كتاب " نحن واوربا " الجزء الثاني - الفصل الخامس ( القسم الثالث )
 
 



عهد الخلافة

تولى الحُكم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، الذي لُقب بالناصر سنة 300 هـ (912 م).  وكان أبوه قد قُتل في حياة أبيه، فجعله جده ولي عهده، وإهتم بتدريبه منذ صغره.  وعندما إستلم الحكم كان مهيئاً تماماً لذلك، فقد أثبت جدارة فريدة في سنواته الخمسين في الحكم.  فقد أصبحت الدولة قوية للغاية، بحيث كانت دول ليون ونبارة تلجئان إليه في حل مشاكلهما.  وقد كان يقود الجيوش بنفسه ضد العصاة وضد القوى الإسبانية في الشمال، حتى إستتبت له الأوضاع.

وعاش في بلاط عبد الرحمن إبن عبد ربه الأندلسي، مؤلف كتاب العقد الفريد.  فيتكلم في كتاب العسجدة الثانية عن غزوته الأولى المسماة المنتلون، فيقول أنه فتح فيها سبعين حصناً.  ويقول أنه أعاد فتح الأندلس من جديد.  وقد ترك قصائد عن غزوات عبد الرحمن الناصر، ففي إحداها يقول في أحد أبياتها :

وأن أديخ أرض بنبلونة             وساحة المدينة الملعونة [1]

وهذا يدل فعلاً أن غزواته غطت إيبيريا بكاملها، فبنبلونة تقع في أقصى الشمال.    

وقد حدث هذا في وقت أصبحت الخلافة في بغداد ضعيفة، مما شجع عبد الرحمن على إعلان نفسه نفسه خليفة في سنة 316 هـ (929 م). 

تولى الحكمالثاني (350 – 366) (961 – 976) الخلافة بعد وفاة أبيه، وكانت البلاد مستقرة فقام بإكمال ما بدأه أبوه من مشاريع.  وكان محباً للعلم والثقافة، فكان يرسل من يحضر الكتب من الشرق، فضمت مكتبته أربعمائة ألف كتاب.  وكان ميالاً للسلم، وهذا فُهم ضعفاً من قبل منافسيه، فشغب عليه الإسبان فجهز جيشاً وحاربهم.  كان عهد الحكم الثاني عهداً مستنيراً يشبه عهد المأمون، الذي لم يكن ميالاً للحرب مثله.  وقد غدت جامعة قرطبة في زمنه مناراً للعلم يؤمه الطلاب من بقاع مختلفة. وفي عهده قام بضم مدن في المغرب مثل طنجة وسبتة بتشجيع من أهلها، لكي تخرج من حكم الفاطميين الذي إستولوا على المغرب كاملاً.

كما إستقبل الحكم عدة سفارات من قبل حكام الدول الإسبانية في الشمال يطلبون مساعدته ضد بعضهم البعض [1] .

تولى الحكم بعد الحكم الثاني إبنه هشام البالغ من العمر أحد عشر عاماً.  وقد إعتبره بعض أفراد الحاشية غير قادر على تولي الحكم، بينما كان رأي قسمٍ آخر منهم أن يحكم.  فرشحوا عمه، ولكنه قُتل.  فإستمر هشام في الحكم، ولكن تمكن الحاجب محمد بن أبي عامر أن يستفرد بالحكم.  وهكذا دخل حكم بني أمية في الأندلس نفس النفق الذي دخله بنو العباس منذ قرن.  فأصبح الحاجب يورث منصبه، فحكم إبن محمد بن أبي عامر وحفيده المنصور، حتى أنتهت الدولة بكاملها، وبدأ حكم الطوائف.

وقام المنصور بن أبي عامر، الحاجب، بحملة على شمال إسبانية فأخضع جميع اقاليمها، ولكن هذا لم يدم طويلاً، إذ لم يمض على ذلك إلا قليل حتى إستعاد الإسبان كل ما كان بأيديهم على أثر الفتن التي ظهرت [1] .

وقد أشاد بعض المؤرخين بالمنصور، بينما إعتبره آخرون مسؤول عما آلت إليه الأوضاع وظهور دول الطوائف.  فينسب إليه قيادة 54 حملة عسكرية في السبعة وعشرين سنة التي حكم فيها.  وهذا مقياس منطقي للأداء في زمن كانت تتهدد فيه مخاطر كثيرة ومتنوعة وجود بلاده.



[1]  الحلل السندسية في الأخبار الأندلسية، الأمير شكيب أرسلان.

وفي زمن الخلافة إستطاع المسلمون صد أربع هجمات للنورمان (الفايكنج) على الساحل الغربي، الذين أصبحوا يأتون من نورماندي، أي من مسافة أقرب، بعد أن مُنحت لهم من قبل الفرنج.  فأصبح لهم دوراً ممنهجاً في محاربة المسلمين، ليس في الأندلس فحسب، بل في جنوب إيطاليا وصقلية، وكانت  نهاية حكم العرب لصقلية، كما سنرى، على أيديهم.

إستقبل بلاط قرطبة في هذه الفترة عدداً كبيراً من السفارات، من دول شمال إسبانيا ومن دول قارة أوربا.  مثل الملك أوتو الأول، ملك ألمانيا. ومن الملك (الدوق) هوجو البروفانسي، الذي تذكر بعض المصادر أنه عقد إتفاقية مع عبد الرحمن الناصر للحد من النفوذ الفاطمي بعد قيام الأسطول الفاطمي بمهاجمة ميناء جنوة.  كما يُشك بأن إتفاقية مماثلة عقدت مع بيزنطة موجهة ضد العباسيين ودولة الفرنجة، ولكن يميل الكثير من المؤرخين إلى إنكار ذلك.  وعلى كل حال إذا لم يكن هناك دليل على وجود هذه الإتفاقيات، فلا يوجد دليل على تعاون بين الأمويين والفاطميين والعباسيين ضد أعدائهم المشتركين. 

إزدهر العمران في هذه المرحلة، فقد بُنيت على الأقل ثلاث مدن، كما أُنشئ حصن مجريط، الذي تحول إلى مدريد عاصمة إسبانيا. 

كان هذا العهد عهد علم وثقافة، جذب طلابه إلى المدارس والمعاهد التي أُقيمت في مختلف المدن، بما في ذلك عواصم الدول الإسبانية، التي تأثرت بما يجري في الأندلس وأبدت إهتماماً ملحوظاً في العلم، فقد كان نبلاء ليون ونبارة يجلبون مربين أندلسيين لأبنائهم.

حكم الأمويون الأندلس لمدة 258 سنة، وقد حكم منهم، ما بين أمراء وخلفاء، عشرة، فيكون متوسط حكم الواحد منهم حوالي ستة وعشرين عاماً، بينما كان متوسط حكم الأمويين في دمشق ست سنوات ونصف، والعباسيين في بغداد ستة عشر عاماً.

  إمارة جبل القلال

لقد أفرز الوضع السائد في الأندلس وغرب المتوسط وجود جماعات من البحارة المسلمين  ينشطون من الموانئ الأندلسية وموانئ الشمال الإفريقي، توافرت لها الأساطيل البحرية، وكانت تعمل بقرار مستقل وتغلب عليها النظام الجمهوري [1] .  كما كان هناك قراصنة أوربيون مثل الفايكنج وإيطاليون وغيرهم.  وكان هؤلاء كثيراً ما يغيرون على السواحل في غالة وإيطالية والجزر، كما كانوا يغيرون على السفن التجارية المبحرة بين موانئ المتوسط.  وكان لديهم قوارب سريعة، كما كانوا مقاتلين أشداء وملاحين مهرة.

وحدث في العام 889 م أن مركباً عليه عشرين بحاراً كان مبحراً بمحاذاة الساحل الفرنسي، فأخذتهم ريح عاصفة وألقت بهم في خليج جريمو، فرسوا وصعدوا إلى البر، ولم يلحظوا أحد.  فوجدوا المكان نموذجياً للإقامة، فقد كان هناك غابة قريبة، كما كان هناك سلسلة جبال تحيط بالخليج.  فغاروا على قرية وقتلوا أهلها وجالوا في الجبال المحيطة في المكان، فأرسلوا إلى زملائهم من  الأندلس وشمال إفريقيا، فما مرت عدة سنوات إلا وإمتلأت هذه الأرض بالحصون والقلاع.  وكان أهمها حصن فراينية Fraxinetum [1] .  وهناك إختلاف بين المؤرخين على موقع هذا الحصن، فيعتقد البعض أنه قرب الحدود الفرنسية الإيطالية، في مقاطعة بروفانس.

وعندما انتهى العرب من بناء حصنهم، بدأوا بشن الغرات على أهداف في المناطق المحيطة بهم.  حتى أصبحوا قوة تطمع القوى المتحاربة المختلفة في المنطقة لإستمالتهم.  مما أعطاهم الإحساس أنهم سادة البلاد، فكانوا يتحركون بحرية تامة في مناطق واسعة من بروفانس وشمال إيطاليا ومعظم سويسرا.  وإنضم إليهم أعداداً كبيرة من أهالي البلاد. 


[1]  تاريخ غزوات العرب..

إعتادوا المشي في الجبال الوعرة، حتى أنهم كانوا يوصفون بأنهم مثل الماعز، لخفة حركتهم في الجبال.  وكانوا ينشرون العيون لمعرفة تحركات أعدائهم وضحاياهم، فنشروا الرعب في أقاليم واسعة من ما يُعرف الآن بفرنسا وإيطاليا وسويسرا.

وقد أمعنت المصادر الأوربية في الحديث عنهم بتفاصيل موسعة، بينما لا يكاد المؤرخون المسلمون يذكرونهم.  ويعود ذلك، بتقديري، إلى ثلاثة أسباب ؛ الأول أن هذه المجموعات لم تكن تقوم بأعمال جهادية، ولم ينتدبها خليفة أو والي للقيام بهذا العمل، والثاني أن أخبارهم لم تكن تصل إلى العالم الإسلامي، فإن المنضم إليهم لم يكن يرجع، كما أنهم لم يكونوا من المسلمين المتعلمين لكي يدونوا ما يحدث معهم.  أما السبب الثالث فهو أن معظم أهدافهم كانت الكنائس والأديرة، وهي التي كانت مراكز تدوين الأحداث والحوليات.  وقد كانت الكنائس والأديرة تُستهدف من قبل جميع المغيرين في اوربا، وذلك لأن الثروة كانت مركزة بها.  ومن الواضح أن المجموعة هذه لم تكن تلتزم في الدين الإسلامي.  فكثير من القصص المروية عنهم، مع ما قد يكون تخللها من مبالغات، تدل على بعدهم عن تعاليم الإسلام.

وقد كانت أوربا تعاني في هذه الفترة من المجر والفايكنج، الذين تكلمنا عنهم في الفصل الأول.  فجاء هذا العنصر الثالث، ليجعل أوربا عرضه للفناء، وتعاني مدة طويلة من الزمن، أقل من قرن بقليل. 

وقد كانوا يسيطرون على معابر وممرات جبال الألب في الربع الأول من القرن العاشر.  فكان كبار رجال الكنيسة يحجمون عن السفر الى إيطاليا تجنباً للتعرض للسلب او القتل، كما أعاقوا حركة الحجيج من شمال غرب أوربا إلى روما.  وكانوا يتصرفون بمنتهى القسوة مع ضحاياهم، الأمر الذي دفع الموسرين من أبناء هذه الأقاليم للهجرة شمالاً.

ثم أخذوا يتزوجون من بنات البلاد، وإستقر بعضهم وأخذ يعمل بالزراعة، وبدا وكأنهم ماكثون إلى الأبد.  الأمر الذي جعل البابا يطلب من الإمبراطور أوتو الأول أن يتدخل لدى الخليفة عبد الرحمن الناصر للحد من نشاط هذه " الإمارة ".  وقد تحدثنا في أكثر من فصل عن سفارتي الراهب جان إلى بلاط عبد الرحمن الناصر في قرطبة، والعلامة الطرطوشي إلى بلاط أوتو الأول في مينز.

ولكن السفارة لم تؤدي إلى نتيجة، فقد قال لهم الخليفة عبد الرحمن أنه لا سلطة له على هذه الجماعة.

وفي سنة 952م إجتاح المجر الألزاس، فتقاربت منطقة عمليات العرب من منطقة المجر.  وحقيقةً أن المجر كانوا أُمة تتحرك بكاملها تنشر الخراب حيثما حلت، أما العرب فكانوا أقل عدداً، وكان أسلوب عملهم أقرب إلى حرب العصابات، يعتمد على سرعة الكر والفر.  وورد في بعض الروايات أن الأمير كونراد، الذي كان يحكم دوقيات سويسرا وبورغندي، إستطاع أن يضرب العرب والمجر، في قصة يصعب تصديقها بأنه كاتب الطرفين بحيث حرضهما على بعضهما وإلتقيا بجيشيهما وإقتتلا، حيث كان كونراد ينتظر بجيشه ليجهز على الطرفين، حيث لم يبقى من الجيشين إلا ما تم بيعه في سوق الرقيق.  والمعروف أن هزيمة المجر تمت على يد أوتو، فتوقفوا تماماً عن السلب والنهب وإستقروا وأسسوا دولتهم، في المكان الموجودة به اليوم.  فشجع هذا القوى المحلية المختلفة على مواجهة العرب. 

في سنة 956 تم إجلائهم عن مدينة جرينوبل، وكان أساقفتها هجروها إلى الشمال فإتفقوا على تجميع قواهم والعمل على طرد العرب من مدينتهم، على أن توزع الأراضي المستعادة على المشاركين في هذا المجهود بحيث يحصل كل منهم على ارض تتناسب مع الجهد الذي بذله. 

وكان في بلدة كلوني قسيساً معروفاً ومحبوباً إسمه القديس مايول وقع في أسر العرب أثناء عودته من روما.  حيث طلبوا منه فدية عالية. فأرسل رسالة إلى ديره طالباً إرسال الفدية، فبدأ الناس يتبرعون بما يملكون بسرعة لكي تصل الفدية قبل الموعد المحدد.  وعلى الرغم من أن القس عومل بإحترام وتم إطلاق سراحه بعد إستلام الفدية، إلا أن الحدث  خلق تصميماً شعبياً على التخلص من هذه التهديد.  فقام نبيل محلي بإستثمار حالة الغليان هذه فشكل قوة قامت ببناء حصن مقابل حصن العرب، ففتح لهم الحارس باب الحصن فدخلوه وقتلوهم عن آخرهم.  وحصل شيء مشابه في منطقة الجاب.  أما حصنهم الأول فركسينت فقد كان الآخر سقوطاً على يدي الكونت غليوم سنة 975م.  أي بعد ثمانين سنة من بناءه [1].  وهذه الأخبار جميعاً وفقاً لمصادر إوربية.

يقول المؤرخون الأوربيون أن القوى المحلية لم تؤذي أولئك الذين كانوا يعملون بالزراعة ولا يمارسون قطع الطريق وأنهم بقوا على دينهم، وهذا تصرف غير أوربي.  فهؤلاء غالباً ما يكونوا قد أُجبروا على الدخول في المسيحية.

على الرغم من إصرار ليوتبرند وهو مؤرخ معاصر أن هذا الكيان كان تحت حماية قرطبة.  فإن جميع المؤشرات تدل على عدم وجود صلة.  فنشاطهم كان عبثياً، ولم يكن يهدف إلى خدمة دولة أو دين، بل كان يسيء إليهما.  لقد كانت هذه عملية قطاع خاص،  فهو يشبه حركات التمرد التي كانت تنشق عن القوى الإستعمارية وتقيم وضعاً خاصاً بها. 



[1]تاريخ غزوات العرب

 


[1]  العريني.



[1] تاريخ غزوات العرب عن إبن حيان.



[1]  العقد الفريد، ج 5.


 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم   
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)    
التعليق  
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter