كان الأمين (193-198) في
بغداد عندما توفي الرشيد، فبويع من قبل من بها من القادة وبني العباس وغيرهم، أما
المأمون فقد كان برفقة أبيه، ولكنه كان في مدينة أخرى وقت موت أبيه. وكان الرشيد قد أخذ البيعة للمأمون من القادة
في سفرتهم تلك. فقرر المأمون المطالبة
بالخلافة على هذا الأساس، وبقي في خراسان، فإلتف حوله الكثيرون[1]، وقد ساعد على
ذلك كون أمه فارسية. ولكنه لم يعلن
عصيانه، إلا عندما حاول الأمين تغيير ولاية العهد. فعندما أسقط الأمين إسم المأمون، مقدماً إسم
إبنه عليه، أولاً ثم مُسقطاً ذكره نهائياً، أعلن المأمون إنشقاقه، وطالب بالخلافة
على أساس أنها حقه الشرعي، الذي أوصى به إليه أبوه. وعلى الرغم من ضعف الموارد المتاحة لدى
المأمون، فقد أدار الصراع بطريقة تنم عن حنكة شديدة، فإجتمع عليه الناس، كما أن
إدارة الأمين دلت على
شخص ماهر في كسب الخصوم، فإنفض الناس عنه.
إستمر الصراع طوال عهد المأمون البالغ ثلاث سنوات، وقد بدأ بحملات قادها
قادة الأمين إلى خراسان، التي فشلت الواحدة تلو الأخرى، ثم توجه جيش المأمون إلى
بغداد وحصارها. وهو الحصار الأول في
تاريخها، منذ تأسست. ثم إقتحمها الجيش
وإستمر القتال في شوارعها طويلاً إلى أن قُتل الأمين، وقُطع رأسه. وفي هذه الأثناء ثار على العباسيين، المنشغلين
بأنفسهم السفياني، حفيد خالد بن يزيد بن معاوية، كما ثار عليهم إبن طباطبا
العلوي. وبايع أهل مكة محمد بن جعفر
الصادق. كما ظهرت حركات في مصر والموصل،
ولكن تم القضاء عليها جميعاً.
تمت البيعة للمأمون
(196-218) الذي بقي في خراسان، وذلك أن أهلها كانوا قد إشترطوا عليه البقاء فيها
مقابل دعمهم له. ولكن الفوضى إستمرت حتى
بعد مقتل الأمين، فقد فقدت الدولة هيبتها، وكان الجنود ينتقلون من معسكرٍ إلى آخر،
إذا دُفع لهم أكثر، كما أن العامة حملت السلاح ونهبت وحرقت ودمرت بيوتاً كثيرة في بغداد،
الأمر الذي إضطر المأمون ألى القدوم إلى بغداد، وفعلاً قدم عليها وضبط الأوضاع
وإستتب الأمن.
غزا
المأمون بنفسه سنة 215، حيث توغل في الأناضول وفتح عدة مدن وحصون، وكان يبعث
أبناءه وقواده في إتجاهات مختلفة لفتح القلاع، وفتح عدة مدن بالجيش الذي كان يقوده
بنفسه [1]. وعندما كان عائداً بلغه أن الروم أرسلوا جيشاً إلى طرطوس
والمصيصة، فعاد وقاتلهم من جديد. وقد كرر
ذلك في سنتي 217 و 218. وقد كانت هذه
الصوائف أكثر تأثيراً من صوائف بني أمية، التي كان معظمها ذا طابع ردعي، أما صوائف
الرشيد والمأمون فقد أضعفت الوجود البيزنطي في الأناضول مما مهد لإخراجهم من هذا
الإقليم خلال القرن القادم.
توفي المأمون بطرسوس سنة 218،
وفي عهده نشطت حركة الترجمة والتأليف، وبنى المدارس والمستشفيات والمراصد الفلكية والمكتبات. كما كان بلاطه ملتقى المفكرين من شعراء ورواة
وفقهاء، وكانت تجري فيه مناظرات قيمة وطريفة.
لقد
كان المأمون نفسه عالماً، فقد كان يقول معاوية حكم بعمره وعبد الملك بحجاجه، وأنا
بعلمي[1]، وكان يقول "لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال" [2]. كان هذا في القرن التاسع
الميلادي.
[1] وقصد
بذلك أن معاوية وعبد الملك حكما مستعينين بعمرو بن العاص والحجاج، أما هو فإستعان
بعلمه.
[2] تاريخ
الخلفاء، جلال الدين السيوطي.