كتاب " نحن واوربا " - الجزء الثاني - الفصل الرابع - ( القسم الثاني )
 
 



المهدي والهادي

تولى المهدي (158-169) الخلافة بعهدٍ من أبيه المنصور، وكان أول ما فعله أن أطلق السجناء، فلم يبق منهم إلا من سُجن بدم.  وتكرر في زمنه ظهور أصحاب معتقدات متأثرة بديانات فارس القديمة، فظهر " المقنع "، الذي كان يضع على وجهه قناع من ذهب، في خراسان، وكان يؤمن بالتناسخ، وإجتمع حوله كثيرون.  كما ظهر في هذه الفترة حركات سياسية مناوءة، كانت تسمى المبيضة، وهي نقيض للمسودة حركة العباسيين.  فتحالف المقنع مع حركة مبيضة ظهرت في بخارى والصغد.  فأصبحت حركة عارمة، ولكن المهدي إستطاع القضاء عليها.

وأمر المهدي بتعمير طريق بغداد مكة، كما أمر بتنظيم البريد بين المدينتين [1].  وكان بناء الطرق وتزويدها بمحطات إستراحة ومياه الشرب وتأمين حراستها، من الأمور التي كان يهتم بها الخلفاء العباسيين.   

ذكرنا أن العهد كان لعيسى بن موسى من قِِبل السفاح بعد المنصور.  فقام المنصور بالعهد لإبنه المهدي ومن بعده لعيسى.  وبعد أن تولى المهدي خلع عيسى وعهد لإبنه الهادي.  ثم أضاف إبنه الثاني الرشيد من بعد الهادي، ثم حاول إلغاء عهد الهادي وتولية الرشيد بعده، ولكن لم يتسنى له ذلك.

في سنة 159 غزا العباس، عم المهدي، الروم وفتح أوهرة.  وفي 161هـ (779 م) غزا الصائفة يمامة بن الوليد فنزل دابق، فتجهز الروم بجيشٍ كبيرٍ بقيادة ميخائيل، ونزلوا على مرعش حيث قتلوا وسبوا من المسلمين أعداداً كبيرة، ثم عادوا إلى جيحان [1].  وقد حدثت هاتان الغزوتان في آخر  عهد ليو الرابع الخزري، الذي أرسل قائده ميخائيل [2].    تجهز المهدي سنة 163 (781 م) لغزو الروم بجيشٍ كبير، مصطحباً معه إبنه الرشيد، الذي قاد بعض الوحدات القتالية وسيطر على عدة حصون[3].  وقد كان ذلك في عهد قنسطنطين السادس، الذي كان في العاشرة من عمره، وكانت أمه إيرين وصية عليه[4].  لقد كان قنسطنطين ضعيفاً، تلقى في عهده هزائم عديدة من قبل العرب والبلغار.  ولكنه قام بسمل أربعة من أعمامه وقطع لسان خامس، لأنهم كانوا يطالبون بالعرش، وقد سُمل بدوره، بعد نجاح حركة قادتها أُمه ضده. فعندما نجد في التاريخ العباسي ما نستهجن من ممارسات تتسم بالتكالب على السلطة تؤدي إلى بذر الشقاق بين الأخوة وأبناء العمومة، نجد بيزنطة العتيقة قد تمرست على ذلك، وإعتادت عليه.  فنقول، ربما كانت هذه هي قواعد الأمور في تلك الأزمنة.. وربما في كل الأزمنة.

وفي سنة 164 (781 م) غزا عبد الكبير بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فخرج إليه ميخائيل بجيشٍ كبير فتجنبه عبد الكبير وعاد بالجيش فغضب عليه المهدي.

وفي سنة 165 (782 م) غزا الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية فاتحاً عدة قلاع في طريقة مما جعل الروم يصالحوه على إتاوة سنوية مقدارها سبعون ألف دينار، لمدة ثلاث سنوات، وقد كان ذلك في زمن قنسطنطين السادس وأمه إرينا، ولكن المصادر العربية سمتها غسطة زوجة إليوك [1]، وهو ليو الخزري.  وفي 169 غزا الصائفة معيوب بن يحيى، حيث واجه الروم الذين كانوا يمارسون الغزو بدورهم، فردهم. 
توفي المهدي وهو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان [1]، وتسلم الهادي (169-170) بيسر نسبي، على الرغم من أن أبيه كان قد عزم تجاوزه.  وكان الهادي يغار من الرشيد لإيثار أبيه له، وكان يعتزم عزله عن ولاية العهد وتولية إبنه، ولكنه مات، ربما مسموماً[2]، وقيل من قرحة بمعدته[3]. 


[1] الطبري.

[2] ابن خلدون.

[3] الطبري.

الرشيد والمأمون

تولى الرشيد (170-193) الخلافة بسن إثنين وعشرين سنة بعهدٍ من أبيه.  يُعد عهد الرشيد والمأمون، العهد الذهبي للدولة العباسية، فهو عهد إستقرت فيه الأوضاع نسبياً، وتدفقت على بغداد فيه ثروات هائلة، إنعكست على حياة القصور، التي سادها الترف وحب الشعر، وبدء المجاهرة في الإستماع إلى  الموسيقى والغناء، كما نشطت حركة الترجمة والكتابة. وقد أصبحت بغداد في هذه الفترة أهم عاصمة في العالم، يؤمها الباحثين عن الشهرة والثروة والمجد من مختلف بقاع العالم.  

ثار في عهد الرشيد يحيى بن عبد الله بن حسن وإجتمع معه خلقٌ كثيرون، وقويت شوكته.  فإنتدب له الرشيد الفضل بن يحيى في جيشٍ قوامه خمسون ألفاً.  فسار إليه وكاتبه وعرض عليه الأمان، حتى قبل، حيث إصطحبه إلى بغداد، فقام الرشيد بحبسه إلى أن مات في الحبس.

كما تغلب العطاف بن سفيان الأزدي على خراسان والموصل.  كما ثارت مصر، ولكن جيوشه تمكنت السيطرة على هذه الأقاليم وإستعادتها الى الخلافة.

يذكر الطبري أن الرشيد كان يحج عاماً ويغزو عاماً.  وفي العام الذي لا يحج فيه كان ينفق على ثلاثمائة حاج، وفي العام الذي لا يغزو فيه، يرسل مع الصوائف كبار رجال بيته.  وهذا قد يبدو مناقضاً لما أُشتهر عن الرشيد، الذي رسمت له " الليالي " صور المجون.  والأمر لا يخلو من مبالغة، فحتى عبد الله بن جعفر ويزيد بن معاوية والوليد بن يزيد، كانوا يواظبون على العبادات ويحافظون عليها، على الرغم من إقبالهم غير المسبوق على الغناء والموسيقى وشرب النبيذ.  وهذه قضية خلافية في التاريخ الإسلامي، والأرجح أن الرشيد لم يكن كما تصفه الروايات الشعبية[1].

قام الرشيد بخطوة غير مسبوقة في إدارة الدولة، إذ ولى يحيى بن خالد بن برمك الوزارة، وهو ما يعادل رئاسة وزارة في زماننا.  حيث قال له : " قلدتك أمر الرعية وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم بما ترى من الصواب ".  مع صلاحيات كاملة في عزل وتولية الولاة والموظفين، وسلم إليه خاتمه[2]. وهذا يبدو تصرف سابق عصره، فالملكيات المتعايشة مع الديمقراطيات تضع السلطة في يد رئيس الوزراء، مع الفارق أن رئيس الوزراء منتخب.

كما قام الرشيد بتأسيس " العواصم " وهي المدن الحدودية، حيث فصلها عن الولايات، وجعل لها وضعاً إدارياً خاصاً، ودعمها بالمقاتلين ووسائل الصمود.

وقد إمتازت الغزوات بحجم الجيوش الكبيرة، التي كثيراً ما تجاوزت المائة ألف مقاتل، كما إمتازت بالتعمق إلى أعماق غير مطروقة سابقاً، مثل غزو أنقرة.  وفي بعض الغزوات عانى الجيش من البرد الشديد، بدليل توغلهم شمالاً.  كما كان في هذه الفترة غزوات نوعية مختلفة بطبيعتها.

وفي سنة 187 تم خلع إيرين من قبل وزير خزانتها، الذي أصبح إمبراطوراً تحت إسم نقفورس الأول، ويسميه المؤرخين العرب نقفور، وهو من أصل عربي[1]

، وهذا غير مستبعد، فأباطرة هذه الحقبة من الأقليات، أرمن وخزر.  بادر نقفور إلى إرسال كتاب إلى هارون الرشيد ينقض فيه المعاهدة الموقعة في زمن إرين، ويطالبه بإرسال الأموال التي دفعتها له، وإلا " فالسيف بيننا ".  فرد عليه الرشيد " من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا إبن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه ".  فتقدم الرشيد على رأس جيشٍ كبير، حتى وصل إلى هرقلة، فطلب نقفور الصلح، على أن يدفع له إتاوة.  فعاد الرشيد بجيشه، فبلغ الرشيد أن نقفور نقض الإتفاق، فعاد رغم البرد الشديد، حتى أقر نقفور بالإتاوة من جديد [1].  ومع هذا تعامل الرشيد بكرم شديد مع نقفور في السنوات التالية، ففي سنة 190 هـ قاد الرشيد الجيش وفتح هرقلة، فكتب نقفور إليه كتاباً يطلب منه فتاة من أهل هرقلة، قال أنه خطبها لإبنه، فطلب الرشيد من يبحث عنها، ويرسلها إلى نقفور معززة مكرمة ومحملة بالهدايا.  وفي هذه الغزوة فتح الرشيد حصن الصقالبة، وهم السلاف، الذين أسكنهم الروم في جنوب الأناضول ضمن سياستهم بتوطين الأقليات في أماكن تخدم مصلحتهم.

خاضت الدولة العباسية في زمن الرشيد خمساً وثلاثين حرباً، منها سبعة عشرة حرباً مع الروم، وثلاثة حروب مع دول مجاورة أخرى، مثل الخزر وغيرهم، وخمسة عشر مع ثوار في داخل الدولة.  ونذكر هنا أن شارلمان الذي حكم مدة أطول بكثير من الرشيد، وكان معاصراً له، خاض ثماني وخمسين حرباً في حياته.  إن المقارنة في صالح شارلمان الذي خاض عدد أقل من الحروب لكل سنة من سني حكمه.   

تحول الرشيد إلى شخصية ذات مذاق خاص في الفولكلور العربي، فقد نُسجت حوله القصص المثيرة التي تُظهره كملك محب للهو والجواري والغناء.  وهو الشخصية الأكثر تكراراً في ألف ليلة وليلة.  وهناك من يدافع بقوة عن الرشيد ويعتقد أنه لم يكن محباً للهو بل " كان يغزو عاماً ويحج عاماً ".  وهذا صحيح، بل في سنة حكمه الأولى غزا وحج في نفس السنة [1]

.  وفي الواقع أنه كان لديه القدرة أن يتراوح بين حياة الرخاء في القصور، محاطاً بالخدم والجواري والحاشية.  وحياة السفر الشاق، سواء إلى جبهات القتال حيث وعورة جبال الأناضول وبردها، أو إلى الحج، حيث غبار الصحراء وحرها.  وكان يصلي مائة ركعة ويتصدق بألف درهم من صلب ماله كل يوم. وكان في بلاطه أبن أبي مريم وكان مضحاكاً فكهاً، فقام الرشيد ألى صلاة الفجر فكشف عنه اللحاف وقال له " كيف أصبحت " فرد عليه " ما أصبحت بعد إذهب إلى عملك، فقال له الرشيد قم إلى الصلاة.. فمضى الرشيد يصلي ولحقه إبن أبي مريم، وكان الرشيد يقرأ من القرآن " ما لي لا أعبد الذي فطرني " فقال " لا أدري والله "، فما تمالك الرشيد أن ضحك..[1]

توفي الرشيد في مدينة طوس سنة 193، وكان عهد لأبناءه الأمين والمأمون والمؤتمن، على هذا الترتيب، أم المأمون زبيدة، وهي قرشية عربية، أما أم المأمون فجارية فارسية، أمل المؤتمن فقد كان خامل الذكر، وقد إستثنى الرشيد المعتصم لأميته.  وقد ولى المأمون خراسان والمؤتمن الجزيرة والثغور.  وقد فعل بذلك كما كان يفعل ملوك الفرنج إذ قسم الدولة بينهم، فكان من الممكن أن ينجم عن ذلك تقسيم فعلي للدولة.  وقد علق على ذلك بعض العقلاء " لقد جعل بأسهم بينهم " [2]

، وقد نجم عن هذه الوصية حرب بين الأخوين، فالثالث كان طفلاً، أضعفت الدولة وقللت من هيبة حكامها.  وقد ولد المأمون يوم تولى الرشيد الخلافة ويوم توفي الهادي،  وولد الأمين بعد ذلك بأشهر.

كان الأمين (193-198) في بغداد عندما توفي الرشيد، فبويع من قبل من بها من القادة وبني العباس وغيرهم، أما المأمون فقد كان برفقة أبيه، ولكنه كان في مدينة أخرى وقت موت أبيه.  وكان الرشيد قد أخذ البيعة للمأمون من القادة في سفرتهم تلك.  فقرر المأمون المطالبة بالخلافة على هذا الأساس، وبقي في خراسان، فإلتف حوله الكثيرون[1]، وقد ساعد على ذلك كون أمه فارسية.  ولكنه لم يعلن عصيانه، إلا عندما حاول الأمين تغيير ولاية العهد.  فعندما أسقط الأمين إسم المأمون، مقدماً إسم إبنه عليه، أولاً ثم مُسقطاً ذكره نهائياً، أعلن المأمون إنشقاقه، وطالب بالخلافة على أساس أنها حقه الشرعي، الذي أوصى به إليه أبوه.  وعلى الرغم من ضعف الموارد المتاحة لدى المأمون، فقد أدار الصراع بطريقة تنم عن حنكة شديدة، فإجتمع عليه الناس، كما أن إدارة الأمين دلت على شخص ماهر في كسب الخصوم، فإنفض الناس عنه.  إستمر الصراع طوال عهد المأمون البالغ ثلاث سنوات، وقد بدأ بحملات قادها قادة الأمين إلى خراسان، التي فشلت الواحدة تلو الأخرى، ثم توجه جيش المأمون إلى بغداد وحصارها.  وهو الحصار الأول في تاريخها، منذ تأسست.  ثم إقتحمها الجيش وإستمر القتال في شوارعها طويلاً إلى أن قُتل الأمين، وقُطع رأسه.  وفي هذه الأثناء ثار على العباسيين، المنشغلين بأنفسهم السفياني، حفيد خالد بن يزيد بن معاوية، كما ثار عليهم إبن طباطبا العلوي.  وبايع أهل مكة محمد بن جعفر الصادق.  كما ظهرت حركات في مصر والموصل، ولكن تم القضاء عليها جميعاً.

تمت البيعة للمأمون (196-218) الذي بقي في خراسان، وذلك أن أهلها كانوا قد إشترطوا عليه البقاء فيها مقابل دعمهم له.  ولكن الفوضى إستمرت حتى بعد مقتل الأمين، فقد فقدت الدولة هيبتها، وكان الجنود ينتقلون من معسكرٍ إلى آخر، إذا دُفع لهم أكثر، كما أن العامة حملت السلاح ونهبت وحرقت ودمرت بيوتاً كثيرة في بغداد، الأمر الذي إضطر المأمون ألى القدوم إلى بغداد، وفعلاً قدم عليها وضبط الأوضاع وإستتب الأمن.

غزا المأمون بنفسه سنة 215، حيث توغل في الأناضول وفتح عدة مدن وحصون، وكان يبعث أبناءه وقواده في إتجاهات مختلفة لفتح القلاع، وفتح عدة مدن بالجيش الذي كان يقوده بنفسه [1]. وعندما كان عائداً بلغه أن الروم أرسلوا جيشاً إلى طرطوس والمصيصة، فعاد وقاتلهم من جديد.  وقد كرر ذلك في سنتي 217 و 218.  وقد كانت هذه الصوائف أكثر تأثيراً من صوائف بني أمية، التي كان معظمها ذا طابع ردعي، أما صوائف الرشيد والمأمون فقد أضعفت الوجود البيزنطي في الأناضول مما مهد لإخراجهم من هذا الإقليم خلال القرن القادم.

توفي المأمون بطرسوس سنة 218، وفي عهده نشطت حركة الترجمة والتأليف، وبنى المدارس والمستشفيات والمراصد الفلكية والمكتبات.  كما كان بلاطه ملتقى المفكرين من شعراء ورواة وفقهاء، وكانت تجري فيه مناظرات قيمة وطريفة. 

لقد كان المأمون نفسه عالماً، فقد كان يقول معاوية حكم بعمره وعبد الملك بحجاجه، وأنا بعلمي[1]، وكان يقول "لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال" [2].  كان هذا في القرن التاسع الميلادي.



[1] وقصد بذلك أن معاوية وعبد الملك حكما مستعينين بعمرو بن العاص والحجاج، أما هو فإستعان بعلمه.

[2] تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي.

 



[1] الكامل في التاريخ.

 



[1] الكامل.

 



[1] الكامل في التاريخ.

[2] تاريخ الخلفاء.

 



[1] تاريخ الخلفاء.

 



[1] تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطي.

 



[1] The Byzantine Empire, C. Oman.




[1] مروج الذهب ، المسعودي ج 2.

 

[2]الطبري.

 
 


[1] إبن خلدون.

 


[1] ابن خلدون.

[2] الموسوعة البريطانية.

[3] إبن خلدون.

[4] The Byzantine Empire, Oman.

 


[1] تاريخ الخلفاء.

 

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم   
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)    
التعليق  
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter