نحن واوربا - ج 1 - الفصل السابع
 
 


الفصل السابع

 

قصة مدينتين

 

لقد كانت فكرة اعتماد عاصمتين للإمبراطورية الرومانية،  إفراطاً بالإيمان بالمؤسسية التي كانت متفشية في ذهنية الطبقة الحاكمة الرومانية.  كان الحكام على ثقة من أن الجميع سوف يحترم القوانين والتقاليد السياسية للدولة.  وبالتالي فإن دور الفرد يبقى مقزماً أمام الإرادة الجماعية للفئة الحاكمة.  

إن تبني هذا الإختيار في نمط الحكم يصعب تطبيقه في زمن ثورة الإتصالات التي نعيش في زماننا هذا.  فلواتبع في دولةٍ مثل روسيا الاتحادية،  بمساحاتها المترامية، ومناخها القاسي، لكان من اهم أدوات الحكم، التلفون الأرضي والنقال والبريد الإلكتروني والاجتماعات المرئية عن بعد video conferencing .  لتستخدم لتبادل المعلومات وللحفاظ على التجانس في التفكير بين المركزين. 

فإن تجربة هذه الصيغة، حتى قبل اختراع التلغراف والآلة البخارية، له دلالة قوية مفادها أن تقاليد احترام القانون متجذرة في الدوائر السياسية الرومانية، إن لم تكن في المجتمع الروماني برمته.  الأمر الذي يدل على قدم ممارسة سن الشرائع ووضع القوانين.  وهذا ما أعطى العقلية الأوروبية إحدى سماتها التي ميزتها عن شعوب الشرق، التي توقف بعضها عند شريعة حمورابي. 

لم يٌعرف عن العرب ميلهم لوضع نظم وتعليمات تنظم مناحي الحياة المختلفة.  وخصوصاً تلك التي لم يتطرق لها القرآن، ولم ترد في الأحاديث.  مثل اختيار الحاكم وعزله حيثما يلزم، وآليات إتخاذ القرار، وفيمن ينحصر اتخاذ القرار.  ولا نود هنا أن نجتهد في أسباب عدم التطرق لهذه المواضيع، إلا في حدود الاعتقاد بأن هذه الآليات قابلة للتغير مع الزمن، ولا يمكن وضع آلية صالحة لكل الأزمان، بينما تطرق القرآن الى تنظيمات لا يجوز للمسلم أن لا يتقيد بها لأنها من الحقائق الثابتة. 

وفي المقابل برع العرب في وضع المعاهدات مع أهالي المدن والدول المفتوحة.  وفي هذا المجال يجدر القول أنهم كانوا يفعلون ذلك وفق أُسس معروفة، ولم يكونوا يتعنتون عند صياغة هذه المعاهدات، والأهم من ذلك أنهم كانوا يلتزمون بها الى أبعد الحدود، مع استثناءات قليلة.  ويعتبر كتاب " فتوح البلدان " للبلاذري،  سجل معاهدات أكثر منه كتاب تاريخ.  وقد وضع لتعريف الحكام بالوضع القانوني لكل إقليم.  وقد وضع بعض هذه المعاهدات موضع التطبيق لأكثر من خمسة قرون، فقد يكون بذلك أطول المعاهدات تطبيقاً في تاريخ البشرية جمعاء.  وهذا سلوك مؤسسي من جانب الدولة الإسلامية.

لقد كانت الدولة الرومانية دولة قانون ومؤسسات حتى العظم.  وحتى عندما تحولت الى المسيحية في القرن الرابع، وظهرت الخلافات المذهبية، تم التعامل معها بصورةٍ مؤسسية، فكانت المجامع المسكونية، تصدر قرارات ومنشورات، يتقيد فيها من يقبلها، فيصبح من المؤمنين، ويرفضها من يرفضها فيُعد متهرطقاً.  ومع ما في هذا من مآخذ قد يثيرها البعض، فإن النهج، لا شك، مؤسسي .

ولم تقتصر التجارب المؤسسية في اوروبا على بيزنطة، فقد روي عن تجربة اكتنفتها مسحة خيالية في إنجلترا، حول الطاولة المستديرة في زمن الملك آرثر، في القرن العاشر. 

لم يتعامل المسلمون مع خلافاتهم المذهبية، بعقد مجامع اومؤتمرات لحسمها.  وعندما اقترح التحكيم لحل الخلاف بين علي ومعاوية، سرعان ما تحول الى مصاولة بين فردين، حسمها الأقدر منهما على الفهلوة، ولم تكن هناك آلية تمنع تردي النقاش الى مستوى المشاتمة، هذا على الرغم من حضور جمهرة من الصحابة، الذين حضروا إلى أذرح حيث جرى التحكيم.

كما كُرِّم العرب بالقرآن، ككتاب يحتوي نظام حياة، إلا أنه لم يُستفد منه كما يجب، في تنظيم حياة العرب نحوالمؤسسية، ونضرب على ذلك الأمثلة التالية ؛ الأول : في حال وجود خلاف بين الزوجين، طُلب منهما انتداب شخص من طرف كلٍ منهما ليناقشا الخلاف، هذه آلية مبتكرة لحل مشاكل تشغل كثيراً من الأسر، وتجنب انتهاء العلاقات الزوجية بالطلاق وما ينجم عنه.  وهي آلية، لا شك، مؤسسية. من يتبع هذه الآلية؟؟ قلائل.  كذلك شجع القرآن التوثيق في المعاملات التجارية وغيرها.  هل أصبح الميل نحوالتوثيق جزءاً من ثقافتنا ؟؟ لآ أعتقد.  ونسوق مثالاً ثالثاً مستمداً من السنة ؛ حيث طلب الرسول من أي ثلاثة أشخاص اوأكثر ماضين في عملٍ ما أن يؤَمِّروا أحدهم. هل أصبح هذا نهجاً متبعاً لدى أبناء الأمة ؟؟.  وكذلك "وَشَاْوِرْهُمْ فِيْ الْأَمْرِ" و" اْسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَئْجَرْتَ الْقَوِيَّ الْأَمِيْنَ". [1] وغير ذلك من الآيات التي تدفع باتجاه تنظيم الحياة بصورةٍ تقترب من المؤسسية.  ولكن بقي العرب على فرديتهم ؛ ونشأ هناك قضاة ( عظام ربما ) ولم تنشأ محاكم، كما ظهر وزراء ( صنعوا التاريخ ) دون أن يكون هناك وزارات، كما اشتهر معلمون، ولم تشتهر مدارس، ولم يوجد من يفتخر أنه درس الفقه في مسجد المدينة، وإنما من يفتخر أنه درسه على يدي عروة مثلاً.  لقد تعلم العرب في زمن الرسول (ص) احترام السلطة والشرعية.  كما أن لديهم موروثاً فريداً من زمن الجاهلية، وهوالتقيد بهدنة الأشهر الحرم سنوياً، اوالالتزام بقرارات القبيلة، من غزووظعن، إلا أن هذه التقاليد لم تتطور لتخلق احتراماً للرأي الجماعي ولتنمي روح الفريق في العمل، فاستمرت الفردية في التفشي، وأصبحت جزءاً من الهوية القومية.    

ورغم هذا الوعي الفقهي الذي تمتع به الرومان، فقد عارضوا الديانة المسيحية لثلاثة قرون.  ولم يدركوا خطل ما هم عليه من عقيدة، إلا بعد تأسيس القسطنطينية في القرن الرابع.  وربما يعود هذا الى النظرة الفوقية التي كان ينظرها الرومان الى الشعوب الأخرى ،ومن حيث أتى السيد المسيح .

لقد تأسست القسطنطينية، كمدينة رومانية، خارج إيطاليا بلاد العنصر الروماني، فقد كانت سابقتها، الي أُقيمت على أنقاضها، مدينة يونانية.  وهذا خلق أزمة هوية للمدينة من اليوم الأول.  فلغاية القرن الرابع الميلادي كانت مدن اليونان وعلى رأسها أثينا، تُعد مراكز فكرية وتعليمية تحتفظ بقدرٍ كبيرٍ من التقدير.  وبالتالي فإن مؤثرات الثقافة اليونانية على الدولة الرومانية كانت قوية.  

ولكن سرعان ما اتجهت الأنظار من جديد الى هذه المراكز الفكرية على أنها معاهد وثنية، فقامت بيزنطة المسيحية بإغلاقها، فهاجر بعض الأطباء والفلاسفة الى دولة فارس، حيث استقروا في مدينة جنديسابور، في شمال شرق الخليج، حيث أسسوا مدرسةً للطب.  ثم تحولوا لاحقاً الى المسيحية على المذهب النسطوري .

بعد فتح فارس، لم يتعامل المسلمون مع رجالات هذه المدرسة بالاضطهاد، ولم يُغلقوا مدرستهم، بل رعوها، وفي العهد العباسي تم نقلها الى بغداد، وكان طبيب الخليفة الخاص واحداً منهم لعدة أجيال، وقد اشتهر من بينهم بختيوشع.  لقد تعامل المسلمون مع الآخرين بمنتهى التسامح.  ولم يعرف الرومان التسامح، ولم يتقنوا التعامل مع الاختلاف.  وقد أورثوا ذلك لأوروبا. حتى بنت نظمها السياسية، فيما بعد، على قيمٍ تُقر الاختلاف وتنظم التعامل معه، فأنشأت نظماً ديمقراطية، زاوجت فيها تسامح الشرق ومؤسسية الغرب. 

لقد كان تقبل الغير المختلف،  أمراً طبيعياً في العقيدة الإسلامية والثقافة العربية القائمة عليها وعلى الإرث السماوي بشكلٍ عام.  ولم يقتصر هذا التقبل والتعايش الناجم عنه على التعايش بين المذاهب الإسلامية المختلفة، بل تخطى ذلك الى التعايش مع أتباع الديانات السماوية الأخرى، ثم امتد ذلك الى التعايش مع أتباع ديانات أخرى، مثل الزردشتية، حيث لا يزال يعيش بعض معتنقيها في إيران الى اليوم. 

من بين الاستثناءات القليلة، حركة الخوارج، حيث أحل أتباعها، في بداية عهدهم،  دم كل من اختلف معهم من المسلمين، حيث قتلوا أعداداً كبيرة من الرجال والنساء والأطفال.  بحيث سُطرت ما يمكن أن نصفه بأسود صفحة في تاريخ المسلمين.  ولكن في هذه الصفحة السوداء ما يمكن أن يعتز به المسلمون، حيث لم يؤذ الخوارج المسيحيين واليهود الذين كانوا يعيشون بينهم.  وهناك قصة طريفة ادعى شخصٌ مسلمٌ، تعرض للقتل من قبلهم، أنه يهودي فتركوه . [2] وحصل عكس هذا في فرنسا عندما نشبت حروب طائفية بين الكاثوليك والجزويت، حيث امتدت أعمال القتل إلى اليهود.

لقد مارست دولة النورمانديين في صقلية في زمن روجر الثاني تسامحاً غريباً على أوروبا في ذلك الزمن، فقد أبقوا على العرب والمسلمين الذين كانوا يعيشون في الجزيرة قبل أن يستعيدوها منهم.  وقد كانت تجربة مفعمة بالتفاعل الحضاري، حيث نبغ في بلاط روجر الثاني الجغرافي الشهير الإدريسي، كما تحولت صقلية بفضل تسامح حكامها الى أحد ثلاثة جسور عبرت من خلالها معارف ذات قيمة كبيرة الى أوروبا.

خريطة رقم  8

                  

خريطة العالم القديم كما رسمها الإدريسي

 

وحتى عندما أنجزت أوروبا نهضتها، ونجم عنها نظام حكم رائع مبني على حرية التعبير، والمساواة بين المواطنين، واحترام القانون، وانتخاب الحكام بصورةٍ مباشرة أوغير مباشرة، حتى عندما أرادت نشر هذه القيم السامية، لم تكن متسامحة مع من لم يتقبلها.  وقد لجأت الى أساليب غير ديمقراطية، في بعض الأحيان،  لنشر الديمقراطية. فحتى في هذه المرحلة من نموها، لا تزال أوروبا ( كثقافة وليست كجغرافية ) بحاجة الى شئٍ من روح الشرق المتسامح.  وهنا يجب أن لا يُفهم بالشرق العرب والمسلمون، بل أيضاً كافة أُمم آسيا، فالهنود أظهروا قدراً أكبر من التسامح، وكذلك كان الصينيون طوال تاريخهم القديم.  إن التسامح قيمة آسيوية، وكذلك أديان العالم الكبيرة، السماوية وغير السماوية.  فلا غرابة أن الأديان الآسيوية يتبعها الآن ما لا يقل عن 99% من البشر .

لم يتعامل المسلمون مع شعوب الدول المفتوحة بعليائية وخيلاء روما وبيزنطة.  ولم يحاولوا فرض نمط حياتهم على أحد.  وهذا ما فسر دخول هذه الشعوب في دين الفاتحين والتحول إلى لغتهم.  وحصل العكس في الدولة الرومانية، حيث دخلت شعوب الأقاليم الدين المسيحي قبل أن يصبح دين الدولة، معرضين أنفسهم لاضطهادها.  وعندما اختاروا مذهباً مغايراً بعض الشيء، أصروا على البقاء على مذاهبهم رغم الاضطهاد في بعض الحالات.

لم يحاول المسلمون التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب القاطنة في الأقاليم المفتوحة، وقد اختاروا، في العقود الأولى، أن يعيشوا في مدن أوأحياء منفصلة، على اعتبار أنهم، أساساً، جنود .

كثير ما تًعقد مقارنة بين العرب والجرمان، على اعتبار أنهما قوتان برزتا من وسط      " الشعوب المتبربرة "، وهزم العرب الإمبراطورية الشرقية، بينما هزم الجرمان الإمبراطورية الغربية واستقطعوا أجزاءً كبيرةً من أراضيها.  وفي الواقع أن الفارق كبير، فقد اعتنق الجرمان دين القوة التي هزموها ولغتها.  بينما تمسك العرب بلغتهم ودينهم، ونشروهما في البلاد المفتوحة بيسر نسبي. [3]   لقد عملت أُممٌ كثيرة على نشر حضارتها في أوساط  شعوب وقعت تحت حكمها، قبل العرب وبعدهم.  ولم يستطع أيٌ منها تحقيق النجاح الذي حققه العرب.  لقد اتهم العرب بنشر الإسلام بحد السيف، وهذا ادعاء لا يحتاج الى جهدٍ كبير لإثبات بطلانه.  فقد انتشر الإسلام في ماليزيا وإندونيسيا وجنوب الفلبين وشرق إفريقيا ومالي والهند دون أوقبل أن تطأ أرضها جيوش إسلامية. لقد كان التسامح هوالسياسة السائدة، لقد ظهر كتاب اسمه " تفنيد القرآن " كتبه مؤلف مسيحي عاش في كنف الدولة الإسلامية ولم يتعرض مؤلفه للأذى، بل كان يعمل موظفاً إدارياً في ولاية الموصل ولم يفقد وظيفته لهذا السبب . [4] كان الحوار بين المثقفين شائعاً.  ونقاشات القديس يوحنا الدمشقي في العهد الأموي حول " الكلمة " و"الروح " كانت تجري بطريقة طبيعية. [5]   ولكن كان هناك داعية مسيحي إيطالي، هو رامون لل Ramon Lull الذي تعلم العربية على يد أسيرٍ مسلم وأتقنها، وكان يؤمن بالحوار الهادئ حيث سافر إلى الشمال الإفريقي لحوار المسلمين في قضايا عقدية، فقُتل في المرة الثانية على أيدي الغوغاء. [6] ولا تعكس هذه القصة واقع الحال، فقد كان الحوار شائعاً، وقد عُرفت أكثر من "رسالة" بعنوان " رسالة الى صديق مسلم " او ما شابه [7] ، تتضمن حلقة من حلقات حوار هادئ متكرر. وقد ظهرت كتب كثيرة كتبها مسيحيون مثل، " مقالة في الرد على المسلمين " لجورجيس بن يوحنا بن سهل ، و" الرد على يعقوب بن اسحاق الكندي في الرد على النصارى " ليحيى بن عدي، و" مراسلة بين اليا النصيبي وعلي بن الحسين المغربي "، و" رسالة الى احد الفقهاء المسلمين " لمحيي الدين العجمي و " اجوبة علة اثنتي عشرة مسألة عرضها عليه احد العلماء المسلمين " لميخائيل الجميل.  كما كانت النقاشات تنظم من قبل الحكام المسلمين ، وكان رجال دين من الطرفين يشاركون بها؛ مثل الحوار بين الخليفة المهدي والجاثليق طيموثاوس، و" المجادلة " التي جرت في مجلس الملك الكامل بن العادل شارك فيها القس بولس البوشي ، كما شارك ابو قرة ، اسقف حران في نقاشات بحضور الخليفة المأمون، وكذلك قبل ابراهيم الطبراني دعوة والي القدس لمحاورة فقيه مسلم. [8] وقد ذكرنا نقاشات يوحنا الدمشقي في فصلٍ سابق.     

لم يتعامل القانون الروماني بعدل مع الشعوب الأخرى، وعلى العكس فقد كان القضاة المسلمون يأمرون الجيوش بالانسحاب فتنسحب، كما حصل في سمرقند، حيث اشتكى أهلها لأحد القضاة المسلمين أن جيشاً إسلامياً دخلها، على الرغم من صلحٍ ينص على عدم دخولها، فحكم القاضي على الجيش أن ينسحب، فانصاع الجيش وهم بالانسحاب، عندئذٍ كف مواطنوالمدينة عن مطالبتهم، وكان ذلك سبباً في دخولهم تباعاً في الإسلام.  وهناك مثالٌ آخر على قوة وعدل القضاء الإسلامي ؛ فقد خرقت قبرص معاهدة تربطها بالدولة الإسلامية في زمن العباسيين، تنص على عدم تقديمهم المساعدة لإسطول الروم.  فرد والي الشام الأمر الى سبعةٍ من الفقهاء القضاة، حيث حكم غالبيتهم بعدم غزوقبرص لأنها لاتملك أن ترفض تموين الأسطول الروماني، الذي يستطيع أن يحتلها إذا رفضت. [9] فلم يغزُها.  حتى في يومنا هذا، لا يوجد أي دولة تضع قرار حرب في يد القضاء.

لفد كان النزوع الى العقل والتسامح  واختيار السلام على الحرب، هوالغالب عبر العصور.  لم يُظهر المسلمون ميلاً للقتل العشوائي في تاريخهم.  ففي عهد معاوية، تم عقد هدنة مع الروم، وكان من ضمن شروط الاتفاق أخذ رهائن من الروم لضمان تطبيق الهدنة.  وحدث أن خرق الروم الهدنة.  " فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من الرهائن وخلوا سبيلهم.  وقالوا : وفاء بغدر خير من غدر بغدر".  وهوقول الفقيه الأوزاعي . [10]   مرة أُخرى يُرجح حكم فقيهٍ يرجح العقل على غيره. 

لم تعفُ الدساتير والمؤسسية بيزنطة من عمليات اغتصاب للسلطة.  وقد تكرر هذا بشكلٍ منتظم، فتغيرت سلالات، ولكن المؤسسة حافظت على شكلها وهيئتها، ولم يصحب التغيير في الأسر الحاكمة كثيرٌ من التغيير في السياسات.  وفي الجانب الإسلامي،  حصل أن تغيرت الأسر الحاكمة أيضاً، فبعد الخلفاء الراشدين حكم الأمويون ثم العباسيون وهكذا.  وكان التغيير من أسرةٍ لأخرى كبيراً، شمل تغيير العاصمة نفسها.

كان مجتمع المدينة، الذي شكل نواة الدولة الإسلامية، مفعماً بالبساطة والبراءة.  فلم يكن يستند الى أي إرثٍ سياسي وعسكري وإداري.  كان يتسلح بما يوحى الى قائده السياسي والعسكري، الذي كان أيضاً زعيمه الروحي، الرسول (ص).  وقد كان يتمتع بحنكةٍ وصبرٍ وبعد نظر جعلته يستمر بنشاطه في مدينةٍ كان بها من يعارضه معارضة شديدةٍ جداً، بل بأسوأ أنواع المعارضة، وهوالنفاق.  وقد توفي الرسول دون أن تتخلص  المدينة من المنافقين تماماً. 

أما بيزنطة، فقد نسب إليها، في آخر أيامها " الجدل البيزنطي "، وهذا ما حدا بهرقل الذي كان من ألمع اباطرة الرومان، أن يغادر العاصمة ويقيم معسكراً الى الشرق منها بما لايقل عن خمس مئة كيلومتر، ليبدأ بناء جيشه وتدريبه قبل مهاجمة الفرس، بعيداً عن أجواء العاصمة المنقسمة.

لقد اعتاد الرومان اتهام حلفائهم بالخيانة، وهذا ما فعلوه مع الأنباط في حملتهم الفاشلة على جزيرة العرب في القرن الأول قبل الميلاد، ومع الغساسنة في القرن السادس في حربهم مع الفرس، وما كرروه مع الأقباط في القرن السابع في حربهم مع المسلمين.    

لقد كان الرومان بنائين عظاماً.  وقد تركوا آثاراً كثيرة في المنطقة تشهد على هندستها الرائعة.  وقد ترك المسلمون مباني كثيرة وكبيرة أيضاً، ولكن هذا لم يكن يتسق مع الرؤية الإسلامية للأمور، فالإسلام لا يشجع الإسراف في كل شيء، حتى في البناء، وبالتالي فإن تشييد المباني العالية والمزخرفة لم يكن في حقيقته نهجاً إسلامياً.  ويستدل على ذلك من عدم قيام الرعيل الأول ببناء مباني ضخمة وفخمة، على الرغم من توفر الأموال.  والصحيح أن معظم المشاريع الإنشائية الضخمة من الأهرام الى قناة السويس قامت على السخرة، أي على الظلم، وهذا ما يحاربه الإسلام.  إن الإسلام يحبذ بناء الإنسان.  كتب أحد الولاة يستأذن الخليفة عمر بن عبدالعزيز ببناء مدينة، فرد عليه : " نق طرقاتها من الظلم ".  يعتقد كثيرون أن هذه القيم والمثل المستمدة من القرآن، إنما طُبقت لفترةٍ بسيطة، فقط في زمن الخلفاء الراشدين.  وهذا غير صحيح، ففي مراحل عديدة، وصلتنا روايات منها تفيد أن الخلفاء جلسوا كمواطنين عاديين أمام القضاة بمنتهى المساواة.     

وأخيراً في مجال المقارنة بين المدينة والقسطنطينية، نذكر نقطتين شكليتين ؛ الأولى أن القسطنطينية كانت مدينة مسورة وحصينة جداً، بينما لم تكن المدينة مسورة.  والثانية أن المدينة اسمٌ جديد غلب على الاسم القديم وهويثرب، بينما لم يطغَ اسم القسطنطينية على اسم سابقتها القديمة بيزنطة، في هذا تتشابه القسطنطينية مع بغداد التي أراد لها بانيها اسماً آخر وهو" دار السلام "، فطغى عليها اسم القرية الفارسية التي بنيت على أنقاضها.  يا ترى هل لهذا من دلالات ؟.

استمر الصراع بين الشرق والغرب الذي كان قبل بيزنطة وقبل المدينة، وقبل المسيحية وقبل الإسلام .

لقد واجهت الدعوة الإسلامية ثلاث عقبات وأزمات ؛ الأولى مقاومة قريش التي استمرت حوالي عشرين سنة.  والثانية حروب الردة حيث فقد الكثير من الصحابة الذين كان من الممكن أن يكون لهم دور في الحد من الأزمة الثالثة.  والثالثة هي أزمة الخلافة بين علي ومعاوية. 

فلو تقبلت قريش الدعوة الإسلامية في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً، لأمكن تأسيس دولة إسلامية في مكة بحدود 610 م، وهذه فرضية غيبية، لا يعلمها إلا الله لماذا لم تتحقق، وماذا كان سيترتب لوتحققت.  ربما كانت سورة الروم، ستكون دعوة لمساعدة الروم ضد الفرس، وإنقاذ القدس من احتلالهم وتخريبهم.  عندئذٍ كان من الممكن كسر سلسلة الصراع بين الشرق والغرب، الذي بدأ قبل آلاف السنين. 

ولكن الصراع  مع الدولة الرومانية الشرقية لم يأخذ طابعاً أيديولوجياً، فلم يذكر الروم في القرآن بسوء، ولم يوصفوا كأعداء عقيدة في أدبيات المسلمين في المراحل المبكرة، ربما بعد أن طال الصراع.  وعلى العكس فقد دعا الرسول (ص) لهرقل، قائلاً :" ثبت الله ملكه " لأنه أحسن استقبال مبعوثه . بينما دعا على خسرو، لأنه مزق الرسالة، فقال : " مزق الله ملكه ".  وقد كان.

في عهد النهضة العربية، قامت حركة ترجمة هائلة من اللغة اليونانية الى اللغة العربية، تُرجمت خلالها مئات الكتب، التى أغنت الثقافة العربية، كما حافظت على كتب يونانية فُقدت أُصولها اليونانية فيما بعد.  ولم يُعرف عن كتابٍ واحدٍ تُرجم عن اللاتينية، ولا يعني هذا أنه لم يكن هناك ما يُترجم، بينما تُرجمت مئات من الكتب من العربية الى اللاتينية.  وقد استمر هذا النهج بعد عصر النهضة في أوروبا، عندما تحولت أوروبا من جديد الى مانح ثقافي وعلمي.  فلم تترجم كتب دانتي وجاليليووغيرهما، إلا بعد قرون وربما من خلال لغات أوروبية أخرى.  

لقد خلقت اليونان لنفسها وضعاً خاصاً، فقد كانت من أكثر الدول الأوروبية استفادةً من حضارات بابل وفينيقيا ومصر.  وسرعان ما تحولت الى دورالمانح، بعد أن حققت تقدماً غير مسبوق في مجالات عديدة.  وعندما أصبح الشرق تحت حكمها، استطاعت، كما ذكرنا في فصلٍ سابق، أن تفرض حضارتها، ممثلةً في اللغة  ونمط المعيشة، وذلك من خلال مدخل ممنهج، دون القضاء على اللغات المحلية مثل الآرامية والسريانية. وبعد احتلال الرومان للمنطقة، لم تحل اللاتينية محل اليونانية، بل استمرت اللغتان، اليونانية والسريانية مزدهرتان.  ويبدوأن اليونانيين تعلموا تقبل العيش مع المختلف، سواء كان اختلافاً دينياً أوحضارياً اوسياسياً، فهذا منهاج شرقي. أما الرومان فلم يستطيعوا أن يتقنوا تحمل الاختلاف.  لقد ترك الرومان مباني عظيمة عندما رحلوا، أما اليونان فقد تركوا آثاراً ثقافية لا يزال لها ذكر، لم يترك الرومان سوى حجارة، ربما بنيت سخرةً بأيدي البرابرة، سكان البلاد الأصليين، لم تتعلم روما ولم تتعلم أوروبا من ورائها، بقيت الى عهدٍ قريب تخاف من الاختلاف ولا تقبل التعايش معه. أما اليونان فكانت أقرب الى الشرق المتسامح، ولا يزال لليونانيين ذكرٌ طيب في الشام ومصر.  ولا يزال للتمازج الثقافي أثرٌ كبير.  وبإمكان الباحث أن يجد في دواوين الشعر اليونانية القديمة، قصيدة لذلك الشاعر الجَداري ( نسبةً الى جدارة أ وأم قيس ) ميليغر، الذي كان، ربما، حورانياً اوجولانياً اوبقاعياً اوجليلياً، أحب ثقافةً جلبها محتل، لم يرحب به جده عنما حضر، ولم يبك عليه حفيده عندما رحل، ولكنه أحبها، وتغنى بها، كجزء من ثقافة عالم آمن بوحدته.   

وقد ظهر شاعرٌ آخر بعد زمن ميليغر بخمسة قرون ، ولد بقريةٍ تقع الى الغرب من دمشق ، من أصولٍ يرجح أن تكون يونانية، غير إسم أبيه من أوشا الى أوس و إنتسب الى قبيلة طي العربية وكتب شعراً جميلاً بلغتها ، لا يزال يتذوقه محبو الشعر الى يومنا هذا ، إنه حبيب بن أوس الطائي ، ابو تمام. [11]   وعلى عكس ميليغر لم يكن يعتذر عن أصله الغير عربي.

 

                              ***

 

 

                             


خاتمـة

 

لقد ورث العرب والروم تركة العلاقة بين الشرق والغرب (أوروبا).  التي طالما اتسمت بالاختلاف.  الذي كثيراً ما يتطور الى الاقتتال، والسعي الى الاحتلال، وإبادة الآخر.  فمنذ فجر التاريخ كانت هذه هي القاعدة.  فمن الاحتكاكات الموغلة في القدم في آسيا الصغرى الى زمننا هذا. 

وعندما نتكلم عن الشرق فإننا نقصد إقليماً واحداً قلما كان متجانساً، وهوشرق المتوسط والجزيرة العربية ومابين النهرين وشمال إفريقيا وآسيا الصغرى.  وهذا الشرق من الناحية الجغرافية البحتة، يقع بعض أجزائه الى الغرب من بريطانيا.  أما أوروبا، فإنها لا تعاني من مشكلة تجانس جغرافي كما يعاني " الشرق ".  ولكنها لم تحقق قواسم مشتركة بين شعوبها إلا بعد انتشار المسيحية، وهيمنة اللغة اللاتينية كلغة تفاهم مشتركة.  فالشعوب الأوروبية تنحدر من أصول شتى.  منها آسيوية رحلت الى أوروبا بعد ميلاد السيد المسيح بزمن.  مثل الآفار والبلغار والهون.  كما تتكلم لغات متعددة تنتمي الى عائلات لغوية لا تربطها ببعض أية روابط. 

ولا يختلف الحال في الشرق، فإن السكان ينتمون الى أعراق مختلفة ويتكلمون لغات عدة، وإن جاء الإسلام كعنصر موحد، فإن سكان الإقليم لا يدينون بالإسلام جميعهم، بل هناك ديانات أخرى من بينها المسيحية واليهودية.  

ولم تكن أوروبا في أي وقتٍ من الأوقات مسيحية بالكامل، فقد كان هناك أقليات يهودية منتشرة في المدن القديمة.  ثم دخل الإسلام من الناحية الغربية، بينما كان الشمال الأوروبي لا يزال على وثنيته .

ومع هذا فقد طُبعت أوروبا بطابعٍ مسيحي، وطُبع الشرق بطابعٍ إسلامي.  وهذا ليس له علاقة بطبيعة العلاقة.  فلم يكن الصراع بين روما وقرطاجة الوثنيتين أقل حدة.  ولم تكن الحروب بين بيزنطة وفارس لتهدأ ابداً.  ولم يحمل الفنيقيون رايةً دينية وكذلك الإسكندر. 

في أوروبا المعاصرة، يحلولكثيرٍ من الأوروبيين أن يصفوا حضارتهم بأنها " يهودية مسيحية " Judo -Christian .  وهذا وصفٌ دقيق الى حدٍ بعيد، وقد شاع بعد الحرب العالمية الثانية. 

وعلى الرغم من أن المثقفين العرب أوالمسلمين قل أن يفعلوا شيئاً مشابهاً. فإن مكانة الديانات السماوية في الثقافة العربية كبيرة وتأثيرها كبير، فالإسلام هو" الدين " الذي جاء به الأنبياء جميعهم، وبالتالي فإنه يُفترض أن الجميع أتباع دينٍ واحد.  مع تحفظ المسلمين على خروج أتباع الديانتين عما كان عليه الدين بدايةً بإدخال عليه ما ليس منه.  إلا أن المؤثرات الثقافية لليهودية والمسيحية قوية للغاية، وذلك لسببين، الأول الإرث الديني التاريخي المشترك، والثاني مساهمات أتباع هذه الديانات الغزيرة في صنع وبلورة وإغناء الثقافة العربية. 

وقد كان يترجم هذا الإعتقاد بأن الأديان المعترف بها في الدولة الإسلامية هي الأديان الثلاث.  وقد رُوي أن هارون الرشيد قابل جماعة في آسيا الصغرى يدينون بدينً غير معروف، فخيرهم بين الأديان الثلاث، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام من دونها. 

وقد ذكرنا قصة نزول سورة الروم، وهي ليست السورة الوحيدة التي تتطرق الى الحديث عن مجتمعات مسيحية بتعاطف، سواءً لتعرضها لهزيمةٍ عسكرية اولتعرضها للاضطهاد، وقد كان السياق العام يوحي بأن مسلمين يتعرضون للاضطهاد، مثل قصة الأخدود والكهف و"القرية" التي يعتقد أنها إنطاكية، التي كانت مهد المسيحية.  وهذه قصص تتعلق بالمؤمنين والدعاة الأوائل الذين تحملوا العذاب ولاقوا الاضطهاد لنشر الدين، الذي كان في هذه المرحلة المسيحية.  

وقد جاء الاضطهاد على أيدي الرومان، الذين أحسوا بخطر الدين الجديد، الذي بدأ يتغلغل في أوساط المجتمع وفي أوساط الجيش، ولم يكن المعتقد الجديد قابلاً للاستيعاب ضمن المنظومة الدينية الوثنية التي كانت قائمة في العالم حينئذٍ.  فعندما انتشرت بعض المؤثرات الدينية السامية في المدن الرومانية، تم استيعابها بقرن عشتار بفينوس، اوجوبيتر بمردوخ الذي كان يُعبد فيما بين النهرين، وهكذا. وهذا قابل للتطبيق في الديانات الوثنية في جميع العالم في جميع العصور. وقد عرض فكرة الاستيعاب هذه، بعض المفكرين الهندوس على المسلمين والمسيحيين في الهند في زماننا هذا من أجل توحيد العقيدة في بلادهم .

أخذ الاضطهاد الديني أشكالاً عديدة، وعندما أخذت قريش بتعذيب المسلمين الأوائل، كانوا يشكون أمرهم للرسول، فكان يجيبهم بأن الذين كانوا قبلهم كانوا يُقطعون بالمناشير، وما كانوا يتراجعون عن معتقداتهم.  وقصد بذلك أتباع عيسى عليه السلام.  

ولم يكن الربط مع من سبق يقتصر على هذا البعد، إنما ذكر في الحديث عن العبادات " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْصِّيَامُ كَمَاْ كُتِبَ عَلَى الَّذِيْنَ مِنَ قَبْلِكُمْ " [12] وعندما يتحدث عن نموذج الإنسان المؤمن    " مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ الله وَالَّذِيْنَ مَعَهُ، أَشِدَّاْءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاْءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاْهُمْ رُكَّعَاً سُجَّدَاً يَبْتَغُوْنَ فَضْلَاً مِنَ الله وَرِضْوَانَاً، سِيْمَاهُمْ فِيْ وُجُوْهِهِمْ مِنْ أَثَرِ الْسُّجُوْدِ، ذَلِكَ مَثََلَهُمْ فِيْ التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِيْ اْلِإنْجِيْلِ.. ". [13]

على أن الرومان لم يتوقفوا عن اضطهاد المسيحيين بعد أن أصبحت المسيحية دين الدولة، فاستمروا بإضطهاد أتباع المذاهب المخالفة.  وهكذا تعرض السريان والعرب والقبط الى بعض أشكال النبذ والاضطهاد .  ومن بينهم الغساسنة الذين كانوا شديدي الحرص أن يكون هناك أسقف عربي على مذهبهم، وأن يحققوا بعض الاستقلال الروحي.  وقد تبنى هذا الهدف واستشهد وعانى من أجله ثلاثةٌ من عظام ملوك العرب.  وفي الواقع تم تصفية دولة الغساسنة نهائياً، وقد خسرت بيزنطة من وراء ذلك خسارةً عظيمة، فقد خاضت خلال الستين سنة التالية، ثلاثة حروب، خسرت الأولى أمام الفرس وفقدت الشام ومصر، وربحت الثانية واستعادتهما بعد جهدٍ شديد، وخسرت الثالثة أمام العرب، وخسرت الشام ومصر وشمال إفريقيا وأرمينيا، ولم يكن للعرب دورٌ منظم في هذه الحروب جميعاً، وكان هذا له تأثيره.  لا ندري فلوبُعث محمد (ص) في زمن الحارث بن جبلة، فلربما كانت هجرته الى الشام بدلاً من المدينة.

لا يستطيع الباحث إلا أن يتوقف أمام ظاهرة اختفاء الدول العربية التي كانت قائمة على أطراف الجزيرة قبيل البعثة، فقد اختفت دولة الغساسنة نتيجةً للخلافات مع بيزنطة ونتيجةً للاحتلال الفارسي.  كما اختفت دولة المناذرة نتيجةً لخلاف مع الدولة الفارسية، كما اختفت دولة اليمن على أيدي الأحباش، الذين اختفوا، بدورهم من المشهد السياسي على أيدي الفرس.  كما اختفت قبلهم دولة كندة في الشمال.

وكان إزاحة هذه القوى يبدووكأنه إفساح المجال لقوةٍ كبيرة، ما كانت لتُخلق وسط هذا الزحام.  وجاءت الدعوة، وسرعان ما تحولت الى دين، ثم أصبح لهذا الدين دولة.  ومنذ البداية لم يناصب الدين الجديد العداء للأديان التي تقر بعبادة الله.  لقد أثر وجود طائفة يهودية في المدينة، ناصبت الدين الجديد عداءً شديداً، على العلاقة بينهم وبين المسلمين.  وقد ذُُُُكروا في القرآن مراراً، كجهة معادية للدين، أما الرومان فإنهم لم يردوا في القرآن كجهة معادية.  وينطبق الشيء نفسه على المسيحية، الذين وصفهم القرآن بأنهم " .. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَةً لِلَّذَِْنَ آمَنُوْا الَّذِينَ قَالُوْا إِنَّاْ نَصَاْرَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيْسِيْنَ وَرُهْبَاْنَاً وَأَنَّهُمْ لَاْ يَسْتَكْبِرُوْنَ " [14] .  وقد رسخ القرآن قاعدة التعامل مع أهل الكتاب " قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَاْلَوْا إِلَى كَلِمَةٍٍ سَوَاْءٍ بَيْنَنَاْ وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَاْ نَعْبُدَ إِلَّاْ اللَه، وَلَاْ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئَاً وَلَاْ يَتَّخِذَ بَعْضُنَاْ بَعْضَاً أَرْبَابَاً مِنْ دُوْنِ الله فَإِنْ تَوَلَوْا فَقُوْلُوْا اشْهَدُوْا بِأَنَّاْ مُسْلِمُوْنَ". [15]  

ولم يكن للدين دورٌ فعلي في الصراع، ففي القرن التالي، تحالف الأباطرة، حماة الكنيسة في الدولة الرومانية الشرقية مع الخلفاء الأمويين، حماة الدين في الأندلس، كما تحالف الخلفاء العباسيين في بغداد مع أباطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد الحلف الأول.  فالدين بريء مما يُنسب إليه من حروب. 

منذ أن بدأ الإنسان بتدوين التاريخ، الذي كان في الأساس، تاريخاً عسكرياً، ومنذ أن استطاع الإنسان أن يدجن الحصان واستطاع أن يُطوع المعادن، فصنع أولى أدواته وهو رأس حربة. بدأ بخوض نزاعات منظمة ضد مجموعاتٍ أُخرى من البشر، عادةً ما يوجد بينها قواسم مشتركة.  وقد سجل التاريخ عدداً هائلاً من الحروب التي وقعت بين الجيران.  سواءً كانوا دولاً اوقبائل اوطوائف.  ولكن هناك عدد أقل بكثير من الحروب التي شنتها دولة       ( اوجماعة ) ضد دولة أُخرى لا تجاورها.  الأمر الذي يعني غالباً اكتساح جار مشترك أو أكثر.  إن هذا النوع من الحروب لم يُعرف منذ فجر التاريخ لغاية بداية القرن العشرين، إلا في المنطقة موضوع بحثنا، أي أوروبا والشرق (غرب آسيا وشمال إفريقيا) فلا يُستثنى من ذلك إلا حملات المغول وهجرات الآفار والهون والترك من أواسط آسيا.  فلا عجب إن اعتقدنا أن السلام العالمي يعتمد على وجود علاقة أفضل بين هذين الإقليمين (أوالحضارتين)، وأنَّ تكاملاً أعرض بينهما سيغني الحضارة الإنسانية.   

 




[1]  سورة القصص ، آية 26.

[2]  العقد الفريد.

[3]  تاريخ اوروبا العصور الوسطى.

[4]  المسيحيين  والحضارة العربية، د. جورج قنواتي.

[5]  العرب واوروبا.

[6]  العرب وأوروبا، لويس يونج.

[7]  نفس المصدر.

[8]  المسيحيين والحضارة العربية، د. جورج قنواتي.

[9]  فتوح البلدان، البلاذري.

[10]  نفس المصدر.

[11]   المسيحية والحضارة العربية، د. جورج قنواتي.

[12]  سورة البقرة،آية 183.

[13]  سورة الفتح، آية 29.

[14]  سورة المائدة، آية 82.

[15]  سورة آل عمران، آية 64.

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter