وقد طلب من الإمام أبي حنيفة
النعمان أن يشرف على البناء، فقد كان المنصور قد أقسم أن يعمل له أبو حنيفة، ولما
رفض القضاء، قبل المنصور عملاً آخر.. أي عمل، فعمل الفقيه مراقب بناء وحاسب كميات،
فقد كان مسؤولاً عن عد الآجر. كما أشرف ايضاً
على بناء بغداد الحجاج بن أرطأة. وكان
المنصور يشرف بنفسه، وقد كان صعب المراس، فقد كان يطلب إعادة بناء جزء من مبنى
لعدم رضاه عنه، وكان يفاوض على تكلفة إعادة البناء ويصر أن تكون أقل [1].
وبدأ العمل بقول المنصور
"بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين..
إبنوا على بركة الله" [2]. وقد توقف البناء نتيجةً لثورة محمد المهدي، حيث
سار المنصور إلى الكوفة. وإستأنف البناء
حال إنتهاءه من حربه، حيث عاد إلى موقع البناء.
وقد فكر في هدم آثار المدائن القريبة للإستفادة من آجرها، ولكنه وجد أن
تكلفة الهدم أعلى من تكلفة صب الآجر الجديد.
وقد إحتوت المدينة على مسجدٍ ودور للقادة ومعسكرات للجيش، وقد أُخرجت
الأسواق إلى خارج السور. وهذا يدلل على
أن
المنصور قصد أن يبني حصناً يحمي نظامه بالدرجة الأولى، وليس حاضرة للدولة الممتدة
ما بين المحيط الأطلسي وسهول شمال الهند.
لقد
كلف بناء المدينة 4835000 درهم، من الواضح أن عمل السخرة لم يستخدم في بناء
المدينة، فقد كان العاملون يتقاضون أُجورهم فالبنّاء الأستاذ كان يتقاضى يومية
مقدارها قيراط، بينما بلغت يومية الروز كاري (عامل المياومة) حبتين[1].
لقد
أطلق المنصور إسم مدينة السلام على عاصمته، ولكنها، مثل القسطنطينية، غلب عليها
إسم قرية عتيقة كانت مكانها، فغلبت بغداد، القرية الفارسية القديمة على دار السلام،
كما غلبت بيزنطة، القرية الإغريقية القديمة على القسطنطينية تحت وقع إملاءات
جغرافية وثقافية.
وقد أصبحت بغداد من أكبر وأعظم
مدن العالم. وقد زارها الرحالة الأندلسي
اليهودي بنيامين التوديلي، الذي قال عنها في كتابه "..
وهناك
الملك العظيم، الخليفة العباسي الحافظ يتبوأ مكانه وهو عطوف على بني إسرائيل،
ويعرف جميع اللغات ومن بينها العبرية ويأكل من عمل يده، وهو صادق وأمين.. وفي قصر
الخليفة مباني عظيمة من الرخام والفضة والذهب، كما يوجد أبراج مليئة بالكنوز
والمنسوجات الحريرية والأحجار الكريمة". ومع ما في هذا الوصف من مبالغة فإن
له دلالات واضحة على عظمة المدينة.
كان العهد لعيسى بن موسى من بعد
المنصور، ولكن المنصور غيره لإبنه الهادي، على أن يكون لعيسى من بعده. وقد وافق عيسى على ذلك، بعد ضغطٍ شديدٍ من
المنصور.
توقفت
الصوائف منذ نهاية حكم مروان. وكان
الإمبراطور قنسطنطين الخامس يحكم في بيزنطة في الفترة الانتقالية بين الدولتين،
الأموية والعباسية. وكان قد وجه حملة
إستعاد بها مدينة مرعش في سنة 129 (747 م)، وهي مسقط رأس أبيه، ليو الإيسوري. كما وجه حملة أخرى سيطر فيها
على مدينة ملطية سنة 133 (752 م)[1]. وفي كلتا الحملتين قام الروم بتهجير أتباعهم من
هذه المدن إلى البلقان لتقوية الوجود الروماني هناك. وكرر ذلك قنسطنطين في سنة 138هـ ( 756م)، حيث
أخذ المدينة عنوة وخرب سورها، ولكن العباس بن محمد غزا الصائفة وأصلح سورها ورد
إليها أهلها وأنزل بها الجند. وقد إنشغل
قنسطنطين بملاحقة الإيقونيين وإضطهادهم، ولكنه أيضاً كان جندياً
جيداً
وإدارياً ناجحاً، وقد إنشغل في هذه الفترة أيضاً في حربه مع اللومبارد، الذين
إستطاعوا إنتزاع رافينا من الإمبراطورية [1].
وفي
سنة 140 غزا بالصائفة عبد الوهاب بن ابراهيم، حيث سار لمواجهة قنسطنطين في جيشٍ
كبير بلغ قوامه مائة ألف، فلما سمع قنسطنطين بحجم الجيش تجنبه. ثم توقفت الصوائف في فترة إنشغال المنصور
بأبناء حسن بن حسن، التي بلغت ست سنوات.
وفي
سنة 146 غزا بالصائفة مالك بن عبد الله الخثعمي.
وكان يقال لمالك ملك الصوائف. وفي
سنة 149 غزا بالصائفة العباس بن محمد. وفي
154 غزا زفر بن عاصم الهلالي، وبعدها طلب إمبراطور الروم قنسطنطين الخامس الصلح
على أن يؤدي الجزية، وعلى ما يبدو أن الصلح لم يتم لأن العامين القادمين شهدا
صوائف جرى فيهما قتال.
لقد حقق المسلمون إنتصاراً
تاريخياً في العام 751 م (133 هـ)، في السنة الثانية لقيام الدولة العباسية، على
الصينيين في معركة
طلس،
والتي دارت على ضفاف نهر طلس في تركستان[1]. هذه المعركة التي حدثت
في زمن الإمبراطور الصيني زوان زونج من أسرة تانج
الذي كان عهده عصراً ذهبياً، غيرت التاريخ الصيني، حيث شجع ذلك الكثير من
الدول التابعة للإمبراطورية الصينية على الثورة ضدها. ولكن من أهم ما نجم عن المعركة وقوع عدد كبيرمن
الأسرى في أيدي المسلمين بينهم عدد من عمال صناعة الورق، حيث نقلوا هذه الصناعة
إلى العالم الإسلامي. وكان الجيش الإسلامي
الذي خاض المعركة قد إنطلق من خراسان من قبل
أبي مسلم.
توفي المنصور سنة 158 في طريق
عودته من الحج. حيث حكم إثنتين وعشرين
سنة. لقد إستطاع السفاح والمنصور تثبيت قواعد الدولة رغم كثرة
ما عصف بها من مخاطر وتحديات في بداية وجودها.
وهذا غير معتاد، فعادةً ما تُقابل السلالات الحاكمة الجديدة بالترحاب
والإعجاب، فبعد أن إستتب الأمر لبني مروان نعموا
بفترةٍ طويلةٍ من الإستقرار. ولكن السفاح
والمنصور واجها ثورتين كبيرتين في بداية حكمهما، فقد كانا يسارعان إلى إستعداء
المنافسين المحتملين ويصعدون المواقف،
ويلجأون سريعاً إلى سفك الدماء.
لقد سبب مقتل أبي سلمة وأبي مسلم إلى فقدان مصداقية الخلافة العباسية،
الأمر الذي كلفهم الكثير. كما أن الخلافات
مع أبناء عمومتهم، من العلويين وحتى العباسيين هزت هيبة هذا البيت، الذي إنتظر
الكثيرون، لأربعة أجيال، وصولهم إلى الحكم.
كما أن تغيير ولاية العهد ترك آثاراً سلبية على العائلة الحاكمة نفسها،
فتركها وإنعدام الثقة يسيطر على العلاقات فيما بين أفرادها.
لقد
ترعرع السفاح والمنصور على خطة سرية نفذها بحنكة وروية أبوهما وأعمامهما. وهذه الخطة بدأت حياكتها قبل ولادتهما، ونشئا
عليها، فأصبح الشك والتآمر جزءاً من تكوينهما.
لقد كان المنصور أول خليفة
تُرجمت له الكتب من اللغات الفارسية والسريانية واليونانية والهندية [1]
. وكان فقيهاً يرتحل طلباً للعلم،
كما كان مولعاً بالتنجيم، وربما كان ولعه بالتنجيم الدافع الأساسي لإقباله على
الكتب المترجمة، وكان بين حاشيته نوبخت وإبراهيم الفزاري المنجمين[1].
وقد أُشتهر المنصور بالبخل، وكان
يستمع للشعراء ولكنه لم يكن يجزل لهم العطاء، كما كان يفعل بنو أمية، أو كما سيفعل
حفيده هارون الرشيد وغيره. وكان أعطى أحد الشعراء بعض المال، فلما إنصرف الشاعر
صاح به طالباً منه أن يتأنى بإنفاق هذه النقود فإنه لن يحصل منه على غيرها. فأجابه
الشاعر، دون تردد، قائلاً أنه " سيقابله بهذه النقود على الصراط وعليها خاتم
الجهبذ " [2].
المنصور
وعبد الملك
يوجد شبه كبير بين عبد الملك بن
مروان وأبو جعفر عبد الله المنصور.
فكلاهما كانا فقيهين، كانا يطلبان العلوم الإسلامية، عبد
الملك في المدينة في حلقات عروة بن الزبير، وأبو جعفر في تجواله على المدن التي
تعج بحلقات العلم، مثل البصرة والكوفة والمدينة.
وكلاهما مارسا الحكم بكثيرٍ من القسوة غير متسقة مع خلفيتهما. وقد عاش كل منهما ثلاث وستين سنة وحكما مدداً
متقاربة. فقد سأل الفقيه عروة بن الزبير عبد الملك بعد أن أصبح خليفة " هل
شربت الطلاء من بعدي يا أمير المؤمنين ؟"، فأجابه " نعم وقتلت النفس
التي حرم الله إلا بالحق " [1]. ومارس أبو جعفر القتل
السياسي. وقد كان كلاهما، كفقيهين، يعلمان
أن حكم الإعدام في الشرع الإسلامي يجوز في ثلاث حالات، والمعارضة السياسية ليست
واحدة منها. ووجه كل منهما بمعارضة عائلية
وسحقها بدهاء شديد ولم يغفر للمتآمر الرئيسي.
كما ثار على كلٍ منهما قرشي، الأول زبيري، والثاني علوي.
لقد جاء كلٌ منهما دون بذل جهد
يتناسب مع حجم الحركة التي تجيء بسلالة جديدة الى الحكم في العادة. فقد قاد حركة المروانيين مروان
بن الحكم وساعده إبنه عبد العزيز، وحكم مروان لفترة قصيرة ومات عبد العزيز في حياة
أبيه فآلت الأمور لعبد الملك، الذي كان في المدينة ويسمى حمامة المسجد. فحكم وكأنه تلقى تدريباً سياسياً طويلاً. ولم يكن أبو جعفر المنصور قائد حركة العباسيين،
وإنما قادها عمه وأخوه، وإقتصرت مشاركته على قيادة جيش للإستيلاء على إحدى مدن
العراق. وقد كان الخليفة الثاني، بعد حكم
قصير للحاكم الأول، وأظهرا دهاءاً كبيراً.
[ نهاية الجزء الاول من الفصل الرابع ]
[1] مروج الذهب ، المسعودي ج 2.
[2] العقد
الفريد. والجهبذ هو خبير النقود الذي يقيم
معدنها.
[1] تاريخ
أوربا العصور الوسطى، العريني.
[1]Byzantine Empire
, C. Oman.