الوضع
العام قبل الحروب الصليبية
الوضع
الإقتصادي في القرن الحادي عشر
تحولت معظم التجارة في القرن الحادي عشر
إلى مصر الفاطمية. فقد كانت الفسطاط
والإسكندرية تلعبان دوراً هاماً في التجارة العالمية. وكانت المدن الإيطالية قد بدأت بالظهور كقوى بحرية،
عسكرية وتجارية، وكانت تقيم علاقات دبلوماسية وتجارية متقدمة مع الدولة
الفاطمية. وكانت تتصرف بجرأة وإستقلالية
كبيرتين. متحدية النظام الأوربي، الكنسي
والإقطاعي، وقد تسببت هذه الحركة التجارية النشطة في إنعاش إقتصاد أوربا وإعادة
الإعتبار إلى المدن، التي أخذت بالإتساع والنمو،
والتعامل بالنقود، مما أحدث تطوراً في وسائل الإنتاج وإنتشار الصناعة.
وكانت
الصناعة مزدهرة في الشرق الإسلامي، مثل صناعة الورق والزجاج والنسيج وغيرها. الأمر الذي وسع بدوره التجارة العالمية وساعد
على بناء إقتصاد مزدهر في حوض البحر الأبيض المتوسط.
الخارطة
السياسية لأوربا في القرن الحادي عشر
عندما كانت أوربا تستعد لحربها الصليبية
مع المسلمين، كانت تتكون من كيانات سياسية تختلف عما كانت عليه عندما طرق عبد
الرحمن الداخل أبوابها في القرن الثامن، فقد تشكلت دول وظهرت كيانات جديدة وتبدلت
الخارطة السياسية إلى حدٍ بعيد.
فقد
كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة تتربع في قلب أوربا تضم ألمانيا وهولندة
وبلجيكيا وسويسرة والنمسة والنصف الشمالي من إيطاليا وأجزاء من فرنسا وجزيرتي
كورسيكا وسردينيا.
كما
كان اكثر من ستين بالمائة من إيبيريا لا يزال في يد المسلمين. والنورمان يحكمون النصف الجنوبي من ايطاليا
وصقلية. وفرنسا وإنجلترة، في حجمهما
التاريخي، وكان النورمان قد أتموا غزوهم لإنجلترة مؤخراً، وفرنسا يحكمها آل كابيت
من باريس.
والإمبراطورية
البيزنطية تحتل غرب الأناضول وشريطاً ساحلياً على البحر الأسود وجميع
البلقان. وهنغاريا قد أصبحت دولة اوربية
مسيحية مستقرة.
الأندلس
إنتهت
الخلافة الأموية في سنة 1033م بإستقلال
الأقاليم والمدن الأندلسية، فيما عُرف بدول الطوائف، التي بلغ عددها 34 مملكة
وإمارة. وكان من بين حكامها ثمانية يُسمون
أمير المؤمنين. وقد إستغل ملوك قشتالة
وأرغون وليون الفرصة وإنقضوا على هذه الدويلات، كلٌ على من يليه. في العام 1085م
نجح جيش مملكة ليون في السيطرة على طليطلة، العاصمة القوطية القديمة، ولم يتمكن
المسلمون من إستعادتها بعد ذلك.
الأندلس قبيل الحروب الصليبية
كما
إستولى الإسبان على العديد من المدن الأندلسية، التي أمكن إستعادتها من الإسبان
بمساعدة المرابطين. الذين أرسلوا جيوشهم
إلى الأندلس بناءاً على طلب أهلها، ولم يقوموا بضمها لدولتهم في المغرب، ولكن
حافظوا على الكيانات السياسية (دول الطوائف) دون تغيير. ولكنهم عادوا وتدخلوا ثانيةً بناء على طلب من
أهل الأندلس على إثر هجوم إسباني شامل، فقاموا برد الجيوش الإسبانية، وهذه المرة،
قاموا بضم إمارات الأندلس وممالكها إلى دولتهم التي يحكمونها من مراكش
.
النورمان
في جنوب إيطاليا
تمكن القائد النورماندي روبيرت جيسكارد
من إحتلال كالابريا في العام 1057م، حيث إتخذها قاعدة لمهاجمة صقلية
الإسلامية.
وكانت بيزا وجنوا الإيطاليتين
وكاتالونيا الإسبانية تعمل على إنهاء التواجد الإسلامي في جزر غرب المتوسط مثل
وكورسيكا وسردينيا.
بدأ التواجد النورماندي في جنوب إيطاليا
في العام 999م. فقد أدركت أوربا الخطر
العربي الإسلامي القادم إلى وسط أوربا من خلال صقلية وإيطاليا، فقد كانت توجيهات
البابا تشجع إستخدام مجموعات وأفراد من المحاربين النورمان في خدمة إمارات جنوب
إيطاليا، ولم يكن ذلك يهدف إلى التخلص من الوجود الإسلامي فحسب، بل إلى التخلص من
الوجود البيزنطي كذلك. ولكن النورمان
دخلوا في خدمة الدولة البيزنطية، في إيطاليا وفي الأناضول لمحاربة المسلمين.
ثم دخلوا في خدمة دوقات نابولي، حيث
منحهم سيرجيوس الرابع قلعة أفيرسا في العام 1029 م، حيث ترك لهم المجال للتوسع على
حساب التواجد الإسلامي والبيزنطي في المنطقة. وتعزز الوجود النورماني بوصول عدد
آخر من الفرسان من نورماندي، فوصل أخوان وليم (الذراع الحديدية) ودروجو، وهما إبني
أحد صغار نبلاء نورماندي. وإشترك الأخوان
في تنظيم هجمات على أبوليا لإنتزاعها من البيزنطيين، وفي العام 1040م نجحوا في
السيطرة على معظمها، وفي العام 1042 نقلوا عاصمتهم إلى ميلفي وإختاروا وليم كونتاً
لهم، وبهذا أصبح لهم كياناً سياسياً. ووصل
إخوة وليم من نوركاندي تباعاً، فتعاقب على الحكم منهم ثلاثة، وكان هناك رابع إسمه
روبرت وصل في العام 1047م على رأس قوة صغيرة من الفرسان والمشاة، فتسلم قلعة من أخيه، ثم تزوج إبنة إحدى عائلات
الجنوب الأرستوقراطية، الأمر الذي رفع من شأنه.
