ويذكر
بعض المؤرخون أن موسى ارسل سرايا إلى ما وراء جبال البرانس، بينما ينكر آخرون ذلك[1]. ولكن في زمن والي إسبانيا السمح بن مالك، عبر
جيش أندلسي الجبال وسيطر على مدينة أربونة، وهي في غالة، ويحكمها، مثل غيرها من
المدن في هذه المنطقة، أمير قوطي. ويبدو
أن هؤلاء الأمراء تبقوا في كونتياتهم منذ أيام كانت أكيتانيا تحت حكم القوط، قبل
أن يطردهم الفرنجة من بلاد الغال. وقد
تكلمنا عن هذا الجيش الذي إتخذ من أربونة قاعدة له، في الفصل الثالث.
كما
تعاقبت حملات عديدة قام بها الولاة المختلفون الذين حكموا الأندلس خلال العقود
القليلة المتبقية من حكم بني أمية، وعددهم عشرين والياً حكموا 42 سنة. وهذا أحد سببين يمكن لنا أن نعتبر أن الفتح لم
يكتمل تماماً، فالولاة لم يكادوا يستقروا حتى يُعزلوا. أما السبب الآخر فهو إستدعاء الخليفة الوليد بن
عبد الملك لكلٍ من موسى وطارق، وإلحاحه عليهما بالحضور من خلال إرسال رسولٍ ثانٍ،
حيث غادرا الأندلس إذعاناً لأمر أمير المؤمنين، الذي كان متخوفاً على المسلمين،
وغادر معهم من الجند من رغب في ذلك.
تجمع
الكثير من المصادر أن الجيوش الفاتحة لم تمشط المناطق الجبلية، وربما كان موسى
ينوي القيام بذلك لو لم يتم إستدعاءه.
وتذكر المصادرالغربية أن أميراً قوطياً إسمه بيلايو Pelayo لجأ إلى هذه الجبال وتجمع حوله الكثير من المقاتلين، حيث شكل
جيشاً، إستطاع أن يسجل نصراً على جيش إسلامي في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً.
كما يذكر بعض المؤرخين أن موسى
كان يفكر بالتقدم بإتجاه القسطنطينية من خلال غالة (فرنسا) وشمال إيطاليا
والبلقان. ويقال إن
أول من فكر بهذه الخطة كان عثمان بن عفان، حيث كان من المفترض أن تُفتح الأندلس في
زمن عثمان، لولا مقتله. فيكون غزو غالة
وشمال إيطاليا والبلقان في زمن الخليفة الراشدي الرابع (علي بن أبي طالب)، وربما
في عهده تم فتح القسطنطينية، حيث كانت مواجهة أوربا ستتم بنوعية أفضل من الرجال،
مما كان سيرجح نجاح المحاولة ويوفر على الطرفين صراع مرير دام ثمانمائة سنة.
على
كل حال فموسى كان في السبعينات من عمره، حيث توفي في طريقه إلى الحج بصحبة سليمان
بن عبد الملك [1].
بعد إنتهاء حكم بني أمية، تمكن
أحد أمرائهم، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، من الوصول إلى
الأندلس، وتأسيس دولة في سنة 138. وقد
سماه المنصور صقر قريش. حيث كانت أول
الأقاليم إنفصالاً عن الدولة العباسية.
المعتزلة
وهي فرقة إسلامية بدأت في مرحلة مبكرة،
في زمن الجيل الثاني، جيل التابعين. وسموا
المعتزلة لأن واصل بن عطاء مؤسس الحركة إعتزل الحلقة الدراسية الخاصة بالحسن
البصري. وقد تسبب في طرده من حلقة الحسن قوله أنه لا يوجد مؤمن ولا كافر. وكانت أفكار عطاء تقدم العقل على النقل، أي
تشجع التأمل والتحليل والمحاكمة العقلية للأمور.
وقد كان بداية ظهور هذه الحركة سنة 80 للهجرة في عهد عبد الملك بن مروان.
ويسمى هذا المذهب أيضاً بالقدرية. وقد آمن بعض خلفاء بني أمية المتأخرين بهذه
المبادئ مثل الوليد بن يزيد وإبراهيم.
ثم تطور هذا المذهب، وظهر آخرون ينادون
بفكره ويؤمنون بعقيدته، مثل عمرو بن عبيد وحمدان بن هذيل ابراهيم بن يسار وبشر بن
المعتمر وغيرهم. ومنهم أيضاً ثمامة بن
أشرس، وكان من أصحاب المأمون، وكان صاحب لهو ودعابة. ثم تعمقت النقاط الخلافية وإنحصرت
بخمس أصول، وهي التوحيد، وفي هذه المسألة يرفضون أن يوصف بأي صفة، فلا شبه
له. والعدل، فيرفضون القول أن الله هو
خالق أفعال عباده بل هي من فعلهم. والمسألة الثالثة هي صفة الفاسق في الدنيا، إذ
لا يوافقون على تكفيره، بل هو بين منزلتين، الإيمان والكفر، فإن مات مصراً على
فسقه تأكد كفره، وإن تاب أصبح يعد مؤمناً.
ثم الوعد والوعيد وهو عقاب المؤمن الذي مات دون أن يتوب عن كبيرة إرتكبها،
وهو درجة أقل من العذاب. ثم يرى المعتزلة
ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقرون مقاتلة الحكام الظالمين.
ومن أقوالهم أن الله لا يُرى، في الدنيا
والآخرة، وأن القرآن مخلوق، ونفيهم علو الله تعالى وشفاعة النبي (ص) وكرامات
الأولياء.
خلق القرآن
لم
تكن جميع التباينات المذهبية في الإسلام ذات جذور سياسية، بل إن بعضها ناجم عن
آراء وتفسيرات ووجهات نظر مختلفة لقضايا عقيدية.
ومن بين نقاط الخلاف التي تفجرت في عهد الخليفة العباسي المأمون القول بخلق
القرآن. وقد كان المأمون يؤمن بما تقوله
المعتزله. وكان المأمون قد تبحر بالفلسفة
الفارسية والهندية أثناء إقامته في خراسان وتبنى مبادئ غير مقبولة إسلامياً ولكنه
عندما عاد إلى بغداد عاد عن الكثير منها وبقي متمسكاً بآراء المعتزلة. وقد تسبب هذا بإضطهاد الكثير من الفقهاء الذين
رفضوا مجاراة المعتزلة في قولهم أن االقرآن مخلوق، ومن بينهم الإمام إبن حنبل.
وينبع
قول المعتزلة بخلق القرآن، إزالة صفة الأزلية عن القرآن، فهي صفة ينفرد فيها الله
فقط. وقد كان هناك نظرات فلسفية نتشرة
بكثرة في تلك العصور، في الإسلام وغيره، وقد كان نقيضو المعتزلة يقولون بمبادئ
ترتقي إلى الشرك، مثل القول بالتشبه والتجسد، إي إتحاد ذات الله مع غيره من البشر،
مثل قول المتصوفه واتباع الديانات التي تؤمن بتناسخ الأرواح. وقد إعتمدت المسيحية على قدم " الكلمة
" وأن المسيح " كلمة الله، وهذا يفتح الباب للتحلي بصفة القدم مثل الله،
وهو أمر مناقض لمبدأ التوحيد. وقد كان
المعتصم يؤمن بخلق القرآن ويعذب مخالفيه، وقد ضرب إبن حنبل لمخالفته رأيه، كما كتب
إلى الأقاليم يطلب أن يدرس مذهبه بخلق القرآن من قبل المعلمين [1].
القرامطة
ظهرت
حركة القرامطة ومذهبهم في أواخر القرن الثالث الهجري. وقد أسسوا دولة في البحرين، وكان إسم البحرين
يطلق على الإقليم الواقع على سواحل الخليج العربي الغربية. وقد بنت هذه الدولة جيشاً قوياً هدد وغزا معظم
أقاليم الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر.
وأساس الحركة والدولة مذهبي شيعي
إسماعيلي، إنشق عن الإسماعيلية وأحد فروعها المسمى بالمباركية. وسميت الحركة على إسم حمدان بن الأشعث الملقب
بالقرمط مؤسسها. الذي قدم إلى الكوفة وإنضم إلى الإسماعيلية، ثم إنقلب عليهم وأسس
مذهباً خاصاً به، وسماه " دار الهجرة "، داعياً لإمام من آل محمد،
وبقدراته القيادية وشخصيته لقيت دعوته قبولاً واسعاً لدى أهل الكوفة المعروفين
بتأييدهم لآل البيت، وذلك في العام 277هـ(890 م).
