كتاب " نحن واوربا " - الجزء الثاني - الفصل الثامن
 
 



الحروب الصليبية

 

مقدمات الحروب الصليبية

بعد إنهيار الدولة الكارولنجية، قامت في أوربا الغربية كيانات سياسية عديدة، إمبراطوريات وممالك ودوقيات، وتطور الإقطاع القائم على القوة العسكرية للإقطاعي، الذي يملك جيشاً يتكون من أتباعه من النبلاء الذين تربوا على الحياة العسكرية وعلى الفروسية. وتزايدت ضرورة نمو القوة العسكرية، على جميع الصعد،  بسبب تزايد الفوضى وتهديد القرى والمزارع من قبل الجماعات التب كانت تمارس الغزو والنهب بشكل منهجي، والتي غطت عملياتها معظم أوربا. فبدأت تظهر تشكيلات إجتماعية جديدة، قائمة على ملكية الأرض ومن عليها.  فتحول الفلاحين إلى أقنان في الأرض التي يعملون بها، ضمن تشكيل تراتبي يقوم على حجم الملكية، كما يقوم على قدرات حربية لرجال الإقطاع. فالإقطاعي، مهما كانت مرتبته، كان بطبيعة دوره وموقعه، يمارس الفروسية ويعمل على الدوام على تطوير قدراته الحربية.  ويقضي وقته في نشاطات وهوايات قائمة على اللياقة الجسدية ومهارات القتال، مثل الصيد والمبارزة والتدرب عليهما.  وكانت فرصة نشوب حرب مصدر سعادة للإقطاعي الفارس، فهو سيمارس قتال فعلي تدرب عليه كثيراً وإنتظره.  فنشأت طاقات عسكرية هائلة أخذت تنفس عن نفسها، بعد زوال العدو الخارجي، في حروب لا تنتهى بين الجيران.  وقد حاولت الكنيسة، التي كان دورها السياسي يتعاظم، الحد من هذه الحروب بفرض " سلام وهدنة الرب "، حيث حققت نجاحاً جزئياً.  ولكن المقاتلين المحترفين كانوا بحاجة إلى التنفيس عن طاقاتهم ورغباتهم في خوض الحروب،  فإنتشرت الرياضات العنيفة، وكثرت المبارزات بين الفرسان، كما كثرت الحروب بين الأمراء. فلجأ الكثيرون إلى التطوع في الجيوش الإسبانية التي كانت في حالة حرب شبه دائمة مع الأندلسيين.

 فات على الدولة الإسلامية وأوربا المسيحية أكثر من ثلاثة قرون وهم في حالة حرب دائمة تخللتها بعض الهدنات الهشة، كما تخللها الكثير من التحالفات غير المبنية على الدين.  وكان كثيرٌ من الفرسان الذين شاركوا في معارك ضد المسلمين في الأندلس، عادوا إلى أوربا ليرووا قصص بطولاتهم وإنتصاراتهم وإخفاقاتهم، لتكرس في الذهنية الأوربية عدواً مكروهاً إسمه المسلمين، الساراسين، المور، العرب..  وقد نُسجت حكايات ترسخت في الفولكلور الأوربي تكرس هذا العداء نحو المسلمين. وفي بدايات هذه المشاركات الأوربية في الحروب ضد الأندلس، في القرن الثامن، كُتبت " أغنية رولاند " عن فارس يحمل هذا الإسم، وهو إبن أخت شارلمان، كان قد قُتل على يد مقاتلين من الباسك هاجموا مؤخرة جيش شارلمان المنسحب من إسبانيا بعد فشل مهمته.  وفي هذه الأغنية، التي تردد صداها في مدن وقرى أوربا لثلاثة أو أربعة قرون حتى أُستخدمت في الحروب الصليبية، حيث تم إستبدال مقاتلي الباسك، الذين كانوا بالمئات، بأربعمائة وأربعين ألف جندي مسلم، حيث قضى رولاند في التصدى لهم في معركة غير متكافئة. 

وإنتشرت في زمن عبد الرحمن الناصر قصة صبي مسيحي تم الإدعاء أن الخليفة إعتدى عليه جنسياً.  وقامت الكنيسة بإعلانه قديساً، مما أعطى مصداقية للقصة، حيث كان لها وقعاً قوياً على الوجدان الأوربي وعزز من الكراهية ضد المسلمين لعدة قرون، وهذا مستبعد تماماً من قبل الناصر.

وقد ساعد بعض المسلمين، من خلال تصرفات غبية لا يقبلها الإسلام، على الإساءة لصورة المسلم بنظر المواطن الأوربي. مثل المجموعات التي عاثت فساداً في مناطق واسعة من فرنسا وإيطاليا وسويسرا، والتي تكلمنا عنها في الفصل الخامس. وكذلك قيام الجيش الصقلي الإسلامي بنهب كنيستي القديسين بطرس وبولس. وقيام الحاكم بأمر الله بهدم كنيسة القيامة، وما يعزى للسلاجقة من تضييق على الحجاج الأوربيين.  هذه الممارسات غطت على قرون من التسامح الذي مارسه المسلمون حكاماً وشعوب.

كما كان يشاع أن طريق الحج غير آمن، وأن الحجاج يتعرضون لمضايقات، والثابت أن الحج لم ينقطع إلى بيت المقدس، فقد حج المطران أركولف سنة 670م، وهو فرنسي.  كما حج الإنكليزي ويليبارد في سنة 722م.  وحتى أثناء حملة ريشارد قلب الأسد لإستعادة بيت المقدس قام عدد من الحجاج الأوربيون بأداء شعائر الحج فيها[1].    

وبعد هزيمة الإمبراطور أوتو الثاني على يد المسلمين في جنوب إيطاليا، حيث نجى بصعوبة من المعركة بعد أن تمزق جيشه. دعا، بالتنسيق مع البابا بندكت السابع، الذي أعاده مؤخراً إلى منصبه في روما، إلى عقد مجمع ديني في فيرونا سنة 983م.  حيث برزت الروح الصليبية بوضوح.  مات أوتو الثاني بنفس السنة، ولكن المبادئ التي تم الإتفاق عليها في فيرونا أسست لتوجه جديد يدعو للتوحد في وجه المسلمين والتركيز على مواجهتهم.  مما أطلق هجوماً معاكساً ضد المسلمين نجم عنه إخراجهم من إيطاليا وصقلية وأجزاء مهمة من إسبانيا، مثل طليطلة.  وهذه كانت مقدمات للحروب الصليبية.       

على هذه الخلفية وصلت صيحات حكام بيزنطة إلى أوربا بعد هزيمة ملاذكرت سنة 1071م فوجدت تجاوباً وحماساً كبيراً، على الرغم من أن القطيعة بين الكنيستين في روما والقسطنطينية قد وصلت إلى إنقسامٍ نهائي شابه العداء. 

لقد إستنجد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث بالبابا جريجوري السابع في العام 1074 م، كما إستنجد الإمبراطور أليكسيوس الأول بالبابا اوربان الثاني في العام 1095 م.  وفي زمن جريجوري السابع وأوربان الثاني كانت الخلافات بين البابوية والإمبراطورية البيزنطية على أوجها وتشغل أوربا بأكملها.  فلا يستبعد أن دعوة أوربان الثاني لمجمع كليرمونت، الذي تقررت فيه الحروب الصليبية، جاء ليضع نهاية للخلافات التي كانت تعصف في البيت الأوربي.

وكان بعض الخطباء قد ذكروا في خطبهم التحفيزية أن كنيسة القيامة قد تم تحويلها إلى مسجد، وهذا لم يحدث. وكان المسلمون يعملون وفق العهدة العمرية، التي تم تسليم القدس على أساسها، وهي تضمن حرية العبادة والحفاظ على دور العبادة.  كما إستمرت جالية مسيحية كبيرة في العيش في القدس، وغيرها من مدن الدولة الإسلامية، دون التعرض لها أو محاولة إجبار أبناءها على إعتناق الإسلام، بل لقد سجل التاريخ مشاركة فعالة للمسيحيين في الحياة الثقافية والعلمية والسياسية، بل شاركوا في الفتوحات وخصوصاً البحرية منها.  كما أن الإعتقاد الأوربي أن المسلمين يعادون المسيحية والمسيحيين، إعتقاد خاطئ.  فلم تكن اوربا تشكل العالم المسيحي كله، فقد كان هناك دول مسيحية، مثل الحبشة، التي لم تدخل في حرب مع الدولة الإسلامية على الإطلاق، كما كان هناك دولة النوبة المسيحية التي ربطتها بالدولة الإسلامية إتفاقية دامت سبعة قرون.  كما أن العلاقة مع أرمينيا المسيحية تخللتها فترات سلام وتعاون كثيرة.

 

قرارالحربالأوربي

لقد جاء الرد الأوربي للنداء البيزنطي مبالغاً فيه.  فقد كان الإمبراطور البيزنطي يأمل بوصول عدد من المتطوعين الأوربيين، الذين من خلال إنخراطهم بالجيش البيزنطي، يحسنون من فرص الإمبراطورية في إستعادة أراضيها المفقودة، وذلك تحت شعار " مسيحيو الغرب يساعدون مسيحيي الشرق "، كما فكر أليكسيوس.  ولكن إستجاب لهذه الدعوة عشرات الألوف من الأوربيين من دول مختلفة، وقد جاؤوا ليستعيدوا القدس، وليس لترميم الدولة البيزنطية.

لقد نشبت الحرب في زمن البابا اوربان الثاني وليس جريجوري، الذي لم يكن أقل تجاوباً مع القضية، ولكنه كان لديه مشاغله التي منعته من إطلاق الحملة الأولى في زمنه. فلم يستطع الإعتماد على الألمان، أما أوربان فقد كان اكثر إعتدالاً من جريجوري، فكان يرى في الحرب الصليبية وسيلة لتوحيد الكنيسة وتقوية البابوية وضم الأراضي المقدسة إلى النفوذ الأوربي.  كما أن إعتماده كان على قومه الفرنسيين (الفرنج)، وفعلاً صبغت الحملة الأولى بصبغة فرنجية لدرجة أن العرب ومؤرخيهم وصفوا الصليبيين بالفرنجة.

وقد حدث هذا من خلال حملة واسعة غطت معظم أصقاع أوربا المختلفة.  وقد بدأت الحملة في مجمع كليرمونت عام 1095م.  وقد عُقد هذا المجمع على الأراضي الفرنسية.  وشارك البابا اوربان الثاني بنفسه في هذا المجمع، حيث ألقى خطاباً بين فيه أهمية شن هذه الحرب ضد المسلمين الذين يحتلون مقدسات المسيحيين وينتهكون حرمتها.  وقد مضت الخطب في المجمع، والتجمعات الأخرى التي عقدت في أماكن مختلفة من أوربا، تثير النخوة الدينية وتعزز الكراهية ضد المسلمين، وتعد المشاركين بجائزة دنيوية كبيرة وهي حيازة البلاد المقدسة التي يصفها الكتاب المقدس ببلاد اللبن والعسل [2] ، كما يمنحهم، بطبيعة الحال، الخلاص والغفران. 

وقد حدد البابا موعداً لإنطلاق الحملة، وطالب الحشود ببذل المساعدة وإنضمام المتطوعين للمشاركة في هذه الحرب.

وقد لعب دعاة من أمثال بطرس الناسك وغيره الذين كانوا يطوفون المدن والقرى الأوربية يشجعون الناس على دعم الحرب والتطوع في صفوفها.  وفي هذه الحملات كانت تطلق التهم وكانت تنسب إلى المسلمين والعرب أعمال لم يرتكبوها وليست من طباعهم.  وقد علقت هذه الصورة التي رسمت شعراً ونثراً، في ذهنية الإنسان الأوربي لقرون طويلة، وربما لا تزال آثارها باقية.

وكان من بين الأكاذيب التي أُشيعت أن المسلمين حولوا كنيسة القيامة إلى مسجد.  وهذا لم يحدث وما كان ليحدث.  وقد حدث وحول المسلمون كنائس أخرى إلى مساجد (كما حول المسيحيون مساجد إلى كنائس) وهذا، في كلا الحالتين غالباً ما يعد مبرراً، إذا ما فرغت مدينة ما من سكانها من أتباع أحد الأديان، بينما يتبقى وراءهم دور عبادة كثيرة، فيحولون بعضاً من دور العبادة لتخدم ديناً آخر. أما الذي لا يغتفر، في جميع الأحوال، فهو إجبار الناس على ترك بيوتهم وإتباع عقائد أخرى.

وما لبثت المدن التجارية الإيطالية والفرنسية أن تبنت المشروع لأسبابها الخاصة.  وهي تأمين خطوط تجارية مع الشرق، والعمل على تخفيف مضايقات الكيانات الإقطاعية الأوربية التي تهدد وجودها [3] .

وقد نجم عن هذا جذب حشود ضخمة من المسيحيين المتعصبين في تجمعات زادتهم تعصباً، وأثناء مسيرتهم إلى الشرق مارسوا كل أنواع الفظائع ضد مواطنيهم اليهود، وعندما عبروا إلى شرق أوربا، تعاملوا بخشونة مع المسيحيين الأرثودوكس، وقد تتوج ذلك بنهب القسطنطينية سنة 1204م.

هناك حدثين يسرا القيام بالحروب الصليبية ؛ الأول إكتمال تنصر هنغاريا في العام 1050، مما جعل إنتقال قوات عسكرية من ألمانيا إلى بيزنطة ممكناً.  والثاني السيطرة على صقلية عام 1091، مما جعل أساطيل المدن الإيطالية تتحرك بحرية في البحر المتوسط. 

 

الحملة الأولى

ومع بداية العام التالي (1096 م) (490 ه ـ )  كانت طرق أوربا تزدحم بمائة وخمسين ألف شخص ويسيرون بإتجاه الشرق، حيث كانت هناك حملتان متزامنتان؛ " حملة الدهماء "   بقيادة بطرس الناسك، وكانت تتكون من أفراد من عامة شعوب أوربا، وخصوصاً الفرنسيين والألمان.  أما " حملة الأمراء " فقد كانت تتكون من فرسان، أي مقاتلين محترفين، بقيادة دوقاتهم وكونتاتهم الذين كانوا يقودوهم في حروبهم الداخلية.  كان الفرق في تكوين الجيشين فرقاً إجتماعياً بالدرجة الأولى، فمعظم جنود الجيش الأول من الأقنان، أي الذين يشكلون قعر الهرم الإجتماعي الأوربي في زمن الإقطاع، أما الجيش الثاني فيتكون من الجزء الحر من الهرم الإجتماعي، فرسان وكونتات ودوقات، وهم مقاتلون متمرسون، وإن كانوا أقل عدداً من الجيش ألأول، إلا أنهم أكبر تأثيراً. 

وكان يقود الجميع الدوق جودفروا دي بويون، دوق اللورين الأسفل، كما كان يقود إحدى الفرق الأربعة بنفسه.  كما كان بوهيمند النورمندي يقود فرقة أُخرى.  وكان ريمون دوسان جيل، كونت تولوز يقود فرقة ثالثة تتشكل من فرسان وسط فرنسا.  وكان روبرت هيوز، كونت نورمانديا يقود فرسان شمال فرنسا.  وقد وضعت تحت تصرف هذه الجيوش كل الإمكانيات التي تحتاجها من تموين وتسليح ووسائل نقل وغير ذلك، وكانت مساهمة الدوقات والكونتات في هذا المجال كبيرة.

وكان البابا قد إتفق مع الإمبراطور على أن تمر الجيوش من أراضي الإمبراطورية.  وكان الإمبراطور لا يثق كثيراً بنقاء حماس الصليبيين، وتوقع الأسوأ منهم.ولكن عندما وصلت حملة الدهماء حدود الدولة البيزنطية عند بلغراد، لم يكن لدى حاكمها تعليمات بهذا الخصوص.  فنجم عن ذلك أعمال نهب في المناطق الريفية، ثم قام الحاكم بإرسال قوة مرافقة للحملة إلى القسطنطينية.  وكان الإمبراطور يأمل أن يعيد إليه الصليبيون الأراضي التي أخذها السلاجقة، كما كان يرجو أن تدخل هذه القوات في طاعته فيستعيد أحلام الإمبراطورية الرومانية القديمة في أوربا، شرقاً وغرباً.  وقد أثبت الصليبيون أنهم ضيوف ثقلاء على بيزنطة وعلى غيرها، كما أثبتوا وجود تباين ثقافي عميق بين الطرفين، وقد نجم عن خلاف على سعر زوج أحذية في مدينة سيملين الهنغارية، مقتل أربعة آلاف شخص، ثم مهاجمة بلجراد القريبة منها ونهبها بالكامل بعد هروب أهلها.  أطلق المؤرخ جيبون لقباً طريفاً على مقاتلي الحملة الصليبية الأولى، فقد سماهم " اللصوص الأتقياء "[4].

وحتى الدوقات والكونتات أظهروا قدراً من الجلافة والبعد عن الكياسة جعلت الإمبراطور يمل وجودهم ضيوفاً على بلاطه.  ولم تتوقف الأمور على مسلكيات الأمراء، بل كان هناك تجاوزات من الجنود الذين كانوا يقيمون خارج أسوار المدينة ما فاق ذلك.  فقد مارسوا نهب القرى والكنائس وحاولوا الدخول عنوةً إلى المدينة.

وكان من أشد ما أثار إستغراب وإستنكار الأمراء الصليبيين وجود مسجد في القسطنطينية. 

عمل الإمبراطور أليكسيس على جعل الأمراء الصليبيين الأغبياء والمتعجرفين [5] يقسمون يمين الولاء له، وأن يعدوا بتسليمه ممتلكاته المستعادة من السلاجقة الأتراك. وقد إستخدم من أجل ذلك جميع الأساليب، ولكنه إستخدم الذهب بكثرة [6] .

عندما قطعت الجيوش الصليبية مضيق البسفور، كانت الصورة في العالم الإسلامي قاتمة.  فقد كان  السلاجقة، الذين هزموا الروم هزيمة منكرة قبل خمسة وعشرين عاماً فقط، قد تغيرت أحوالهم بموت ألب أرسلان وموت خليفته ملكشاه وإختلاف الأبناء على وراثة الحكم.  وكانت الخلافة العباسية عاجزة عن تنظيم مواجهة للحرب الصليبية بسبب ضعفها وتقلص مساحة دولتها وقلة إمكانياتها.  كما كانت الخلافة الفاطمية تعاني من ضعف أيضاً فقد خسرت القدس للسلاجقة ولكنها إستعادتها في العام السابق للحملة الصليبية مستغلة ضعف السلاجقة.

وقد عانت هذه الكتلة البشرية في مسيرتها الواناً شتى من الشدائد والأهوال والثورات والغزوات والمذابح والإنشقاقات والإشتباك بمعارك جانبية مع المسلمين والهرب من الوحدات العسكرية،  بحيث لم يصل منها إلى نهاية المطاف إلا خمسة وثلاثين ألفاً [7] ، وأكثر حسب تقديرات أخرى.  وقد كان التناقص بشكل خاص في أوساط حملة الدهماء، الذين كان يقودهم بطرس الناسك. 

كان أول إنتصار حققوه هو السيطرة على نيقية، في الأناضول.  وكانت مدينةً أماميةً لسلاجقة الروم، وملكهم قلج أرسلان، الذي كان يقود حملة عسكرية ضد إمارة تركمانية أخرى .  هلعت حامية المدينة عندما شاهدت الأعداد الهائلة للجيش المحاصر، فإختاروا أن يستسلموا للروم ففتحوا لهم الباب دون الصليبيين، الذين جن جنونهم لحرمانهم من نهب المدينة، فإستخدم أليكسيس ذهبه مرة ثانية فمضى الجيش الصليبي، ومضى جيش الروم على أثره يستثمر ويعزز إنتصاراته فيستولي على المدن والقلاع من السلاجقة [8] . فنجح خلال فترة وجيزة في نقل حدوده لأكثر من ثلاثمائة كيلومتر.  وصلت جيوش أوربا إلى أنطاكيا وحاصرتها.  وإستمر الحصار تسعة أشهر، ومات كثيرٌ من الجنود الصليبيين أثناء الحصار [9] .  ولمدينة أنطاكيا أهمية خاصة في الديانة المسيحية، وقد كان يسكنها أعدادٌ كبيرةٌ من المسيحيين، ويروي إبن الأثير أن واليها السلجوقي إحتال عليهم لإخراجهم من المدينة، فأخرج قبل وصول الجيش الصليبي مسلمي المدينة لحفر خنادق حول المدينة، وفي اليوم التالي أخرج مسيحيي المدينة لإكمال حفر الخندق، وفي المساء منعهم من دخول المدينة، ولكنه تعهد لهم بالحفاظ على عائلاتهم وممتلكاتهم، وقد حافظ على العهد [10] .

بعد تسعة شهور تمكن الصليبيون من دخول المدينة.  وفي رواية إبن الأثير أن نافذة في أحد الأبراج فُتحت لهم من قبل شخص متواطئ، فدخلوا المدينة وقتلوا من فيها من المسلمين [11] . 

ولما سمع قوام الدولة، ملك السلاجقة بقدوم الصليبيين، خرج بجيشه وعسكر بمرج دابق، فجاء إليه الأمراء من مناطق عديدة بجيوشهم.  فخرجوا جميعاً وحاصروا أنطاكيا.  وطال الحصار بحيث نقص التموين مما أضر بحال الجيش الصليبي الذي فكر قادته بالتفاوض.  وفي هذه الأثناء رأى أحد الجنود السيد المسيح في منامة، مما بث روحاً معنوية كانت مفقودة.  فقرر الجيش الخروج من المدينة ومجابهة المسلمين.  فعندما بدأوا بالخروج، أشار أحد الأمراء على قوام الدولة أن يقاتلهم قبل أن ينظموا صفوفهم، فلم يلتفت إلى رأيه، وكان متعجرفاً مكروهاً من قبل الأمراء.  فعندما إصطف الصليبيون لم يصمد المسلمون، الذين كانوا مستائين من تصرفات قائدهم.  بينما كان الجنود الصليبيون في قمة التحفز والإستعداد للتضحية [12] . 

وبعد إنطاكية وصل مدد من جنوة بحراً.  وبدأت الخلافات تظهر بين الصليبيين والبيزنطيين. وقام القادة الصليبيون  بإستفزاز القائد البيزنطي المرافق لهم للتخلص من التعهدات المقطوعة للإمبراطور البيزنطي، حيث إتهموه بالتآمر مع الأتراك السلاجقة.

ثم إتجه الجيش الصليبي إلى معرة النعمان، وقد إستعاد حيويته، فقد إكتسب معنويات أفضل، كما غنم من جيش المسلمين كميات كبيرة من التموين والأسلحة.  وسيطر على معرة النعمان بعد حصار وقتل وسبى الآلاف.  ثم ساروا إلى عرقة وحاصروها أربعة أشهر، فصالحهم عليها منقذ امير شيزر.  ومنقذ هذا، هو والد أسامة، الذي ربطته بالأمراء الصليبيين علاقات مميزة، فيما بعد.  كما صالحهم امير حمص. 

وعلى أثر هذه التطورات كتب الخليفة إلى السلطان السلجوقي بركيارق يحثه على التصدي للفرنج قبل أن يستفحل أمرهم.  وكان بركيارق منشغلاً بخلافات داخلية مع أخيه.

عجز الصليبيون عن السيطرة على عكا، فإتجهوا إلى بيت المقدس، حيث كان الفاطميون قد إستعادوها من السلاجقة مؤخراً، فحاصروها أكثر من اربعين يوماً، وإستخدموا برجين لحصارها، أحرقت حامية المدينة أحدهما وأُستخدم الآخر بنجاح في إقتحام أسوار المدينة[13].  فسقطت بأيديهم، بعد مقاومة باسلة [14] ، على الأمان [15] . فإرتكبوا فيها المذابح والفظائع ما لا ينكره المؤرخون الأوربيون، فيذكر إبن الأثير أن القتل إستمر أسبوعاً كاملاً، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً [16] . ولكن جيبون يؤكد أن القتل إستمر لثلاث أيام، وبلغ عدد القتلى سبعين ألفاً [17].  كما شمل القتل اليهود الذين حُرقوا في معبدهم.  ولم يحد من غلواء أتباع بطرس الناسك وجود الكنائس العامرة ووجود جالية مسيحية مزدهرة تعيش جنباً إلى جنب مع المسلمين.  وقد أسس الصليبيون مملكة عاصمتها القدس،  وإنتخبوا جودفري ملكاً في اليوم الثامن،  فإتخذ من المسجد الأقصى قصراً ملكياً له، ومن فرط القول أن الصلاة تعطلت فيه.

وصل عدد من وجهاء القدس وفقهاءها إلى بغداد، ولم تكن الخلافة تملك جيشاً، فما كان من الخليفة المستظهر بالله  إلا أن وجههم إلى حلوان فوجدوا الأخوين السلجوقيين بركياروك ومحمد يستعدان للإقتتال، ولم يستطيعوا إقناعهم بنبذ خلافاتهم ومواجهة العدو المشترك فعادوا إلى بغداد.

أما الخلافة الفاطمية فقد حشدت جيشاً، بعد شهر من سقوط القدس، وإلتقوا مع الفرنج في عسقلان في عدة معارك إنتصروا في واحدة منها، ولكنهم لم يتمكنوا من فعل الكثير[18].  ولم يتمكن السلاجقة من التفرغ للصليبيين، فقد إنشغلوا بحروبهم ومكائدهم.  ولكن سجل العام 493 هـ (1099 م) إنتصاراً تكتيكياً لأميرٍ تركي على أمير صليبي [19] .

 

 

خريطة القدس في زمن الصليبيين

 

سيطر الصليبيون على الساحل الشامي بكامله، بعد مقاومة إمتدت طويلاً بمساعدة الأسطول الفاطمي.  وقاموا بتأسيس اربع كيانات سياسية؛ القدس وملكها جودفروا دي بويون، وكونتيات أنطاكيا وطرابلس والرها.  وملك القدس يتولى زعامة الجميع.  فسيطر البرجنديون على القدس والرها والنورمان على انطاكيا والبروفانسيين على طرابلس.

توفي جودفروا متأثراً بجرح أصيب به أثناء حصار عكا.  فتنازع الأمراء على خلافته، إلى أن النزاع بلدوين ملك الرها، الذي حضر على رأس جيشٍ كبير وتولى حكم القدس.  وكان بلدوين، هذا، يقلد العرب في الملبس والمأكل والمظهر.  وهذا تأثر سريع.

وباشر الفرنجة بإنشاء الحصون وإقامة الإقطاعيات، حيث أشرفوا من هذه الحصون على إدارة الأراضي الزراعية. ومع إستمرار تدفق المهاجرين بحراً، بدأت الحياة في هذا الجزء من العالم تأخذ منحى معقداً لدرجة أن تاريخ هذه الفترة ربما كان الأمتع قراءةً وبحثاً، ولكنه قطعاً لم يكن كذلك بالنسبة للذين عاشوها وذاقوا ويلاتها.

أسس الصليبيون مجتمعاً شبيهاً للمجتمعات الأوربية، وعلى الرغم من إدعاء المؤرخين الكاثوليك حول ذوبان الفوارق الإجتماعية بين الفرسان والأقنان، الذين شاركوا جميعاً في الحملة الصليبية الأولى والحملات التالية، فأن الفوارق إستمرت، بل إستمر إستغلال الأغنياء للفقراء. فقد كان الفرسان المحيطين بالكونت دي تولوز يقتلون الخيل سراً ويبيعون لحومها لفقراء الصليبيين بسعر مرتفع [20] .    

لقد إستمر القتال بين المسلمين والصليبيين، كما إستمر القتال بين المسلمين أنفسهم، ولم يحاول أحد إقامة تقارب يؤدي ألى نوعٍ من التنسيق بين العباسيين والفاطميين.  كما مارس الصليبيون الإقتتال والتآمر فيما بينهم.  وإعتبر البيزنطيون الصليبيين خونة، وإشتبكوا معهم في معارك كثيرة.  ولم يشهد تاريخ الحروب بين المسلمين والبيزنطيين كساداً طوال أربع قرون، كما شهده في هذه الفترة لإنشغال الطرفين بالصليبيين.  وقد أرسل الإمبراطور البيزنطي موفداً إلى السطان السلجوقي محمد، الذي تولى السلطنة بعد وفاة أخيه بركيارك، يحضه على مواجهة الصليبيين وطردهم.

وفي هذه الأثناء وصل وفد من حلب يشرح إعتداءات الصليبيين للخليفة وأهل بغداد، مما تسبب في إحتجاجات عنيفة من قبل أهل بغداد، حيث عيروا الخليفة بأن الروم اكثر حرصاً في مواجهة الفرنجة منه.  لقد كانت الخلافة عاجزة تماماً، وكان من عوامل ضعفها سيطرة السلاجقة، الذين كانوا قد فقدوا قوتهم أيضاً، حيث إنفرد عددٌ من أُمرائهم بمدن وقلاع يحكمونها بشكل مستقل، وكان همهم الأكبر الحفاظ على إماراتهم، التي كانوا يعتقدون أن الخطر يتهددها من أمراء آخرين، غالباً ما كانوا أبناء عمومتهم.  وقد توصل بعض هؤلاء الأمراء إلى تفاهم منفرد مع الصليبيين.  ولكن على الصعيد الشعبي فقد قويت نزعة الجهاد.  فإذا كان الحكام المعاصرين عاجزين، فإن رحم المجتمع كان يحمل إفرازات حتمية. 

  

الرد على الصدمة

قام مودود أتابك الموصل بإعلان الجهاد ضد الصليبيين بالتحالف مع عددٍ من الأمراء، فتوجه إلى الرها بعد أن طلب أهلها الأرمن مساعدته في تخليصهم من الصليبيين، وهي أقرب الممالك اللاتينية إلى الموصل، فحاصرها سنة 1111م.  ولكنه إضطر إلى التخلي عن حصارها ليتولى قيادة جبهة أخرى في مواجهة الصليبيين.  فكان هذا أول تحالف اسلامي جدي ضد الفرنج.  ولم يكن موفقاً فقد دفع الأرمن ثمناً باهظاً، قتلاً وتنكيلاً وإبعاداً من قبل الصليبيين ، بسبب إستعانتهم بالمسلمين. 

مات مودود إغتيالاً من قبل الحشاشين، الذين كانوا إحدى القوى اللاعبة في المنطقة، ولم يكونوا أقلها أثراً، وقد إعتمدوا أسلوب الإغتيالات السياسية ونجحوا في ذلك.

ثم قاد نجم الدين إيلغازي امير ماردين تحالفاً لمواجهة الصليبيين.  وقد ساعد على إنقاذ حلب من حصار ملك انطاكيا روجر، الذي قُتل في معركة حصار حلب.

وظهر نور الدولة بلك امير قلعة خربوط، الذي إستطاع أسر قائدين من قادة الصليبيين، وهما جوسلين ملك الرها، الذي إستطاع الهروب من معتقله، وبلدوين ملك القدس، الذي وقع في الأسر بينما كان متوجهاً إلى حلب، وبقي في الأسر إلى أن مات بلك.  كما برز أقسنقر البرسقي اتابك الموصل.  وقد تولى حكم الموصل بعده عماد الدين زنكي.

في العام 1118 كانت مدينة حلب وما حولها في خطر هجوم صليبي يقوده روجر أمير الرها.  فتحرك أمير ماردين غازي بن أرتق، الذي حشد مساعدة قبائل التركمان القاطنين في منطقة ديار بكر، وجمع الجيوش وغزا منطقة أنطاكيا، ولم ينتظر أمير أنطاكيا مساعدة طرابلس والقدس فواجه جيش الأمير غازي في حزيران 1119م، فهُزم روجر وقتل وتمزق جيشه، فنجم عن ذلك خسارة عدد من المدن والحصون شرق العاصي بينها معرة النعمان، وكان من الممكن لأنطاكيا أن تسقط [21] .  لقد حقق غازي إنتصاراً تاريخياً غير المعادلات، وجعل الصليبيين أكثر حذراً، كما شجع المسلمين على الإعداد والمواجهة.  وكان بإمكان غازي أن يقطف ثمار أكبر لإنتصاره الساحق، فلم يبق في إنطاكيا للدفاع عنها سوى قلة من سكانها الفرنج ورجال الدين، ولكن إدمانه على السكر جرد جيشه من قائد يقظ وموجود.

وخلال السنوات السبع التالية تمكن امراء أراتقة مغمورين من إبقاء صليبيي شمال سوريا مشغولين بإستمرار، فحدثت معارك عديدة فيما بينهم، وكان الصليبيون يستهدفون حلب، بينما إستهدف الأراتقة مدن مختلفة أصغر حجماً بيد الصليبيين، وقد تبادلا حصار المدن أكثر من مرة دون أن يحرز أي من الطرفين شيئاً، وظل ذلك السجال حتى ظهر عماد الدين زنكي.

 

الأراتقة

وهم أتراك حكموا عدد من الإمارات في شمال الجزيرة وجنوب الأناضول في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وقد كانوا جزءاً من الموزاييك السياسي في المشرق الإسلامي حين بدأت غزوات الصليبيين للمنطقة حيث كانوا ممن تحمل أعباءها وواجهها في بداياتها.

وقد تأسست هذه السلالة الحاكمة من قبل أرتوق، الذي كان أحد قادة ملك شاه السلجوقي، ثم كان في خدمة تتش السلجوقي أمير دمشق.  فعينه والياً على القدس في العام 1086م، ولكنه توفي بعد ذلك بخمس سنين.  وفي العام 1098م إستعاد الفاطميون القدس من السلاجقة فهرب أولاد أرتوق، سقمان وإلغازي من وجه الفاطميين.  ثم إستقر الإبنان في ديار بكر وماردين وحصن كيفا فس شمال الجزيرة.  وقد أدى هذا إلى الصدام مع الدولة السلجوقية التي كانت تعاني من الضعف.  وفي هذه الأثناء كان الغزو الصليبي قد بدأ، فإستمد الأراتقة شرعيتهم من خلال مقاومتهم للفرنج.  فهزمهم سقمان أمير ماردين في حران سنة 1104 وحررها، وحققوا نصراً آخر تم أسر قمص الرها،  فأطلقوا سراحه مقابل خمسة وثلاثين ألف دينار وإطلاق مائة وستين من أسرى المسلمين [22] ، وقد خلف إلغازي أخاه على ماردين ولكنه تمكن من مد سيطرته إلى حلب بدعوة من القاضي إبن الخشاب في العام 1118 م.  وفي العام التالي أوقع هزيمة بأمير أنطاكية.  وفي العام 1122 توفي إلغازي وخلفه إبن أخيه بلك.  وبوفاة بلك إنقسمت دولة الأراتقة إلى ثلاثة أقسام ماردين وديار بكر وحصن كيفا، أما حلب فقد إستولت عليها دولة عماد الدين زنكي. 

وبهذا دخلت دولة الأراتقة مرحلة الشرذمة والضعف، التي يصبح فيها الأمراء مستعدين لبذل أي شيء للحفاظ على عروشهم.  فتحالف أرسلان، حفيد سقمان، وأمير حصن كيفا، مع جوسلين أمير الرها ضد عماد الدين زنكي.  ولكن عماد الدين تمكن من الإستيلاء على الرها، وأصبح حصن كيفا تابعاً له.  ولكن الأراتقة تعاونوا مع صلاح الدين من أجل السيطرة على الموصل.  وبقيت إمارات صغيرة تحت حكم الأراتقة في شمال الجزيرة تحت حكم الأيوبيين لزمنٍ طويل.

لقد تولى الأراتقة دوراً نشطاً في مقارعة الصليبيين في وقت كان السلاجقة قد دخلوا في مرحلة ضعف شديد، وقبل ظهور الزنكيين، وحققوا إنتصارات في وقت كانت الأمة متعطشة إليها.   

 

الزنكيين

تولى عمادالدينزنكي (1127 – 1146) إمارة الموصل بعد أقسنقر البرسقي. وهو إبن  آق سنقر بن عبد الله آل ترغان، وينتمي إلى قبائل الساب يو التركمانية.  وكان أبو عماد أحد رجالات الدولة السلجوقية، وقتل في إحدى معاركها، بينما كان عماد الدين إبن عشر سنين فنشأ في كنف السلاجقة وخدمتهم.  وقد تولى عدة مناصب، كما شارك في معارك عديدة، من بينها معارك ضد الصليبيين تحت قيادة مودود [23] ، أتابك الموصل. وكانت إمارة الموصل تتبع بغداد، بخلافتها العباسية الضعيفة، وسلطنتها السلجوقية المتآكلة، وبالتالي فإن التبعية لهما كانت نسبية وإسمية.  وقد كان عماد الدين طموحاً بحيث تجاوزت طموحاته حدود إمارته.  فقام بالتوسع شمالاً وغرباً، فضم جزيرة إبن عمر، ونصيبين والخابور وحران.  وقد إستخدم في ذلك جميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك القوة العسكرية.  وكانت عينيه على الأقاليم التي إنتزعها الفرنج وأسسوا فيها ممالك لهم.  وقد تعلم من تجارب سابقيه أن إمارة صغيرة لا تستطيع مواجهة الصليبيين، فلا بد من توحد أو توحيد كيانات عديدة لتتمكن من تحرير المدن والقرى والقلاع التي إحتلها الصليبيون.  فقام ببسط سلطانه على حلب وحمص وحماة [24] .  وقد حاول ضم دمشق أيضاً ولكن أميرها معين الدين أنر تحالف مع مملكة القدس الصليبية،  مما منع ضمها.

و لعماد الدين يعود فضل إفشال الخطة البيزنطية الصليبية في الإستيلاء على حلب.  فقد زحف حنا كومنينوس، إمبراطور بيزنطة سنة 1137 م (532 هـ) على أنطاكية من أجل إرغام ريمون دي بواتيه على تسليم أنطاكية لبيزنطة، وبالمقابل يعمل الطرفان معاً على إقامة مملكة صليبية جديدة في حلب وحمص بعد الإستيلاء عليها من المسلمين.  ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق ذلك، بسبب مقاومة عماد الدين، وبسبب خلافات البيزنطيين والصليبيين.  فما كان من حنا إلا أن هاجم أنطاكيا وإنتزعها من الصليبيين، فثارت عليه جماهيرهم المقيمين في المدينة، مما جعله يهرب بجيشه بإتجاه عاصمته، دون أن ينسى حلم إستعادة أنطاكيا، حيث عاد ليكرر المحاولة، بجيش اكبر، بعد خمس سنين.    

إستطاع عماد الدين تحرير مملكة الرها سنة 1144م (539هـ)، وكانت أكبر إنجازاته. وساعد على فتحها الجفوة التي حصلت بين أميرها وأمير إنطاكيا.  وقد أصبح هذا الطابع الطاغي على علاقات الأمراء الصليبيين فيما بينهم، فبعد أن كانت الفرقة الطابع المسيطر على علاقات الأمراء المسلمين ببعضهم، أصبحت الطابع المسيطر على أمراء الجيل الثاني من حكام الممالك الصليبيين، فبعد وفاة فولك الخامس ملك القدس، تولت زوجته مليزاند الحكم كوصية على إبنها بلدوين الثالث، ففقد الصليبيون بموته القائد الموحد، فغدا الأمراء يحرضون عماد الدين على بعضهم.  ومن الأمثلة على ذلك إستعانة زوجة بوهيمند امير أنطاكية بعماد الدين على أبيها بلدوين الثاني بعد وفاة زوجها، كي ترث الإمارة [25] .

قُتل عماد الدين، إغتيالاً على يد بعض مماليكه،  سنة 541 هـ (1146م) [26] ،  بعد أن أصبح يقود جبهة المواجهة الوحيدة مع الصليبيين، وإستطاع إجهاض خططهم في التوسع تكراراً، كما جردهم من واحدة من ممالكهم الأربعة.  وقد كان يلقى دعم السلاجقة وولاتهم في حروبه، ولكن عندما عزم السلطان السلجوقي مسعود ضرب زنكي، لخلاف دب بينهما، عارض ذلك قادة السلطان ومساعديه حفاظاً على إمارة الموصل وأميرها اللذان كانا يشكلان رأس حربة في وجه الصليبيين. 

لقد كان تحرير الرها حدثاً مهماً جداً، إستقبله المسلمون والأرمن والمسيحيون الأرثودوكس بفرح كبير، حيث كان بعضهم قد أُبعد من قبل الصليبيين عن المدينة فأعادهم عماد الدين وأعاد إليهم ممتلكاته، كما عامل الصليبيين أيضاً معاملة طيبة.

 

نور الدين محمود (541-569) (1146-1174)

بعد وفاة عماد الدين، تم تقسيم دولته، التي حصلت على درجة عالية من الإستقلال عن الدولة العباسية والدولة السلجوقية، بين ولديه نور الدين محمود وسيف الدين غازي، فتولى غازي، الأكبر، الموصل، وتولى محمود حلب.  وبينما إنصب إهتمام غازي على حماية دولته من جيرانه المسلمين.  تركز جهد نور الدين محمود على مقارعة الصليبيين.  وجاء دوره مع تعاظم النقمة على الخطر الأجنبي لدى جماهير الشعوب في المشرق الإسلامي، فبرز كقائد فذ يحظى بإحترام الجميع [27] .

وقد خاض نور الدين حروباً كثيرة ضد الصليبيين، من بينها حرباً أنقذ فيها حوران من الوقوع بأيدي الصليبيين بالتعاون مع خصمه وخصم أبيه أنر، الذي كان متحالفاً مع الصليبيين، فأصبح بعد ذلك حليفاً مخلصاً لنور الدين.  كما أفشل نور الدين محاولة قام بها جوسلين الثاني أمير الرها لإسترداد الرها سنة 1150م، فوقع في الأسر، حيث بقى معتقلاً في حلب لمدة تسع سنوات.  ثم أنتزع  حصون أخرى مما تبقى من إمارة الرها، التي كانت تديرها بياترس زوجة جوسلين. 

 

الحملة الصليبيةالثانية : (1145–1149)

بعد إستعادة المسلمين، بقيادة عماد الدين زنكي، للرها عام 1144م، نودي لحملة صليبية جديدة من قبل البابا، فنشط لذلك رجال الكنيسة، مثل القديس برنارد، في كافة أرجاء أوربا لحث الناس على النهوض ومجابهة القوة الإسلامية المتعاظمة في الشرق، والقضاء على الوجود الإسلامي في إسبانيا.  فإستجاب الملك لويس السابع، ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا والملكة إليانور، ملكة أكيتانيا، وفرسان آخرين. 

زحفوا بجيوشهم عبر آسيا الصغرى، ولم يتجهوا إلى الرها، بل ذهبوا إلى القدس مباشرةً في العام 1147 م. 

وكانت حملة أخرى قد جرى تنظيمها، بعد الحملة الأولى لغايات تدعيمها سميت حملة عام 1101.  وقد تشكلت من الذين أقسموا على المشاركة في الحملة الأولى ولم ينضموا إليها.  وقد تكونت من الفلاحين اللومبارد غير المدربين، الذين قاموا، بدورهم بأعمال النهب والسلب في أراضي الدولة البيزنطية، بما في ذلك القسطنطينية نفسها.  فتم نقلهم إلى شرق البسفور حيث إنضم إليهم عدة أمراء مع فرسانهم، كما ضم إليهم الإمبراطور جيشاً بيزنطياً وعين عليهم قائداً.  فتوغلوا في الأناضول حتى إلتقوا بالسلطان قلج أرسلان، سلطان سلاجقة الروم، الذي تعلم من درس الحملة الأولى، فتحالف مع قوى إسلامية أخرى في المنطقة، فجابهوا الحملة الجديدة وهزموها.  ثم سرعان ما لحق بهذه الحملة وليم الثاني وإلتقى مع جيش قلج أرسلان في هرقليا، حيث أُبيد معظم جيشه.  كما لحق جيشٌ ثالث بالحملة بقيادة وليم التاسع دوق أكيتانيا وولف الأول دوق بافاريا وإيدا النمساوية والدة ليوبولد الثالث.  إنقسم الجيش إلى مجموعتين، واحدة إتجهت بحراً إلى فلسطين، والثانية إتجهت إلى هرقلية حيث إنهزمت، بدورها، أمام قلج أرسلان.  نجا الدوقات بصعوبة بالغة من أرض المعركة ما عدا إيدا التي فُقدت (!)، ويعتقد أنها كانت من سبايا عماد الدين زنكي، حيث يعتقد أنها أنجبت له نور الدين، ألد أعداء الصليبيين.  لقد فشلت هذه الحملة بسبب فقدان الثقة بين الصليبيين والبيزنطيين، مما نجم عنه تجزئة الحملة، الأمر الذي أعطى الفرصة لقلج أرسلان أن يعوض خسائره مع الحملة الأولى.

وقد اثارت الحملة الصليبية الثانية مخاوف الإمبراطور البيزنطي عمناويل الأول، الذي بادر إلى مصالحة الأمير مسعود، سلطان قونية، سلطان سلاجقة الروم.  ويعتقد بعض المؤرخين أنه حرض مسعود على قتالهم في الوقت الذي كان يستعد لإستقبالهم [28] .

وقد رفض قادة الحملة فكرة مهاجمة حلب، عاصمة نور الدين.  فإتجهوا إلى القدس، حيث قرروا مهاجمة دمشق، الدولة الإسلامية الوحيدة المتحالفة مع الفرنج.  فإنحرفت الحملة، بالتالي، عن هدفها المرسوم وهو إستعادة الرها. 

زحفت الجيوش الفرنسية والألمانية والمقدسية وإحتلت القرى المحيطة بدمشق، وحاصرتها في عام 543ه (1148 م).  فقاوم أهلها الحصار وإستنجد أميرها بنور الدين وسيف الدين وغيرهما من أمراء المسلمين. 

إنسحبت الجيوش الصليبية دون تحقيق مرادها، وقبل أن تصل جيوش سيف الدين ونور الدين. ويعزى ذلك إلى أسباب عديدة من ضمنها جهود أنر الموصوف بالدهاء، حيث قدم رشوة لبعض قادة الصليبيين، كما قام بتخويفهم من سيف الدين , الذي إن سيطر على دمشق سيشكل خطراً كبيراً على الممالك اللاتينية.  كما قام بجهد تفاوضي مع الصليبيين تنازل بموجبه عن قلعة بانياس. 

وما لبث العاهلين الألماني والفرنسي أن غادرا إلى بلديهما. 

 

حكام مملكة القدس اللاتينية ومعاصريهم

الأيوبيين

الزنكيين/حلب

الفاطميين

ألمانيا

إنجلترة

فرنسا

العباسيين

الفاتيكان

القدس

ميلادي

هجري

 

 

المستعلي بالله

هنري 4

وليم 2

فيليب 1

القادر

اوربان2باسكال2

جودفري

1099

492

 

 

الآمر بالله

 

هنري 1

 

 

 

بلدوين 1

1100

493

 

 

 

هنري 5

 

 

 

 

 

1105

498

 

 

 

 

 

لويس 6

 

 

 

1110

503

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1115

508

 

 

 

 

 

 

 

جلاسيوس 2كلكتكس

بلدوين 2

1120

513

 

عماد الدين

 

لوثر 2

 

 

 

هنريوس 2

 

1125

519

 

 

الحافظ

 

 

 

القائم

انوسنت 2

فولك

1130

524