستقرت الأمور لصلاح الدين في مصر، أخذ يتجه إلى مجاهدة الصليبيين ونشر مذهب أهل السنة في مصر.  وهذان الأمران أزعجا الصليبيين والفاطميين.

فبدأ بمهاجمة الكرك والشوبك، اللتان كانتا على طريق القوافل، التي يسير عليها التجار والحجيج.

وأثناء حصار الكرك، هاجم الصليبيون دمياط.  ولكن صلاح الدين إستطاع ردهم من خلال مقاومة المدينة التي دعمها بالسلاح والرجال والمؤونة، ومن خلال هجمات نظمها على الجيش المحاصر.

وفي العام 567هـ أعاد صلاح الدين مصر إلى الخلافة العباسية بعزل الخليفة العاضد. 

وظهر الخلاف بين صلاح الدين ونور الدين، الذي سرعان ما توفي في العام 569 هـ، وكان ينوي محاربة صلاح الدين.

توفي نور الدين، وبوفاته تضائل دور الزنكيين، وتقسمت دولتهم، ولكنها لم تنتهي، فقد تقسمت إلى أتابكيات (ولايات) الموصل وحلب ودمشق وسنجار والجزيرة.  عمر آخرها في الجزيرة لغاية عام 1250 م.

وبإنهاء الخلافة الفاطمية والقطيعة مع نور الدين، يكون صلاح الدين قد أسس السلالة الحاكمة الأيوبية، التي لعبت دوراً مهماً في الوقوف في وجه الصليبيين في هذه المرحلة الهامة من تاريخ المنطقة.  وقد إمتد حكم الأيوبيين ليشمل مصر والشام والموصل والجزيرة والحجاز واليمن وليبيا.  وبقي الأيوبيون يتبعون إسمياً لخلفاء بني العباس، الذين أظهروا قوة وإستعادوا نفوذهم في مناطق واسعة.  وقد كان الخليفة الناصر معاصراً لصلاح الدين، الذي إتخذ " الناصر " لقباً أيضاً، وكان بينهما تنسيق ومراسلات، وكان الخليفة يمده بالمتطوعين والسلاح والنفط وغير ذلك. 

لم يعرف عن صلاح الدين حب السلطة، بل أغلب الظن أنه كان زاهداً بها.  وعلى عكس من ذلك فقد إتصف بصفات جعلته محترماً من قبل أعداءه ومحبوباً من قبل رعيته.  فلم يكن محباً لسفك الدماء، وكان رحيماً متسامحاً كريماً، خلق نموذجاً للقيادة سعى كثيرون للإحتذاء به عبر التاريخ.

وفي سنة 568 هـ توجه صلاح الدين، إلى الكرك والشوبك، واللتان كانتا تحت سيطرة الصليبيين، فجرت بينه وبينهم إشتباكات محدودة، ولم يحرز شيئاً كثيراً.  وكان يهدف من هذه الحملة القضاء على الوجود الصليبي في هذه المنطقة للبقاء على وحدة البلاد المصرية والشامية، حيث يمر الطريق السلطاني الذي يربط الشام بالحجاز، كما يعتبر طريقاً بديلاً للطريق الساحلي الذي يربط الشام بمصر والواقع تحت سيطرة الصليبيين. 

وفي سنة 570هـ هاجم النورمان الإسكندرية بإسطول بحري إنطلق من صقلية [34] ، ولكنهم غادروها عند سماعهم بقدوم جيش صلاح الدين تاركين وراءهم أسلحة ومعدات. كما هاجم الصليبيون بمساعدة أسطول بيزنطي دمياط، ولكنهم هُزموا من قبل جيش صلاح الدين.

 وفي سنة 1174 م  توجه صلاح الدين بجيشٍ كبير إلى الشام، حيث إعتزم ضمها.  وكان حكمها قد آل إلى الملك الصالح إبن نور الدين، وكان صبياً (كما آل حكم مملكة القدس اللاتينية إلى صبي في العام السابق، 1173 م).  فكتب كتباً لرجالات الشام يدعوهم إلى وحدة الصف من اجل مواجهة العدو المشترك.  فدخل دمشق دون قتال، ثم سار إلى حمص وأخذها وترك حامية تحاصر قلعتها.  وسار إلى حماة وسيطر عليها، ولكن إمتنعت حلب عليه. 

وفي هذا الوقت بالذات نشط الحشاشون، الذين تحالفوا مع أمارلك، ملك القدس، ومع خلفه.  كما طلب الحلبيون مساعدة الصليبيين ضد صلاح الدين.  ولم يكن الحشاشون بحاجة إلى تحريض، فلم يغفروا لصلاح الدين إلغاء الخلافة الفاطمية.  فحاولوا إغتياله، وكان هذا أسلوبهم، ولكنهم فشلوا.  كما حاول أمير طرابلس مهاجمة حمص، فعاد صلاح الدين عن حصار حلب، فرحل الصليبيون عن حمص فدخلها. 

إستمر صلاح الدين في توحيد الأقاليم المحيطة بالممالك الصليبية، فضم بعلبك صلحاً، وواجه تحالفاً زنكياً من الموصل وحلب وهزمه، وثم تسلم حلب صلحاً.

وفي هذه الفترة وصل رسل الخليفة المستضيء بنور الله بتقليد صلاح الدين الشام ومصر، بما في ذلك جميع المدن التي كانت بحوزة نور الدين.  وقد جاء هذا التقليد بناء على طلب صلاح الدين، حيث أرسل إلى بغداد موفداً يطلب تفويضاً بالحكم.  وفي السنوات التالية إشتبك مع امراء الزنكيين في معارك عدة، كما إلتقى مع أمراء الصليبيين في معارك كثيرة، إنهزم في إحداها سنة 1177م في منطقة الرملة في فلسطين.  وقد حاول البيزنطيون التحالف مع الصلبيين لمهاجمة مصر ولكن التحالف لم يظهر إلى الوجود.

كما عقدت بعض الهدنات بين صلاح الدين ومختلف الأمراء الصليبيين. 

وفي صيف عام 1187م تجدد القتال بين صلاح الدين وحشدت الممالك والأمارات الصليبية جيوشها.  حيث كان اللقاء في معركة حطين بالقرب من طبريا، فهزم الصليبيون هزيمةً منكرة ووقع قادتهم في الأسر.  وكان من بينهم أمير الكرك رينالد، الذي قطع طريق الحاج، وأخذ بعضهم أسرى، كما حاول غزو الحجاز وأعد لذلك أسطولاً في خليج العقبة. وكان قد نقل سفناً على ظهور الجمال من موانئ المتوسط إلى خليج العقبة.  وتقول المصادر الغربية، أن ذلك العمل الإستفزازي لم يكن سوى حركة إلتفاف يراد منها إرباك العدو، ولكن المصادر نفسها تشير أن هذه السفن قامت بدوريات وصلت إلى عدن.  كما أن محاولة جدية لغزو المدن الحجازية قد تمت بالفعل،  وسار الفرسان الصليبيون حتى كانوا على مسيرة يومٍ واحدٍ  من مكة.  ولكنهم هُزموا، حيث أُخذ الأسرى وأُعدموا في مكة جميعاً [35] .  وإذا ما أضفنا أن هذه الأعمال جميعاً كانت خرقاً لهدنة، يمكن فهم قيام صلاح الدين بقتل رينالد بنفسه، بينما عامل جاي، ملك القدس، برفق وأطلق سراحه.

فإستطاع صلاح الدين إجتياح مملكة القدس، وإلتقى مع الجيش الصليبي على هضبة مطلة على بحيرة طبريا، بالقرب من قرية إسمها حطين. فإنتصر عليهم في حر تموز بعد أن منعهم من الوصول إلى الماء، وسرعان ما تمكن من دخول القدس بعد ثمانية وثمانين سنة من الحكم الصليبي.  دخلها بعد أن تفاوض مع باليان أمير عبلين، الذي تولى الدفاع عنها بعد أن أُسر ملكها في حطين.  وقد هدد باليان بقتل جميع سكانها من المسلمين، ولم يكونوا أكثر من ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف في تقدير آخر.  وكان عدد الذين قُتلوا من سكانها عند إحتلالها تجاوز السبعين ألف.  ولم تُرتكب مذابح بحق سكان المدينة من الصليبيين، ولكن طُلب منهم أن يغادروا المدينة خلال أربعين يوماً، بينما سُمح للمسيحيين الشرقيين واليونانيين في البقاء في المدينة[36].    ويقارن جيبون بين صلاح الدين وجودفري، فيفسر ذلك على أنه تصرف شخصي من القائدين، وبالتالي فهو ليس إفراز حضارتين[37].  

قام صلاح الدين بوضع منبر في المسجد الأقصى كان قد أمر بصنعه نور الدين في حلب، حيث أودع في مسجدٍ هناك.  وقد سُمي المنبر بمنبر صلاح الدين، فسُمي بإسم الذي جعل وضعه في الأقصى ممكناً وليس بإسم الذي صنعه.  بقي منبر صلاح الدين إلى أن قام متعصب يهودي بحرق المسجد الأقصى في العام 1969م.  

لم يتبقى من القلاع والمدن الصليبية إلا شريطاً ساحلياً بين صور وعكا.  ولم يتمكن جيش صلاح الدين من الإستيلاء على صور رغم حصار دام سنتين، بينما إستطاع السيطرة على عكا.  أطلق صلاح الدين سراح ملك القدس جاي من أسره، حيث إنضم إلى زوجته سيبيلا، ولكنه لم يُعترف به كملك من قبل ما تبقى من الأمراء الصليبيين. 

 

الحملة الصليبية الثالثة

وقد إنطلقت الحملة الصليبية الثالثة بمبادرة من البابا جريجوري الثامن، كرد فعل على فقدان القدس من قبل الصليبيين، وكان خبر سقوطها بأيدي المسلمين قد أثار حزناً شديداً في أوساط شعوب أوربة.  فبدأ البابا بالإعداد للحملة خلال شهور قليلة من معركة حطين، الذي صمم على تحقيق إلتزام كامل من قبل الأمراء المسيحيين.  فبدأت الحملة الصليبية الثالثة بالتشكل، وتطوع لقيادتها عددٌ من الملوك، ولذلك سميت بحملة الملوك، مثل ريتشارد قلب الأسد، ملك إنجلترة، وفريدريك الأول، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وفيليب الثاني، ملك فرنسا.  وكانت هذه الدول تشكل أهم دول أوربا في هذا الزمان.  وقد رافق الإعداد للحملة جهد دبلوماسي كثيف لعقد هدنات بين القوى المتصارعة تقليدياً في أوربا.  مثل بيزا وجنوة والبندقية والمجر، وصقلية وبيزنطة.  كما قام فريدريك بمراسلة الإمبراطور البيزنطي، وسلطان سلاجقة الروم وحتى صلاح الدين نفسه، وقد أثبتت الجبهة الإسلامية، في هذه الفترة، أنها موحدة.

ومما يلفت النظر أن صلاح الدين إستلم كتاباً في رمضان عام 585 هـ من ولده الذي كان والياً على حلب يخبره أن ملك الألمان غادر بلاده إلى القسطنطينية على رأس جيش يقدر بمائتي ألف مقاتل، فإشتد ذلك على صلاح الدين.  ولكنه باشر بالإستعداد لمواجهة الجيش الذي سيصل خلال عدة أشهر، فأرسل يخبر الخليفة، وكان رسوله إلى بغداد ابو المحاسن مؤلف سيرة صلاح الدين.  حيث حضر إلى " الديوان السعيد " ببغداد وانهى الحال كما رسم حيث وعد أمير المؤمنين بكل جميل  [38] .  كما أرسل صلاح الدين رسائل إلى جميع الأمراء، فكان تجاوبهم فوري مما أسعد السلطان الناصر صلاح الدين.  وإستمرت أخبار الحملة تصل أولاً بأول، بصورة تدعو إلى الدهشة.  ثم وصل كتاب من مقدم الأرمن، أرمينيا الصغرى، يحتوي تقرير مفصل عن حملة فريدريك منذ خروجه من ألمانيا، وما جرى بينه وبين الهنجار وفي أراضي الإمبراطورية البيزنطية ومع سلاجقة الروم، إلى غرقه في النهر [39] .  ثم وصل كتاب من الإمبراطور البيزنطي، الذي يطمئن فيه صلاح الدين أن الألمان منهكين وخسروا الكثير من أعدادهم [40] .

ويبدو أن صلاح الدين كان يعتمد كثيراً على المعلومات، وكان لديه مصادر عديدة ومتنوعة للمعلومات، فبالإضافة لشخصيات أجنبية كانت تتبرع بتقديم معلومات، كان هناك " الجواسيس والمستأمنين ".  أما الجواسيس فهم، مثل الجواسيس في كل العصور والأمم، يقدمون معلومات بمقابل مادي.  أما المستأمنين، فقد كانوا " خلق عظيم من الفرنج أخرجهم إلينا الجوع "، فكانوا يتسللون إلى مراكب التموين الخاصة بالجيش الصليبي المحاصر لعكا وينهبونها بالتعاون مع المسلمين [41] ، وكانوا يشكلون مصدراً للمعلومات.

سلكت الجيوش الطريق البري، من خلال الأناضول.  حيث غرق فريدريك في كيليكيا، عندما كان يعبر أحد أنهارها، فعاد كثيرٌ من الأمراء الألمان.  فتبقى على رأس التحالف ملكي إنجلترة وفرنسا، المعروفتين بتنافسهما الدائم.  إتجهت جيوش أوربا إلى عكا، حيث كان جاي، ملك القدس الذي أطلق صلاح الدين سراحه مؤخراً، يحاصرها، ثم وصل الأسطول الإسكندينافي، الذي إنطلق مبحراً حول سواحل أوربا، وساعد الإسبان في طريقه ضد المسلمين في إحدى المعارك، وصل هذا الأسطول إلى شواطئ عكا، كما وصل أسطول إنكليزي وأسطول فلمنكي.  إستمر حصار عكا لمدة سنتين، وكان جيش صلاح الدين يساعد المدينة من الخارج بقطع الإمدادات البرية عن الجيش، حيث تسبب ذلك في نقص شديد في التموين، ولكن الإمدادات البحرية ووصول جيوش جديدة بإستمرار أعطى الجيوش الصليبية حصانة كبيرة من الهزيمة [42] ، فتمكنوا في نهاية المطاف من السيطرة على المدينة، ودخلتها جيوش الصليبيين بعد حصار طويل، ويذكر ابو الفضل في النوادر السلطانية أن الصليبيين قتلوا ثلاثة آلاف من أسرى المسلمين  [43] .  فغادر بعد ذلك فيليب إلى بلاده.  بادر الجيش الصليبي إلى الهجوم، حيث سلك طريق الساحل مستفيداً من التفوق في البحر [44] ، وإستولى على يافا، وإقترب من القدس بعد أن حقق إنتصاراً آخر في أرسوف، شمالي يافا، وهو الأول للصليبيين في معركة مفتوحة منذ حطين، ولكنه جوبه بجيش إسلامي قوي.  فلجأ العاهلين المنهكين إلى التفاوض.  وعلى ما يبدو أن القائدين أدركا أن جيشيهما وصلا حالة من التوازن العجيب، ففي معركة أرسوف تساوى عدد جنود المشاة والخيالة، وأعطت القوة البحرية الصليبية المتفوقة تفوقاً للصليبيين طالما كانوا يسيرون بمحاذاة الساحل، ولكن عندما أبعدوا عن الساحل بدأوا يفقدون تفوقهم فخسروا عدد من المعارك.

إتفق صلاح الدين وريتشارد على هدنة في العام 1192 م، فيما سمي بإتفاق الرملة،  حيث تبقى القدس بيد المسلمين وتفتح أمام الحجاج المسيحيين القادمين من أوربا.  غادر ريتشارد إلى أوربا، حيث ترك وراءه مملكة صليبية تمتد على طول ساحل البحر من صور إلى يافا.

لم يُستقبل ريتشارد في أوربا إستقبال الفاتحين، بل وقع في الأسر. ففي أثناء عودته، جنحت سفينتة إلى السواحل النمساوية، فقد كانت النمسا دوقية تمتد حدودها إلى سواحل الأدرياتيك.  وكان دوقها ليوبولد عدواً لدوداً لريتشارد، فإحتفظ به كرهينة.

وفي العام التالي 1193م، توفي صلاح الدين في دمشق، ودفن فيها بعد مرض إستمر عدة أيام، وقد حافظ على نفس الهدوء والتواضع والمسلك الأخلاقي حتى اللحظة الأخيرة من عمره.  فقد أشار عليه الطبيب أن يشرب الماء فاتراً، فطلب ماءاً ليشرب، فوجده حاراً، فطلب أن يبرد، فجاءه بارداً، فلم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى هذه الكلمات : سبحان الله ألا يمكن لأحد تعديل الماء.  فقال القاصي الفاضل لمؤلف سيرة صلاح الدين : أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو كان بعض الناس لضرب بالقدح رأس من أحضره [45] .

 

الحشاشين

كان الحشاشون فرقة من فرق الشيعة الإسماعيلية النزارية، التي أخذت طابعاً عسكرياً خاصاً يعتمد على الإغتيالات التي نفذوها ضد خصومهم بمهارة منقطعة النظير.  ومن أجل ذلك تبنوا تكتيكات مبتكرة في العمل السري والتنظيم والتجنيد. 

وهذا الإسم أطلقه عليهم الآخرون، لإعتقادهم أنهم إستخدموا الحشيش في عملية غسيل دماغ لمجنديهم.  وقد نُقلت رواية إلى الغرب عن الرحالة الإيطالي ماركو بولو، الذي زار قلعة الموت، التي كانت إحدى قلاعهم، بعد إستيلاء المغول عليها في القرن الثالث عشر.  وكان حسن الصباح من أبرز قادتهم في الفترة التي نشطوا فيها ضد القوى المتصارعة في المنطقة.  فقد نفذوا عمليات إغتيال ضد قادة مسلمين وصليبيين ومغول.  ويقال أن نشاطاتهم غطت مناطق واسعة من فرنسا إلى الصين.

أما هم فقد كانوا يسمون أنفسهم الدعوة الجديدة.  وكانوا يسمون المكلفين بعمليات الإغتيال بالفدائيين.  وقد أعطوا إسمهم للكلمة Assassin ، أي الشخص الذي يقوم بتنفيذ عملية الإغتيال في اللغات الأوربية وبينها الإنكليزية. 

بدأت الحركة عندما سيطر مؤسسها في بلاد الديلم حسن الصباح على ما أُشتهر بقلعة الموت، وذلك في العام 1090م.  ووجه جماعته ضد المؤسسات الحاكمة من عباسية وإمارات تابعة.  وفيما بعد شملت قائمة أهدافهم شخصيات صليبية ومغولية.  ومن بين ضحاياهم نظام الملك والوزير الفاطمي الأفضل وإبن الخشاب والبرسقي وريموند الثاني وكونراد وجاجاتي بن جنكيز خان، والقائمة طويلة فبينهم أيضاً قاضي حلب المعروف إبن الخشاب وأمير حلب البرسقي.

وقد كان امير حلب رضوان السلجوقي حليفاً للحشاشين مما سهل عليهم دخول سوريا، حيث شيدوا عدة قلاع في شمال غرب سوريا.  رسمياً لم تشكل هذه الجماعة دولة، ولكن كان تحت سيطرتهم قلاع وأقاليم مارسوا عليها دور الدولة.

وقد سقطت قلعتهم بيد المغول في طريقهم الى بغداد سنة 1257م، حيث أحرقوا مكتبتهم، وقضوا على قاعدتهم الرئيسية، كما تم القضاء على وجودهم العسكري على يدي السلطان المملوكي بيبرس في سوريا سنة 1265م.  وبين العامين، وتحديداً في العام 1260 حاولوا التحالف مع الصليبيين، حيث عرضوا التحول إلى المسيحية، ولكن العرض تم رفضه من قبل فرسان الهيكل. 

فيما بعد تخلى أتباع المذهب الإسماعيلي عن العنف، ولا يزال أتباع هذا المذهب يعيشون في شمال سوريا في عددٍ قليل من القرى بسلام بين المسلمين والمسيحيين.  كثيرٌ منهم، ربما، كانوا من أحفاد أولئك الفرسان المسلمين والمسيحيين الذين ردد صدى صيحاتهم سفوح الجبال التي بنوا فيها قلاعهم، وصنعوا على طرقاتها تاريخ.       

 

فرسان الهيكل

وهي جمعية فروسية دينية مسيحية تم تأسيسها عقب الحملة الصليبية الأولى في العام 1118 م، من قبل الفارس الفرنسي هيو دي باينز وجيوفري دي سانت أومير، لحراسة قوافل الحجاج بين يافا والقدس وللقيام بأعباء قتالية في المشرق.  وقد كانوا يشكلون العمود الفقري للجيوش الصليبية في الحروب المختلفة.  وقد وضع قانون ينظم عضوية ومرجعية الفرسان، بحيث يرأس التنظيم الفرعي في كل دولة سيد النظام في الإقليم، الذي يعود إلى السيد الأكبر، الذي يتابع النشاط العسكري في الشرق وجهد الجباية المالية في الغرب. 

وقد كان للفرسان زي وتسليح موحد.  وكانوا يعتمدون في تمويلهم على صدقات الحجاج، ولكن سرعان ما وُضع نظام جباية قوي وفعال، يعمل فيه غالبية أعضاء الجماعة، بينما قلة نسبية منهم يحملون السلاح.  وقد جاءت التسمية، بعد أن منحهم ملك القدس مبنى ليستخدموه كمقر لهم .

وقد كان لهم نفوذ سياسي قوي وحضور في أغلب المجالس والمجامع، حيث كانوا يشاركون في صنع القرارات السياسية إضافةً إلى القرارات العسكرية.

وبعد فتح القدس من قبل المسلمين، تراجع شأنهم.  ولكن وجودهم في أوربا كان قوياً، كما أصبحت الجماعة تملك أموالاً طائلة، وقلاع وسفن ومزارع.  وفي بعض الأوقات كانت جزيرة قبرص ملكاً لهم.

وفي أثناء حرب المائة عام، إضطر الملك فيليب الرابع للإقتراض منهم.  ولكنه كان بحاجة إلى كل ما في أيديهم، فقام بتوجيه إتهامات إليهم مثل الفساد والهرطقة.  فقام السلطات الفرنسية بجمع جميع أعضاء الجمعية وتعذيبهم حتى إعترفوا بكل ما أرادهم فيليب أن يعترفوا به.  ثم قام بحرقهم، والسيطرة على أموالهم وممتلكاتهم.  ثم قام بتحريض البابا كليمنت لحل الجمعية، وفعلاً حلها عام 1312 م. 

 

فرسان الإسبتارية

في بداية القرن العاشر، قبل الحروب الصليبية، قام بعض التجار الإيطاليين بالحصول على إذن من السلطات الإسلامية الحاكمة في مدينة القدس لإقامة مستشفى للحجاج الطليان، الذين كان عددهم في تزايد.  وشكل القائمين على المستشفى والكنيسة جمعية order لضمان وجود متطوعين وأموال لإدارة المستشفى والمرافق المرتبطة به.  وبعد أن وقعت القدس تحت حكم الصليبيين، تعاظم دور هذه الجمعية، وبدأ يأخذ طابع عسكري بالإضافة إلى الطابع الديني والخدمي.  وإعترف البابا في سنة 1113م في الجمعية.  وتشكلت فروع للجمعية في جميع أنحاء أوربا لجمع التبرعات والمتطوعين.  وقد تمكنت من جمع أموال طائلة. 

وشارك فرسان الهوسبتالية في معظم نشاطات الصليبيين الحربية.  وبعد سقوط القدس إنتقلت الجمعية إلى عكا بتشكيلاتها العسكرية، أما المستشفى فإنه إستمر في العمل في ظل الحكم الإسلامي، كما كان قبل الحروب الصليبية، دون حاجته إلى حراسة من نوع خاص. 

وفي العام 1291 م غادر الهوسبتالية إلى قبرص بعد سقوط عكا في أيدي المسلمين.  وإستمر الفرسان بمهاجمة السواحل الشامية والمصرية لفترةٍ طويلة. 

وإستطاع فولك أخو رئيس الجمعية السيطرة على رودس بعد إنتزاعها من المسلمين ما بين 1308 و 1310 م.  وفي رودس زاد عدد الفرسان بعد إلغاء فرسان الهيكل، فأصبحوا يسمون فرسان رودس، وإستمروا في مهاجمة سواحل البلاد الإسلامية.

وقد إنتهى وجودهم في رودس بإستسلامهم أمام قوة عثمانية في العام 1522م، بعد مقاومة بطولية.  وفي العام 1530 م منحتهم الإمبراطورية الرومانية المقدسة جزيرة مالطا. 

إنتهى وجودهم في مالطا على يدي نابليون، عندما كان في طريقه إلى مصر. 

 

فرسان التيوتونية

وهو نظام فروسية ديني مسيحي كاثوليكي ألماني.  تأسس في عكا في فلسطين قرب نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، لغاية بناء مقر للحجاج في القدس، ثم تحول إلى أغراض عسكرية.  وقد لعبوا دوراً مهماً في الجزء الأخير من الحروب الصليبية، حيث كانت الموانئ بإدارتهم.  كما شاركوا في معارك عديدة ضد المسلمين.

قام النظام على نموذج الهوسبتاليين، وقد تم الحصول على موافقة البابا إنوسنت الثالث في العام 1199م.

بعد إنتهاء الحروب الصليبية، إنتقل الفرسان إلى ترانسلفانيا في العام 1211م.  وقد كان لهم مشاركات عديدة في حروب داخل أوربا.  فقد شاركوا في غزو بروسيا بهدف تنصير منطقة البلطيق.  كما شاركوا في حروب أخرى.  وقد مني النظام بعدة ضربات قاتلة، منها ظهور المذهب البروتستنتي، وقيام نابليون بحل النظام في القرن الثامن عشر.  ولكنه تخطى هذه الضربات وصمد.  وهو الآن جمعية خيرية تعمل في دول وسط أوربا.

 

أبناء صلاح الدين

توفي صلاح الدين وقد ترك من الأبناء سبعة عشر وإبنة واحدة.  وقد تقسمت دولته، بحيث إنفرد معظمهم بإمارات تراوحت في حجمها من مصر إلى حمص.  فتولى العزيز مصر، وتولى الأفضل دمشق، والمنصور حماة والمجاهد حمص والظاهر حلب والعزيز اليمن والأشرف الجزيرة.  وقد كان الأفضل، نور الدين علي، اكبرهم ومرافق لأبيه، فلما توفي صلاح الدين في دمشق إستولى عليها الأفضل وما حولها.  وكان عماد الدين عثمان الملقب بالملك العزيز متولياً على مصر فإستولى عليها كذلك.  وكان الملك العادل، أخو صلاح الدين، متولياً على الكرك وجنوب الأردن فإنفرد بها.  وهكذا تقسمت الدولة التي سعى إلى بناءها صلاح الدين، وبذل من أجل ذلك جهداً كبيراً ودماءا ً غزيرة، في وقت لا يزال الخطر قائماً.  وكان صلاح الدين قد عهد إلى الأفضل في آخر مرضه، فلم ينفع ذلك، إذ أُعتبر باطلاً لإحتمال تأثير المرض على صلاح الدين أو أن يكون العهد مزوراً، وبينما كان يسمي نفسه الأفضل كان الناس يسمونه " النوام " [1] .

وسرعان ما نشبت الحروب بين الورثه.  وكان الملك العادل أخو صلاح الدين ووزيره ومستشاره، الذي شاركه في حروبه، وكان له دوراً خاصاً في الجهود الدبلوماسية مع الصليبيين.  وفي هذه الأثناء نشب القتال مع الجيوب الصليبية، التي حلت مشاكلها ووصلت إلى حالة من التوحد شملت جزيرة قبرص، التي كانت محكومة من قبل الصليبيين.  كما وصلت أخبار الحملة الصليبية الرابعة.  إنتهت النزاعات بين الأيوبيين إلى تمكن الملكالعادل (1193–1218) من السيطرة على مصر ودمشق.  بينما إستمر بعض أمراء الأيوبيين في الحكم المستقل لبعض الأقاليم، فإستمر تواجدهم في حماة إلى العام 1334م. 

وقد حكم الأيوبيون في القاهرة لغاية العام 1254م.  حيث حكم منهم عشرة حكام، إذا ما بدأنا بأسد الدين شيركوه.  وكان من بينهم الملك الصالحأيوب (12401249) الذي واجه لويس التاسع، وهو زوج شجرة الدر.

 

الحملة الصليبية الرابعة

مع بداية القرن الثالث عشر، كان الوضع السياسي قد إستقر في مصر والشام مع سيطرة الملكالعادل (1200 – 1218 م) على الحكم في الدولة الأيوبية، بعد إختلاف على الحكم بين أبناء صلاح الدين دام سبعة سنوات.  فأصبح من الواضح لدى صانعي القرار في أوربا أهمية مصر، التي كانت سفنها تهاجم المدن الصليبية الساحلية. ولذلك تقرر توجيه حملة صليبية جديدة موجهة ضد مصر هذه المرة.  فبادر البابا إنوسنت الثالث إبن عائلة دي سيني الإقطاعية، الذي تسلم البابوية في سن السابعة والثلاثين [46] إلى الدعوة إلى حملة جديدة في العام 1202 م.  وكان قد أطلق سياسة مفادها إعطاء الأولوية لإستعادة القدس من المسلمين، بعد إنتخابه عام 1198م.  وقد بدأ بالتفاوض مع إمبراطور بيزنطة أليكس الثالث، من أجل تقارب الكنيستين ومشاركة الجيوش البيزنطية في الحملة.  كما نجح في إقامة هدنة بين الدول المتحاربة.  ثم بدأ حملة واسعة لحشد التأييد للحملة وجمع الأموال لها.  ففرض على الكنائس والأديرة واحد من أربعين من دخلها [47] .  فأقسم الآلاف من الفرسان والكونتات والدوقات على المشاركة في الحملة.  وقام الفرنسيون بإنتخاب الكونت ثيبود دي شامبين قائداً للحملة، الذي تعاقد مع جمهورية البندقية على نقل الجيش ومعداته إلى مصر.  ولكن ثيبود مات قبل إنطلاق الحملة، فتم إنتخاب شخص آخر إسمه مارقيس، الذي قاد الجيش إلى البندقية.  حيث ماطل البنادقة إلى أن نفذ ما مع الحملة من نقود.  ثم قدم البنادقة لقادة الحملة إقتراحاً، مفاده أن تقوم الحملة بإنتزاع مدينة زارا من الهنغار وتسليمها إلى البندقية، وهي مدينة تقع على ساحل البحر الأدرياتيكي الشرقي.  وافق قادة الحملة، وفعلاً تمكن جيش الحملة من السيطرة على المدينة ونهبها في العام 1202 م.  وهي مدينة مسيحية، مما شكل إنعطافاً في الحروب الصليبية، فلم تعد موجهة ضد المسلمين فقط.  وسرعان ما دب الخلاف بين الصليبيين والبنادقة حول إقتسام الغنائم [48] .  ثم وصلت الأخبار أن الإمبراطور البيزنطي تم عزله، وأن إبنه لجأ إلى البابا طالباً المساعدة.  وقد قدم عروضاً مغرية؛ مثل حل الخلافات الكنسية ودفع مبلغ مائتي ألف مارك والمشاركة في الحملة.  الأمر الذي وجد قبولاً من قبل البابا، كما وجدت البندقية في ذلك فرصة لتعزيز أسواقها.  وكانت البندقية إلى عهد قريب من ممتلكات بيزنطة، وكانت المنافسة التجارية بينهما محتدمة. فقامت بتوجيه الحملة نحو القسطنطينية.  كما يذكر أن الإيطاليين كانوا قد تعرضوا لمذبحة شنيعة في القسطنطينية سنة 1183م.

وهكذا تحولت الحملة عن هدفها الأساسي ورسالتها الدينية [49] .  وتم إقتحام المدينة ونهبها والسيطرة عليها، حيث لم ينجو من النهب حتى الكنائس، التي بيع رخامها في الشام ومصر [50] .  ثم قام الصليبيون بإنتخاب إمبراطوراً لبيزنطة لاتينياً.  كما قاموا الصليبيون بتوزيع ممتلكات الإمبراطورية كإقطاعيات.  كما كان للبنادقة ربع القسطنطينية وجزر ومدن على البحر.  وهكذا تصرف قادة الحملة كمحتلين.  وإستمرت الإمبراطورية اللاتينية في القسطنطينة إلى العام 1261م، ولم يؤثر هذا التحول على مجرى الصراع في الشرق قطعياً.  بل كان هناك آثار سلبية على وضع الصليبيين في الشرق، فقد كانوا ينتظرون هذه الحملة معلقين عليها آمالاً كبيرة، فلما سمع أموري دي لوسينيان، ملك القدس، بما آلت إليه الحملة، لجأ إلى عقد صلحٍ مع الملك العادل، الذي كان منشغلاً، هو الآخر،  بصراعات داخلية، حيث تنازل لهم عن يافا وعن النصف الخاص بالمسلمين في صيدا واللد والرملة [51] .  كما نجم عن ذلك هجرة بعض الفرسان إلى القسطنطينية لخدمة المملكة اللاتينية فيها والحصول على مكتسبات. حافظ البيزنطيون على إمبراطوريتهم، من خلال إتخاذ قاعدة لهم خارج القسطنطينية، حيث إستمر الأباطرة الرومان بالتعاقب على قطعة صغيرة من الأرض إلى أن تمكنوا من الدخول إلى القسطنطينية بقوة صغيرة ويطردوا الصليبيين منها، الذين لم ينجحوا في كسب سكان المدينة إلى جانبهم سياسياً ودينياً.

يؤكد بعض المؤرخين أن تحويل الحملة إلى القسطنطينية تم من خلال دبلوماسية الملك العادل وما دفعه من رشوة للبنادقة. وكان من بينهم مدون سوري إسمه أرنول [52] ، الذي إعتقد أن الملك العادل إشترى من البندقية واجب توجيه الحملة الصليبية بإتجاه آخر [53] . 

 

الحملة الصليبية الخامسة

إنطلقت الحملة الصليبية الخامسة في زمن البابا إنوسنت الثالث ، وقصدت إحتلال دمياط، التي كانت ميناءاً مصرياً هاماً. 

وبين الحملة الرابعة والخامسة، تم تنظيم خمسة حملات صليبية، ليست جميعها موجهة ضد المسلمين.  فقد نُظمت حملة للقضاء على حركة دينية نشأت وإنتشرت في جنوب فرنسا سنة 1209.  وحملة أخرى ضد الموحدين في الأندلس سنة 1213.  وحملة ضد سكان بروسيا الوثنيين، وأخرى ضد جون لاكلاند في إنكلترة لإرغامه على قبول كبير أساقفة كانتربيري ستيفن لاننجتون.

أما حملة سنة 1209 فقد نُظمت ضد أتباع المذهب الكاثاري (الألبيجنسي).  وقد نشأ وإنتشر هذا المذهب في جنوب فرنسا كما إنتشر في إيطاليا ودول أخرى.  وكان أتباعه يؤمنون بمعتقدات خليطاً من المسيحية والزرادشتية.  وقد كانوا نباتيين يعارضون سفك الدماء.  وكانت طبقة رجال الدين عندهم تسمى الكاملين، الذين كانوا " يعيشون وسط الناس والعمل بينهم، وكانت حياتهم الطاهرة تتناقض مع الفساد الاخلاقي لكثير من القساوسة الكاثوليك " [54] في ذلك الوقت.  وقد رفض نبلاء جنوب فرنسا القيام بمهمة تصفيتهم، فدعا البابا إنوسنت الثالث لهذه الحملة الصليبية، التي أصبحت وكأنها موجهة ضد دوقيات جنوب فرنسا، بما في ذلك سكانها من الكاثوليك، الذين تعرضوا للأذى وقد نهبت ممتلكات بعضهم نتيجةً للحملة، فأضر ذلك بسمعة الحركة الصليبية عموماً [55] . 

وعلى الرغم من أعباء هذه الحملات المتلاحقة، لم يظهر على أوربا الإعياء.  ففي هذه  الأثناء، وفي عام 1212 بادر شخصين إلى تنظيم حملة من الصبيان في ألمانيا.  فإتسعت الحركة لتشمل أجزاء أخرى من أوربا. فتجمع الألوف من الصبيان من أجل المشاركة في الحملة. وصلت الحملة إلى برينديسي، وهي مدينة ساحلية في جنوب شرق إيطاليا، الذين صُدموا عندما لم ينشق البحر أمامهم كما وُعدوا. وفي برينديسي تم إستغلال من وصل منهم من قبل بعض أصحاب السفن فعرضوا عليهم نقلهم إلى الأراضي المقدسة، ولكنهم أخذوهم إلى حيث تم بيعهم للمسلمين. 

ولم تسبب نتائج حملة الصبيان إحباطاً من أي نوع، فقد باشر البابا التحضير لحملة جديدة في العام التالي، 1213م.  وقد تم تحديد العام 1217 لإنطلاق الحملة.  ولكن البابا توفي في العام 1216، بعد أن كان كثيرٌ من الإعداد قد تم.

توفي اموري دي لوسينيان، ملك القدس، في سنة 1205، وآل العرش إلى ماري، وكانت فتاة قاصر، فلماوصلت سن الرشد، بدأ الأمراء الصليبيين بالبحث لها عن عريس، الذي سيصبح ملك القدس، التي كانت بيد المسلمين.  فطلبوامن ملك فرنسا إختيار عريساً، فإختار جون دي برين، الذي كان في الستين من عمره.  وصل العريس وتزوج وتتوج في كاتدرائية صور.  وسرعان ما خطف الموت الملكة الشابة بعد أن أنجبت منه بنتاً. 

تجددت الهدنة مع الأيوبيين على الرغم من معارضة الفرسان، الذين كانوا يعتقدون بضعف الأيوبيين المنقسمين على أنفسهم، وأن الفرصة مؤاتية لإستعادة القدس منهم.  ولكن جون دي برين، الذي أصبح وصياً على عرش إبنته، كتب يستعجل الحملة الصليبية الموعودة.

وصلت حملة بقيادة قادة هنغار ونمساويين، فقاموا بغاراتٍ عديدةٍ في سوريا، ثم إستولوا على بيسان، التي تخلى عنها الملك العادل، الذي ركز على الدفاع عن دمياط التي كانت الهدف الثاني لهذه الحملة.

لقد أدرك قادة الرأي في أوربا أن مركز الثقل قد إنتقل إلى مصر، ولذلك كان القرار بمهاجمتها وليس الشام.  فوصلت الحملة محملة بالسفن الجنوية والبندقية إلى دمياط في أيار 1218 م.  فنزلوا إلى البر المقابل للمدينة على الضفة الغربية منها، حيث وجدوا مدينة محصنة وأبراج وسلاسل تمنع السفن من دخول النيل.  وتحرك جيشٌ بقيادة الملك الكامل إبن الملك العادل إلى دمياط ، وعسكر على الضفة الشرقية للنيل مقابل معسكر الفرنج. 

تمكن الصليبيون من السيطرة على البرج وتحطيم السلاسل، الأمر الذي ترك أثراً سيئاً على المسلمين الذين كانوا يستمدون الحس بالأمان من هذه التحصينات.  تراجع الملك الكامل، وحاول إغلاق النيل بإغراق سفن فيه، فلجأ الصليبيون إلى مجرى قديم وحفروه وحولوا مياه النيل إليه وسيروا السفن فيه.

خارطة سوريا

في هذه الأثناء مرض الملك العادل ومات.  كما رجع جزءٌ من الحملة بعد الإستيلاء على البرج إلى أوربا.  وهذا يعطي فكرة عن ما آلت إليه الروح الصليبية في القرن الثالث عشر، فقد أصبحت المشاركة شكلية، وأصبح كبار الإقطاعيين يعارضون مشاركة أتباعهم في الحملات الصليبية لأنهم يعودون أكثر قوة، مما يجعل السيطرة عليهم والتعامل معهم أصعب.  فتوقف الجيش عن التقدم بإنتظار مدد من أوربا.  وجاء المدد وجاء معه قائداً جديداً للحمله، الكاردينال بلاجيوس.

وتردد الملك الكامل طوال فترة الإنتظار في الهجوم، ولم يهاجمهم إلا بعد وصول الإمدادات إليهم، أخفق الهجوم الأيوبي، كما أخفق الصليبيون في عبور النيل وراء الجيش الأيوبي.  

وفي هذه الأثناء كانت تحاك مؤامرة ضد الملك الكامل، الذي علم بها وأخذ يداري من حوله للتعامل مع الخطر الداهم.  ولكن الملك هرب من معسكره، مما جعل بقية الجيش تهرب، حيث عبر الجيش الصليبي إلى الضفة الشرقية، وغنم أقوات وأسلحة ومعدات ساعدته في إتمام حصار دمياط، التي صمدت رغم مشقة الحصار.  ثم ظهر الملك المعظم، أخو الملك العادل، حيث إستطاع أن يقضي على المؤامرة ونظم الجيش وإتجه إلى فارسكور للدفاع عن دمياط.

وقام الملك المعظم بتقديم عرض إلى الصليبيين، مفاده أن ينسحبوا من مصر مقابل تسلمهم القدس.  فرفض الكاردينال، كما رفض الجنويون والبنادقة والبيازنة ذلك، بينما وافق جون دي بيرين.  في هذه المرحلة من الحروب الصليبية أصبحت القدس قضية ثانوية، وحل محلها تأمين الخطوط التجارية وتحقيق النصر لأمجاد العسكرية.  وفي شهر آب 1219 هاجم الصليبيون الجيش الأيوبي ولكنهم إرتدوا بعد خسائر كبيرة.  ثم قدم لهم الأيوبيون عرضاً آخر، وفي هذه المرة زادوا عدد المدن لتشمل عسقلان واللاذيقية وجبلة وطبريا.  ولكن الكاردينال رفض تكراراً وأصر على دخول القاهرة.  حاول الملك المعظم نجدة دمياط بوحدة من الجيش ولكنها وقعت في الأسر وأُعدمت بالكامل.  وسرعان ما سقطت دمياط بعد حصار مضني، فإرتكب الصليبيون المذابح بأهلها ونهبوها.

وفي هذه الأثناء كان الخطر المغولي يقترب من المنطقة.  وأخذ أمراء الشام يستعدون لتسليم مدنهم وقلاعهم المتفاوض عليها للصليبيين، بهدم أبراجها، فقام الأمراء الأيوبيون بهدم أسوار القدس حتى لا تكون حصينة عندما يمتلكها الصبيبيون، وفي هذا مفارقة غبية جداً، فهم لا أمل لهم في الدفاع عنها ولكن لديهم الأمل في إستعادتها بعد أن تسقط .  فكان لهذا أثراً مؤلماً على السكان، فسارعوا إلى الرحيل عن هذه المدن.  وقد عمدت نساء القدس إلى قص شعورهن في المسجد الأقصى، وهذا تقليد لإثارة حماسة الرجال في الدفاع عن أعراضهم.  وكان لهذا أثره في إستعادة المعنويات.  فتغيرت الروح العامة في المنطقة.

وكان الكاردينال قد قنع مؤقتاً في دمياط حيث أخذ يوزعها على أعوانه، بينما عاد جون دي بيرين إلى الشام، وكان الكاردينال ينتظر مدداً من أوربا.  وهذا ما جعله يرفض عرض الملك الأيوبي للمرة الثالثة.  وفعلاً وصلت حملة بقيادة لويس دوق بافاريا، وعاد جون دي بيرين إلى دمياط.  ورفض الكاردينال عرضاً رابعاً من الملك الأيوبي.  تكامل جيشٌ صليبيٌ كبير في دمياط، حيث بدأوا الهجوم الكبير بإتجاه القاهرة، في منطقة تكثر فيها الأجسام المائية، من بحيرات وقنوات وأنهار.  وكان وقت فيضان النيل.  وكان يشارك في المجهود العسكري أعداد كبيرة من الأهالي، الذين هبوا للدفاع عن بلادهم، فقاموا بحفر أحدى ضفتي النهر مما تسبب في غرق أراضي واسعة حول الجيش الصليبي، وجعله محاطاً بالماء من كل الجوانب بإستثناء ممر ضيق.  كما عزل الماء الجيش الصليبي عن قاعدته في دمياط، وكان قادة الحملة مع الجيش المحاصر[56].  فنصب المسلمون الجسور وعبروا عليها بحيث أطبقوا الحصار على الصليبيين.  الذين أدركوا ذلك وبادروا إلى حرق خيامهم ومهاجمة المسلمين، ولكن وحولة الأرض وبسالة المسلمين، جنود ومتطوعين حالت دون فك الحصار، فطلبوا الأمان.  فوافق الملك رغم معارضة قواده على إنسحابهم من دمياط.  وفعلاً تسلم المسلمون دمياط سنة 618 (1221) بعد إحتلال زاد عن ثلاث سنوات، وعاد الكاردينال إلى اوربا، وعاد جون دي بيرين إلى عكا بعد عقد هدنة مدتها ثمانية سنوات مع الأيوبيين.

لقد رفض قادة الحملة الصليبية عروض متتابعة ومتزايدة فيما تضمنته، فبلغت أن عرضوا عليهم جميع ما إستعادة صلاح الدين ما عدا الكرك والشوبك، ولكنهم رفضوا وأصروا على إضافة الكرك والشوبك ومبلغ ثلاثمائة ألف دينار مقابل هدم أسوار القدس.

لقد كان من بين المشاركين في هذه الحملة القديس فرانسيس، الذي أسس جمعية الفرانسيسكان، ويبدو أنه كان بين الأسرى وقابل، هو وجميع قادة الحملة الأسرى، السلطان الأيوبي المنتصر، حيث تذكر المصادر العربية أنه قابلهم بحفاوة[57]. ولكن المصادر الكاثوليكية تذكر أن فرانسيس إخترق خط الجبهة وذهب لمقابلة السلطان الأيوبي ليعرض عليه التنصر، وتضيف أنه أحسن إستقباله ولكنه رفض عرضه ثم سمح له بالتوجه إلى الديار المقدسة[58].          

 

الحملة الصليبية السادسة

لقد تعهد الإمبراطور فريدريك الثاني بالقيام بحملة صليبية أكثر من مرة دون الوفاء بعهده، مما جعل البابا يصدر قراراً بحرمانه سنة 1228 م.  وكان فريدريك حفيد روجر الثاني، الذي إنتزع جزيرة صقلية من العرب، والذي أسس نظاماً قائماً على التسامح، فلم يدفع المسلمين إلى مغادرة الجزيرة، بل عاشوا فيها جنباً إلى جنب مع المسيحيين، وقد إستمر ذلك إلى عهد فريريك، الذي كان يحكم ألمانيا وأجزاء من شمال وجنوب إيطاليا بالإضافة إلى صقلية.  وكان فريدريك يتقن اللغة العربية وخمس لغات أخرى، وكان محباً للعلم، وكانت تربطه علاقات ودية مع الملك الكامل الذي كان، هو الآخر، محباً للعلوم والآداب والفنون، والذي كان معروفاً بتسامحه وعطفه على رعاياه الأقباط.  وكانا كثيراً ما يتراسلان، مضمنين رسائلهم مسائل رياضية وقضايا فلسفية.  ويعزى إلى زمن فريدريك بدء عهد النهضة الإيطالي.

وكانت علاقة فريدريك بالبابا قد ساءت، فقد بدأ يتسائل حول سلطات البابا.  على الرغم من أن البابا  ساعده في القضاء على خصومه، كما أن عائلته خدمت الكنيسة وأوربا خدمات جليلة، فقد إخرجوا العرب من صقلية وجنوب إيطاليا ووضعوا نهاية للتهديد الإسلامي في هذه المنطقة.

ومن أجل تشجيع فريدريك على القيام بحملته، عرض عليه البابا الزواج من وريثة عرش القدس، يولندا.  فوافق على العرض.  ولكنه طلب منها الحضور إلى صقلية حيث تزوجها.  ووعد البابا مجدداً ولكنه لم يوف بوعده.  فكتب البابا يشكوه إلى ملوك أوربا مما أغضب الإمبراطور، الذي أعلن خصومته للبابا وحرض أشراف روما، فثاروا عليه مما إضطره إلى الفرار.  حيث قام بحرمان الإمبراطور. 

على خلفية هذه التطورات إستنجد الكامل بفريدريك عندما خالفه أخوه الملك المعظم،  ووعده بإعطاءه القدس مقابل مساعدته.  لقد عرض الكامل القدس أربع  مرات على الكاردينال بيلاجيوس.  وها هو يعرضها للمرة الخامسة، من أجل الحفاظ على عرشه من خطر سيطرة أخيه عليه.

عندما وصل فريدريك بصحبة خمسمائة فارس، كان الملك المعظم قد مات، وإنتهى خطره.  ولكن الكامل لم يجد بداً من تنفيذ ما وعد به، بعد مراسلات مطولة بين العاهلين.تنازل عن القدس، ولكنها إستمرت مدينة جميع الأديان كما كانت في عهد حكامها المسلمين، وفق إتفاقية وُقعت بين الكامل وفريريك. 

لقد كانت حملة فر يدريك المعروفة بالحملة السادسة الوحيدة التي لم تحصل على مباركة البابا، وقد كانت الأصغر حجماً وأقلها إراقةً للدماء.  ولولا نتائجها لما أعتبرت حملة قائمة بذاتها تحمل رقماً منفصلاً. 

وهذا ليس أغرب ما في هذه الصفحة المفعمة بالغرابة والطرافة من التاريخ، فالأغرب أن البابا جريجوري التاسع راسل الكامل يحضه على عدم تسليم القدس للإمبراطور أو الأنبرور، كما كان يسميه العرب. 

أُستقبل خبر التنازل عن القدس بحزنٍ شديد في العالم الإسلامي، ولم يُستقبل بالفرح في أوربا بسبب حرمان فريدريك، ولم يُستقبل فريدريك من قبل سكان القدس من المسيحيين ورجال الكنيسة، حتى إضطر إلى تتويج نفسه بنفسه بعد أن دخل القدس في 1229م.  ولم تُحل مشاكل فريدريك إلا بمصالحة البابا.

 

حملة عام 1239

كثرت الصراعات المسيحية المسيحية والإسلامية الإسلامية، بحيث طغت على الصراعات المسيحية الإسلامية، التي لم تخلو من تحالفات مسيحية إسلامية.

فقد وقع الإختلاف بين جون دي ابلين أمير بيروت وفريدريك الثاني إلى درجة قيام جون بأحتلال قبرص، فرد عليه فريدريك بإحتلال بيروت، وما لبث جون أن إستعاد بيروت.  وجون دي إبلين، ممكن أن نسميه يوحنا العبليني.

 وبقيت عكا عاصمة مملكة القدس.  وكانت المعارك لا تنقطع بين فرسان الإسبتارية والداوية. كما نشبت حروب بين امير إنطاكية وملك أرمينيا.

وكان الأيوبيون في صراع مع سلاجقة الروم.  وقد تهادنوا ليواجهوا الخطر المغولي، ولما تراجع هذا الخطر بموت جنكيز خان، عادوا إلى الخلاف من جديد.  ولم يتوقف الأيوبيون من الإختلاف فيما بينهم. 

وفي هذه الأثناء وصلت الحملة الفرنسية لعام 1239 بقيادة ثيبود الرابع دوق شمبانيا.  وعندما علم الناصر داوود امير الكرك بنزول الصليبيين في عكا، هاجم القدس وإستولى عليها، بحجة قيام الصليبيين بترميم أسوار المدينة، مخالفين بذلك إتفاق تسليم المدينة.  ثم تحالف الناصر داوود مع الصالح ايوب سلطان مصر، فأغضب ذلك الصالح اسماعيل امير دمشق، لأن ملك مصر وعد داوود مساعدته في الإستيلاء على دمشق.  فتحالف امير دمشق مع الصليبيين، وإتفقا على غزو مصر معاً، مقابل تقاسم مصر والقدس وبقية فلسطين.  وفعلاً سلمهم القدس،  مما أغضب جماهير المسلمين عليه.  فعندما إلتقت الجيوش قرب غزة، تحولت الجيوش الدمشقية إلى جانب المصريين، فإنهزم الصليبيون، ومن ضمنهم الحملة الفرنسية.  ووقع الكثيرين أسرى، وهرب الباقي إلى عسقلان، بعد عقد صلحاً مع الأيوبيين.  وعادت الحملة إلى فرنسا في العام 1240 م.  وفي هذا العام وصلت حملة إنكليزية يقودها شقيق ملك إنكلترة ريتشارد، الذي إكتفى بتحصين عسقلان.

 

تحرير القدس

وفي هذه الفترة إحتدم الخلاف بين الأمراء الأيوبيين، وتسابقوا في خطب ود الصليبيين.  وكانت القدس، هي الثمن الذي يتسابقون بدفعه، وحتى عندما كانت القدس تحت سيطرة الصليبيين، كان الأمراء الأيوبيون يعرضون على الصليبيين تعديل الإتفاق بحيث تصبح سيطرتهم عليها مطلقة.  وقد كان الصليبيون يفضلون التحالف مع دمشق والكرك ضد القاهرة.  لقربهم وطمعهم في خيرات مصر.  فتشكل حلف ثلاثي بين دمشق والقدس والكرك.  فقام الملك الصالح أيوب بدعوة الخوارزمية لمواجهة الحلف الثلاثي.  وكان هؤلاء قد إضطروا إلى مغادرة بلادهم، فيما وراء النهر تحت ضغط المغول، وقد حافظوا على تماسكهم كقوة مسلحة، حيث وضعوا أنفسهم في خدمة أمراء مختلفين.  وكانوا على علاقة مع الأيوبيين جميعاً، ولكنهم مالوا إلى جانب الملك الصالح [59] .  فزحف عشرة آلاف منهم يحرقون الأخضر واليابس، فدخلوا طبريا ونابلس والقدس سنة 1244.  وقد تعاملوا بمنتهى القسوة مع الصليبيين، مما جعل هؤلاء يستنجدون بحلفاءهم من المسيحيين والمسلمين على حد سواء، حيث خذلهم الجميع.  ثم إلتقى الخوارزمية وجيش الملك الصالح في عسقلان ففتحوها وفتحوا معظم بلاد الشام، ولم يتبقى بيد الصليبيين سوى يافا.  وعندما دخل الملك الصالح دمشق منع الخوارزمية من دخولها، فإختلفوا معه فحاربهم وهزمهم وتفرقت جموعهم، وإستقر الوضع للأيوبيين وقويت دولتهم [60] .

إستنجد الصليبيون باوربا، ولكن أوربا بدأت تتغير، فلم يتجاوب إلا الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي كان ورعاً تقياً لدرجة سُمي بالقديس.   

 

لويس التاسع : الحملة السابعة والثامنة

لويس التاسع ( 1226-1270) ملك فرنسا، وإبن لويس الثامن وأمه إبنة الفونسو التاسع ملك قشتالة.  تربى تربية دينية، ولا يستبعد أن تكون معادية للإسلام.  وقد كان مريضاً، ويصاب بنوبات غيبوبة، وقد أفاق من إحدى الغيبوبات، التي أُعتقد أنه مات فيها، مما أُعتبر إعجازاً، فتسمى القديس.  وقد أنذر، في إحدى نوبات المرض، أن يقود حملة صليبية إن تعافى من مرضه.  ولذلك سارع إلى تلبية نداء البابا، عندما ناشد قادة أوربا تنظيم حملة صليبية جديدة.

وقد جاءت الحملة الصليبية السابعة فرنسية بحت، فلم يشترك من بقية اوربا سوى قوة إنكليزية رمزية بقيادة أخو ملكها.  وفي هذا الوقت كان صليبيو المشرق يقتصرون على رعايا فرنسيين. 

أبحر لويس من ميناء ايجي مورتي الذي أُنشىء مؤخراً على المتوسط في آب 1248م.  وفي هذه الأثناء كان الملك الصالح أيوب مريضاً في دمشق، فوصلته  رسالة من صديق والده، الإمبراطور الألماني  فريدريك الثاني، يخبره فيها أن لويس التاسع يزمع مهاجمة دمياط.  فغادر دمشق على عجل، وجمع جيشه وعسكر قرب أشموم، وعزز دفاع دمياط وأمدها بالمؤن لتفيدها في حال وقعت تحت الحصار.  

وصل لويس بجيشه البالغ خمسين ألف مقاتل، تحملها ألف وثمانيمائة قطعة بحرية، إلى قبرص، حيث أمضى الشتاء.  وقد كانت قبرص مملكة فرنجية في هذا الزمن، حيث هاجر إليها وإستوطن بها الكثير من الفرنسيين، لدرجة إنتشار اللغة الفرنسية القديمة فيها. وهناك إستقبل مبعوث المغول، حيث كان هناك مراسلات بين المغول وقادة العالم المسيحي.  ويبدو أن هذا شجعه فهاجم دمياط في حزيران التالي، فإستهدف الضفة المقابلة لها على النيل.

فشل الجيش الأيوبي من منع الجيش الصليبي من النزول إلى البر، رغم أنه يفترض أن يكون مستعداً، وعندما إلتقى الجيشان فر الجيش الأيوبي، وفر قائده فخر الدين يوسف بن شيخ الأرض.  ولم ينسحب الجيش المنهزم إلى دمياط، بل تابع إلى اشموم، مقر الملك الصالح أيوب، الذي تراجع مع إستياء حالته الصحية إلى قلعة المنصورة.

نجم عن فرار الجيش ذعر شديد في دمياط، التي لا تزال ذكرى حصار الصليبين والمذابح التي تلت،  ماثلة أمام أعين أهلها.  فأخلوا المدينة دون إغلاق الأبواب المواجهة للغرب من حيث يُتوقع دخول الصليبيين.  الذين لم يصدقوا ما رأوا، وظنوه خدعة.  ولكن سرعان ما دخلوا المدينة التي كانت تحتوي على كميات كبيرة من التموين إستعداداً للحصار.

بعد إستيلاء لويس على دمياط مكث ينتظر مدداً كان قد أرسل في طلبه، من أخيه ألفونسو دي بواتيه.  وقد أعطى هذا للجبهة الأيوبية الفرصة للشفاء من تصدع شديد أصابها نتيجةً للهزيمة، فقد أعدم الملك بعض المسؤولين عن الهزيمة، كما حاول بعض القادة عزله.  وعلى الرغم من مرضه إستمر الصالح بقيادة المعركة، فكان يكاتب الجهات المختلفة طالباً الدعم ويعيد تنظيم وحدات الجيش ويقوي الدفاعات ويضع الخطط.  ولكنه لم يعش ليشهد نهاية المعركة، بل توفي في تشرين ثاني 1249 (647).

كثيراً ما تسبب موت الملك القائد في إنهيار مريع للجبهة، وخسارة كاملة للحرب.  ولكن الأمة تمتعت بنعمة وجود ملكة متمرسة وقوية أدركت فداحة الموقف، وأدركت دون تردد أن الوقت ليس لندب الملك الفقيد، وإنما لإنقاذ الموقف الدقيق الذي تمر فيه البلاد. 

كانت شجرة الدر، جارية من جواري الملك الصالح، ولكنها بشخصيتها وثقافتها وأدبها إستطاعت أن تحظى لديه بمكانة خاصة.  وقد تعززت هذه المكانة عندما رافقته فترة  سجنه في الكرك لدى الناصر داود.  وهذا ما دعا الصالح إلى الزواج منها بعد عتقها، حيث أنجبت له ولده خليل.

وفور وفاة الملك، رفضت شجرة الدر لعب دور الأرملة الحزينة، فقامت بإستدعاء الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ ورئيس الخصيان جمال الدين محسن، وهما كبيرا موظفي البلاط الأيوبي، وطلبت منهما كتمان أمر وفاة الملك حتى قدوم ولي العهد توران شاه.  ثم أرسلت أحد كبار القادة العسكريين أقطاي،  ليبلغه الخبر ويرافقه في رحلته إلى مصر.  وكان توران شاه والياً على أبعد ولاية في الدولة، جزيرة إبن عمر، الواقعة على دجلة شمال الموصل.  وقاموا بالتأكيد على الخدم والأطباء حفظ سر موت الملك.  ثم أُودع الجثمان في تابوت ونقل سراً إلى قلعة الروضة في القاهرة، حيث دفن دون مراسم.  كما أبقوا على الأطباء في المنصورة، وإستمروا بإصدار القرارات بإسم الملك، وكانت شجرة الدر تزور توقيع الملك بنفسها. 

ومع هذا تسرب الخبر حتى وصل إلى لويس التاسع، الذي فكر بحسم الموقف قبل وصول توران شاه.  فسار بجيشه إلى فارسكور مستهدفاً القاهرة، عاصمة المملكة.  وكان موقف قائد الجيش فخر الدين، الذي كان يشعر بالذنب، بسبب نتائج معركة دمياط، فإستعد للمعركة جيداً، وقام بمهاجمة الجيش الصليبي بالقرب فارسكور، وقد كانت معركة ضارية صمد فيها الطرفان وقتل فيها خلق كثير من الطرفين، من بينهم قائد فرسان الهيكل.  وكان من نتيجة المعركة أن تقدمت القوات الصليبية وأصبحت في مواجهة المنصورة، ولكن يفصلها عنها بحر أشموم طناح.  وفي هذه الأثناء كان المتطوعون من العربان والفلاحين يتجمعون، كما وصلت تعزيزات من جيوش أيوبية أخرى، مثل أولاد الناصر، خصم الأمس، الذي رابط على الضفة الغربية للنيل. 

إعتمد المسلمون أسلوب الهجمات الجانبية وخطف الجنود في حرب إستنزاف مربكة.  كما إستخدموا النار الإغريقية، وهي مزيج من النفط والكبريت والقار، وكانت تقذف كما يقذف المنجنيق، أو من خلال أنابيب نحاسية.  وقد كانت تترك تأثيراً نفسياً كبيراً، حيث كانت تضيء السماء في الليل وتصدر صوتاً عالياً، وتحدث أضراراً كبيرة. إستمرت حرب الإستنزاف شهرين دون تمكن الصليبيين من الإلتحام مع المسلمين بمعركة تقليدية واحدة، بسبب وجود نهر فرعي يفصلهم عن المنصورة، ونهر النيل يفصلهم عن الجيوش الأخرى.  وقد جرت محاولات عديدة لبناء جسور، ولكن تم إفشالها من قبل الأيوبيين، بالقصف بالنجنيق.  كما حاولوا بناء برجين خشبيين، ولكنها حُرقت أيضاً. 

ثم إكتشف الفرنج مخاضة قريبة، فوضعوا خطة بحيث تقوم قوة من الخيالة بالإلتفاف من خلال هذه المخاضة، فتصل إلى الضفة المقابلة وتحتلها فيصبح بناء جسر ممكناً.  وفعلاً تمكنت قوة من خيالة الصليبيين بقيادة أخو الملك روبرت دي أرتوا من مفاجئة المسلمين، فهرع قائد الجيش فخر الدين لملاقاتهم، ولكنه قتل، وقتل كثيرون وتراجعوا إلى المنصورة بطريقة شجعت قائد القوة روبرت دي أرتوا على اللحاق بهم إلى داخل المدينة، مخالفاً بذلك الخطة الموضوعة.

وفي داخل المدينة كانت المقاومة شرسة جداً، إشترك فيها الجيش والأهالي، مسلميهم ومسيحيهم، وقد جرت معركة دموية طاحنة.  وصل المقاتلين الصليبيين إلى أبواب القصر، وبادرت شجرة الدر إلى تشجيع الجنود وحرس القصر على القتال بنفسها، ولم تقم بتعيين قائداً للجيش، حيث تولت ذلك بنفسها، ولكن برز أحد قادة المماليك البحرية وهو بيبرس البندقداري، الذي تبوأ موقعاً قيادياً ميدانياً ولعب دوراً بارزاً.  قُتل روبيرت  دي ارتوا في المعركة، وقد إستطاع الجيش الصليبي من نصب الجسر ومن العبور عليه بقيادة لويس، الذي شهد له أعداءه أنه قاتل ببسالة نادرة.  ولكن تمكن الجيش الأيوبي والمتطوعون معه من رد الجيش الصليبي إلى الضفة التي كان عليها، بحيث يفصل بينهما جسمٌ مائيٌ عريض.

توقف القتال من يوم الجمعة ألى يوم الثلاثاء، حيث أُستئنف بعد أن أعاد كل طرف تنظيم صفوفه.  ولكن المعركة الجديدة إنتهت بهزيمة الصليبيين. 

وصل توران شاه، بعد معركة المنصورة بعشرة أيام. وأُعلن عن وفاة الملك وتسلم الحكم. وكان شاباً في الخامسة والعشرين من العمر، وكان معروفاً بصلابته، ولكنه كان به كبر وصلف [61] .     

وباشر توران شاه القيادة بأن طلب من جزء من الأسطول الأيوبي أن يدخل بحر المحلة ليدخل النيل خلف خطوط الصليبيين، ومنع وصول المؤن إليهم.  فحملت السفن بعد أن تم تفكيكها على الجمال إلى بحيرة المحلة حيث تم إعادة تركيبها وإدخالها في الماء ووصلت ألى شمال المنصورة، وبذلك قطعت الطريق بين الجيش الصليبي ودمياط، من حيث كان يأتي المدد والمؤن [62] . 

ثم أقبلت سفن أخرى من جهة المنصورة فحاصرت ثمانين سفينة صليبية وإستولت عليها، وكان عليها ما يقارب من ألف جندي أُخذوا جميعاً أسرى.

أدرك لويس خطورة الموقف فكتب إلى الملك الشاب يعرض عليه الإنسحاب من دمياط مقابل القدس. فرفض ذلك توران شاه.  ثم عرض عليه الإنسحاب من دمياط مقابل بعض المدن الساحلية.  فرفض ذلك توران شاه أيضاً.  ولكنه عرض عليه العودة إلى بلاده. فتوقفت المفاوضات.  ولكن عمليات الإستنزاف لم تتوقف، فحصل نقص في الغذاء ودبت الفرقة في اوساط الجيش الصليبي.  فبدأوا يتراجعون بإتجاه دمياط بغير إنتظام، وهم تحت رحمة الرماة المسلمين.   وتراجع لويس نفسه مع جيشه بمحاذاة الضفة الشرقية للنيل.  وفي فارسكور تمت مهاجمة الجيش الصليبي من قبل جيوش الأيوبيين.  وكان لويس قاد تفاقم مرضه فوكل القيادة لأحد مساعديه.  ولم يصمد الجيش الصليبي المنهك فوقع بين قتيل وأسير.  وقد قُتل ما لايقل عن ثلاثين ألفاً، وأُسر عددٌ كبير بينهم لويس التاسع، وكونت أنجو وكونت بواتيه، حيث تم إعتقالهم في بيت إبن لقمان.  وهو منزل لا يزال قائماً في فارسكور، التي يلفظها أهلها فرسكور، وكان يعود للقاضي والكاتب فخر الدين بن لقمان. 

ثم استعاد الأيوبيون مدينة دمياط.  وحاول تورانشاه إقناع الملك الأسير أن يخلي المدن الساحلية في بلاد الشام، ولكنه أجابه أن لا سلطة له عليها، فهي تحت سلطة فريدريك.

وسرعان ما ظهرت الخلافات بين توران شاه وشجرة الدر، وبينه وبين المماليك، ولا شك أن نشوة النصر كان لها أثرها في ذلك.  فطالب شجرة الدر بأموال أبيه، وروي عنه أنه توعد بقتل مماليك أبيه.  فإتفقوا على قتله.  وقد قام بذلك بشكلٍ خاص بيبرس وأقطاي، حيث قتل طعناً وحرقاً وغرقاً، وذلك أنه هرب بعد أن تلقى ضربة سيف إلى برج خشبي فأحرق به فألقى بنفسه إلى النيل.  ولم يجد من يدفنه حتى شفع به مندوب الخليفة، فدفن.

وعلى أثر ذلك إجتمع الأمراء والقادة وإتفقوا على تعيين شجرة الدر ملكة عليهم، وهي أول ملكة في الإسلام. وبهذا إنتهى حكم الأيوبيين، وبدأ عهدٌ آخر.

أما الملك الأسير، فقد تم الإتفاق على إطلاق سراحه مقابل مليون قطعة ذهبية، وترك كافة اسلحة الجيش غنيمةً للمسلمين.  

غادر لويس التاسع إلى دمياط ومنها إلى عكا، حيث مكث فيها أربع سنوات. وغادر سنة 1254بعد أن بلغه وفاة أمه التي كانت تدير الدولة الفرنسية كنائب ملك طوال غيابه في العام، أربع سنوات قبل سقوط بغداد بيد المغول. 

وقد عاش الملك العليل، لويس التاسع، لينظم حملة صليبية جديدة (الثامنة) على تونس سنة 1270 م، وكان في صحبته الأمير أدورد الإنكليزي.  رسى الأسطول في قرطاجة، ولكن سرعان ما إنتشر الطاعون في أوساط الجيش.  فمات الكثيرون من بينهم الملك، الذي حكم أربعاً وأربعين عاماً.  فقام نائبه بعقد صلح مع والي القيروان، وغادر مع جيشه إلى فرنسا.  بإستثناء الأمير إدوارد، الذي أصر على الوفاء بنذره، فغادر إلى عكا سنة 1271م.  وهناك لم ينجز الكثير، إنما عقد صلحاً مع السلطان بيبرس ورجع إلى أوربا.  وإعتبر بعض المؤرخين هذه الحملة التاسعة.  وهنا يلاحظ فتور الروح الصليبية. فقد كانت الحملات  الأخيرة صغيرة الحجم تحركها دوافع مختلفة.  كما أصبح الدعم المالي القادم من الغرب ضئيلاً.

ودب الشقاق بين الإمارات والقوى الصليبية، فإستولى البنادقة على عكا من الجنويين وعاملوها كمدينة مفتوحة.  حيث تقابل الإسبتارية مع الداوية في معركة شرسة قتل فيها عشرين ألف شخص.  وللإنتقام من ذلك تحالف الجنويون مع إمبراطور بيزنطة المبعد عن عاصمته من قبل الإمبراطور اللاتيني. 

  

المماليك

لم يرق للكثيرين أن تحكم إمرأة.  فهذا غير مسبوق في العالم الإسلامي.  كما أن الشرع لا يقر ذلك. فكان هناك معارضة قوية داخل مصر.  وكتب الخليفة العباسي لوجهاء مصر أنه إذا كان هناك نقص في الرجال، فإنه بإمكانه إرسال واحداً من طرفه.  وحتى الخليفة العباسي المستعصم، قتيل المغول، لم يرق له الوضع. كما أعلن والي دمشق إنفصاله عن مملكة مصر وأرسل إلى أمير حلب ليتسلم المدينة.   وكانت شجرة الدر ذات نظرة حركنفاذة وخبرة بشؤون الحكم فتحركت بسرعة، فأدركت حجم التحدي الذي يواجهها، فطلبت من الأمير المملوكي عز الدين أيبك أن يتزوجها، وكان أحد مماليك زوجها وأحد قادة الجيش.  فتنازلت له عن الحكم في العام 648هـ(1250 م).  ولكن هذا لم يحل من المشكلة كثيراً، إذ إعترض كثيرون على تولية مملوك للحكم.  فطالب أمراء أيوبيون بعرش مصر، كما ثارت قبائل عربية.  وقد حاولوا إيجاد حل بتنصيب أحد صبيان بني أيوب، كما أعلنوا تبعية مصر للخلافة العباسية في بغداد.  ولكن هذا كله لم يجدي نفعاً.

وكانت سلالة حاكمة قد إستقلت بالهند الإسلامية في العام 1209، بقيادة أحد قادة مماليك الهند وإسمه قطب الدين أيبك.  فربما شجع ذلك عزالدينأيبك (1250 – 1257)، الذي يحمل نفس الإسم، على الإنفراد في الحكم.    

ولكن الخلافات دبت بين شجرة الدر وأيبك، نجم عنها مقتل أيبك على يدي شجرة الدر، لأسباب عائلية، فقد خطب إبنة أمير الموصل.  ثم مقتل شجرة الدر، ضرباً بالقباقيب، على يدي زوجة أيبك الأولى، وأم إبنه المنصور (1257-1259الذيتسلمالحكم.  وقدحكم المنصور، وهو صغير السن، وإستمر في الحكم إلى أن جاء رسل المغول يهددون حكام مصر.  فأدرك كبار قادة الجيش من المماليك وغيرهم من فقهاء ومشايخ مصر أن الزمن ليس زمن حكم الصبيان، فقاموا بعزل المنصور، وإتفقوا على قطز (1259 – 1260)، وهو قائد مملوكي آخر، فتلقب بالمظفر.  ثم قام بالرد على المغول بقتل رسلهم، وبدأ الإعداد للقاءهم.  

 

الصليبيين والمغول   

منذ بدء الحروب الصليبية لم يوفر الصليبيون جهداً في بناء تحالفات تفيد أهدافهم في توجيه ضربة قاضية للمسلمين.  وحقيقةً لم يظهروا براعة في ذلك، فقد نجحوا في إستعداء الدولة البيزنطية، كما فشلوا، عموماً،  في إستمالة مسيحيي الشام ومصر.  كما لم تكن علاقاتهم متسقة مع الأرمن، الذين لم يتقبلوا سياساتهم في الرها فلجأوا إلى عماد الدين زنكي.  وهذا غير مستغرب،  فأوربا لم تكن تعرف التسامح والتعايش مع الإختلاف، وهؤلاء جميعاً أتباع مذاهب أخرى.

وكان البابا إنوسنت الرابع قد أرسل إثنين من رجال الكنيسة كسفراء إلى البلاط المغولي، أحدهما فرانسيسكاني والثاني دومينيكاني.  وكان قد بلغة أن المغول يميلون تجاه المسيحية [63] .  فقد كان بعضهم على المذهب النسطوري.  وقد وصل أحدهما إلى كاراكورم، عاصمة المغول، في الثامن من نيسان سنة 1246م، يوم إنتخاب الخان الكبير.  ولم ينجم إتفاق عن هذه السفارة. 

وعندما كان الملك لويس التاسع في قبرص، قبل مهاجمة دمياط، وصله سفير من خان المغول.  فقام بإرسال إثنين من الدومينيكان بالرد على رسالة الخان.  كما أرسل شخصاً آخر من عكا بعد إطلاق سراحه من الأسر. 

لم ينجم أي إتفاق عن هذه المراسلات، بإستثناء تشجيع وتحريض المغول على إجتياح غرب آسيا.  ويعزى عدم الإتفاق لإعتقاد المغول أنهم لا يحتاجونه، فقد كان الرد في إحدى المحاولات أن طلب منكو خان من الملك الفرنسي أن يعلن تبعيته إليه [64] .

كما كان هناك إتصالات من قبل الإمبراطور البيزنطي وملك أرمينيا الصغرى هيثوم، الذي نجح أن يكون حليفاً فعلياً للمغول.  فقد شارك في القتال معهم في الشام والجزيرة، وساعدهم في وضع خطة إجتياح الشام [65] .

أما الإمارات الصليبية فقد تعرضت للخطر الصليبي، ولكنها بشكلٍ عام، لعبت دور المراقب.

وقد كان هولاكو، قائد الحملة وأخو الخان الأكبر، متزوج من إمرأة نسطورية، كما كانت أمه نسطورية أيضاً.  كما كان كتبغا، نائب هولاكو في الشام، نسطورياً.  ويروى أنه طلب من بوهيمند أمير أنطاكيا وصهر هيثوم حليف المغول، ان يعيد البطريرك الأرثودكسي الذي طرده البطريرك الكاثوليكي منها [66] .  وهذا ربما يفسر عدم تمكن الصليبيين من كسب ود المغول، فبينما كان الأوربيون يرون في وجود نساطرة بين المغول عنصر تقريب، كان ذلك سبباً منفراً بسبب الخلافات المذهبية الحادة بين المذهبين.

ويبدو أن المغول إقتنعوا أخيراً بأهمية التحالف، فأرسلوا مندوباً شارك في مجمع ليون الثاني.  حيث حاول عقد إتفاق، ولكن الروح الصليبية في أوربا كانت قد بدأت تفتر. 

ولكن المغول دخلوا في الإسلام خلال عقود قليلة، سواءاً القبيلة الذهبية في شمال البحر الأسود، أو في بغداد وفارس.  

وعندما سقطت عكا كان لسقوطها وقعاً  مؤلماً في اوربا، كما كان لسقوط غرناطة  وقعاً مؤلماً في العالم الإسلامي.  وقد علق العالم المايوركي رومان لَل على سقوط عكا قائلاً " لو أن النساطرة إنضموا إلى الكنيسة الكاثوليكية، ولو إعتنق التتار المسيحية، فإنه سيكون من السهل القضاء على المسلمين جميعاً " [67] .  لقد تنبه الأوربيون من خلال محاولاتهم التحالف مع المغول إلى وجود عالم واسع خلف بلاد الإسلام.  فذهب مبشرون فرانسيسكان للعمل في أوساط المغول، على أمل تنصيرهم، وفي العام 1307وتم ترسيم جون دي مونت كورفينو أسقفاً لمدينة بكين، عاصمة المغول بعد إجتياحهم للصين .  فمكث فيها إثني عشر سنة منقطعاً تماماً عن أوربا.  ولكن لم يخلفه أحد ولم تثمر جهوده، كما أن بعضاً من الذين أرسلوا صدمتهم وحشية المغول، ونبهتهم إلى مدى تقارب التقاليد الإسلامية والمسيحية [68] .

هل منع هذا الإستنتاج، بأن الإسلام والمسيحية، أقرب إلى بعضهما، بحيث لايجوز التحالف مع طرف وثني، مثل التحالف مع الفايكنج والسكسون ضد الفرنج المسيحيين من قبل أمراء قرطبة.  لقد أمضى الزهار سنة كاملة في دنمرقة (الدنمارك)  منقطعاً عن العالم الإسلامي، مثل إنقطاع كورفينو عن أوربا في بكين بعد خمسة قرون.

 

حقائق عن الحروب الصليبية

 

الحروب الصليبية لم تكن بين المسيحية والإسلام

لم تكن الحروب الصليبية دينية، وإن طغى عليها الحماس الديني.  وهناك العديد من الحالات التي قُدمت المصالح السياسية والإقتصادية على متطلبات الدين.  ومن بين الأمثلة على ذلك رفض الكاردينال بلاجيوس عرض الملك العادل تسلم القدس والإنسحاب من مصر.  وكذلك ردود فعل اوربا، سياسيها ورجال دينها، على إستحواذ فريدريك الثاني على القدس بدون قتال.  بدل من أن يُعتبر إنجازاً ذا فوائد متعددة.  كما أن عرض الملك العادل على الصليبيين القدس، يكون قد قدم المصالح السياسية على الدينية.

 

الحروب الصليبية لم تكن بين جميع المسلمين وجميع المسيحيين

عندما بدأت الحروب الصليبية كان هناك خمس دول مسيحية خارج أوربا.  وهي أرمينيا، والحبشة وثلاث دول على على نهر النيل جنوب أسوان من بينها النوبة التي كانت تربطها معاهدة مع الخلافة.  والدول الإفريقية الأربعة لم تدخل الحرب ضد المسلمين، ولم يفكر المسلمون في إستغلال حمى العداء القائم لضمها أو الإقتصاص منها. 

أما أرمينيا فقد كانت مواقفها يغلب عليه التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية، وكان المسلمون قد إحتلوا أجزاء كبيرة من أرمينيا، وأصبحت ولاية أرمينيا التابعة للخلافة تضم أجزاء كبيرة من القفقاس.  ولم يمنع هذا وجود تنسيق وتحالف بين المسلمين والأرمن، فقد كانت لبيزنطة أطماعها في ضم أرمينيا.  وعندما أسس الصليبيون ممالكهم الأربعة، كانت الرها تضم الكثير من الأرمن، الذين طلبوا مساعدة عماد الدين زنكي للتخلص من حكم الصليبيين، وقد إعتبر بعض المؤرخون الغربيون ذلك خيانة.  ولكن دور أرمينيا الصغرى، التي كانت من ضمن إفرازات تلك المرحلة، كان لها دور كبير في التنسيق مع المغول، بينما بقي معظم الأمراء الصليبيون على الحياد. 

وفي العموم كان موقف المسيحيون العرب والشرقيون سلبياً من الصليبيين، وعلى الرغم من حدوث مصاهرة، حيث تزوج كثير من الفرسان الصليبيون فتيات مسيحيات، لحاجتهم لبناء أُسر.  ولا يستبعد أن يكونوا تزوجوا مسلمات، من بين السبايا، بعد تعميدهن.  كما شارك المسيحيون في عمليات الدفاع عن المدن الشامية والمصرية عندما كانت تتعرض للحصار، بل شارك بحارة أقباط في كثيرٍ من المعارك البحرية.  وحقيقةً كان لذلك أسبابه، فقد بدأ الصليبيون بتجريد رجال الكنيسة الأرثودوكس من إمتيازاتهم في الكنائس والأديرة التي تتمتع بأهمية تاريخية، وإعطائها لرجال كنيسة كاثوليك، بل قاموا بإبعاد كبار رجال الكنيسة الشرقيين عن بعض المدن.  مثل بطريرك أنطاكية.  في فلسطين لا يزال مثل شعبي يتردد " زوان بلادنا ولا قمح الصليبي "، وقد كان يردده مسيحيو فلسطين، مفضلين الزوان المحلي على القمح الصليبي.  فالحروب الصليبية لم تكن بين جميع المسيحيين وجميع المسلمين.    

 

الحروب الصليبية لم توجه ضد المسلمين فقط

كما أن الحروب الصليبية، التي أُبتدعت في القرن الحادي عشر الميلادي، لم تكن موحهة ضد المسلمين فقط.  فهناك حملة وُجهت ضد أتباع طائفة " الألبيجنستين "، الذين كانوا يعيشون في جنوب فرنسا، حيث أُستخدمت القسوة نفسها، وبوركت الحملة بنفس الطريقة التي بوركت الحملة الصليبية الأولى والثانية.  كما تم في سنة 1284م إرسال حملة ضد ملك ارجون، المملكة الإسبانية، بيتر الثالث من قبل البابا مارتن الرابع، بسبب غزوه لصقلية التي كانت من ممتلكات البابوية.  كما تم إطلاق حملة ضد فنلندة فيما عُرف بالحملة الصليبية السويدية سنة 1155 وتكررت في سنتي 1249 و1293.  وقد شارك في حملة أراغون مائة ألف من المشاة.

 

الحروب الصليبية لم تشكل قطيعة بين المسلمين والمسيحيين

فقد إستمرت التجارة بين الطرفين، كما إستمرت العلاقات الدبلوماسية مع دول أخرى غير المشاركة في القتال.  كما إستمر المسلمون والمسيحيون في العيش معاً في مصر والعراق وفارس وشمال إفريقيا.  وإستمر حسن الجوار قائماً بين الأقاليم الإسلامية ودولتي الحبشة والنوبة المسيحيتين. 

    نهاية الحروب الصليبية 

تسلم الظاهر بيبرس (1260-1277) الحكم بعد مقتل السلطان المظفر قطز.  وقد كان قائداً عسكرياً فذاً، كما كان سياسياً مميزاً.  فقد إستهل حكمه بدعوة أحد العباسيين وتنصيبه خليفة، فأحيا بذلك الخلافة فإكتسب رضا المسلمين.  كما قام الخليفة بتقليد بيبرس منصب السلطان.  وبهذا إكتسب شرعية تجاه الأمراء الأيوبيين وتجاه معارضي إعتلاء مملوك لسدة الحكم.  ولكن الشرعية التي إكتسبها بيبرس والمماليك في عين جالوت، كانت كافية.

وقام بيبرس بعقد تحالف مع مغول القبيلة الذهبية، الذين كانوا يقطنون شمال البحر الأسود، فإتفق مع بركة خان، ملكهم، الذي كان قد أسلم.  ثم قام الإمبراطور البيزنطي بالإنضمام إلى هذا التحالف.  فتفرغ للصليبيين في الشام، حيث كانت إمكانية تحالفهم مع مغول العراق لا تزال قائمة مما قد يجدد الخطر على مصر والشام.  ففي ذلك الوقت لم يكن المغول قد دخلوا في الإسلام بعد.

وقد حاول الأمراء الصليبيون تجديد الهدنة، ولكنه رفض، مذكرهم بعدد المرات التي نقضوا فيها هدنات.  فبدأ بمناوشات محدودة إستمرت سنتين.  وفي سنة 1265م بدأ بهجوم شامل، بعد أن حشد الجيوش وضمن مساعدة أمراء أيوبيين، وحياد آخرين.  فتساقطت المدن والحصون الواحد بعد الآخر.  فإستولى على قيساريا ويافا وأرسوف.  وفي العام التالي إستولى على صفد وتنبنين وهونين والرملة.  وكذلك على القليعات وحلباء وعرقة. 

ثم أرسل قلاوون، أحد كبار القادة العسكريين، والملك المنصور الثاني الأيوبي، إلى أرمينيا الصغرى، حيث أغاروا على حصونها ومدنها، فدمروا ونهبوا وأطلقوا سراح الأسرى المسلمين.  وقد كان ملكها هيثوم الثالث غائباً في تبريز يطلب مساعدة المغول ضد بيبرس.  لقد تلقت أرمينيا الصغرى ضربة لم تفق منها، وكان وقعها على الملك هيثوم كبيراً، بحيث تنازل عن العرش خلال الأعوام التالية. 

وفي العام 1268 تمكن بيبرس من الإستيلاء على أنطاكيا، بعد حصار قصير.  وقد حدا سقوطها ببعض القوى الصغيرة إلى الإستسلام.  ولم يبق سوى قلاع قليلة متناثرة، التي إستمرت مملكة الفرنج القبرصية في دعمها، بينما أعرضت أوربا عن مساعدتها.  كما كانت بيزنطة متحالفة مع بيبرس.  وكان الإمبراطور البيزنطي يهنئ بيبرس على إنتصاراته، وكذلك كان كان يفعل الإمبراطور مانفرد بن فريدريك الثاني، ورئيس جمهورية جنوة، وبركة خان زعيم مغول الفولغا، بالإضافة إلى سعادة زعماء العالم الإسلامي. 

إنضم ما تبقى من حصون وقلاع صليبية ومدن قليلة من بينها عكا  إلى مملكة قبرص الصليبية، التي ناشدت أوربا إرسال مدد.  ولكن لم يصل شيء ذي بال.  فقد أرسل ملك أرغون حملة صغيرة بقيادة إبنيه غير الشرعيين، ولم تستطع تحقيق شيء.  كما كانت حملة لويس التاسع فاشلة، وكذلك حملة إدورد الإنكليزي، الذي لم يحقق أكثر من هدنة مع بيبرس. 

كما قدم أبغا خان بن هولاكو مساعدة، لم تحقق الكثير، حيث إقتصر نشاطها على أعمال السلب والنهب في حوض العاصي.  فقد كانت القوة صغيرة لإنشغال المغول في حروب أخرى في آسيا.  أخيراً تحقق التنسيق المغولي الصليبي، ولكنه جاء متأخراً وعديم التأثير. 

ثم إستولى المماليك على حصون الأكراد وعكار وصافيتا.  كما أرسلوا أسطولاً لغزو قبرص ولكنه تحطم في عاصفة وإستولى عليه الصليبيون.  كما سيطروا على حصون الإسماعيلية واحداً واحداً.

وكان من بين المدن المتبقية في أيدي الصليبيين طرابلس، التي نشب فيها صراع على السلطة بعد وفاة بوهيمند السادس، وصل الى درجة الاقتتال. 

وفي العام 1272م توفي بيبرس.  ونشب خلاف على الحكم بين إثنين من أبناءه ونائبه قلاوون وأمير آخر إسمه سنقر.  حيث إستطاع قلاوون حسم الموقف لصالحه.  حيث هرب سنقر إلى قلعة صهيون وإتصل بالمغول. 

وقد كان المغول، في هذه المرحلة، هم المبادرون للتنسيق مع الصليبيين.  بينما كان تجاوب أوربا محدوداً على القلة من الأمراء والدوقات الذين كانوا لا يزالون يمنون أنفسهم بصنع أمجاد في الشرق.  فشاركوا في مجلس ليون الثاني سنة 1272 م، الذي عُقد من أجل نقاش تجديد الحملات الصليبية وتوحيد الكنيسة، حيث طلب المجلس من مندوب التتار عدم التعرض للمسيحيين في حروبهم مع المسلمين.  وفعلاً قام المغول بمهاجمة حلب سنة 1280 م.  وكان هجومهم، على فظاعته، لم يعدو أن كان عملاً إنتقامياً، إذ سرعان ما إنسحبوا.

وفي هذه الأثناء عقد قلاوون صلحاً مع الصليبيين لمدة عشر سنوات.  وفي العام 1281م هاجم المغول والأرمن مدينة حمص، ولكن قلاوون واجههم وهزمهم.  وقد قتل ليو الثالث، ملك أرمينيا الصغرى، أثناء عودته إلى بلاده، وتمزق جيشه، بينما هرب المغول إلى ما وراء الفرات. 

وفي السنة التالية توفي أبغا خان، وتحول أخيه ووريثه إلى الإسلام، وتسمى أحمد.  ولكن خلفه أرغون كان معادياً للإسلام ومحرضاً ضد المماليك.

تفرغ قلاوون لبقايا الصليبيين فهاجم قلعة مرقاب سنة 1285.  وفي سنة 1287 هاجم اللاذيقية، مستغلاً حرب بين الجنويين والبيازنة، إمتدت إلى بلاد الشام. وتمكن من الإستيلاء على طرابلس وبيروت، بحيث إنحصرت ممتلكات الصليبيين بصور وصيدا وعكا وعتليت وحيفا وطرطوس. 

ولم تتحرك أوربا لنجدة ما تبقى للصليبيين، على الرغم من مناشدة ملك قبرص، وأرغون ملك المغول، الذي كان يسعى بكل قواه لإقامة تحالف ضد المسلمين.

وسقطت عكا في العام  1291، بعد أن خالف بعض الصليبيين الهدنة القائمة.  فأخذ قلاوون يستعد لغزو عكا ولكنه مات أثناء الإعداد للحرب، فقام بالمهمة إبنه الأشرف خليل، الذي حاصر المدينة ثم إقتحمها، ولكن القتال إستمر فيها لمدة عشرة أيام، حيث قاتل الفرسان الداوية والإسبتارية ببسالة نادرة.  ثم إستولوا على عتليت، ودخلوا صور دون مقاومة، أما صيدا فقد أخلاها الصليبيون ودخلها المسلمون دون قتال.  كما سيطروا على حيفا وطرطوس، التي وافق فرسانها المغادرة مع جميع ما يملكون.  فغادروها إلى جزيرة أرواد القريبة، التي مكثوا فيها لغاية العام 1302 حيث جهز السلطان المملوكي أسطولاً إستولى على الجزيرة وأسر وقتل من بها من الفرسان الهيكليين [69].  وبهذا إنتهى الصراع بين الشرق والغرب.

ويعزى فشل الحروب الصليبية إلى إخفاقهم في تأسيس دولة ذات عمق جغرافي بالحد الأدنى من الكثافة السكانية.  فقد سيطر الصليبيون على الشريط الساحلي ولم يتمكنوا من الإستيلاء على الداخل السوري، كما كان الصليبيون يسارعون في العودة إلى بلادهم بعد القيام بمشاركة من نوعٍ ما، فلم يتجاوز عد الصليبيين في ثمانينات القرن الثاني عشر اكثر من مائة وعشرين الفاً.  كما كانت حدود المملكة اللاتينية الشرقية تمتد لأكثر من ألف كيلومتر، ولم ترتكز على حاجز طبيعي يسهل مهمة حراستها.  كما كانت البحرية المصرية تهاجم المدن الساحلية بإنتظام، مما حرمها الإستقرار المطلوب لبناء مجتمع وإقتصاد.  يضاف إلى ذلك تلاشي الروح الصليبية في أوربا، الذي أدى إلى تراجع الدعم المالي والبشري. 

وكان لفشل الصليبيين في كسب بيزنطة الأثر الكبير في إخفاق جهودهم.  كما أن عدم ركون المسلمين الذين إستمروا بمقاومة المشروع الصليبي جيلاً بعد جيل على الرغم من أزماتهم الداخلية وإبتلائهم بالمغول.             

يتفق معظم المؤرخون على أن خسائر الحروب الصليبية تخطت الخمس ملايين إنسان.  وهو رقم كبير في كل العصور،  ورقم كبير جداً في ذلك الزمن ويشكل نسبة ليست قليلة من السكان.  يعزو الكثير من الأوربيين إلى الحروب الصليبية إحتواء المد الإسلامي في أوربا [70] .  وهذا ليس دقيقاً.  فالمد الإسلامي في غرب وجنوب أوربا تم إحتواءه قبل الحروب الصليبية.  أما في شرق أوربا فقد إستمر المد الإسلامي التركي في الأناضول أثناء وبعد الحروب الصليبية، وتحول المد العثماني،  بعد ذلك، إلى البلقان، ولم  تتمكن أربع حملات صليبية من إيقافه، كما لم تمنع من إحتلال أجزاء أكبر من البلقان وبلغاريا وصربيا، ولم تمنع سقوط القسطنطينية.  كما إستمر الوجود الإسلامي في غرب أوربا إلى ما بعد الحروب الصليبية.   كما إستمر في شرقها.

كما يعزو بعض الأوربيون فتح طرق التجارة إلى الحروب الصليبية، ويعدون ذلك من نتائجها الإيجابية [71] .  والصحيح أن الخطوط التجارية لم تنقطع لأسباب سياسية وحربية، بل لفقر أوربا في القرون الثامن والتاسع والعاشر، حيث إقتصرت التجارة على السلع الضرورية جداً وبكميات قليلة، والتي إحتكرت تجارتها بيزنطة.

ولكن ساهمت الحروب الصليبية في تحول العقلية الأوربية، وحقيقةً ما كان للحروب الصليبية أن تنتهي لولا هذا التحول.  إن الصليبيين لم ينهزموا، بل فقدوا الإهتمام.  وربما فقدوا الإهتمام لإستحالة الإنتصار.  فهم لم ينتصروا كذلك. 

لا يكاد ينكر أحد أن الممالك اللاتينية في سوريا كانت أحد ثلاث جسور عبرت عليها العلوم والثقافة العربية المترجمة والمبتكرة، والتي ساعدت على النهضة الأوربية، التي بدأت في هذه الحقبة من الزمن.  لقد إستفاد الأوربيون من هذه التجربة الدموية، أكثر مما إستفاد منها المسلمون.  ففي القدس قامت مملكة لاتينية يحكمها ملك، بسلطات محدودة، حيث كان هناك مجلس يتكون من الفرسان والأمراء، يملك صلاحيات واسعة تحد من صلاحيات الملك، فيتوجب موافقه هذا المجلس على القرارات المفصلية التي تتخذها الدولة، عسكرية وسياسية.  وقد كان يعين الملك عندما تحدث أزمة توريث، أو يعترض على توريث شخص غير مرغوب فيه.  وقد كان هذا قبل الماجنا كارتا.  وقد وضع مجمع نابلس، وهو مجمع ديني سياسي عدداً من القوانين.  وهي تجربة رائدة في     الحكم، كان العرب والمسلمون بحاجة للإفادة منها، وقد جرت في الساحة الأمامية للبيت العربي.

فلو كان لدى السلاجقة أو الأيوبيين مجالس من هذا النوع لما أُريقت دماء كثيرة عند تولي كل سلطان. 

لم يكن المسلمون والصليبيون معزولين عن بعضهم خلال القرنين من التواجد الصليبي على الأرض السورية.  فقد كان هناك هدنات ومعاهدات وتحالفات.  كما كانت التجارة لا تتوقف إلا في وقت القتال.  كما كان هناك الكثير من المواقف الإنسانية التي تزيل القتامة، بعض الشيء، عن هذه المرحلة.  فعلاقات ريتشارد مع الملك العادل، أخو صلاح الدين، الذي تذكر الروايات أنهما كانا يتزاوران ويتبادلان الأحاديث ويتسامران.  ولم يلتقي ريتشارد مع صلاح الدين إلا من بعيد في ميادين المعارك، حيث يقال أن صلاح الدين  أرسل لريتشارد حصاناً عندما قُتل حصانه في إحدى المعارك.  وقد ألف أسامة بن منقذ كتاباً عن زياراته للقلاع والمدن الصليبية، يحتوي على جوانب طريفة من التباينات الثقافية بين القارتين.  إذ لم تؤدي السياسة في بعض الأحيان إلى التحالف وحسب، بل وتميزت العلاقات الشخصية بينهم في كثيرٍ من الأحيان بالمجاملة والصداقة [72] .  كما أن العلاقات المتحررة من الرباط الديني، والتي قد تصنف على أنها خيانة في بعض الظروف، كانت دارجة جداً.  فتحذير فريدريك الثاني للملك الصالح عن حملة لويس التاسع.  وتحريض قوى أوربية عديدة للملك العادل على عدم تسليم القدس لفريدريك الثاني.  وتحريض الإمبراطور البيزنطي نفسه الذي دعا أوربا للدفاع عن المسيحية المهددة في الشرق الخليفة العباسي ضد الصليبيين.  ثم تحالف أمير دمشق المسلم ضد الأمراء المسلمين.  وكذلك دعوة الوزير الفاطمي للصليبيين للقدوم إلى مصر.  بل تروي المصادر الأوربية أنه في إحدى المعارك، حارب في صفوف الصليبيين مرتزقة من البدو.  كما أن فشل الخلافتين العباسية والفاطمية (سنة وشيعة) بالتنسيق لمواجهة الخطر الصليبي، يقابلها فشل أوربا الغربية بالتحالف الصادق مع البيزنطيين (كاثوليك وأرثودوكس).

لقد إستمرت التجارة بين الإمارات الصليبية والإمارات الإسلامية طوال هذه الفترة، ففي عام1871 بيتما كانت المعارك محتدمة في الشام، كان هناك ثماني وأربعين سفينة إيطالية في ميناء الإسكندرية، وكان في الإسكندرية جالية إيطالية من التجار لا تقل عن ألفي شخص مع بداية القرن الثالث عشر.  وكانت عملة الصليبيين تسمى بيزنتا، وكان العرب يسموها دينار، وكانت تحتوي على كتابات عربية وتاريخ هجري، بالإضافة للكتابات اللاتينية، لضمان قبولها في المدن الإسلامية.  وعندما كان الساحل بالكامل بيد الصليبيين، كانت موانئه تخدم المدن الداخلية التي كانت بيد المسلمين بشكل سلس ومنظم.  وكان التجار المسلمون الذين يتاجرون مع الصليبيين كثيراً ما يقدمون خدمات إنسانية للطرفين، مثل البحث عن أسير وإيصال رسالة منه والمساعدة في فك أسره.

لقد إستمر المسلمون في العيش والعمل والتملك في الأراضي التي يحكمها الصليبيون، ولكن تم حرمان اليهود من التملك في فلسطين.  ولم يتعدى سكان الممالك الصليبية من الصليبيين ربع السكان الكليين. وكان المسلمون يدفعون ضريبة الفرضة، ونصف ما تنتجه أرضهم من المحصول، وضريبة أخرى على أشجار الفاكهة، بينما كان المسيحيون معفيين من ضريبة الفرضة، ولكن كان عليهم دفع العشور للكنيسة [73] .

لقد إنتهت الحروب الصليبية،ولم يغادر جميع الصليبيين سوريا، فبعضهم لم يعرف وطناً آخر، فقد عاشوا في المشرق لعدة أجيال.  وقد أصبحوا جزءاً من التركيبة السكانية للمنطقة، وربما تحول بعضهم إلى الإسلام.  إن المرحلة الصليبية، على ما جلبته من آلام، تشكل جزءاً من تاريخ هذه المنطقة، كما ساهمت في تكوينها الثقافي.

لقدت تعرضت عادات الفرنج للتعديل عقب الإستيطان في سوريا.  فتأثروا في مأكلهم وملبسهم وملاهيهم وإستخدموا الحمامات وإستعملوا الصابون وإعتادوا تناول السكر [74] . 

ولم تخلو الحروب من لمسات إنسانية طريفة ومثيرة للشفقة.  فعندما كان لويس التاسع يفاوض المصريين وهو في أسرهم، طلب منهم أن لا يكتبوا في الوثيقة أنه أُطلق سراحه مقابل مبلغاً من المال، بل مقابل إخلاء دمياط، فالملوك لا يعادلوا بالنقود.  وأثناء حصار عكا سنة 1189 تم أسر عدداً من الصليبيين وبينهم رجلاً طاعن في السن، فسأله صلاح الدين ما جاء بك، فقال جئت للحج إلى القدس، فرق له، ورتب له الذهاب إلى القدس.  وفي رواية طريفةإقترح أحد قواد الطرفين، أثناء حصار عكا الدموي الطويل، أن يوقفوا قتال الكبار.. ليوم، وأن يدعوا الصبيان من الطرفين يتصارعون.  على أن الغالب يأخذ المغلوب أسيراً.  وفعلاً توقف القتال وأخذ يتصارع الصبيان من الطرفين، وكان قادة الطرفين يفتتدون المغلوب فوراً.  هذا اليوم الذي ذكره إبن شداد في تاريخه، ولم يحدد التاريخ على وجه الدقة، يجب أن يصبح عيداً مشتركاً بين الشرق والغرب.  اليوم الذي أُستبدلت فيه المتعة مكان القتل، الرياضة بدل الحرب.   وعلى ذكر المتعة فإن التمثال الذهبي الذي يقدم للفائزين بجوائز الأوسكار يمسك بيديه سيف صليبي.            



[1]  العرب واوربا، لويس يونج.

[2]  صلاح الدين الأيوبي، قصة الصراع بين الشرق والغرب، قدري قلعجي.

[3]  صلاح الدين.

[4] Roman Empire, Gibbon, VII.

[5]   The Byzantine Empire, C. Oman.

[6] The Byzantine Empire, C. Oman.

[7]  صلاح الدين الأيوبي، قدري قلعجي.

[8] The Byzantine Empire, C. Oman.

[9]  إبن الأثير.

[10]  إبن الأثير.

[11]  إبن الأثير.

[12]  إبن الأثير.

[13] Roman Empire, Gibbon, volume VII.

[14]  الحروب الصليبية، أر سي سمسيل.

[15]  إبن خلدون ج 4.

[16]  ابن الاثير.

[17] Roman Empire, Gibbon, VII.

 إبن خلدون ج 5 [18]

[19]  إبن الأثير.

[20]  الصليبيون في الشرق، ميخائيل زابوروف.

[21]  الحروب الصليبية، آر سي سميل.

[22]  إبن خلدون، ج 5.

[23]  عماد الدين زنكي، عماد الدين خليل.

[24]  إبن خلدون، ج 5.

[25]  صلاح الدين الأيوبي.

[26]  إبن ألأثير.

[27]  صلاح الدين الأيوبي.

[28] صلاح الدين نقلاً عن نوارالدين والصليبيين.

[29]  صلاح الدين.

[30]  صلاح الدين، نقلاً عن كتاب الروضتين.

[31]  الحروب الصليبية، أر سي سميل.

[32]  صلاح الدين الأيوبي.

[33]  النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، بهاء الدين أبو المحاسن.

[34]  النوادر السلطانية.

[35]  الموسوعة الكاثوليكية.

[36] Roman Empire, Gibon, VII.

[37] Roman Empire, Gibon, VII.

[38]  النوادر السلطانية.

[39]  النوادر السلطانية.

[40]  النوادر السلطانية.

[41]  النوادر السلطانية.

[42]  الحروب الصليبية، آر سي سميل.

[43]  النوادر السلطانية.

[44]  الحروب الصليبية، آر سي سميل.

[45]  النوادر السلطانية.

[46]  الصليبيون في الشرق، ميخائيل زابوروف.

[47]  الصليبيون في الشرق، ميخائيل زابوروف.

[48]  عاشور.

[49]  عاشور.

[50]  إبن الأثير.

[51]  صلاح الدين نقلاً عن مفرج الكروب.

[52]  الصليبيون في الشرق. 

[53]  الصليبيون في الشرق.

[54]  تاريخ اوربا العصور الوسطى، موريس كين.

[55]  تاريخ اوربا العصور الوسطى / موريس كين.

[56] أبو الفدا، ج2.

[57]  إبن الأثير، أبو الفدا.

[58]  الموسوعة الكاثوليكية.

[59] الايوبيين في شمال الشام والجزيرة، محمود ياسين التكريتي.

[60]  صلاح الدين الايوبي.

[61]  صلاح الدين.

[62]  صلاح الدين.

[63]  الموسوعة الكاثوليكية.

[64]  صلاح الدين.

[65]  صلاح الدين.

[66] صلاح الدين – رتبة بطريرك أرثودكسية أساساً.

[67]  تاريخ اوربا العصور الوسطى، موريس كين.

[68]  تاريخ اوربا العصور الوسطى، موريس كين.

[69]  تاريخ دولة المماليك في مصر، السير وليم موير.

[70]  الموسوعة الكاثوليكية.

[71]  الموسوعة الكاثوليكية.

[72]  الحروب الصليبية، آر سي سميل.

[73]  صلاح الدين، نقلاً عن تاريخ العالم لهامرتن.

[74]  الحروب الصليبية، آر سي سميل.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter