غزا
معاوية بن حديج الكندي صقلية في ايام معاوية بن ابي سفيان
[1]
. وكانت هذه اول غزوة لصقلية،
وقد تكررت هذه الغزوات، عبر عصور، إلى أن تم فتحها بالكامل.
غزو
صقلية
تحتل
صقلية موقعاً متميزاً في البحر الأبيض المتوسط.
وفي القرن السابع كانت صقلية من ضمن ممتلكات الإمبراطورية الرومانية
الشرقية في الغرب. وكانت، مع ممتلكات
بيزنطة الأخرى في الغرب، موضع نزاع. فقد
كانت القوى الأوربية الغربية المتعاقبة، التي إعتقدت نفسها وريثةً لروما، تسعى
لتجريد بيزنطة من هذه الممتلكات وضمها.
وبنفس الوقت تحرص أن لا تقع بيد المسلمين.
هذه كانت سمات الصراع.
وقد
غزا أسطولاً عربياً بقيادة عقبة بن نافع صقلية سنة 49هـ (669 م) مبحراً من
مصر. ولم يحدد المؤرخون العرب وجهة هذه
الغزوة بالتحديد، ولكن، على ما يبدو، أن مصادر غربية معاصرة حددت وجهة الغزوة
بمدينة سرقوسة، حيث يذكر سكوت أن كنائس المدينة تم نهب محتوياتها
[2]
.
كما هاجم أسطولاً
بيزنطياً برقة منطلقاً من صقلية سنة 78هـ (697م)، حيث قتل أُناس كثيرون بينهم والي
برقة. ولا غرابة في أن تلعب صقلية هذا
الدور، فقد كانت ملاذاً للرومان الذين فروا من الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا. وبعض هؤلاء لم يعرف وطناً آخر. فقد إستوطن آلاف الرومان شمال إفريقيا منذ قرون
عديدة. وكانوا سادة هذه البلاد. فلا غرابة أن تُستهدف مدن شمال إفريقيا بغارات
إنتقامية من صقلية التي تملك الموقع والإمكانيات.
وتتابعت
الغارات من مصر والقيروان. وتولى موسى بن
نصير المبادرة، عندما رسى أسطولاً مصرياً في القيروان بسبب عاصفة هبت عليه. وفي سنة 100هـ (718م) ثارت الجزيرة ضد
بيزنطة. وتوالت الغزوات طوال العهد
الأموي، وكانت جميعاً لا تهدف إلى الفتح، وقد تلاقى الأسطولين البيزنطي والإسلامي
مرتين، تحقق إنتصاراً واحداً لكلٍ منهما.
وتوقفت
الغزوات في العهد العباسي، ولم تُستأنف إلا في عهد زيادة الله أمير الأغالبة
[3]
. وفي الحقيقة أن آخر غزوة كانت سنة 135هـ (752
م) أي بعد سنتين من قيام الدولة
العباسية، بقرار من الوالي الأموي، وليس
بقرار عباسي. وقد نجم عن هذه الغزوات قيام
الدولة البيزنطية بتحصين الجزيرة.
دولة
الأغالبة
تأسست دولة الأغالبة على يدي أبراهيمبنالأغلب (184–196)، الذي كان والياً لبني العباس على القيروان في
زمن الرشيد. وقد جاء بعد تعاقب عدة ولاة
لم ينجحوا في ضبط الولاية، فثار عليهم الجند والأهالي. أما إبراهيم فقد نجح في إستقرار الأمور. ومن أهم منجزاته العمرانية بناء مدينة العباسية
[4]
. وقد تعاقب الأغالبة على حكم القيروان حتى ظهور الفاطميين. وقد عقد إبراهيم هدنة مع حاكم صقلية البيزنطي
قسطنطين لمدة عشر سنوات. وقد إلتزم
الطرفان بالهدنة طوال حياة إبراهيم، ولكن أحد الطرفين خرقها في زمن إبنه عبدالله بن ابراهيم
(196-201). فقام ميخائيل الأول، إمبراطور
بيزنطة، بمهاجمة الأغالبة سنة 197هـ(812م)، وقد نجم عن هذه المعركة هدنة أخرى لمدة
عشر سنوات
[5]
. ومن الغريب وجود بند في
الإتفاق يدعو الطرفين إلى حماية رعايا الآخر في بلده. وحيث لم يكن مستغرباً وجود روم في القيروان،
فإنه من المستغرب حقاً وجود مسلمين في صقلية في هذا الزمن. ثم جُددت الإتفاقية من قبل زيادة الله الأول
(201–223)، أمير الأغالبة الثالث، الذي تولى الولاية بعد أخيه وبتقليد من المأمون
[6]
. وفي عهده تم فتح
صقلية.
فتح صقلية
فبعد
إنقضاء العام العاشر من حكم زيادة الله، تغيرت الأحوال في جزيرة صقلية. فقد ثار شخص إسمه يوفيميوس على الإمبراطورية
البيزنطية وقام بالإتصال بزيادة الله طالباً مساعدته. وكانت ثورته قد نشبت قبل ذلك بأربع أو خمس
سنوات. وكان مما شجع على قرار فتح صقلية،
قيام قوة بحرية إسلامية بفتح جزيرة كريت منطلقةً من مصر، مما أعطى إنطباعاً عن ضعف
الأسطول البيزنطي في تلك الفترة.
وكانت
هذه القوة البحرية الإسلامية ليست سوى مجموعة من اللاجئين الأندلسيين، الذين ثاروا
ضد أمير قرطبة فغادروا الأندلس بعد قمع ثورتهم إلى الإسكندرية، وهناك قاموا ببعض
أعمال الشغب، فقاموا بغزو كريت بمساعدة والي مصر.
وقد حاول البيزنطيون مرتين إستعادة الجزيرة ولكنهم فشلوا، وأصبحت "
مرافئ كريت المائة تحت تصرف المسلمين "
[7]
.