وقد
إعتقله والي الكوفة، ولكنه هرب من سجنه [1]. ثم إنتشرت الدعوة في
البصرة وواسط والبحرين والقطيف. وكان
أتباع القرامطة يسمون أنفسهم " الهادية ".
ثم أخذ حمدان في إظهار أفكاره
ومعتقداته الخارجة عن الإسلام، وخاصةً بين المقربين له. فغير في الصلاة والعبادات. ثم ظهر أحد أتباعه أبو سعيد الجنابي في البحرين
ونجح في بسط نفوذ الحركة على البحرين وهجر، فأصبحت معقلاً قوياً لهم. وقد كان ذلك في زمن الخليفة العباسي المعتضد،
الذي فشل في إحتواءها ومواجهتها. حيث
أصبحت قوة عسكرية مرهوبة الجانب عادت الخلافتين العباسية والفاطمية، بل والمسلمين
جميعاً، فقد هاجموا مكة وإقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم إلى البحرين، حيث بقي
لمدة ثمانية عشر سنة. وفي هذه الأثناء
كانوا قد أعلنوا عن أفكارهم الأقرب إلى الإلحاد، والتي تتضمن أفكاراً إشتراكية،
مثل مشاعية الملكية. وقد كانوا يُظهرون ممارسات أخلاقية أثارت إعجاب
معاصريهم، إلا أنهم كانوا يلعنوهم لإلحادهم أو ضعف إيمانهم.
على
غير عادة العرب والمسلمين كان لهم مجلس قيادة، ولكل عضو نائب يحل مكانه في حال
غيابه أو موته. كما أنهم فصلوا بين
القيادة العسكرية والقيادة السياسية، فقد كان هناك مجلسين. وقد تبنت دولة القرامطة سياسة إقتصادية سابقة
لأوانها، مثل تقديم دعم مادي لأصحاب المشاريع الإقتصادية، سواء كانت صناعية او
زراعية او حرفية. كما كانت الدولة تقدم
تعويض لمن يحرق بيته او تتلف مزرعته. كما
إهتمت بإصلاح الأراضي وبناء المشاريع الإروائية.
وعلى
عكس ما يحاول البعض من أن حركة القرامطة فارسية وهدفت إلى تدمير الإسلام، فإن
قبائل عربية عديدة إنخرطت في الحركة على نطاقٍ كبير، مثل بنوهلال وبنو سليم وكلب
وفزارة وأشجع وغيرها من القبائل.
لم يهزم القرامطة عسكرياً، رغم
أنهم خسروا بعض المعارك، ولكنهم ضعفوا عندما شجع الخليفة الفاطمي أبناء القبائل
العربية الرافدة
للحركة أن يستقروا في مصر، حيث أعطاهم أراضي زراعية. ولكنه سرعان ما شجعهم إلى الإنتقال غرباً إلى
إفريقية (تونس) لإفشال النزعة الإستقلالية لدى ولاة الفاطميين هناك، فيما عُرف
بتغريبة بني هلال، الذين شكلوا العمود الفقري للهجرة. وقد كانت هذه الهجرة، التي أُفرغت من مضمونها
العقائدي، وبالاً على المناطق التي مروا بها وسكنوها، حيث خربوا المزارع ودمروا
إقتصاد البلاد، فلم تستعد هذه البلاد عافيتها لقرونٍ طويلة.
بغداد..
بغداد
إستمرت بغداد مدينة عظيمة على
الرغم من الضعف السياسي. ففي زمن الخليفة
الناصر زارها الرحالة الأندلسي بنيامين التوديلي وبالغ في وصفها بسبب إنبهاره بها،
فقال أن محيطها كان عشرين ميلاً، وتقع وسط أراضي مزروعة بالنخيل لا مثيل لها.
يؤمها التجار من جميع الأصقاع. ويقطنها
الحكماء والفلاسفة الذين يتقنون جميع أنواع الحكمة. طوال الصراع العباسي البيزنطي لم يتمكن البيزنطيون من مهاجمة بغداد، ولا أظنهم إستهدفوها. ولكن زارها وزار سامراء العديد من السفراء
الروم، وإنبهروا بعظمتها.
[ نهابة الفصل الرابع ]
[1] تاريخ
إبن خلدون، ج 3.