وفي هذه الأثناء إنقلب اللومبارد
والبابوية على النورمان، بسبب النهب والسلب الذي مارسوه في جنوب إيطاليا. وعمل البابا ليو التاسع على طردهم من جنوب
إيطاليا. فوجه البابا بالتعاون مع
اللومبارد جيشاً ضدهم. ولكن النورمان نجحوا في هزيمته وأسره ، حيث كبا له الجنود
قبل إعتقاله [1]،
ثم قاد روبيرت ميسرة الجيش، ولعب دوراً مميزاً.
أصبح روبرت كونت أبوليا، وبالتعاون مع أخيه روجر سيطرا على كالابريا
(قلوريا)، وسيطر ريتشارد على كابوا.
وسرعان ما أدركت البابوية أهمية
النورمان في جنوب إيطاليا، فإعترفوا بهم، وزار البابا نيكولاس الثاني الجنوب، وعقد
مجلساً في ميلفي في العام 1059م حيث قلد روبرت دوقية أبوليا وكالابريا وصقلية،
التي كانت بيد العرب، بكاملها. فكان هذا إشارة للتوسع على حساب "البيزنطيين
المنشقين والمسلمين غير المؤمنين" [2].
خارطة
مملكة النورمان في صقلية وجنوب إيطاليا
النورمان
وصقلية
عمل روبرت على إخضاع أبوليا وكالابريا
بتصفية آخر معاقل البيزنطيين فيهما. ولكنه
في هذه الأثناء بادر إلى مهاجمة مسينا في صقلية، ولكن جيشه إرتد عنها
مهزوماً. وفي العام 1061 كرر المحاولة بعد
أن أصبح أكثر تفرغاً، وبعد إخضاع مقاومة البيزنطيين ورد هجماتهم المعاكسة. فدخل مسينا بيسر؛ حيث نزل الجيش ليلاً وفاجأ
حامية المدينة، وكان على رأس الحملة روبرت وأخوه الأصغر روجر. فباشرروبرت بتحصين المدينة، ثم أجرى
إتصالاً بأمير منافس لأمير صقلية إبن الحواس، وهو إبن الطمناح. فتشكل حلف زحف إلى
مركز الجزيرة. حيث إستطاع التحالف السيطرة على بعض المدن، بينما إمتنعت عليهم مدن
أخرى. وقبل نهاية العام غادر روبرت إلى
أبوليا، ولم يعد إلا في العلم 1064م حيث حاول السيطرة على باليرمو دون جدوى، ولكنه
نجح في 1072 م. إستغرقت السيطرة التامة
على صقلية لغاية 1091م.
وفي هذه الأثناء أستطاع النورمان مد
سيطرتهم على جنوب إيطاليا، فطردوا البيزنطيين منها نهائياً، كما إنتزعوا ممتلكات
اللومبارديين وهاجموا بعض ممتلكات البابا، الذي غضب لهذا التصرف، ولكنه أبقى حبال
المودة مع النورمان، فلم يعمل على حرمان قادتهم مثلاً، فقد كانت أوربا تعد للحروب
الصليبية.
صقلية
: العلاقات التجارية والسياسية
في بداية أمرها، كانت صقلية الإسلامية ولاية أغلبية تتبع بني
الأغلب في القيروان، التي كانت بدورها ولاية عباسية تتبع بغداد. وبالتالي فإن علاقاتها كانت محكومة إلى حدٍ ما
بالسياسة العباسية، ولكن ضعف الخلافة وبعدها أعطى الصقليين هامش حرية واسع، بل
أصبحوا فيما بعد يتجاوزون القيروان، عاصمة بني الأغلب. فقامت علاقات قوية مع الأندلس، فقد تلقت
مساعدات عسكرية منها, كان لها دورٌ حاسم
في فتح الجزيرة، ويُعتقد أنها كانت بمبادرة غير رسمية. كما كانت العلاقات التجارية مع الأندلس قائمة،
بل كانت صقلية محطة تحل فيها السفن الأندلسية القادمة من مصر والشام، والذاهبة
إليها.
وكانت العلاقات التجارية مع مصر والشام جيدة جداً، وكانت
السفن من مختلف الجنسيات نشطة، أما التجارة مع الدول الأوربية، فقد نجحت صقلية، في
مرحلةٍ مبكرةٍ جداًُ من إقامة علاقات تعاون عسكري وتجاري مع نابولي. وقد كانت هذه العلاقة إختراقاً للحواجز التي
فرضتها أوربا على نفسها منذ القرن الثامن.
كما كانت مشجوبةً أوربياً، ولم تكن مقبولةً من قبل الكنيسة. وقد صمدت هذه العلاقة طويلاً، وكانت نابولي تصف
أحياناً مع تحالفات إيطالية موجهة ضد التواجد الإسلامي.
عندما تأسست إمارة باري، فضل حكامها الإستقلال عن صقلية،
فقاموا بالحصول على إعتراف عباسي. ولم
يُقابل ذلك بالعداوة من قبل أمراء صقلية.
لقد إستمرت صقلية في لعب دور المحطة من خلال موقعها المتوسط في
البحر، بحيث تمر بها السفن المبحرة من الشام إلى الأندلس، أو تلك المبحرة من مصر
إلى البندقية أو جنوة. وقد در عليها هذا
أرباحاً كبيرة وعزز من مكانتها التجارية.
الحياة
الثقافية في صقلية
على
الرغم من القصر النسبي للمدة التي التي مكثها العرب في صقلية، وعلى الرغم من كثرة
الحروب والفتن، فإن حياة ثقافية راقية قد تشكلت في صقلية وبشكل خاص في المدن
الرئيسية وفي طليعتها العاصمة باليرمو.
فعندما
تمت تصفية الوجود السياسي للعرب في صقلية هاجر عددٌ كبير من الشعراء والفقهاء
والعلماء إلى الأندلس والمغرب وتونس ومصر والشام.
كما تبقى العديد من العلماء والشعراء والموسيقيين والمغنيين في صقلية.
كما
كانت صقلية محجاً للعلماء وللرحالة ولطالبي العلم، سواءاً منهم المتوجهين شرقاً من
المغرب والأندلس، أو المتوجهين إلى الأندلس والمغرب من الشام والعراق ومصر.
فقد
هاجر إلى الأندلس محمد بن احمد الصباغ الكاتب والشاعر محمد الطرابنشي، المنسوب إلى
طرابنش في صقلية. وهاجر إبن حمديس الشاعر
الصقلي المشهور إلى إشبيلية حيث مدح المعتمد بن عباد ولازمه. وقد ترك إبن حمديس ديواناً كاملاً.
وقد
إشتهر عددٌ من الأطباء في صقلية مثل محمد بن الحسن الطوبي وعلي بن حسين بن أبي
الدار الصقلي وغيرهم.
وإشتهر
في النحو محمد بن عبد الرحمن بن خراسان النحوي الصقلي الذي تعلم في مصر، وكذلك
اسماعيل بن خلف الصقلي وإبن الفحام الصقلي، الذي كان محدثاً كذلك.
وقد
رحل السمنطاري، نسبةً إلى قرية في صقلية، إلى الشام حيث درس الفقه والحديث
والنحو. لقد ترك المهاجرون الصقليون أثراً
كبيراً في الحياة الثقافية في البلدان التي هاجروا إليها. أما اللذين لم يهاجروا وبقوا في صقلية تحت
رعاية البلاط النورمندي، فقد أظهروا قدراً من الإبداع ماجعلهم أهلاً لأن يكونوا
جزءاً من تجربة تعايش غير مسبوقة عندما يكون الغالب أوربياً. وفي طليعة هؤلاء العالم الكبير الإدريسي.
آثار
الحضارة العربية في صقلية
لقد
ترك العرب أثراً عميقاً في التكوين الثقافي الصقلي، لا يزال محسوساً لوقتنا
الحاضر. وقد كانت المؤثرات السامية قائمة
في صقلية قبل وصول العرب. فقد أستوطنها
الفنيقيون ثم الإغريق ثم القرطاجيين ثم الرومان ثم البيزنطيين ثم العرب. وبعد الفتح النورماني هاجر أعداد كبيرة
اللومبارد والإيطاليين إلى الجزيرة. وعند
وصول العرب كان هناك مواقع تحمل أسماء فنيقية، مثل مازر وغيرها.
وقد
أحدث العرب في صقلية ثورة زراعية من خلال إقامة مشاريع الري وإستصلاح الأراضي،
وإضافة زراعات جديدة مثل قصب السكر والحمضيات، وقد ترك هذا أثره على اللغة
المستخدمة في صقلية، فدخلت فيها الكثير من الصطلحات الزراعية العربية، وبقي الكثير
منها إلى زماننا.
وفي
زمن النورمان، ومع وجود المكتبات العربية التي حافظ عليها النورمان، ومع وجود
الكثير من العلماء العرب الذين شجعهم النورمان على البقاء، أصبحت صقلية أحد جسور
ثلاث عبرت عليها العلوم والآداب العربية والإسلامية، سواء منها المترجم أو المقتبس
أو الأصيل، إلى أوربا. فقد زار العشرات من
أبناء أوربا الراغبين في التعلم، وكان كثيرٌ منهم رهبان خلد زيارتهم تعليقاتهم
اللاذعة على نمط الحياة في قصور النورمان، التي وصفوها على أنها شبه إسلامية.
ويقال
أن " المافيا " الإيطالية الصقلية تعود بجذورها إلى فترة الحكم العربي،
حيث نشأت فئة من أبناء الجزيرة كانوا يقدمون خدمات للإمارة، بحيث كانوا معفيين من
دفع الضرائب. فكانت جماعة معفية.. مافية،
بحذف العين التي لا يستطيع الأوربيون لفظها.
صقلية
: نموذج التعايش غير المسبوق أوروبياً
إكتملت السيطرة النورمندية على صقلية في
العام 1091م بقيادة روبرت جيسكارد، وقد كان بجانبه أخوه روجر، الذي أصبح روجر
الأول. لقد رضي البابا عن روبرت وإخوانه،
فقد نجحوا في تصفية الإمارة الإسلامية في صقلية، كما قاموا بتحويل بطريركية بليرمو
الأرثودكسية إلى الكاثوليكية. ولكن
النورمان حافظوا على الوجود الإسلامي والبيزنطي في الجزيرة محافظين على الإتفاقيات
المعقودة عند تسل المدن والحصون، والتي ضمنت حرية العبادة والتنقل والتجارة. أما في الريف فقد تحول الفلاحون المسلمون إلى
أقنان لدى الإقطاعيين الجدد.
وتسلم
الحكم بعد روبرت روجر الأول (1071–1101) وقد عُرف عنه التسامح، حيث ترك للمسلمين
مساجدهم ونظامهم القضائي الخاص بهم. وقد
كان معظم مشاة جيش روجر مسلمين. وتسلم
سيمون (1101–1105) الحكم بعد أبيه روجر الأول، وحكم أربع سنوات فقط، ثم إعتلى عرش
صقلية روجر الثاني الكبير (1105–1130) بعد أخيه، الذي أصبح فيما بعد ملك صقلية.
تولت
الوصاية عليه أمه أديليد، وكان يساعدها خريستودولس، وهو عربي من باليرمو، ويعني
إسمه عبد المسيح، وإسمه بالعربية عبد الرحمن النصراني، وهو مسيحي عربي، وكان يسمى
" أمير باليرمو " التي كانت عاصمة صقلية. وأصبحت عاصمة دولة النورمان عندما قام روجر
الكبير بتوحيد إمارات النورمان الثلاث وما يتبعها من دوقيات وكونتيات أصغر شأناً،
بعد تسلم الحكم في عام 1112م. وكانت أمه قد
تزوجت بلدوين، أخو ملك القدس، وكونت الرها.
أما روجر فقد تزوج إلفيرا إبنة ألفونسو السادس، ملك قشتالة الذي كان العرب
يسمونه الأدفونش، وكانت أمها جارية مسلمة إسمها زايدا. إختلف روجر مع البابا إنوسنت الثاني، الذي أراد
الإبقاء على كابوا كإمارة عازلة بين دولة البابوية والنورمان، ولكن روجر لم يقبل. فوقعت الحرب بينهما، فهُزم البابا ووقع في
الأسر، وبعد ثلاثة أيام تم توقيع إتفاقية تنص على تنصيب روجر ملكاً على صقلية
وأبوليا وكالابريا وكابوا. فكانت أهم
منجزاته السياسية مضافةً إلى توحيد ممتلكات النورمان في صقلية وجنوب إيطاليا في
مملكة واحدة، عاصمتها باليرمو، التي كانت من أكبر مدن أوربا في هذا الوقت. ولكن روجر الثاني إشتهر بتسامحه وحبه للعلم
والتعليم. فقد إستضاف العلماء العرب، وكان
العالم الجغرافي الإدريسي مقيماً في بلاطه.
توفي روجر الثاني في العام 1154م، وقد إستعرت الحروب الصليبية في شرق
المتوسط، ودفن في باليرمو وكتب على قبره
"قائد وملك صقلية الأول"
[3]
. تسلم الحكم بعد روجر
الثاني إبنه وليم الأول، الذي كان يلقب بالداهية، ولم يكن محبوباً من قبل النبلاء
وكذلك من قبل حكام أوربا. ولكن إبن خلدون
يصفه بأنه كان حسن السيرة
[4]
. وقد حافظ على الوجود
الإسلامي في الجزيرة، بل كان متهماً بأنه كان يعيش حياة شبه إسلامية في
قصوره. وقد أكد ذلك إبن جبير في رحلته،
حيث كان بلاطه يعج بالمتكلمين بالعربية، وكان هو نفسه يتكلمها ويقرأها. شن وليم هجوماً فاشلاً على الإسكندرية، كما قام
بحملة ضد الدولة البيزنطية. ورُتب زواج
سياسي في زمنه، فقد تم تزويج عمته، إبنة روجر الثاني، من هنري إبن فريدريك
إمبراطور ألمانيا. وكان قد وعد عمته بأن
تكون وريثةً للعرش الصقلي في حال وفاته بدون أولاد. وفعلاً توفي في العام 1189 م دون أن يعقب. ولكن الحكم لم يذهب إلى الوريثة الشرعية
الموجودة في ألمانيا، بل تم إغتصاب السلطة من قبل دوق أبوليا تانكرد، الذي حصل على
إعتراف إثنين من كبار ملوك أوربا، ريتشارد ملك إنجلترة وفيليب ملك فرنسا، وذلك بعد
أزمة تتعلق بأخت ريتشارد جوان، التي كانت زوجة وليم الثاني. فعندما كان ريتشارد متوجهاً إلى فلسطين على رأس
حملة صليبية، عرج على صقلية وطالب تانكرد بتحرير أخته (أخت ريتشارد) وإعطائها كامل
حقوقها. وفي هذه الأثناء وصل فيليب على
رأس جيشه إلى صقلية، فساند ريتشارد في مطالبه.
ولما طال مكوث الجيشين، لعدم تلقي جواب، ثار أهل مسينا مطالبين برحيل
الجيوش الأجنبية، فما كان من ريتشارد إلا أن قام بإجتياح المدينة ونهبها من قبل
جيشه. ثم إتفق الملكان مع تانكرد، حيث نفذ
لهما طلباتهما المتعلقة بالملكة جوان، وقدما، بالمقابل، إعترافهما بتانكرد.
الأناضول
كان
وقع هزيمة الروم في ملاذكرد سنة 1071 م قوياً، لدرجة أن صدى صيحات الإستنجاد
البيزنطية كانت مدوية، ولم يعلو عليها إلا صيحات تلبية النداء الأوربية التي ملئت
جوانب طرقات أوربا وساحاتها بكلام متشنج مفعم بالمبالغات. وقد جاء الرد الأوربي سريعاً، على الرغم من أن
الإنشقاق الكنسي كانت آخر صفحاته قد سُطرت قبل 17 سنة فقط، فقد كانت أوربا قد عزمت
منذ زمن على محاربة المسلمين في سوريا.
خارطة
الأناضول ويظهر عليها موقع معركة ملاذكرد
لم
يكن الروم معتدى عليهم. فقد كان جيش
رومانوس الضخم يهدف إلى إكتساح أراضي واسعة من أراضي الدولة العباسية. فبعد إشتباك جانبي بين الجيشين إقترح ألب
أرسلان عقد هدنة، فكان رد رومانوس المتعجرف، سنعقدها في الري، أي إلى ما بعد
طهران. وفي اليوم التالي كان أسيراً في
خيمة ألب أرسلان. حيث قام بضربة أربع مرات
بعصاه قائلاً ألم أعرض عليك الصلح ؟. ثم
سأله لو وقعت في يديك ماذا كنت فاعلاً ؟.
فقال كل قبيح. فأجابه ألب أرسلان
أما أنا فسأعاملك معاملة حسنة، وفعلاً فعل.
عاد
رومانوس إلى بيزنطة. ولكن حمى التحضير
لحرب مقدسة إستمرت في أوربا، وخلال العقود والقرون التالية عانت منها الدول
الإسلامية، كما عانت منها الإمبراطورية البيزنطية نفسها.
الإنقسام
الكنسي
يتفق
مؤرخو الكنيسة على أن العام 1054 م هو عام القطيعة النهائية بين قطبي الكنيسة
الخلقيدونية في روما والقسطنطينية. كما لا
يخفى على المطلع أن الخلاف قديم وقد أصبح غير قابل للإصلاح قبل ذلك بكثير. وقد كانت الأسباب الأساسية تتعلق بسلطة البابا،
فقد كان البابوات يصرون على أن سلطتهم تشمل جميع الأسقفيات الشرقية، بينما يصر
رجال كنيسة القسطنطينية عاة أن سلطة البابا
[5]
شرفية
بالنسبة لكنائس الشرق، أما سلطاته الفعلية فيمارسها على كنيسة روما.
وكان
هناك عدد من القضايا العقيدية التي كانت تثار فتظهر آراء متباينة للطرفين فتزيد من
الخلافات مثل الإيقونية وطبيعة روح القدس وغير ذلك.
وقد
أخذ الإنقسام طابعاً عقائدياً ولغوياً وسياسياً وجغرافياً وثقافياً وحضارياً. وعلى الرغم من أن الإنقسام كان نهائياً في
القرن الحادي عشر إلا أن محاولات جادة تمت فيما بعد لتجسير الهوة بين الكنيستين
على طريق توحيدهما. ففي مجمع ليون الثاني
الشهير، الذي عُقد من أجل إحياء الروح الصليبية سنة 1274م، وافق الطرفان على
التوحيد. كما وافق الطرفان في العام 1439م
في مجمع بازل. وفي كلا الحالتين تراجع
الطرفان عن القرارات. وتدريجياً تحول
الأرثودوكس إلى الدفاع نتيجةً لتوالي الهزائم السياسية للدول الحاضنة للكنيسة مع
تعاظم شأن الدول الغربية الكاثوليكية. وقد
تحول الكثيرون إلى الكنيسة الغربية أفراداً وجماعات، فقد حولت الكنيسة المارونية
تبعيتها إلى كنيسة روما أثناء الحروب الصليبية.
ولكن
ما الذي حصل في العام 1054م ؟. هناك أكثر
من طريقة لرواية ما حصل. فقبل هذا العام
كانت العلاقة بين الطرفين جيدة، وذلك في زمن البابا ليو التاسع والإمبراطور
البيزنطي قنسطنطين التاسع.
فقد
كانت البابوية شجعت جماعات صغيرة من النورمان من التوجه إلى جنوب إيطاليا لمواجهة
التواجد الإسلامي (وكذلك البيزنطي) هناك.
ولكن النورمان كانوا يبالغون في النهب والسلب، لدرجة أن البابا إستغل تحسن
العلاقة مع بيزنطة، بوساطة أرجيوس اللومباردي، فهاجم النورمان، الذين أصبحوا قوة
كبيرة، بالتنسيق مع بيزنطة لغرض إخراجهم من جنوب إيطاليا. ولكن جيش الدولة البابوية تمت هزيمته، وتم
محاصرة البابا في بنفنتو، وقد عزى البابا ذلك لعدم ظهور جيش أرجيوس في ساحة
المعركة، وهي معركة سيفيتيت التي جرت في سمة 1053م. وكانت عائلة أرجيوس تعيش في بيزنطة، وبالتالي
فإن البابا وضع اللوم على بيزنطة. وفي
السنة التالية، حيث كان البابا ليو التاسع قد توفي، تمت إساءة إستقبال وفد كنسي
كاثوليكي في القسطنطينية، فقام الموفدون بالتوجه إلى كنيسة أيا صوفيا ووضعوا قرار
حرمان حرمان بحق البطريرك وغادروا إلى روما.
فتركوا القسطنطينية منقسمة على نفسها وفي حالة غليان. فأعتقلت عائلة أرجيوس المتواجدة في بيزنطة.
وكانت القطيعة، فإصبحت الكنيسة الشرقية تسمى الكنيسة الأرثودوكسية، ويعني لغةً،
التمسك بالعقيدة الأصلية، بينما أصبحت الكنيسة الغربية تسمى الكنيسة الكاثوليكية،
وتعني العالمية، وكلا المعنيين يعبر عن توصيف دفاعي، فالأرثودكسية ظهرت في مواجة
تيارات مثل الآريوسية والنسطورية، أما الكاثوليكية فقد تبنت هذا الإسم في وقت كانت
كنيسة روما لا تمثل أكثر من خمس مسيحيي العالم، ولكن الأحوال تغيرت خلال العقود
التالية.
وضع
الكنيسة
نشأت
البابوية في الغرب المسيحي وقويت نتيجةً لسقوط الإمبراطورية الرومانية
الغربية. فبالشرق كان الإمبراطور البيزنطي
يلعب دوراً سياسياً ودينياً، كما أُطلق على المؤسسة الحاكمة لاحقاً "القيصرية البابوية". وبالتالي فرضت الضرورة أن يصبح أسقف روما يتبوأ
دوراً يتخطى أسوار الكنيسة. وخصوصاً أن
روما كانت الأسقفية الوحيدة في غرب أوربا، وعليها تقع مهمة حماية المسيحية ونشرها
في هذه البقاع. أما في الشرق فقد كان هناك
أربع أسقفيات، كانت القسطنطينية واحدة منها، وليست الأهم تاريخياً ودينياً.
وهكذا
تطورت كنيسة روما إلى هيئة قوية تستلزم مباركتها على كل خطوة يتخذها حاكم، على
الأقل من الناحية النظرية.
وقد
أعطى إنتشار الديرية مزيداً من القوة للكنيسة، كما إستمدت القوة من الملوك الذين
تحالفوا معها، وربما الذين صنعتهم.
وقد
بلغت الكنيسة الكاثوليكية ذروة قوتها في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية، بحيث
أصبح بإمكان البابا أن يحرم إمبراطوراً، فيأتي ماشياً على قدميه طالباً
العفو.
الغطاء
العقائدي للحرب المقدسة
لقد خاض الأوربيون حروباً كثيرة جداً. خاضوا حروباً ضد الوثنيين، كما خاضوا حروباً ضد الأريوسيين. وقامت حروب بين الكاثوليك وبين الأرثودوكس،
بالإضافة إلى حروبهم ضد المسلمين. ولكن
معظم هذه الحروب لم يكن بإسم الكنيسة، كما لم يملك غطاء ديني.
لقد
كان الإسلام في مكة ديناً غير مقاتلاً، وقد رفض الرسول (ص) إقتراح أحد صحابته
مهاجمة كفار قريش والعرب في موسم الحج، قائلاً أنه لم يؤذن له من قبل ربه. وقد جاء هذا الإذن بعد الهجرة بآية واضحة
وصريحة.
أما
في الشرع المسيحي، فهناك كتابات القديس أوغسطين، الذي كان يعيش في هيبو (عنابة) في
الجزائر في القرن الخامس، حيث وُلد لأمٍ
بربريةٍ مسيحية وأب وثني روماني، وقد تحول إلى المسيحية في سنٍ متأخرة نسبياً،
ولكنه تلقى تعليماً جيداً كطفل، أهله ليصبح عالماً كبيراً، فوضع كتاب " مدينة الله " تضمن رداً على
مقولة شاعت بين الرومان بعد نهب روما من قبل القوط، مفادها أن هذا عقاب لروما
لأنها تخلت عن عبادة جوبتر. كما قيل أن
المسيحيين لم يدافعوا عن روما. فقال أن
روما مثل جميع المدن فيها الخير والشر، ولو بقيت على وثنيتها لنهبها القوط كذلك،
وطلب من المسيحيين تحمل حكم المتبربرين، فهي إرادة الله، ويكفيهم بقاء الكنيسة
[6]
. وللقديس أوجستين العديد
من الكتابات مثل "حول العقيدة المسيحية" و "إعترافات" و
"حول الثالوث". وله أقوال خالدة
مثل "أحب المخطئ وإكره الخطيئة" و "إستمع للطرف الآخر" و
"لا شيء ينتصر غير الحقيقة، وإنتصار الحقيقة هو الحب".
وأوغسطين
هو صاحب نظرية "الحرب العادلة"، حيث برر إستخدام الكنيسة للقوة ضد
الدوناتيين، وهم أتباع مذهب مسيحي إنتشر بين البربر في القرنين الرابع
والخامس. فقال " لماذا لا تستخدم
الكنيسة القوة لإجبار أبناءها المفقودين على العودة ؟".
وقد
توماس أكويناس وهوجو جروتيوس مجموعة نظم وقواعد للحرب العادلة.
وقد
بذل البابا جريجوري السابع جهداً كبيراً في مواجهة معارضي فكرة الحرب المقدسة،
وشرعية سفك الدماء وبذلها من أجل الدين، حتى توصل إلى تبرير اللجوء إلى
العنف.
وكانت
الأفكار تدور عموماً حول أحقية إستخدام القوة ومدى إستخدامها. فيحق إستخدام القوة في إسترجاع ما فُقد، وفي
معاقبة المخطئين. كما يجب التمييز بين
المدنيين والمحاربين، ويجب أن تتناسب القوة المستخدمة مع حجم السبب الذي دعا
إليها، بحيث يتم إستخدام الحد الأدنى من القوة.
الخارطة
السياسية في العالم المسيحي الإسلامي
كانت الإمبراطورية الألمانية تتربع في
وسط أوربا، وتمتد جنوباً لتضم النصف الشمالي من إيطاليا وجزر سردينيا وكورسيكا
ومعظم سواحل فرنسا على المتوسط. أما بقية
إيطاليا فقد كانت تتبع مملكة صقلية النورماندية.
وفرنسا إلى الغرب أصغر قليلاً مما هي عليه اليوم، ولكنها كانت تضم نورماندي
وبريتاني وأكيتانيا وبرغندي. وشبه الجزيرة
الإيبيرية كانت مقسمة بين المسيحيين والمسلمين.
وقد ظهرت إلى الوجود دولة البرتغال، وتوسعت ليون وقشتالة وأرغون على حساب
الأندلس.
في الشرق كانت الدولة البيزنطية قد خسرت
الكثير من الأراضي في الأناضول، وكانت الإمارات التركية تتكاثر وتتوسع وتعمل على
تتريك الأناضول ببطء ولكن بثبات. وكان معظم البلقان في يدها. وكانت تجاورها
بلغاريا وصربيا إلى الشمال والغرب.
وهنغاريا وبولندة تقعان إلى الشرق من ألمانية. أما إنجلترة فلم تكن بعد قد ضمت إيرلندة
وسكوتلندة.
أما في الشرق فكانت الخلافة العباسية قد
تخلصت من هيمنة السلاجقة وإستعادت عافيتها، وكانت شمال سوريا وشمال الجزيرة ومعظم
الأناضول تحكمه إمارات تركية. وكانت بلاد
الشام يتعاقب على حكمها السلاجقة والفاطميون.
أما مصر والحجاز واليمن وليبيا فقد كانت تحت حكم الفاطميين. وكان المغرب يحكمه بنو زيري، الذين سلمهم الحكم
الفاطميون عندما غادروا إلى الشرق.
هكذا كانت الصورة قبيل الحروب الصليبية،
ولم تتغير كثيراً بعد قرنين من الصراع الدامي، فقد بقي المتوسط مقسوم بالتساوي.
بغداد
والقاهرة وقرطبة
كان
يحكم بغداد في منتصف القرن الحادي عشر الخليفة القائم بأمر الله (1031–1075) ثم
تلاه المقتدي بأمر الله (1075–1094) وتلاه الخليفة المستظهر بالله (1094–1118)،
وفي عهده بدأت الحروب الصليبية. وكانت
بغداد قد فقدت الكثير من دورها في القرون الماضية، حيث أصبحت الموصل وحلب ودمشق
مراكز صنع قرار أكثر تأثيراً منها. لقد
خاضت بغداد صراعاً طويلاً مع بيزنطة، ولكنها لم تُستهدف من قبل جيوشها، كما أن
الجيوش العباسية وجهت ضربات مؤلمة للإمبراطورية البيزنطية، ولكنها لم تستهدف
بيزنطة نفسها كما فعل الأمويون أكثر من مرة.
لم تكن الخلافة العباسية في أضعف حالاتها عندما ظهر الصليبيون أمام أسوار
أنطاكيا، فقد كانت قد إستعادت عافيتها منذ التخلص من سيطرة السلاجقة، الذين
إنتابهم الضعف أيضاً.
لقد
إستمرت بغداد تلعب دوراً ثقافياً مرموقاً، وكان المرتحلون من أجل العلم لا بد لهم
من أن يأموا بغداد طمعاً في الجلوس إلى فقيه أو طبيب أو الحصول على كتاب أو
الإنضمام إلى إحدى مدارسها، التي بقيت تُبنى وتُدار إلى آخر أيامها.
كانت
قرطبة في منتصف القرن الحادي عشر تحت حكم إحدى دول الطوائف، فقد تم إنهاء الخلافة
الأموية قي سنة 1033م، وكانت الأندلس حينئذٍ تشكل أكثر من 80% من مساحة
إيبيريا. كان حكام قرطبة من بني جهور،
ولكنها تم ضمها إلى إمارة إشبيليا التي كان أميرها المعتمد بن عباد، الذي نقل
العاصمة إلى قرطبة، وكان المعتمد شخصاً نجيباً محباً للعلم، وقد نبغ في زمانه إبن
زيدون الشاعر المشهور. وهو صاحب المقولة
المشهورة " رعي الإبل خير من رعي الخنازير "، مفضلاً طلب مساعدة
المرابطين ولو كان في ذلك إحتمال فقدان إمارته، بحيث يصبح تابعاً لهم. وقد أصبحت هذه العبارة مقياساً للذين يفضلون
مصالح أمتهم على مصالحهم الشخصية. وقد
أطلق هذه العبارة في زمن كان قلة من الحكام، مسيحيين ومسلمين، يفعلون ذلك،
والأمثلة على ذلك كثيرة في الأندلس وفي سوريا القرن الثالث عشر وغير ذلك.
إستمرت
قرطبة في إحتضان أهل الأدب والعلم والفنون، حتى في مراحل ضعفها وتهديدها، فقد عاش
في هذه الفترة في قرطبة الكثير من الشعراء والعلماء والفقهاء.
كانت
قرطبة مهددة، ولكنها لم تسقط بيد الإسبان ألا بعد قرن ونصف. ولكن طليطلة سقطت في العام 1085 م. وكان لسقوطها أثرٌ كبير في تغيير شكل
العالم. فقد إستولى الإسبان على عشرات
المكتبات الخاصة التي إحتوت آلاف الكتب في مختلف صنوف العلم (كانت مكتبة الحكم
الثاني في قرطبة تحتوي على أربعمائة ألف كتاب)، ومن حسن حظ أوربا والبشرية أن
الإسبان أدركوا أهمية العلم والثقافة فحافظوا على هذه الثروة، وفتحت شهية
المتنورين من أبناء أوربا ومؤسساتها الدينية والسياسية، فأم طليطلة عددٌ كبيرٌ من
الرهبان ومحبي العلم، كما أُنتدب آخرون لغاية تعلم اللغة العربية والترجمة عنها،
وقد ساعد على ذلك بقاء كثير من متكلمي العربية في طليطلة. وقد جاء البعض بحثاً عن كتاب معين لترجمته،
فمكث عقود وترجم عشرات الكتب.
أما
القاهرة، عاصمة الخلافة الفاطمية، فقد كانت في منتصف القرن الحادي عشر مدينة يافعة
لم تكمل المائة عام من عمرها، وكان يحكمها المستنصر بالله، الذي قد يكون من أطول
الحكام المسلمين حكماً. وكانت لا تزال
مدينة مقفلة يسكنها ضباط وجنود الجيش ورجال الدولة، وتضم مكاتب الحكومة. وكانت الفسطاط لا تزال تحتفظ بموقعها كعاصمة
إقتصادية لمصر، كما كان يتركز فيها النشاط الفكري والثقافي.
كانت
الفسطاط في ذلك الزمن مركزاً تجارياً عالمياً، يتوسط خطاً تجارياً يبدأ في الهند
وينتهي في مخازن جنوة والبندقية وبيزا.
وقد أثرى تجار الفسطاط من مسلمين ومسيحيين ويهود ثراءاً كبيراً. كما كان قناصل جمهوريات إيطاليا التجارية
يقيمون بشكل شبه دائم في خانات الفسطاط والإسكندرية.
كانت
العلاقات بين العواصم الثلاث، ببساطة شديدة، مقطوعة. فقد كانت كلٌ من الخلافات الثلاث تنكر كل واحدة
منها شرعية الخلافتين الأخريين. كما أنهما
لم تصطدما بقتال على الإطلاق. بل تجنبتاه
تماماً. بإستثناء محاولة قام بها المنصور
في بإثارة الشغب ضد عبد الرحمن الداخل، ولكنه لم يرسل جيشاً لهذه المهمة، بل إعتمد
على أنصاره الأندلسيين، أو على خصوم عبد الرحمن.
وقد خاف الأمويون غزواً فاطمياً للأندلس، بل أنهم قطعوا المضيق وسيطروا على
بعض المدن المغربية، مثل طنجة وسبتة، في
زمن الحكم الثاني بناءاً على طلب أهلها الذين لم يرغبوا في الحكم الفاطمي. وقد أقامت الأندلس تحالفات مع قوى أوربية
مختلفة موجهة ضد الفاطميين، مثل جنوة وبيزنطة
[7]
. كما حدث في زمن الخليفة
الفاطمي العزيز حيث هاجم الأنلسيون سفينة فاطمية تحمل سفراء ورسائل، وسيطروا على
مراسلات، إعتقدوا أنها تحرض امراء المغرب على غزو الأندلس. فرد الفاطميون على ذلك بمهاجمة ميناء المرية
حيث صادروا السفينة نفسها التي قادت الأسطول الأندلسي الذي هاجم سفنهم وصادر
الرسائل
[8]
.
لقد
كان التنافس العباسي الفاطمي شديداً، وكانت ميادين المنافسة عديدة، من ضمنها مكة
والمدينة. وقد شهد ذلك مداً وجزراً شديداً
وفي قمة ضعف الخلافة العباسية كان جزءاً من بغداد يدعى فيها للخليفة الفاطمي على
المنابر. ولم يحدث بينهما تنسيق عندما بدأ
الغزو الصليبي. ولكن عندما واجهت الخلافة
الفاطمية مؤامرة داخلية مرتبطة بتهديد خارجي صليبي، طلب الخليفة مساعدة نور الدين
محمود، الذي كان يحكم حلب بتقليد عباسي.
ورث العباسيون مصر
عندما وقعت تحت حكم الأيوبيين، الذين إستمدوا شرعيتهم من تقليد عباسي، وعندما وقعت
الأندلس تحت حكم المرابطين، طالبهم الأندلسيون بالحصول على تقليد من بغداد، فطلبوا
التقليد من الخليفة العباسي، فأصبحت مصر والأندلس، ولو إسمياً، جزءاً من دولة
الخلافة العباسية.
إنتهت
الخلافة الأموية في قرطبة في القرن الحادي عشر، وإنتهت الخلافة الفاطمية في
القاهرة في القرن الثاني عشر، وإنتهت الخلافة العباسية في بغداد في القرن الثالث
عشر. وقد عانت كل منها من شيخوخة طويلة،
مؤلمة ومكلفة، وكان أطولها شيخوخة الخلافة العباسية. كان من الممكن للخلافة أن تتحول إلى (بمعايير
أوربية) مؤسسة تتراوح في دورها وصلاحياتها ما بين البابوية والملكية الدستورية
التي تمنح رئيس الوزراء معظم الصلاحيات التنفيذية.
روما
والقسطنطينية
لم تكن روما نداً للقسطنطينية في القرن
الحادي عشر، فقد هرمت وضعفت وتقلصت نتيجةً لأعمال الإجتياح والنهب المتعاقبة،
وتحولها، عملياً، من عاصمة إمبراطورية إلى عاصمة دولة البابوية ذات المساحة
المحدودة. لقد كان كثيرٌ من مباني روما
وأحياءها مهجورة وخالية من السكان، بعد أن جُردت هذه المباني من تماثيلها وحليها وبواباتها
الجميلة التي كانت تفخر بها. ولم يحصل ذلك
من قبل الفاتحين، بل إن بعض أباطرة بيزنطة قام بنقل الكثير من تحف روما إلى
"العاصمة الشرقية" ، بتجريد المباني التاريخية من حليها وكل ما يمكن
حمله. لقد كان عدد سكان بيزنطة 350 الف
نسمة، بينما لم يتعدى سكان روما عُشر ذلك الرقم.
ولكن
روما، كعاصمة للبابوية، كانت من أهم المراكز السياسية في غرب أوربا، وأصبحت كذلك
بالفعل في القرن الثالث عشر، عندما تعاظم دور البابوية. كما كانت روما المركز الروحي الأهم ومحج
المسيحيين الكاثوليك.
لقد
كانت بيزنطة تحتكر التجارة البحرية في أوربا جميعها، وإن بدأت في تظهر منافسة قوية
من قبل الجمهوريات الإيطالية الصاعدة والتي كانت تمتلك أساطيل بدأ يتعاظم دورها
إبتداءاً من هذه الفترة، ثم سلبتها هذا الدور بالتدريج.
لقد
كان التنافس بين روما وبيزنطة قائماً منذ تأسيس الثانية، ولم يزد الإنقسام الكنسي
شيئاً كثيراً لمواقف المدينتين من بعضهما، فالأغلب أن الإنقسام نجم عن حالة
التنافس التاريخية العالقة في ذهنية نخبة المدينتين وحكامهما.
لقد
كان الفارق الحضاري بين المدينتين كبير، فقد كان مجتمع بيزنطة يقدر ويهتم بالثقافة
والفنون والآداب، ويهتم بالإتيكيت، وقد ظهرت الفجوة أثناء الحروب الصليبية، عندما
كان إمبراطور بيزنطة يجالس ضيوفه من أمراء أوربا وملوكها، فظهرت جلافتهم
جلية. كما ظهر التباين الحضاري قوياً بين
عامة غرب اوربا وعامة بيزنطة، فكان أحد أسباب نزوع الجنود الصليبيين إلى النهب
والسلب، لم تكن روما مثل بقية غرب أوربا ولكنها لم تكن بتحضر بيزنطة ورقيها. فقد
كان لروما أرسطقراطيتها، بقايا العائلات الرومانية، والتي كانت، قبل إصلاح
البابوية تختار البابا من بين أبناءها، وكانت هذه العائلات تُتهم بالفساد،
والتنافس فيما بينها. وعلى سبيل المثال
كان منصب البابا يباع ويشترى. لقد إضطر
البابوات إلى ترك روما، مرة إلى رافينا والثانية إلى أفينون في فرنسا، تحت وقع شغب
أبناء روما وتقلباتهم.
لقد
كانت بيزنطة مدينة حصينة جداً، وقد حوصرت ثلاثاً وعشرين مرة من قبل جيوش مختلفة
مثل الفرس والآفار، ومن قبل العرب ومن قبل البلغار ومن قبل السلاف والفرنج ومن قبل
العثمانيين. ولم يتم إقتحامها إلا مرتين،
الأولى على يد الصليبيين في العام 1204 م، والثانية على يد العثمانيين في العام
1454م.
أما
روما فلم تكن بتلك الحصانة، فقد تم إجتياحها على يد الهون والوندال والقوط
الغربيين، كما هاجمها العرب ثلاث مرات دون أن يدخلوا المدينة المسورة. كما إقتحمها أباطرة الإمبراطورية الروماتية
المقدسة عدة مرات أثناء صراعهم مع البابوية.
كانت العلاقات بين
العاصمتين متوترة دوماً دون أن يمنع ذلك أحد الطرفين من طلب مساعدة الآخر عند
الحاجة. وقد حصل هذا مراراً ومن قبل
الطرفين. ولكن الثقة كانت غائبة فيما
بينهما، فقد جرت بيزنطة أوربا إلى حروب صليبية دامت أكثر من قرنين. وعندما قوي التهديد العثماني شنت أوربا أربع
حملات صليبية ضد العثمانيين لنجدة بيزنطة.
دبلوماسية
الجواري: العزيز وألفونسو
لقد تبوأت كثيرٌ من الجواري مواقع هامة
بحيث أصبحن يمتلكن تأثير كبير على الملوك والخلفاء وغيرهم. وقد إنفرد بعضهن في الحكم، مثل شجرة الدر. وعلاقة الجارية بسيدها هي علاقة ملكية، فيستطيع
التخلص منها بالبيع. فكان إذاأحب أحد
الملوك جارية، قام بعتقها ثم الزواج منها.
وقد فعل ذلك الرسول (ص) مع جويرية والملك الكامل مع شجرة الدر.
وفيما
يتعلق بصقلية نورد مثالين هامين ؛ الأول أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله كان لديه
جارية إسمها السيدة عزيزة، وكان لها أخ راهب صقلي، مما يدلل على أصولها
الصقلية. فطلبت منه أن يسلم لأخيها ثلاث
مدن طبرمين ورمطة وميقش، فأرسل إلى جعفر بن محمد الكلبي واليه على صقلية يطلب منه
ذلك. فرفض الوالي ذلك وهدد بالإنضمام إلى
الأندلس.
وبعد
إستيلاء النورمان على صقلية تبنى الملوك النورمان سياسية محبة للثقافة والتقاليد
العربية. وكان من بين الملوك الأوائل وليم
الأول وكانت أمه إبنة ألفونسو السادس ملك قشتالة وجاريته المسلمة زايدة. وقد كان لها تأثير على إبنها وليم، كما كان لها
تأثير على زوجها روجر الثاني.
[1]
Roman Empire, Gibbon, VII.
[2]
Roman Empire,
Gibbon, VII.
[3]
نيو يورك
تايمز، 25 كانون الأول 2007.
[6]
تاريخ
أوربا العصور الوسطى.