إتخذ
زيادة الله قرار فتح صقلية وعين أسد بن الفرات قائداً لحملتها، الذي كان قاضي
القيروان وفقيهها، ومن
الرجال
المعروفين بشجاعتهم. وقد تم الإتفاق مع يوفيميوس على إقتسام السلطة
على الجزيرة، ولم يتفق المؤرخون على نص واحد للإتفاق. وقد برر زيادة الله خرق الهدنة، علمه بوجود
أسرى مسلمين في صقلية لم يُطلق سراحهم، كما تنص إتفاقية الهدنة.
أقلع
أسطول إبن الفرات في صيف سنة 212هـ (827م) في عهد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل
العموري
[8]
،
وكان جيشه يتكون من البربر والعرب والخراسانيين والأندلسيين. وحيث أن علاقة أمير قرطبة الأموي عبد الرحمن
الثاني كانت سيئة مع الأغالبة، فمن المستبعد أن تكون هذه المشاركة رسمية، وإنما
فردية، فقد تكون من تلك الجماعات التي غزت بروفانس، من بحارة محترفي القتال، الذين
كان لهم تواجد على سواحل الأندلس الشرقية وسواحل المغرب الشمالية، ولم تكن سيطرة
الدولة عليهم قوية.
رسى
الأسطول بعد إبحار أربعة أيام في ميناء مازر، وهي ضعف الفترة المعتادة. ولم يلق أحداً سوى سرية، فأسرها وأطلق سراحها
بعد أن تبين أنها من حزب يوفيميوس.
تذكر
بعض الروايات أن أسد طلب من يوفيميوس أن يعتزله.
وهذا غير منطقي، فقد أثبت يوفيميوس للتو أن له حزب وأن له أتباع فلماذا
يستعديه، كما أن أسد كان بحاجة لمن يعرف الجزيرة ويفاوض أهلها، كما أنه ليس بحاجة
إلى عدوٍ إضافي.
وعندما سمع حاكم صقلية وتسميه المصادر
العربية بلاطة، حشد جيشاً وخرج لملاقاة
جبش أسد، الذي أحرز نصراً سريعاً. ثم سيطر على عدة حصون في الجزيرة. إتجه أسد نحو سراقوسة، التي كانت عاصمة
الجزيرة. وتقول بعض المصادر أن يوفيميوس
أرسل إلى أهل سرقوسة يحضهم على الصمود.
وهنا يصفه بعض المؤرخون الغربيون بأنه إرتكب خيانة مضاعفة
[9]
. وحاصر أسد المدينة ولكنها صمدت على الرغم من
تدمير مينائيها. وكاد اليأس والإحباط
يسيطر على المقاتلين، لولا وصول مدد من إفريقيا والأندلس. كما بعث الروم بتعزيزات لحامية الجزيرة، وطلبوا
مساعدة البندقية، التي كانت تملك أسطولاً قوي ,
ولكن هذا لم يغير من الصورة شيئاً.
كما حاول حاكم بليرم أن يفك الحصار، إذ تقدم على رأس جيش، ولكنه هُزم،
وإستمر الحصار. ثم تفشى المرض في أوساط
الجيش الإسلامي. مات أسد بن الفرات أثناء الحصار، بسبب المرض أو من جراحات أو من
كليهما. وكان أهل المدينة يفاوضون من أجل
التسليم.
إختار
الجيش محمد بن أبي الجواري قائداً له. ثم
وصل الأسطول البزنطي، وأصبح وضع الجيش حرج.
ففك الحصار وإتجه إلى الداخل وإحتل حصن ميناو على مسيرة يوم من
سرقوسة، ولو إستطاعوا الوصول إلى سفنهم
لإنسحبوا إلى القيروان. ولم يتمكن إبن
الأغلب من إرسال مدد لأن سواحله كانت تتعرض لهجمات إيطالية.
بعد
أن إستراح الجيش في ميناو، وشفي جنوده من
المرض والجروح. إستأنف نشاطه، ففتح حصن
جرجنت على الساحل الجنوبي وإستقر به. وفي
هذه المرحلة ظهر فيمي (فيميوس) كحليف مرة ثانية.
وإتجه الجيش نحو قصريانة، وهو حصن حجري منيع، وحاصرها. فجاء حاكم صقلية الجديد يقود جيشاً،
فهُزم. فأطبق المسلمون الحصار على
المدينة، وتوفي إبن أبي الجواري أثناء الحصار. فولى الجند عليهم قائد جديد هو زهير
بن غوث. وقد تلقى الجيش الإسلامي هزيمتين،
ونجح بالإنسحاب إلى حصن ميناو. فتبعهم
الروم وحاصروهم. ولما سمع المسلمون الذين
كانوا في حصن جرجنت، قاموا بهدمه
والإتجاه
إلى مازر، ولم يستطيعوا تقديم العون للمحاصرين في ميناو. وفي هذه الأثناء وصل أسطول كبير من
الأندلس، كما وصلت قوات من إفريقيا سنة
829 م. وقد كان الأسطول الأندلسي يتكون من
ثلاثمائة مركب ويقوده إصبع بن وكيل ومعروف بإسم فرغلوش. تولى فرغلوش قيادة الجيش وباشر بفتح عدة قلاع،
وفك الحصار عن ميناو. ثم إنتشر الوباء
للمرة الثالثة في صفوف الجيش، وكان من بين الذين ماتوا منه فرغلوش نفسه. وبعد وفاته توجه الجيش إلى طرابنش.
ولحق بهم الروم ولكنهم هزموهم. ثم
إتفقوا على قائد بعد إختلاف، وهو عثمان بن قرهب، الذي إتجه بالجيش إلى بليرم
وفتحها سنة 216هـ(831 م). وكان فتحها
منعطفاً هاماً، فسقطت حصون عديدة متتابعة.
وأصبح ميناء بليرم تحت تصرفهم، فأصبح المدد يأتيهم بإنتظام مما سهل فتح
بقية الجزيرة. توقف النشاط العسكري لمدة سنتين،
فالجيش الأغلبي إحتاج فترة للتنظيم وإعادة بناء قواته، وكان البيزنطيون منشغلون في
الشرق بحرب مع العباسيين، وكان ذلك في نهاية عهد المأمون، حيث جرت هجمات على
المصيصة وطرطوس.
وفي
العام 842 م حقق الأغالبة إختراقاً آخر بفتح مدينة مسيني، التي تقع على مضيق مسيني،
الذي يفصل إيطاليا وصقلية. وكانت الفترة
السابقة لهذا الفتح شهدت فتح عدد من الحصون وعدد من المواجهات البحرية
والبرية. وبعد فتح مسيني، قام أمير صقلية
بإرسال قوة عسكرية إلى البر الإيطالي، وكان هذا حدثاً غير مسبوق، كما أن السيطرة
على مسيني تمت بمساعدة من جيش دوقية نابولي.
وكان جيش صقلية الأغلبي قد ساعد نابولي ضد دوقية بنفنتو، بعد طلب نابولي
مساعدة مسلمي صقلية. وقد دام التحالف
الصقلي النابولي خمسين سنة على الرغم من شجب البابوية وأوربا جميعها له.
وفي
سنة 859 م تمكن المسلمون من فتح قصريانة وحصون اخرى. وقد حاول البيزنطيون إستعادة قصريانة فأرسلوا
أسطولاً، ولكنه هُزم في معركة مع أسطول صقلية الإسلامي. وبهذا أصبح ثلثي الجزيرة بيد الأغالبة.
كانت
مدينة سركوزا مقر الحكم البيزنطي في الجزيرة، وكانت الهجمات عليها لا تتوقف. وفي العام 878 م (264هـ) تمكن المسلمون من
فتحها، وبهذا إكتمل فتح الجزيرة بعد
حروب
إستمرت
سبعة وسبعين سنة، لم تخلو من تراجعات وإنتكاسات وحتى ثورات وإقتتال داخلي. لقد تمت معظم معارك الفتح الصقلي في زمن لويس
التقي، الملك الكارولنجي القوي، كما كان أباطرة بيزنطة من الأباطرة الأقوياء، فلم
يستطيعوا الوقوف أمام حملة شنتها ولاية عباسية تتمتع بحكم ذاتي.
الدولة الفاطمية
يطلق
على القرن الرابع الهجري، عصر إنتصار الشيعة، حيث تمكن أكثر من واحد ممن يعودون
بنسبهم إلى علي بن أبي طالب، من النجاح في دعوته وإنشاء دولة كان لها أثرها. أما الفاطميين فقد أسسوا دولة دامت لأكثر من
قرنين ونصف، وشملت بقاع واسعة، فمعظم إفريقيا الإسلامية خضعت لهم وكذلك الشام
واليمن والحجاز وعمان. وفي فترة وجيزة كان
جزءاً من بغداد يتبع للدولة الفاطمية، على الأقل في الدعاء في المساجد.
الدعوة
الفاطمية
ويسمون
ايضاً بالعبيديين نسبةً إلى عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن
محمد المكتوم بن اسماعيل الامام بن جعفر الصادق.
وعلى الرغم من تشكيك الكثيرين بهذا النسب، إلا أن إبن خلدون، الذي ننقل عنه
هنا، يرجح صحة النسب على الرغم من جهود العباسيين بتفنيد النسب والإستعانة ببعض
العلماء، حتى لو كان بعضهم علوياً. وقد
إنقسمت الشيعة إلى عدة مذاهب منها الزيدية القائلين بصحة خلافة ابوبكر وعمر مع فضل
علي. والرافضة ويدعون بالإمامية المتبرئين
من ابي بكر وعمر، وهم أيضاً الإثني عشرية، والإسماعيلية، الذين نقلوا الخلافة من
جعفر الصادق إلى إبنه إسماعيل وجعلوها في عقبه، فمنهم من إنتهى إلى عبيد الله صاحب
الدعوة، ومنهم من ساقها إلى يحيى، وهم القرامطة.
وإبن خلدون يشكك في الأخير
[10]
.
وكان
لشيعة العبيديين تواجد ملحوظ في المشرق واليمن وإفريقيا. وكان قد بدأ بالدعوة رجلان يسمى الأول
بالحلواني والثاني بالسفياني، وقد ذهب كل واحد منهما الى مدينة مختلفة من المغرب
الاقصى. وكان الدعاة يعملون لهم في مناطق
اخرى، ولكن أظهرت الدعوة نجاحاً اكثر من غيرها، حيث ذهب بعض قادة الحركة البربر
للحج، فقابلوا محمد الحبيب، أبو عبيد الله، الذي سرعان ما مات وتولى بعده عبيد
الله. الذي توجه إلى المغرب بناء على طلب
شيعته. فحاول العباسيون إعتقاله في
الطريق، ولكنه تنكر بزي تاجر ونجح في ذلك.
فقد جرت محاولة لإعتقاله في مصر وأخرى في القيروان. فنجح بتخطي الأولى وتم إعتقاله في
القيروان. ولكن الحملة إستمرت، وتحمل
مواجهتها إبن الأغلب الوالي العباسي على إفريقيا.
فدارت معارك كبيرة بين أتباع العبيديين والأغالبة. وقد كانت الغلبة في معظمها للعبيديين. وتكررت هزائم الأغلب إلى أن إضطر للخروج من
الإقليم وذهب إلى مصر.
ضم
صقلية
ولما
إستولى الفاطميون على القيروان ودانت لهم،
وبعثوا العمال في نواحيها، فبعثوا على صقلية الحسن بن محمد من رجال
كتامة. فوصل إلى مازر سنة 297هـ على رأس
جيش، ومازر هذه مدينة فنيقية، ويعني إسمها صخرة.
ثم شكى أهل صقلية سيرته وثاروا عليه وحبسوه وكتبوا إلى المهدي معتذرين،
فقبل عذرهم وولى عليهم والياً جديداً إسمه أحمد بن قهرب
[11]
.
ثم
ولى الفاطميون الحسن الكلبي إمارة صقلية وذلك سنة 948 م. وقد إستمر الكلبيون في الحكم لغاية 1053 م وحكم منهم تسعة حكام.
الفاطميون
في مصر
قرر
المعز لدين الله (953-975) فتح مصر،
فشكل جيشاَ من ثمانين الف مقاتل في العام 358هـ(968م)، معظمهم من البربر،
وبالتحديد من قبيلتي كتامة وزويلة. كما
كان هناك أعداد كبيرة من الجنود الصقالبة.
وكان الجيش قد تلقى تدريباً مكثفاً.
ثم عين جوهر الصقلي قائداً عاماً لهذا الجيش بصلاحيات واسعة، وزوده بكميات
كبيرة من الأموال. كما كانت تعبئة الجيش
عالية.
وصل
الجيش الفاطمي إلى مصر، ولم يجد مقاومة تستحق الذكر من بقايا الإخشيديين
والطولونيين. وهما سلالتان من الولاة
العباسيين اللتان فرضتا درجة عالية من الإستقلال عن الخلافة العباسية في بداية
ضعفها، لدرجة توريث الولاية، مع بقاء التبعية الإسمية.
وقد
تسلم جوهر مصر من قبل عددٍ من وجهاءها، حيث كتب لهم الأمان، الذي ضمن الحرية
الدينية لجميع الأديان والمذاهب، بما في ذلك المسلمين السنة
[12]
. وقد إلتزم
الفاطميون بنصوص منشور الأمان هذا، ولكنهم
أوقفوا ذكر الخليفة العباسي في الخطب، وسكوا النقود بإسم خلفاءهم.
وقد شكل إستيلاء الفاطميين على مصر، تحولاً بقدرة
الفاطميين على التأثير على مجريات الأحداث في العالم الإسلامي. كما شكل تحولاً سياسياً وثقافياً ومذهبياً
كبيراً بالنسبة لمصر. فقد إستقلت للمرة
الإولى عن الخلافة. كما أصبحت مركزاً
لخلافة تنافس الخلافة العباسية ولا تقل عنها ثقلاً وطموحاً، بل إنها صاحبة
دعوة. وبالتالي فعليها تحمل أعباء هذه
الخلافة ودعوتها. لقد كان الفاطميون
يتزعمون حركةً دينيةً فلسفيةً إجتماعيةً عظمى كان هدفها لا يقل عن تحويل الإسلام
وتجديده
[13]
.
باشر جوهر ببناء مدينة القاهرة. كما باشر بإعادة تنظيم إدارة البلاد. وسعى إلى إحياء إتفاقية البقط المعقودة منذ عهد
الخلافة الراشدية مع دولة النوبة، جيران مصر الجنوبيين.
ثم شكل جوهر جيشاً بقيادة جعفر بن فلاح الكتامي ووجهه
إلى الشام. وفي سنة 970م باشر الجيش
الفاطمي بفتح المدن الشامية الواحدة بعد الأخرى، وإنتهى من فتحها في العام التالي،
حيث أقر الحمدانيون الذين كانوا يحكمون في حلب بتبعيتهم للخلافة الفاطمية، كما أدى
فتح شمال الشام إلى صدام مع الدولة البيزنطية.
كما إصطدم الفاطميون في مدن الشام المختلفة ببقايا الإخشيديين، وكذلك مع
القرامطة، الذين كان الإخشيديون يدفعون لهم إتاوة سنوية كبيرة. وقد نجم عن هذا الصدام مهاجمة القرامطة لمصر في
العام 974م.
وبعد أن تهيأت الظروف إنتقل المعزلدينالله
(953-975) إلى القاهرة. وقد كان نقلاً
للدولة بكامل أجهزتها، مع ترتيبات إدارية وسياسية في المغرب تضمن إستمرار تبعيتها
للدولة. فسلموا إدارة المغرب إلى أسرة بني
زيري، وهم من كتامة. كما سلموا صقلية إلى
الكلبيين. وولى على طرابلس رجل من قبيلة
كتامة.
لقد كان المعز رجل دولة فذ من طراز رفيع، كما كان مبدعاً
ومبادراً، فقد وُصف بأن لديه ملكة تصميم القصور وتخطيط الحدائق والمشاريع
الإروائية، كما ينسب إليه مؤلف كتاب " المجالس والمسايرات "،
النعمان بن محمد، فكرة قلم الحبر، حيث إقترح على بعض المهنيين من حولة صناعة قلم
يحتوي الحبر بداخله ولا يتسرب خارجه، بحيث يمكن الإحتفاظ به في الجيب. وفعلاً خلال أيام احضروا له عينة تنطبق عليها
المواصفات التي وضعها
[14]
.
وخلف العزيزبالله (975–996) والده وهو إبنه الثالث، متخطياً إبنه الأول، الذي كان
محباً للهو، والثاني الذي توفي في حياته، فإستمر العزيز بترسيخ أركان الدولة
وبتوسيعها وبناءها وتعزيز إقتصادها. ودخلت
عناصر جديدة إلى الجيش، مثل التركمان والديلم، بالإضافة إلى البربر والصقالبة الذي
كان الجيش الفاطمي المغربي يتكون منها.
ولم يدخل المصريون في الجيش الفاطمي إلا عندما ضعفت الدولة وأصبحت مصر
نفسها موضع تهديد، وتم في مراحل لاحقة تجنيد السودان والأرمن. وقد أُنشئت للجيش أحياء سكنية خاصة بهم في
القاهرة
[15]
.
حكم بعد العزيز، في المائة وخمسة وسبعين سنة التالية،
تسعة من الخلفاء الفاطميين، كان ثمانية منهم، مراهقين أو أطفال عند إستلامهم
للحكم. وكان من بينهم الحاكم بأمر الله،
الذي حكم خمسة وعشرين سنة، وأثار جدلاً واسعاً لتصرفاته الشاذة، غير المسبوقة.
وقد إتسم العهد الفاطمي بالتسامح
الديني، كما أن الفاطميين لم يحاولوا إجبار السنة على التحول إلى المذهب
الإسماعيلي، ما عدا ماكان في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله.
الحاكم
بأمر الله (996–1021)
في بداية عهده وقعت خلافات بين المغاربة والمشارقة، أي
بين البربر والتركمان. حيث إستغل الطرفان
صغر سنه، وفرضوا عليه منحهم مناصب مرموقة في الدولة، ونجم عن ذلك فتنة بين الطرفين
أدت إلى إقتتال بينهما، وقد إستطاع الحاكم الخروج من الأزمة قوياً، حيث أخذ يمارس
الحكم بإسلوب دكتاتوري مطلق تطغى عليه المزاجية.
فبدأ بممارسة سياسة تعسفية، غريبة على الحكام المسلمين
وعلى الفاطميين بالذات، فطلب من المسيحيين واليهود وضع إشارات دينية على منازلهم
ومحلاتهم وملابسهم. وقد حرق حارة لليهود،
كما طلب بإزالة الصلبان من على قباب الكنائس، كما قام بهدم كنيسة القيامة في
القدس، كما هدم كنائس أخرى في الشام ومصر.
وكان إضطهاده أشد وطأةً على أتباع المذهب الملكاني، مذهب بيزنطة. كما أمر بلعن أبي بكر وعمر. وأظن أن هدمه لكنيسة القيامة كان موجهاً ضد
موروثات عمر بن الخطاب اكثر مما هي موجهة ضد الإمبراطور البيزنطي.
وقد وضع قائمة ممنوعات طويلة، وكان يعاقب بالقتل من
يخالف، فكثر القتل، وإستفحل في أوساط الطبقة الحاكمة بالذات. فقتل وزراء وقواد، من بينهم الحسين بن جوهر
الصقلي، الذي قدم للدولة خدمات جليلة. فقد
منع الخبازين من عجن العجين برجليهم، ومنع أكل الملوخية، لأن معاوية كان يحبها،
وعن الجرجير لأن عائشة بنت أبي بكر كانت تاكله، كما منع أكلة إسمها المتوكلية،
لنسبتها إلى الخليفة العباسي المتوكل. كما
منع صناعة النبيذ، وأكل السمك الذي لا قشور لها.
كما منع نساء القاهرة من مغادرة بيوتهن، وقد إستثنى حالات تطلبت تصاريح
موقعة منه
[1]
. كما تروي بعض الروايات أنه طلب من الناس العمل
في الليل والنوم نهاراً، لتجنب الحر.
وقد أوصى بولاية العهد إلى إبن عمه، مخالفاً بذلك مبادئ
التوريث حسب المذهب الإسماعيلي، وولاه دمشق.
كما أنه عمل بالنقيض، فقد تراجع عن لعن الخلفاء، وأصبح
يعاقب من يفعل، كما أنه إستوزر مسيحياً ويهودياً، إضافةً إلى ثالثٍ مسلم. فكان ينتقل من النقيض إلى النقيض، وهذا لم يخفف
من تصرفاته التي أساءت للفاطميين وللمسلمين.
وقد أُستخدم هدم القيامة كذريعة للحروب الصليبية.
وقد منع المؤذنين من الأذان ب "حي على خير العمل". كما سمح بصلاة التراويح فيما يظهر أنه تقارب من
السنة. ولكن ذلك لم يدم، إذ وفد على الحاكم
مجموعة من الدعاة الإسماعيليين، الذين نشروا التشدد تجاه السنة، الأمر الذي نجم
عنه صدامات وإغتيالات وحرق الفسطاط وإستباحتها.
ولم يقفوا عند هذا الحد فأخذوا يقولون في إلوهية الحاكم، الأمر الذي رفضه
السنة والشيعة على حدٍ سواء.
وقد كانت نهاية الحاكم أغرب من حياته. فقد إختفى في جبل المقطم. وهناك روايات أن ملابسه وجدت وعليها آثار دم،
مما يوحي أنه أُفترس من قبل بعض الوحوش.
كما يرجح آخرون أن تكون العائلة الحاكمة، وتحديداً، أُخته، تخلصت منه
حفاظاً على الحكم الفاطمي. ومما يرجح هذه
الرواية أن أُخته واسمها سيدة الملك، إستلمت زمام الأمور، فبعثت من أحضر ولي العهد
من دمشق، وقامت بقتله في القصر، ثم قتلت الذي أحضره، وولت إبن أخيها، الإبن الأكبر للحاكم بأمر
الله. وقد جعل إختفاءه القائلين بألوهيته،
يقولون أنه سيظهر ليملأ الأرض عدلاً بعد أن تكون قد ملئت جوراً.
لقد تم بناء كنيسة القيامة ضمن إتفاق هدنة عُقد بين
الخليفة الفاطمي الظاهر والإمبراطور البيزنطي قنسطنطين الثامن، وقد جاءت المبادرة
من قبل عمة الخليفة، ست الملك، التي كانت وصية عليه
[2]
.
وقد إتسمت العلاقات الفاطمية البيزنطية بالتأرجح بين
الإقتتال وشن الغارات والرد الإنتقامي عليها، إلى وجود علاقات تجارية وإتفاقيات
تنص على تحالفات، أو إتفاقيات تمنع التحالف مع طرف ثالث.
إتسمت
العلاقة الفاطمية العباسية، بالعداء الشديد، الذي كان يعبر عنه بالتجاهل
الشديد. وهكذا كانت علاقة امراء الأندلس
الأمويين والعباسيين. وعلى عكس العلاقة
بين بيزنطة والغرب الكاثوليكي، التي طغى عليها خلافات مذهبية وسياسية عميقة، فقد
كان الطرفان يناشد أحدهما الآخر طلباً للمساعدة عند الحاجة إليها. فلم يطلب الفاطميون مساعدة العباسيين في حروبهم
مع الروم والصليبيين. وأقصى ما فعلوه،
عندما واجهت الخلافة تهديد مزدوج من الخارج والداخل أن طلبوا مساعدة نور الدين
محمود، وهو عباسي الولاء. وقد أدى ذلك إلى
نهاية الدولة الفاطمية. كما أدى إستنجاد
بيزنطة بالغرب بعد ملاذكرد إلى الإطاحة بالإمبراطور وتنصيب إمبراطور كاثوليكي
مكانه. وعلى الرغم أن البيزنطيين إستعادوا
دولتهم، فإنها لم تتعافى تماماً من تلك التجربة حتى سقوطها النهائي بعد قرنين
ونصف. لقد أثبتت التجربة الإسلامية
المسيحية أن الخلافات المذهبية أعمق من الخلافات الدينية.
الإمارات الإسلامية
في إيطاليا
كان
الوضع العام في إيطاليا عندما إستقر الحكم الإسلامي في صقلية يتسم بالتشرذم،
فإيطاليا، التي كانت توحد حوض المتوسط في دولة واحدة قبل قرون قليلة، كانت مقسمة
إلى مقاطعات
Principalities
ودوقيات
Duchies
وكونتيات
Counties
، وجميعها تعد نفسها دولاً وتطمع بالتوسع وتعمل جاهدةً على أن لا
تُبتلع من قبل إحدى القوى المحلية أو الإقليمية.
هذا بالإضافة إلى ممتلكات الإمبراطورية البيزنطية، وهي أيضاً دوقيات
وكونتيات تم ضمها لبيزنطة في وقتٍ من الأوقات، التي كانت لا تزال في القرن التاسع
والعاشر تمني نفسها بإستعادة أملاك الإمبراطورية الرومانية في الغرب، وهذا يعني
جميع إيطاليا، على أساس كونها وريثة الإمبراطورية الشرعية. وكانت بقايا هذه الممتلكات في الجنوب والجنوب
الشرقي، في كالابريا وأبوليا (أخمص إيطاليا وكعبها). وكان هناك مقاطعات بنفنتو وكابوا وساليرنو
ودوقية امالفي وجمهورية البندقية ومملكة اللومبارد ودولة البابوية وتوسكاني
وفيرونا.
في العام 836 م طلب
أندرو الثاني دوق نابولي مساعدة إمارة صقلية الإسلامية لفك حصار دوق بنفنتو
المجاورة لها، وكانت قد طلبت مساعدة لويس التقي ملك الفرنج دون جدوى. وقد كان مضى على وجود المسلمين في صقلية حوالي
خمس سنوات ولم يكتمل فتح الجزيرة بعد، إذ إستغرق 71سنة. فأرسل أبو الأغلب أسطولاً أرغم سيكاردوس
اللومباردي حاكم بنفنتو على فك الحصار.
وبعد ذلك بسبع سنوات ساعدت سفن نابولية جيش المسلمين على فتح مسينا،
الواقعة على المضيق الذي يحمل إسمها، ويفصل صقلية عن إيطاليا. وقد نظمت العلاقة بين نابولي وإمارة صقلية
معاهدة سلام وتعاون دامت خمسين سنة، على الرغم من إحتجاج الكنيسة وأمراء إيطاليا. ويذكر أن نابولي كانت مركز متنور للعلم متقدم
عن مدن أوربية كثيرة، ففي هذا الزمن كان فيها اكاديمية تضم 32 فيلسوف ونحوي
[1]
.
وعندما عزم فريدريك الثاني على تأسيس جامعة، بعد
ثلاث قرون، إختار نابولي.
وفي
العام 838 م (224هـ) هاجمت قوة بحرية إسلامية مدينة برنديزي، وإستولوا عليها. فحاول سيكاردوس إخراجهم من المدينة، ولكنه
هُزم. وعندما علم عرب صقلية أن سيكاردوس
يعد حملة أكبر لمهاجمتهم حرقوا المدينة وغادروها إلى صقلية
[2]
، حسب مصادر غربية.
وإغتنم
عرب صقلية فرصة الفوضى التي تبعت إغتيال سيكاردوس اللومباردي سنة
839 م
(226هـ)،
فقاموا بمهاجمة قلورية وأبوليا وفتحوا مدينة طارنت وانكبره، وهذه جميعاً ممتلكات
بيزنطية. وحدث هذا في زمن الإمبراطور
البيزنطي ثيوفيل، الذي طلب مساعدة البندقية على إخراجهم. قام البنادقة بإرسال أسطول إلى خليج طارنت في
العام 839 م (226هـ) حيث تقابل مع أسطول صقلية الذي كان قد إستولى على المدينة،
فإنهزم أسطول البندقية
[3]
.
وكان
الأغالبة يشنون هذه الغارات والحروب إنطلاقاً من صقلية، بينما هم منشغلون بفتحها
نفسها. وعلى الرغم من أن هذا يبدو
مستغرباً وغير منطقي. فيجب ملاحظة أن
العمليات القتالية لم تكن متواصلة، بل كان يتخللها هدنات تعقد مع حكام محليين في
المدن والقلاع المتبقية في يد البيزنطيين، ولكن المستغرب أن تقف ولاية، وهي ولاية
إفريقيا، في وجه الإمبراطورية البيزنطية، وتطلب هذه الإمبراطورية مساعدة البندقية.
إستمرت
السيطرة العربية على طارنت لمدة أربعين سنة حتى إستطاع أسطول بيزنطي من إنتزاعها
من يد الأغالبة سنة 880 م (267هـ).
وفي
سنة 841 م (227هـ) قام العرب بأول نشاط لهم في بحر الأدرياتيكي، إنتقاما من
البندقية. فقد كانت البندقية، الواقعة على
رأس البحر الأدرياتيكي، تملك مواقع على طول ساحله الشرقي ضماناً لملاحتها وحمايةً
لها من القراصنة. فتوغلوا إلى الشمال
وغزوا سواحل دالماشيا ونزلوا على مدينة أوسيرو وأحرقوها، ثم عبروا البحر إلى
سواحله الغربية وغزوا مدينة أنكونا ونزلوا على مدينة أدريا قرب مصب نهر البو،
وأثناء عودتهم إستولوا على سفن بندقية كثيرة كانت عائدة إلى مينائها. وفي السنة التالية حقق العرب إنتصاراً آخر على
أسطول بندقي قرب جزيرة سانسيجو
[4]
.
وفي
العام 847 م (233هـ) إستولى الأغالبة على مدينة باري البحرية، الواقعة على مدخل
البحر الأدرياتيكي، والتي كانت من ممتلكات بيزنطة التاريخية في إيطاليا، وإن كانت
تفقدها أحياناً، فإنها كانت تحرص على إستعادتها لأهميتها الإسترتيجية في الدفاع عن
سواحل الأدرياتيك الشرقية التي تفتح الطريق إلى بيزنطة نفسها.
وقد
حدث ذلك على إثر نزاع على السلطة في البيت الحاكم اللومباردي في بنفنتو، فلجأ أحد
المتنازعين إلى عرب صقلية ولجأ الآخر إلى عرب الأندلس.
أُقيمت
إمارة إسلامية في باري، وسرعان ما حاولت الإستقلال بطلب التقليد من سامراء، عاصمة
العباسيين. وعلى الرغم من قصر المدة التي
حكم فيها العرب والمسلمين باري، فإن آثارهم باقية وطابعهم لا يزال موجود. وقد إشتهرت الإمارة بتقديم المساعدة للحجاج
المسيحيين وتأمين وصولهم إلى الموانئ المصرية.
وكان قائد الأسطول خلفون البربري، وتلاه في القيادة المفرج بن سلام، الذي
فتح أربعاً وعشرين حصناً حولها، وبنى مسجداً جامعاً
[5]
. وقام هذا الأمير بمراسلة
العباسيين، عن طريق صاحب البريد في مصر، طلباً للتقليد ليستقل عن بني الأغلب. فجاء هذا الطلب بسوء الطالع على أطراف عدة. فقبل وصل الرسول إلى القاهرة توفي المتوكل (بل
قُتل)، كما توفي المنتصر بالله، الذي خلفه، قبل وصول الرسول إلى سامراء، كما قُتل
المرج بن سلام في هذه الأثناء. ثم كتب
المستعين بالله، الذي خلف المنتصر، إلى والي المغرب وإسمه أوتامش، فلم يصل إليه
الكتاب حتى قُتل أوتامش، فقام وصيف مكانه فعقد له
[6]
.
ثم
قام تحالف جديد، قادته هذه المرة نابولي، حليف الأمس، وإنضم إليه أمالفي وسارنتم
وجيتا للوقوف ضد العرب. حيث إستطاع هذا
التحالف من تحقيق إنتصار على الإسطول الأغلبي الصقلي بالقرب من سالرنو فإضطر العرب
للإنسحاب من بونزا وليكوزا سنة 845 م (231هـ)
أحس
حكام إيطاليا بالخطر، فقاموا بالإتفاق مع الملك الكارولنجي لويس الثاني، الذي قام
بجمع أسطول كبير مستعيناً بأساطيل المدن الإيطالية، وهاجم إمارة باري بنفسه
فإستطاع أمير باري هزيمته سنة 867 م (253هـ) قرب مونت كاسان.
ثم
عمل لويس الثاني على التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية، فإتفق مع الإمبراطور باسل
الأول، فهاجموها معاً فإستولوا على المدينة، ووضعوا حداً للوجود العربي في هذا
الجزء من إيطاليا،وذلك سنة 871 م (258هـ) بعد حصار دام أربع سنوات. ويذكر أن محاولة تمت في العام 100م للسيطرة من
جديد على باري، إلا أن أسطول البندقية تصدى للإسطول الإسلامي وأفشل المحاولة
[7]
.
حصار
روما
هاجم
أسطول أغلبي صقلي أوستيا ميناء روما بثلاث وسبعين سفينة سنة 846م (231 هـ). وكانت
روما عاصمة دولة البابوية والعاصمة الروحية للعالم الكاثوليكي. وكان البابا جريجوري الرابع، قبل ذلك بسنين، قد
توقع هجوماً كهذا، فقام بتحصين المدينة فأضاف حصناً وأسوار وخنادق. فإستولوا على أوستيا بعد هزيمة حامياتها ودخلوا
نهر التايبر، وواصلوا زحفهم حتى وصلوا ضواحي روما. ونهبوا المباني الواقعة خارج أسوارها، ومن
بينها كنيسة القديس بطرس وكنيسة القديس بولس.
ثم أُجبر العرب على فك الحصار والإنسحاب.
ويعزي ذلك المؤرخون إلى أكثر من سبب، من بينها أن أهل القرى المحيطة بروما
هبوا دفاعاً عن مقدساتهم، وهو الإحتمال الذي أرجحه. فقد فعل
عرب
صقلية في روما ما لم يفعله عرب عمر بن الخطاب في القدس أو إنطاكية أو الإسكندرية،
فكان حريٌ بهم أن يُهزموا على يد قوة غير محترفة وغير مدربة ولكنها مسلحة بالغيرة
على عقيدتها.
وعلى
أثر ذلك وصل إلى جنوب إيطاليا لويس الثاني، ملك الكارولنجيين على رأس تحالف من
جيوش عدة ممالك ودوقيات، بينها نابولي. ولكنهم هٌزموا في سنة 846 هـ(232هـ)، ونجا
لويس بصعوبة.
وقد
دخل المؤرخون في جدل حول دوافع هذه الحملة العسكرية. هل كانت غزو على نطاق واسع، أم كانت تهدف إلى
الفتح ؟. وقد قال أحد المؤرخين أن لو
إستطاع المسلمون السيطرة على روما لقفزوا
إلى البندقية ومنها إلى القسطنطينية.
والغالب برأيي أن هذه الحملة يجب أن تفهم بقوانين ذلك العصر وقواعده. فهي تشبه الحروب البيزنطية العباسية، الذين
تحاربوا أكثر من أربع قرون دون أن يغيروا من الحدود الفاصلة بينهما بشيء. لقد كانت غزوات تهدف إلى الردع وإلحاق الأذى،
كما كان لها حسابات داخلية أيضاً. ولم تكن
المكاسب المادية قليلة الشأن، سواء كانت ناجمة عن النهب أو عن الإتاوات التي
يفرضها المنتصر، هذا بالنسبة للعباسيين والبيزنطيين، أما الدول الأصغر، فقد كانت
المكاسب المادية تشكل، في بعض الحالات، الدخل الرئيسي للدولة، كما كانت، وهذا مهم
أيضاً، وسيلةً لإشغال الجنود والقادة وإرضائهم.
وهذا منطق عام، ولا يخص، برأيي، طرف دون آخر. وينطبق على الغزوات البحرية (القرصنة) التي
سادت موانئ المتوسط لأكثر من ألف سنة.
وفي
سنة 849 م عُقد إتفاق بين دولة البابوية وجيتا وأمالفي ونابولي للدفاع عن روما ضد العرب. وكانت قد بلغتهم معلومات عن تحرك عربي يستهدف
روما ثانيةً. وفعلاً وقع الهجوم المتوقع. وكانت الجيوش المتحالفة بالإنتظار، ولكنها لم
تفعل الكثير، فقد غرق الأسطول الإسلامي المهاجم بسبب عاصفة هبت عليه، ومن نجا من
الغرق وقع في أسر الجيوش
المنتظرة
[8]
.
وفي
العام 876 م (263هـ) هدد أسطول إسلامي روما للمرة الثالثة، الأمر الذي إضطر البابا
جون الثامن لدفع إتاوة سنوية مقدارها خمسة وعشرين ألف قطعة فضية، مقابل التوقف عن
الإغارة على روما
[9]
. وقد إستدعى البابا بعد ذلك شارل الأصلع،
إمبراطور الفرنج للدفاع عن روما، فعبر الألب ولكنه إضطر للتراجع دون أن يفعل
شيئاً.
نجح
العرب في إقامة إمارة صغيرة بالقرب من مصب نهر جارليانو، وإستمرت لمدة ثلاث
وثلاثين سنة، على الرغم من عدة محاولات لتصفيتها، حتى تمكنت قوات بيزنطية وإيطالية
من هزيمتها. كما هاجمت قوة عربية دير مونت
كاسينو وأحرقوه ودمروه. على الرغم من وجود
نصوص إسلامية صريحة تمنع مهاجمة الأديرة والتدخل بشؤونها. ويُشكك كثيراً بمصداقية هذه الروايات المنقولة
عن مصادر أوربية. لقد واجهت أوربا
المسلمين بحملة تشويه منظمة، بحيث تضمن تضامن الجميع لمحاربتهم، ولتحصين الأوربيين
من دخول الإسلام. فقد أشيع أنه أثناء حصار
ساليرنو، إستولى المسلمون على دير في ضواحي المدينة، فكان قائد الجيش المحاصر يمتع
نفسه بالإعتداء على عذورية إحدى الراهبات كل يوم، وكان يفعل ذلك في مذبح الكنيسة،
وفي أحد الأيام ظهر نور قوي بالسقف فخر ذلك القائد ميتاً، فشاعت القصة في أوربا
المسيحية جميعها، وفُهمت على أن السيد المسيح ( عليه السلام ) إنتقم من القائد
الباغي
[10]
.
وقد
سيطر العرب على كالابريا، التي كانوا يسمونها قلورية، ولكنهم فقدوها ثم
إستعادوها. ومع نهاية حكم الأغالبة في
صقلية فقد العرب قلورية ومعظم المواقع التي سيطروا عليها، ولم يتبقى لهم سوى أمارة
نهر جارليانو، التي سرعان ما سقطت
بدورها
[11]
.
[1]
Roman Empire, Gibbon, VII.
[2]
صقلية، د
تقي الدين الدوري، نقلاً عن فازيليف.
[3]
صقلية،
نقلاً عن فازيليف.
[4]
صقلية،
نقلاً عن فازيليف.
[5]
فتوح
البلدان، البلاذري. وسماها بارة.
[6]
فتوح
البلدان البلاذري.
[7]
تاريخ
أوربا العصور الوسطى، العريني.
[8]
صقلية،
نقلاً عن فازيليف.
[9]
صقلية، نقلاً
عن ديورانت.
[10]
Roman Empire, Gibbon, VII.
[1]
الدولة
الفاطمية في مصر.
[2]
تاريخ
الدولة الفاطمية، د محمد جمال سرور.
[2]
History of The Moorish Empire in Europe.
[3]
صقلية
علاقاتها بدول البحر المتوسط، د تقي الدين عارف الدوري.
[5]
صقلية،علاقاتها مع دول المتوسط.
[7]
The Byzantine Empire, C. Oman.
[8]
The Byzantine Empire, C. Oman.
[12]
الدولة الفاطمية
في مصر، أيمن فؤاد سيد.
[13]
الدولة
الفاطمية في مصر، أيمن فؤاد سيد.
[14]
موقع
التراث الإسلامي.
[15]
تاريخ
الدولة الفاطمية، محمد جمال الدين سرور.