الفصل
السادس
الصدام
الحتمي
خلافة
أبي بكر
توفي الرسول عليه الصلاة والسلام دون أن يكون له نائب او ولي عهد، ودون أن يحدد
آلية واضحة لنقل السلطة. على الرغم من أنه
ترك وراءه القرآن، الذي تضمن أحكاماً قوانين مواريث وعقوبات وزكاة وعبادات، تشكل دستوراً
يساعد على بناء مجتمعٍ متوازن من كل الجوانب. كما ترك الرسول ( ص) كذلك، عدداً هائلاً من
الأحاديث، وهي ما رُوي عنه من الأقوال والأفعال مضبوطة الإسناد. وهي تتضمن تشريعات مكملة ومفصلة لما جاء في
القرآن. إلا أن المصدرين لا يتضمنان وصفاً
لنظام الحكم، كما لا يتضمنان الكيفية التي يتم فيها اختيار الحاكم اوالحكام،
اوانتقال السلطة.
وكما أوردنا سابقاً، فإن الرسول (ص) لم
يُتوفَ فجأةً، وإنما، عملياً، أخبر رعيته أنه أكمل مهمته في قوله " الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ " في
خطبة الوداع، ثم أضاف بوضوحٍ أكبر
قائلاً في خطبته " .. لعلي لا أقف مقامي هذا في العام القادم". وهذا يعني أنه قال وأوصى بكل ما اراد أن يقول
ويوصي، ويعني أيضاً أنه ترك لمن وراءه كل ما أراد أن يترك. وبالتالي، وعلى ما يبدوأنه ترك لهم المجال أن
يختاروا نظامهم السياسي الذي يرونه مناسباً لظروفهم. بحيث يتغير مع الزمان والظروف، فلو اختاره هو
لما أمكن تعديله اوالتخلي عنه.
لقد سيطرت قناعة، لدى البعض، بأن اختيار
الخلفاء محصورٌ بأهل بدر، أي بمن شاركوا في معركة بدر. وقد رد علي بن ابي طالب على الذين هرعوا إليه
مبايعين بالخلافة، بعد مقتل عثمان، أن الأمر ليس لهم بل لأهل بدر. فلو كان لهذا الرأي سندٌ من قرآن اوحديث، وجاء
موعد انتخاب خليفة في نهاية القرن الهجري الأول، ففي هذا الوقت لم يكن ممن شاركوا
ببدر أحدٌ حي، فلوتم حل هذه الإشكالية بتوريث هذه الصلاحية، لما كان هذا الجسم
السياسي يمثل الدولة ومجتمعها، وهذا مناقض لتعاليم الإسلام ومبادئ العدالة
والمساواة والعالمية.
توفي الرسول (ص)، وواجه المسلمون معضلة
اختيار خلف له .
كان أول من فكر
في ملء الفراغ السياسي الحاصل بوفاة الرسول (ص ) مجموعةٌ من الأنصار يتزعمهم سعد
بن عبادة، أحد سادتهم وأحد النقباء يوم بيعة العقبة، حيث بادروا الى عقد اجتماع
لهذه الغاية فيما عُرف باجتماع السقيفة، سقيفة بني ساعدة. ويبدوأن إحساساً بدأ
يتكون لدى الأنصار، منذ فتح مكة، ربما، بأنهم يفقدون دورهم السياسي، وأن دور قريش يتعاظم، ولا يقتصر ذلك
على المهاجرين، وإنما على "طلقاء قريش" الذين أسلموا بعد فتح مكة. ولم يكن هذا نفاقاً، بدليل أنهم تنازلوا خلال
دقائق لأبي بكر. وحتى سعد بن عبادة، الذي
غادر المدينة الى الشام بعد ذلك، لا نجد ما يعتبره منافقاً، على الرغم من بعض
الإشارات الى ذلك في بعض الروايات التي تعود الى تلك المرحلة.
جاء من يبلغ أبا
بكر وعمر بما يجري في السقيفة ، فذهبا بصحبة صحابيٍ آخر هو أبوعبيدة عامر بن
الجراح، الذي كان الرسول (ص) يسميه أمين الأُمة.
استطاع أبوبكر،
بمكانته وحنكته، أن يسيطر على الوضع بأن الإمارة لقريش والوزارة للأنصار. فاقترح أن يبايع عمر او ابوعبيدة، ولكن عمر سارع
لمبايعة أبي بكر وثنى على ذلك أبوعبيدة وأخذ الأنصار بالمبايعة واحداً بعد الآخر
دون تردد.
يلقب أبوبكر
بالصديق، وذلك لأنه كان أسهل الناس
إسلاماً وأسرعهم تصديقاً لنبوة محمد (ص). ويروى أنه أسلم، على يدي أبي جهل، الذي
قال له : "هل سمعت ما يقول صديقك ؟." فسأله عما يقول، فقال ابو جهل
:" إنه يقول أن هناك إلهاً بعثه نبياً " فرد ابوبكر :" إن قال ذلك
فهوصادق" وهكذا آمن ابوبكر قبل أن يعرض عليه صديقه محمد الدين الجديد الذي
بُعث به قبل ذلك بأيام. وكان أبوبكر يجلس
الى ورقة بن نوفل والآخرين من المتنورين من العرب الذين كانوا ينتظرون ظهور نبي.
كان أول ما بدأ
به أبوبكر هو إرسال جيش أسامة، وهوالجيش الذي أمر الرسول (ص) أن يُرسل الى أرض
الشام، وأسامة هوابن زيد بن حارثة. أصر
أبوبكر على إرسال الجيش رغم بوادر ظهور أولويات أُخرى، مثل مواجهة الردة. وقد انطلق الجيش الى أرض الشام ولم يشتبك
بمعارك كبيرة مع القوات الرومانية اومقاتلي القبائل العربية المتحالفة مع
الرومان. وقد ودع ابوبكر الجيش بوصيته
المشهورة التي أصبحت، مع خطب الرسول من قبل، نبراساً للجيوش الإسلامية، بحيث خلقت
مسلكيات كان تأثيرها أمضى من السيوف، قال فيها : " أيها الناس أوصيكم بعشرٍ
تحفظونها عني : لا تخونوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً
صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرةً
مثمرة ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكل، وسوف تمرون بأقوامً قد
فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قومٍ
يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم شيئاً بعد شيئ، فاذكروا اسم الله عليه
وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف
خفقاً .. اندفعوا باسم الله "
ظهرت في زمن
أبي بكر ظاهرة الردة، وهي تراجع بعض القبائل عن إسلامها. وقد اقترن ذلك في بعض القبائل مع ادعاء أحد
أبنائها النبوة. وقد حدث هذا في بني حنيفة
حيث تنبأ مسيلمة وفي بني أسد حيث تنبأ طليحة وفي اليمن حيث تنبأ الأسود العنسي وفي
الجزيرة الفراتية حيث تنبأت سجاح، التي سرعان ما تنازلت لمسيلمة. لقد تنبأ الأسود وقُضي على حركته قبل وفاة
الرسول. وقد لوحظ أن معظم القبائل التي
تنبأ أحد أبنائها، واقعة تحت التأثير الفارسي. بالإضافة لظهور متنبئين، كان هناك
بعض الأسباب الظاهرة للارتداد؛ من بينها عدم تقبل دفع الزكاة التي اعتبرت كنوع من
الضريبة، فكان هذا أمراً مستهجناً للعرب الذين لم يعتادوا ذلك، وعدم تقبل الخضوع
لقريش، فبعض القبائل اعتبرت نفسها أعلى شأناً من قريش. كما أن بعض الحكام الإداريين عديمي الخبرة تسبب
في كره السلطة الإسلامية الجديدة. لم يكن
للعرب دولة في حياتهم يخضعون لقوانينها، فكانت ردتهم ضرباً من ضروب مقاومة
التغيير.
لم يحدث ارتداد في مكة وفي الطائف، كما لم يرتد أحد في
محيط المدينة.
أصر أبوبكر على
التعامل بحزم مع المرتدين. وفعلاً بدأ
بتجهيز الجيوش لإرسالها الى القبائل المرتدة، التي لم تكتفِ بارتدادها ولكنها قامت
ببعض الأعمال العدوانية مثل قتل الولاة وغير المرتدين ممن بقوا على إسلامهم .
استمرت المعارك
ما يقارب من سنتين، وكلف إسلام القبائل التي دخلت الإسلام طوعاً في زمن النبي (ص)
دماءً وعرقاً وزمناً، كما كلف المسلمين العديد من رجال الجيل الأول من الصحابة
وخصوصاً مما كانوا يسمون بالقراء، وهم حفظة القرآن والعالمون بالفقه والحديث. وهذا كان له ثمنه، ففي السنوات التالية، عندما نشبت الخلافات
الداخلية، كان ممكناً لهذه الفئة أن يكون لها دور حاسم. ومع هذا لا يوجد بين المؤرخين من يعتقد أن
أبابكر كان مخطئاً في اختياره للحل العسكري.
فلم يكن له خيارات أخرى. وقد كان اللقاء الأول مع تجمع قبائل من بينها
غطفان وفزارة، بعثت من فاوض الخليفة على إلغاء الزكاة، ولما رُفض طلبهم تجمعوا
للهجوم على المدينة، فخرج إليهم ابوبكر على رأس جيش، ففرق جمعهم. ثم سير ثلاثة عشر جيشاً إلى ثلاث عشرة
جبهة. وقد كانت معظم الجيوش صغيرة العدد،
معتمدة على إمكانية ضم من بقي على إسلامه في هذه الأقاليم، ما عدا جيش خالد بن
الوليد الذي تكون من عدة آلاف مقاتل. لقد كان مجموع الجيوش جميعها، عشرة آلاف
مقاتل.
برز في هذه
المعارك خالد بن الوليد، وقد بدأ معاركه مع قبيلة بني أسد التي تحالف معها بعض
قبائل نجد مثل غطفان وفزارة وطي والتي تنبأ منها طليحة. وتروي كتب السير أنه أثناء المعركة، كان عيينة
بن حصن، قائد قبيلة فزارة، يحارب لبعض الوقت ويأتي طليحة المتنبئ ويسأله إن نزل
عليه شيئ، أي أُوحي إليه بالنصر. فيقول
أنه لم ينزل بعد. وكرر ذلك عدة مرات
والقتال يشتد، وأخيراً قرأ عليه طليحة شيئاً سخيفاً أعده على عجل على ما
يبدو:" ان لك رحى كرحاه، وحديثاً لا
تنساه، وان لك يوماً ستلقاه، ليس لك اوله ولكن لك أُخراه "، فقال له عيينة :" ارى والله ان لك حديثاً
لا تنساه " ثم صاح بأبناء قبيلته
المشاركين في القتال أن ينسحبوا. ثم ما
لبث أن هرب طليحة نفسه .
وهكذا انتهت إحدى جبهات حروب
الردة، وأسلم طليحة بعد أن عُفي عنه،
وشارك بفتح بلاد فارس. وقد كان لعدي بن
حاتم الطائي دورٌ إيجابيٌ في تنحية اعداد كبيرة من طي عن طليحة، قبل القتال. وقد عفا خالد عن الأسرى الذين أبدوا توبتهم،
وقد شجع هذا الموقف وهزيمة طليحة بعض المتمردين على الرجوع عن تمردهم .
ثم تقدم خالد
الى بعض بطون تميم حيث ارتد مالك بن نويرة، أحد زعمائهم. فهزمهم خالد وتقدم الى اليمامة. حيث ارتد بنوحنيفة.
وكانت جبهة بني
حنيفة هي الأصعب. وكان مسيلمة، الذي
أاشتهر بالتاريخ العربي باسم " مسيلمة الكذاب " لادعائه النبوة، يملك
تأثيراً قوياً على أبناء قبيلته، التي كانت كبيرة العدد. ولم تُحسم المعارك إلا
بمقتله في معركة عرفت باسم معركة الحديقة.
وكان الذي قتله هوالذي قتل حمزة بن عبد المطلب في معركة أُحد وبنفس السلاح
.
لقد كانت الردة، حركة غير منسقة وحدثت
لأسباب مختلفة، فبالإضافة الى ما ذكرناه من أسباب اعتقد البعض ان الدين الإسلامي
مرتبطٌ بوجود الرسول (ص). كما اعتبر البعض
أيضاً شخص أبي بكر غير مؤهل للرياسة، من منظور الحسب والنسب !.
ينتمي أبوبكر الى أحد بطون قريش
الأقل شأناً وهم بنوتيم، وكان أبوبكر
شخصاً مرموقاً في الجاهلية ولكن هذا لم يمنعه من أن يُعذب ويُهان، الى درجة أنه
رُبط مع عبد الرحمن بن عوف بحبل وطيف بهما في شوارع مكة. وقد حاول الهجرة. ولكنه كان موسراً، لدرجة أنه حرر كثيراً من
العبيد المسلمين لينقذهم من التعذيب والاضطهاد.
في إحدى الغزوات كان يلبس عباءة رثة خللها بعود، اوشيئٍ من هذا القبيل،
وكان وضعه المادي يمكنه أن يلبس أفضل من هذا، ولكنه التواضع الذي اكتسبه من
العقيدة الجديدة، فكان المرتدون من نجد
يقولون في أثناء تلك الفترة : " لا نريد أن يحكمنا ذوالعباءة ".
لقد كانت ردة عُمان نتيجةً تمرد شخص
اسمه لقيط على ملوك عمان المسلمين أبناء الجلندي، الذين وفدوا على الرسول (ص)
وأسلموا وأقرهم في سلطانهم. فأرسل ابن
الجلندي الى الخليفة، الذي وجه ثلاثة جيوش التقت مع لقيط في موقع " دبي
" بعد أن انضم إليهم ابن الجلندي ومن بقي على إسلامهم من قومهم .
لم يحدث ارتداد يذكر في قبائل تخوم
الشام، ما عدا دومة الجندل، التي وجه إليها ابوبكر خالد بن الوليد من العراق في
وقتٍ لاحقة.
تسببت محاربة
المرتدين في بعض الأقاليم في احتكاكٍ مباشرٍ مع التواجد الفارسي في هذه
الأقاليم. لم تذكر المصادر قتالاً مباشراً
مع قوات فارسية نظامية. ولكن مجرد أن
انتهت حروب الردة حتى كان المثنى بن حارثة الشيباني يقود حرباً غير نظامية على
الفرس في العراق، بقبائل من بكر بن وائل.
ومن هنا، وبمجرد أن فرغ خالد من حرب بني حنيفة، طلب منه أبوبكر التوجه الى
العراق.
فتح
العراق
لم يُعرف في
التاريخ انتقال دولة من حربٍ إلى حرب إلا مضطرة.
فقد كان انتصار دولة المسلمين في حروب الردة، غير مضمون عند بدئها، فالفارق
العددي كبير بين من لم يرتد من قبائل والتي تشكلت منها الجيوش وبين من ارتد من
القبائل وأُرسلت لمحاربتها هذه الجيوش ، وكذلك عدم التأكد من ولاء الحلفاء ممن لم
يرتد من قبائل، فمن كان يضمن أن لا ترتد
قريش وثقيف. إن تفسير ذلك يكمن في أن
الحربين أصبحتا حرباً واحدة في نهاية الأمر.
فالمعارك مع تميم تمت داخل أراضي الإمبراطورية الفارسية، كما أن اليمامة تعتبر منطقة نفوذ للفرس .
وقعت العراق
تحت الحكم الفارسي في القرن الخامس قبل الميلاد، وباستثناء فترة وجيزة من الحكم
الإغريقي عقب حملة الإسكندر، بقيت العراق تحت الحكم الفارسي حتى الفتح الإسلامي في
القرن السابع. لقد طبع الفرس العراق بطابع فارسي، فقد قسمت الى اثني عشر تقسيماً
إدارياً حملت جميعاً أسماء فارسية، معظمها أسماء ملوك فرس.
وقد اتخذ الفرس من مدينة
المدائن ( طيسفون ) عاصمةً لهم، وهذا ما جعل العراق، بالنسبة لهم أكثر من ولاية
تابعة، فهي تحوي عاصمتهم. واسم العراق
مشتق من حقيقة قربه من البحر، حيث كان العرب تسمي ما كان قريباً من البحر عراقاً.
وربما يكون من المرجح أن الاسم
مشتقٌ من " أراك " وهي مدينة سومرية.
انطلق خالد بعد
أن طلب مدداً من الخليفة الى الأبلة، وتقع على الخليج العربي، وفي موقع البصرة
الحالية، وكان خالد يعي أن لقاءه الأول يجب أن يكون موفقاً. فترك الأبلة باتجاه كاظمة، وهي مدينة لم يعد
لها وجود حالياً، ويُعتقد أنها في الأراضي الكويتية، ربما قرب الجهرة، ثم انسحب
باتجاه الحفير وهي في موقع حفر الباطن في الأراضي السعودية اليوم. وأخذ يناور بين المدن الثلاث والجيش الفارسي،
بقيادة هرمز في أثره. ولم تكن حركة الجيش
الفارسي بخفة حركة الجيش الإسلامي، فقد كان الفرس يستخدمون الكثير من الدروع
ويحملون أسلحةٍ ثقيلة، على عكس العرب.
وهكذا بعد عدة جولات، يذهب هرمز الى كاظمة فيكون خالد قد اتجه الى الحفير
وعندما يلحق به الى الحفير، يكون خالد قد اتجه الى الأبلة وهكذا، وطبعاً كان خالد
يتحرك بناءً على استطلاع دقيق يقوم به أبناء البادية. وعندما قرر خالد اللقاء، كان الجيش الفارسي منهكاً، فانقض عليه وهزمه.
يعتبر خالد بن
الوليد من الجنرالات القلائل في تاريخ العالم الذين لم يتلقوا هزيمةً واحدة طوال
حياته. وحتى عندما حارب ضد الرسول في
معركة أُحد، كان نصر قريش تحت قيادته، حيث كان قائد الفرسان، وهزيمتها تحت قيادة
أبي سفيان الذي كان قائد المشاة. وفي بدر،
التي كانت هزيمة قريش فيها مطلقة، كان خالد متغيباً. أما في الخندق فلم يحدث
قتال. أذكر أني قرأت في كتاب أن الروم بعد
فتوح الشام اعتبروه أحد أعظم ثلاثة قادة عسكريين في التاريخ والآخران هما الإسكندر
ويوليوس قيصر.
أخذ خالد يتوغل
في العراق، بعد أن فتح المدن المذكورة الثلاث، اتجه شمالاً متوغلاً في منطقة شرق
دجلة وكأنه متجهٌ الى ميسان. ولكنه تراجع
بعد معركة المذار، جنوب قلعة صالح، وسلك طريقاً آخر غرب الفرات، حيث تحول من وادي
دجلة الى وادي الفرات. لقد أدرك خالد، حسب
تحليل مؤرخ عسكري معاصر، أنه كان يسير في مصيدة.
هذه المصيدة لم يدرك خطورتها القائد البريطاني تاوسند في الحرب العالمية
الأولى، ووقع مع جيشه في أسر الأتراك.
وهذا يفسر أحد
أسباب عدم تلقيه لأية هزيمة طوال حياته. لقد كان خالدٌ مقاتلاً محترفاً يجمع
الشجاعة مع القدرة على التخطيط الإستراتيجي والإدارة التكتيكية للمعارك. وقد قال
خالد عند موته: " ما كان في الأرض من ليلةٍ أحب إلي من ليلةٍ شديدة الجليد في
سريةٍ من المهاجرين أصبح بهم العدو."
ومع هذا عزله عمر لأنه كان يتصرف بالغنائم بحرية دون
تقديم كشفٍ مفصل الى الخليفة،
وهذا لم يعنِ أنه كان مشكوكاً
في ذمته المالية، وإنما قائد لا يتقيد بالتعليمات.
استمر خالد في
حربه مع الفرس، الى أن طلب منه ابوبكر التوجه الى الشام. واستمر المثنى بن حارثة الشيباني في خوض
المعارك ضد الفرس، والانتصار بها. ثم عين
عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص حيث خاض عدة معارك تتوجت بمعركة القادسية حيث كان
النصر للمسلمين، ولكن هذا لم يحسم الحرب مع فارس، على الرغم من أنها كانت من
المعارك الحاسمة، فاستمرت الحروب لسنوات حتى تم فتح بلاد فارس بالكامل، على يد عدة
قادة متتابعين، ولكن خالداً لم يعد الى العراق حيث شارك في فتوحها، قائداً ومقوداً
الى أن توفى في حمص سنة 21 هجرية .
وكان انتقال
خالد من العراق الى الشام من عين التمر شمال الحيرة الى دومة الجندل، المذكورة
سابقاً، في بعض الروايات. وقد عبر خالد
مجازفاً بنفسه وبجيشه الصحراء معتمدين في حاجتهم للمياه على قدرة الجمال على
تخزينه في جوفها، وحمله على ظهرها. فكانوا
يذبحون الجمل ويأكلون لحمه ويستفيدون من الماء الموجود في معدته لأغراض غير
الشرب.
وكانت هذه فترة
عدم استقرار سياسي للفرس، فقد مات الملك ولم يتفقوا على ملك لأكثر من عام، ثم اتفقوا على ملك ولكن سرعان ما مات، فعينوا
ملكاً ولكنه قُتل فعينوا ملكة وهكذا. وهذا
يذكرنا بالنبوءة التي تذكرها كتب السير، والتي قيل للملك آنذاك، كتفسيرٍ لحلمٍ
رآه، أ
ن
مُلك فارس سينتهي، فسأل متى يكون هذا، فقال له العراف
بعد أن يحكم ستة عشر ملكاً، فاطمأن
معتقداً أن هذا سيستغرق وقتاً طويلاً، ولا داعي للقلق، فحكم هؤلاء الستة عشر في
ثماني عشرة سنة، وقد سهل هذا الوضع على العرب التغلب على الفرس.
فتح
الشام
لا خلاف أن تسمية الشام بهذا الاسم
عربية، بل ربما قرشية. فالذي يقف في مكة
متجهاً الى الشرق تكون الشام على شماله واليمن على يمينه، وربما كان هذا وراء
تسمية الشام وكذلك اليمن. كما أن كلمة
" شامة " تعني الشمال في لهجات عربية محلية عديدة. أما اسم سوريا فهواسمٌ قديمٌ جداً، وقد استخدمه
اليونان كاسمٍ لهذا الإقليم منذ أن عرفوه.
وقد عُرفت، قبل ذلك بكثير، منطقة شمال الفرات، باسم " سو- ري "
بالبابلية ،
فربما كانت هذه أصل
التسمية.
وبلاد الشام، المقسمة الى عدة دول في
وقتنا الحاضر، قلما كانت دولةً قائمةً بذاتها، فهي إما جزءٌ موحدٌ من إمبراطوريةٍ واسعةٍ جداً، اومقسمةٌ الى دولٍ
عدة. ولكنها، مع هذا، حافظت على وحدةٍ
ثقافيةٍ شديدة التجانس.
وقد شهد هذا الإقليم حضارات عديدة قدمت
للإنسانية مساهمات جليلة من بينها الكتابة والتعدين وصناعة النسيج وفن الملاحة
وزراعة كثيرٍ من الأشجار المثمرة المعروفة.
كانت بلاد الشام تقسم الى ولايات متعددة
من قبل الرومان في زمن فتحها على يد العرب، فقد كان هناك فينيقيا الأولى والثانية
وفلسطين الأولى والثانية والثالثة، وسوريا الأولى وسوريا الثانية والفراتية وأرض
الجزيرة. كما كان هناك العرابية التي كانت ولاية رومانية عاصمتها بصرى ودولة ذات
حكم ذاتي غساني في وسط بادية الشام، كما كانت فلسطين الثالثة ،وهي في أقصى الجنوب
توكل الى ولاة عرب، غساسنة اوغيرهم .
ازدهرت في بلاد الشام مدن رومانية
عديدة، اشتهرت بالتجارة والزراعة، كما نشأت فيها حياة ثقافية متقدمة. وقد أقيم بين بعضها اتحاد " الديكابوليس
" أي المدن العشر، لأن عددها كان كذلك.
وقد ترك لنا كتابٌ أفذاذ كتباً في التاريخ والحوليات والفلسفة والدين
لأشخاص منسوبين لمدن مثل دمشق وأنطاكية وقيسارية وغيرها.
فمنذ الاحتلال
اليوناني الناجم عن حملة الإسكندر، دأبت السلطات على تأسيس مدن في مواقع
إستراتيجية هامة مثل مصاب الأنهار ومجاريها، وعند مراكز المواصلات الهامة. وكانت هذه المدن / المستعمرات يونانية في لغتها
وثقافتها وحكومتها. وكان سكانها من
الجنود، الذين تزوج بعضهم نساءً سوريات، وسرعان ما تهافت إليها بعض المدنيين سعياً
وراء الحصول على بعض الامتيازات. فقد
تأسست إنطاكية وجراسا ( جرش ) وبيلا
( طبقة فحل ) وطبريا وقيساريا وطرابلس غيرها. وانضم فيما بعد بعض السكان المحليين الى
مجتمعات هذه المدن، وكذلك بعض المولدين الذين اقتبسوا جميعاً مظاهر الحياة
والثقافة الهيلينية. وقد استمر هذا النهج
طوال العهود اليونانية والرومانية ( والبيزنطية ) التي استمرت زهاء ألف سنة. فقد
انتهج هذه السياسة البطالسة والسلوقيون والرومان والبيزنطيون. فبنيت مدن كثيرة جداً، كما تم تحويل مدن قائمة
الى مدن هيلينية الثقافة. فتحولت شكيم الى
نابلس، وتحولت بيت شان الى سكيثوبوليس، وعكا الى بتولماس، وربة عمون الى
فيلادلفيا، والسامرة الى سبسطية، وبيروت الى اوديسا، وحماة الى ابيفانيا، وحلب الى
بيرويا. لقد أصبح في سوريا عدد كبير من
المدن، لم تعرفه في تاريخها. ثم تبع ذلك
تغيير أسماء الأنهار والجبال والسهول والبحيرات الى أسماء يونانية .
وقد نجم عن هذا
الجهد، وبمرور القرون، أن تحول كثيرٌ من سكان سوريا الى اللغة اليونانية، وإن
احتفظوا بلغاتهم الأصلية في بيوتهم. وقد
نبغ كثيرون من السوريين في الشعر اليوناني وفي الكتابة باللغة اليونانية .
ومع هذا فقد تم الحفاظ على اللغات السامية حية
ومستخدمة، فعند الفتح الإسلامي، الذي أعاد الحكم في الشام الى عرقٍ سامي بعد أكثر
من ألف سنة، كانت الكتابة باللغة السريانية تسير جنباً الى جنب مع اللغة
اليونانية. وبعد الفتح الإسلامي اختفت اللغة اليونانية تدريجياً، وبقيت اللغة
السريانية لغةً حية على نطاق محدود، أما اللغة اللاتينية، فعلى ما يبدوأنها لم تكن
قد خلقت لنفسها موطن قدم في ثقافة المنطقة فاختفت بدون أثر.
وكانت في طبريا
والقدس ونابلس ودمشق وغيرها جاليات يهودية كبيرة، نجحت هي الأخرى في الحفاظ على
خصوصيتها الدينية والثقافية واللغوية.
لقد كانت الشام ضحيةً لموقعها
الجغرافي، فهي ليست محاطة بحدودٍ طبيعيةٍ
تقلل من احتمالات غزوها، كما أن موقعها يجعلها في طريق غزوأهدافٍ أُخرى. وعلى عكس مصر، التي لم تُغز، فبل الغزوالعربي،
أكثر من ست مرات ؛ من قبل الهكسوس واليونان والرومان والفرس. أما الشام، فقد غزاها المناذرة وحدهم، أكثر من
ذلك. كما أن البحر، وهوحدٌ طبيعي للشام،
شكل بوابةً للغزاة عبر التاريخ.
كان أبوبكر يجهد أن تكون سياساته
استمراراً لسياسات الرسول (ص)، فيكمل ما بدأه، ويبدأ حيث انتهى. وكانت حروب الردة لمنع التراجع عن المنجزات،
ولإجهاض تحالف عربي ضد المدينة. وكان
أبوبكر يعي تماماً أن الرسول مات عازماً على غزوالروم. لقد كانت الاثنا عشرة سنة التي فصلت بين هزيمة
الروم وانتصارهم، بين تألم المسلمين
لهزيمة الروم وعدم فرحهم لنصرهم، فترةً ظهرت فيها مؤشرات استبعدت أن تكون العلاقات
مع الروم غير عدائية، وقد ظهرت هذه
المؤشرات والروم منشغلون بحربهم مع الفرس،
ولهذا لم يسجل التاريخ فرح المسلمين بنصر الروم، ولم يسجل التاريخ تعليقاً
على تحقق النبوءة الواردة في سورة الروم.
وربما تخوف المسلمون من تفرغ الروم بعد هذه المؤشرات. وهناك ما يدل على ذلك، وهومسارعة الرسول لإرسال
الجيوش لمواجهة أي حشد عسكري يسمع عنه في أطراف الشام الجنوبية، لئلا يُظهر ضعفاً
ولمواجهة هذه الحشود قبل أن تكتمل، وقد حدث هذا ثلاث مرات على الأقل .
لم ينتظر أبوبكر انتهاء حروب الردة
تماماً، لكي يبدأ حربه مع الدولة الرومانية.
فقام بإرسال رسائل الى القبائل العربية التي لم ترتد، يحضها على إرسال
متطوعين لحرب الروم. فبدأ المقاتلون يفدون على المدينة، وجاءوا بكامل أسلحتهم
ومطاياهم ونسائهم وعائلاتهم، لقد جاءوا ليغزوا وينتصروا ويستقروا في البلاد
المفتوحة. إن مجريات الأمور في العقود
التالية تدل بقوة على أن كثيراً من هؤلاء المقاتلين غادر الجزيرة ولم يرجع إليها
إلا حاجاً اومعتمراً.
تجمع ما يقارب من عشرين ألفاً من
المقاتلين من اليمن نجد والحجاز، فبدأ ابوبكر بعقد الرايات للقادة ويشكل الكتائب
ويرسلها تباعاً.
وهناك بعض الغموض والتضارب في الروايات،
فيذكر الطبري أن أول المنتدبين كان خالد بن سعيد بن العاص، الذي توغل حتى وصل الى
جنوب مدينة عمان، العاصمة الأردنية، حيث واجه اشتباكه الأول مع وحدة عسكرية
رومانية، في المكان المقام عليه مطار الملكة علياء اليوم، اوقريباً منه. انتصر في
هذا اللقاء ولكنه خسر اللقاء الثاني أمام نفس القائد الروماني .
عاد خالد بن سعيد الى
المدينة تاركاً جيشه وراءه، ليبرر خسارته
للمعركة، على ما يبدو، فعزله ابوبكر.
ولكن المؤكد أن زعماء القبائل، الذين
وصلوا الى المدينة متطوعين وأقاموا حولها،
جاؤوا إلى أبي بكر، شاكين له طول مقامهم في المدينة، التي لم تحتمل،
بدورها، إقامة عشرين الف رجل مع عائلاتهم وخيلهم وجمالهم، يستعجلونه في إرسالهم
الى الشام. فبدأ بتنظيم الكتائب واختيار
القادة لها. فأرسل أربعة جيوش تباعاً ؛
الأول بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته البلقاء،
والثاني بقيادة أبوعبيدة عامر بن الجراح ووجهته حمص، أي شمال بلاد
الشام، والثالث بقيادة شرحبيل بن حسنة
ووجهته وادي الأردن، أما الرابع فبقيادة عمروبن العاص ووجهته فلسطين .
إن توزيع الجيوش ومساراتها تشكك في
معرفة العرب الدقيقة في جغرافية بلاد الشام، أوحتى معرفتهم بالجغرافية ككل. مثل استهدافهم حمص قبل القدس، ولكن على ما يبدو
هناك معرفة كافية بطرق وتضاريس المنطقة، وهناك ما يبرر تباين الأولويات في الفتوح،
فقد تُعزى لأسباب تتعلق بالحرب النفسية التي ترافق الجهد العسكري عادةً. ويبدوالاضطراب مصاحباً لكل حربٍ يُكتب عنها بعد
زمن، أي بعد أن يزول تأثير ما يذكر على الحالة النفسية، ففي زمن حدوثها تصفها أبواق الدعاية على أنها
نُفذت حسب الخطة الموضوعة بمنتهى الدقة، ولكن سرعان ما تظهر بعض الطرائف، مثل
إنزال بعض قوات الحلفاء خارج أرض المعركة في الإنزال الكبير في الحرب العالمية
الثانية.
أما الحديث عن جيش خامس، بقيادة خالد بن
سعيد، فإما أنه لم يكن، اوأنه كان حملةً استطلاعية، لم تتجاوز حدود الجزيرة
العربية، اوأن جنودها تم ضمهم الى أحد الجيوش.
كان أول صدام للجيوش الأربعة في ضواحي
غزة، حيث تغلب جيش عمروبن العاص على جيشٍ رومانيٍ يفوقه عدداً. ثم دخل غزة فكانت أول مدينة شامية يدخلها
المسلمون، فطبقوا وصية ابي بكر بحذافيرها، من الابتعاد عن أذى الناس والحفاظ على
العهود، فضربوا مثلاً رائعاً للمدن الأخرى، ترك أثره على فتح كثيرٍ من المدن
الشامية وحتى المصرية فيما بعد .
كما خاض كل منهم عدداً من المعارك في
جبهته، ومن أبرزها معركة أجنادين بين اللد والقدس سنة 13 للهجرة / 634 م. وعلى ما يبدوأن ابا بكر استشعر ضعفاً في أبي
عبيدة، الذي كان الرسول (ص) يسميه أمين
الأمة، وكان يمتهن حفر القبور، وقد فعل ذلك في مكة وفي المدينة بعد هجرته، ومن
المؤكد أنه كان سيكون الخليفة الثالث لوكان على قيد الحياة عندما توفي الخليفة
الثاني، ولكنه لم يكن يمتلك السمات القيادية المطلوبة لقائد جيش، فقد كان رقيقاً،
ولكنه كان من " شجعان قريش المعدودين"
. ولم يكن الخليفة ليجامل
على حساب المصلحة العامة، ولم تكن الشجاعة والأمانة الصفتين الوحيدتين المطلوبتين
في قيادة تاريخية كهذه. أرسل أبوبكر إلى
خالد بن الوليد ليتوجه الى الشام لاستلام القيادة مكان أبي عبيدة. فتوجه الى الشام وظهر برايته المشهورة، التي
أخذها من النبي والمسماة العقاب، على تلة مقابلة لدمشق، خلال زمن قياسي. لم يغضب أبوعبيدة من التغيير، واستمر العمل تحت
قيادة خالد، وكان رأيه مسموعاً، فيما يمكن وصفه بقيادة جماعية بعيدة عن الشخصنة
والمزاجية. خاضت الجيوش معارك كثيرة،
مجتمعة ومنفردة، مثل معركة أجنادين في
شمال فلسطين، وطبقة فحل في وادي الأردن،
وفتح العديد من المدن مثل بصرى وعمان وحمص وغيرها الكثير.
وقد خصص الواقدي، وهو مؤرخ من القرن
الهجري الثاني، كتاباً كاملاً باسم " فتوح الشام"، وقد كتبه بروايات عن
مقاتلين شاركوا في المعارك، ولم يكن الواقدي منحازاً لشخوص القادة ولم يسعَ الى
تمجيدهم كجنرالات يجب أن يدخلوا التاريخ، كما كان يفعل مؤرخو الدولة الرومانية
المرافقون للحملات. مثل المؤرخ بركوبيوس الذي رافق بازيليوس في حملة 540م ضد
الفرس، حيث كان وراء تلفيق تهمة الخيانة للملك الحارث، دفاعاً عن صديقه. لقد أشار الواقدي الى الارتباك الذي صاحب
تحركات الجيوش الإسلامية اثناء عمليات الفتح. كما أعطى وصفاً للحالة المعنوية
للجيش الإسلامي، وطبيعة العلاقات السائدة في صفوفه. وقد ذكر رواية عن مقاتل ذكر
اسمه، أنهم كانوا يبيعون غنائمهم في مدينة بعلبك "ففرح أهلها ببيعنا وشرائنا،
ووجدونا قوماً ليس فينا كذب ولا خيانة ولا نريد ظلم أحد، وطابت قلوبهم.."
وهذا هوالانطباع الذي نجح
المسلمون أن يخلقوه عن أنفسهم. وكمقاتلين،
كان الانطباع أنهم لا يهابون الموت ولا يمانعون من الاشتباك مع جيشٍ يفوقهم عدداً
وعدة. ونجم عن هذا إنجازات عسكرية، وساعد
لاحقاً على تقبل دين ولغة وثقافة الفاتحين.
نجم عن أخبار الهزائم أن قام هرقل بحشد
جيشٍ ضخمٍ لمواجهة الموقف المتداعي في الشام.
ويصف المؤرخون هرقل أنه من أفضل أباطرة الدولة الرومانية. وهومؤسس سلالة جديدة، كما فصلنا سابقاً، حيث
استطاع أن يعيد تنظيم موارد الدولة الرومانية، ويجري تغيرات جذرية على التركيبة الإدارية / العسكرية للدولة
والجيش. حيث خرج من العاصمة وعسكر بعيداً
عنها، وبدأ ببناء وتدريب وتنظيم الجيش.
ولمدة ست سنوات بقي ممتطياً صهوة جواده حتى هزم الفرس، ولما عرضوا عليه
الصلح لم يتردد أن يقبل. وهرقل كشخص، يظهر
في المصادر العربية، أنه لم يكن معادياً
للدعوة الإسلامية تماماً. وأنه، على سبيل
المثال، لم يسئ معاملة حامل رسالة الرسول (ص)، ولم يمزق رسالته، كما فعل خسرو،
فدعا له الرسول أن يثبت ملكه، مثلما دعا على خسرو أن يمزق ملكه .
وصلت أخبار الجيش الكبير الزاحف
نحوالشام. كان تعداده يزيد عن مائة ألف في
أقل الروايات، هذا إضافةً الى جيش مكون من عرب الشام المتحالفين مع الروم، ذكر
الواقدي أن عددهم ستون ألفاً. وكان مجموع
الجيوش الإسلامية واحداً وأربعين الفاً من المقاتلين، بعد أن وصلهم مددٌ من
الخليفة، عمر بن الخطاب، الذي استلم الخلافة بعد وفاة أبي بكر، وطلب منهم أن
يعيدوا تنظيم قواتهم، كما طلب تسليم القيادة لأبي عبيدة، ومرة ثانية لم يغضب خالد
واستمر بالعمل تحت إمرة أبي عبيدة.
فتراجعوا من بعض المدن الشمالية، ومنها حمص، حيث يروى أنهم أعادوا لأهل هذه
المدن ما جمعوه منهم من جزية، لأن من شروط الجزية تقديم الحماية لمن تجمع منهم،
ولما أصبح المسلمون عاجزين عن تقديم هذه الحماية، أعادوها.
قام أبوعبيدة بتجميع
القوات في منطقة الجابية، الى الغرب من دمشق،
فأشار خالد الى أن ينتقلوا الى الجنوب، بحيث يجعلون أذرعات، وهي درعا
الحالية في جنوب سوريا، وراءهم ويكون حوض اليرموك أمامهم، في شمال الأردن. يعتقد بعض المؤرخين أن المعركة دارت شمال نهر
اليرموك، أي أن القوات الإسلامية تجمعت شمالي النهر. لقد كان عمر بن الخطاب يطلب من الجيوش أن لا
" تجعلوا الماء بيني وبينكم "، وخصوصاً أنهم كانوا يصطحبون زوجاتهم فلا
يعقل أن يجعلوا ظهورهم الى الوادي الذي يشق مجرى عميقاً بين هضبتين تقفان كجرفين
عموديين. وقد جاء اقتراح خالد، الذي قبل،
متسقاً مع قدرات العرب ومتطلباتهم، فكانت مؤخرتهم تطل على بادية الشام،
وإذا ما لاحظنا أن المعركة جرت في حر آب، فإن اختيار المكان يعني أيضاً اختيار
الطقس الذي سيتحارب به المتقاتلون .
بدأت المعركة كموقف مستحيل تخيل ما
سيؤول إليه. كان عرض جبهة الروم ثلاثة
فراسخ وكانت المسافة بين الجيشين ثلاثة فراسخ، أيضاً، أي خمسة عشر كيلومتراً. لم يبدأ القتال فور وصول الروم الذين وصلوا بعد
العرب. ولكن جرت محاولات لمهاجمة أطراف
الجيش ظناً من الروم أنه منسحبٌ الى الحجاز، ولكنها لم توفق. فقد جرب الروم التفاوض، حيث عرضوا أموالاً
مقابل إخلاء الشام، ثم أرسلوا جبلة بم الأيهم ليخوف العرب من قوة الروم. ولكن العرب كانوا مصممين أن لا يدعوا الشام
للروم.
تقدم عرب الروم بقيادة جبلة في تعبئةٍ
قتالية، فكان هناك إجماعٌ بين قادة المسلمين أن يتعامل جيش المسلمين بكامله مع جيش
جبلة، ولكن كان لخالدٍ رأياً آخر؛ فإقترح إن يُكتفى بإرسال ثلاثين مقاتلاً، فاعتقد
البعض أنه يمزح، ولكنه أكد أنه جاد، إذ من سيلقى الروم إذا تقدموا للقتال بعد ذلك،
ولكن اتفقوا على رفع العدد الى ستين.
وأُعطيت قيادتهم الى خالد، الذي اختارهم واحداً واحداً من بين فرسان
القبائل، فاشتبك الطرفان في حالةٍ من اختلال التوازن العددي الذي لم يشهد مثله
التاريخ. عندما اقترب النهار على نهايته
غادر جبلة وجيشه أرض المعركة، بينما كان يهم أبوعبيدة أن يتدخل ببقية الجيش، كانت
النتيجة مقتل عشرة من المسلمين وأسر خمسة، وقتل عددٍ كبيرٍ من عرب الروم، قدرهم
الواقدي بعشرة آلاف. لقد رفعت هذه الجولة
الأولى من همة المسلمين، وأعطت تأثيراً معاكساً على الروم.
وبعد جولةٍ أُخرى من الحوار، بناءً على
مبادرة رومانية، قام خالد بن الوليد بزيارة لمعسكر الروم بصحبة مئة فارس. وكان الروم يريدون أن يعرفوا هذا العدوالجديد،
ويطمعون في إقناعهم أن يرجعوا الى الجزيرة العربية مقابل مبلغ من المال، وقد اعتاد
الروم أن يقبل العرب بعرضٍ كهذا قبل الإسلام، كما اعتادوا أن يدفعوا مبالغ ضخمة
لأعدائهم من آفار وغيرهم لدرء خطرهم. كما
كان المسلمون يطمعون من وراء هذه اللقاءات أن يسلم قادة الروم الذين يحاورونهم،
كما أسلم والي بصرى من قبل، الذي كان يحارب مع المسلمين في اليرموك .
انتهى اللقاء الذي لم يجنِ منه الطرفان،
سوى بعض كلمات المجاملة بين القائدين، خالد والقائد الروماني، الذي سماه الواقدي
ماهان، ووصفه بأنه أرمني، وذكرت المصادر الغربية أنه تيودور، أخوهرقل، والذي تولى
الدفاع عن القسطنطينية أثناء حصار الفرس والآفار لها قبل عقدٍ من الزمان، وفي
اليوم التالي اشتبك الجيشان. تولى خالد
قيادة العمليات من قبل أبي عبيدة، حيث قام بتعيين قادة للميسرة والميمنة وأصحاب
الرايات، وكان كل ما سمى خالد أحدهم، طلب منه أبوعبيدة التوجه الى موقعه، مؤكداً
أمر خالد، وهذا ما يدل الى أي درجة كان المقاتلون يحترمون السلطة ويجلونها. بدأ القتال بشئٍ من المبارزة بين أبطال
الطرفين. ثم اشتبك الجيشان. فكان هجوم جيش الروم كأنه كتلة من معدن تتحرك
بقوة، فينزاح أمامها المسلمون، الذيم إما كانوا يتراجعون القهقرى، اويفرون
فعلاً. وكان بصحبة الجيش كثيرٌ من الزوجات
والأخوات والأبناء، وقام أبوعبيدة بوضعهم على تل كبير خلف ميدان المعركة، وطلب
منهن أن يضربن وجوه الفارين .
وعلى ما يبدوأنه كان هناك المئات اوحتى الآلاف
منهن، لأن دورهن كان فعالاً الى درجة يمكن أن يكنّ من بين أهم أسباب نتيجة
المعركة. وقد مارسن القتال بأنفسهن في
أيام القتال الأخيرة، وكن أثناء تراجع المسلمين والروم في أعقابهم، يضربن بما
استطعن مقاتلي الطرفين، مضافاً الى ذلك كلمات التنعنيف المذلة لأزواجهن وللرجال
عموماً. وخلال أيام القتال عد الواقدي
العديد من حركات التراجع والفرار لمقاتلي الجيش الإسلامي، وعد حالة فرار واحدة
لنساء المسلمين، اقتصرت على ثلاث قبائل فقط، هي لخم وجذام وخولان، وكانت لخم وجذام
تحاربان مع جبلة أيضاً، أما خولان فهي قبيلة يمنية لا تزال تحتفظ باسمها ووحدتها
كتشكيل اجتماعي، وقد كان لأبنائها دورٌ فعال بالفتوحات. كما قمن بدور المسعف والمواسي والطاهي وغير
ذلك. لقد كانت معركة اليرموك، معركة
المرأة العربية .
توقف القتال بعد اليوم الأول لمدة سبعة أيام
ثم أستؤنف بوقعٍ أشد من اليوم الأول. كان
الروم قد ربطوا مجموعة من الجنود بالسلاسل وتخندقوا، فكان الجيش الإسلامي عنما
يحقق بعض الغلبة ويرد الجيش الرومي يصطدم بهذا الحائط الذي لا يتزحزح. كما كان
للرماة المتمرسين خلف الصفوف تأثيرٌ قوي، فقد كانت الشمس تختفي عندما تنطلق سهامهم
من الخطوط الخلفية. لقد فقد سبعمائة مقاتل
عيناً في احد ايام القتال، الذي سُمي يوم التعوير، وهذا ما يجعل استبعاد عنصر
المبالغة من بعض التقديرات لتعداد الجيش الروماني. [ فإذا أصاب 700 سهم 700 عين،
فكم سهماً أصاب بقية الوجه وبقية الجسم، وكم سهماً سقط على الأرض دون أن يصيب
أحد. ويمكن إجراء حساب بسيط مبني على
فرضيات قريبة للواقع يؤدي الى عدد الرماة.
الافتراض الأول أن رقم السبعمائة صحيح، الافتراض الثاني أن مساحة الجسم
المعرض للإصابة بالسهم والمساحة المحيطة به ( أي المساحة الكائنة بين مقاتل وآخر )
تعادل 10000سم 2، وأن مساحة العينين تعادل 5سم2.
وأن الرامي يحمل 20 سهماً. فيكون
عدد الرماة = 700/20*10000/5 = 70000.
فهذا ما يجعل الرماة حوالي سبعين ألفاً.
غير الخيالة والمشاة. لقد تسبب هذا
بفرار المقاتلين المسلمين أكثر من مرة، ولكن كان للنساء دورٌ في صد الهاربين
.] في اليوم الخامس تحقق النصر، لأن
المسلمين رفضوا أن ينهزموا، بعد أن استخدم الرومان أقصى ما لديهم قوة عسكرية. فقد أُنهك المقاتلون الرومان الذين كانوا يحاربون
في قيظ آب عدواً لا يبدوعليه التعب، فهوأخف بنية وعدة، كما كان مصمماً على أن لا
ينهزم. وقد قُتل منهم أعداد كبيرة. وكان يوم التعوير بداية التوازن بين الطرفين،
حيث أصبحت تراجعات المسلمين مدروسة، حيث أصبحت الخيل " تتراجع على أذنابها
" أي دون أن يُعطوا عدوهم أكتافهم، وهذا يختلف كثيراً، إذ لا بد من كرة ينتج
عنها هجوم معاكس، فكثرت الهجومات المعاكسة الناجحة للمسلمين، حيث وصل أحدها الى
قرب مركز قيادة الجيش الروماني، وعلى ما يبدوأن القوات المسلسلة شاركت في هجومٍ
كبيرٍ تاركة خنادقها، وذلك في اليوم الخامس بدا وكأنه نصرٌ أكيد ونهائي للروم،
فلما استطاع المسلمون أن ينظموا هجوماً معاكساً، أصبح المسلسلون عبئاً على جيش
الروم، لدرجة أنهم أخذوا في السقوط من فوق الجرف ككتلةٍ واحدة. فانهزم الروم وهم، من الناحية الفنية، قريبون
من النصر، ولكنهم لم يكونوا يمنون به أنفسهم، كما دل على ذلك كثرة ترددهم، رغم
كثرة عددهم.
لقد حارب في اليرموك بجانب الرومان مقاتلون
من قومياتٍ عديدة. بينها روس وأرمن
وعرب. لم يتحارب العرب والروس في معركة
أخرى مرةً أخرى، كما لم يلتقِ العرب والأرمن في معركة كأعداء ثانيةً.
لقد فتحت معركة اليرموك بلاد الشام
كاملةً أمام الجيوش الإسلامية، والتي وقعت
في رجب سنة 15 للهجرة الموافق 636 م.
وقد أعطى مؤرخ أرمني معاصر وهوسيبيوس أسباب هزيمة الروم، وهي الفزع
والأحوال المناخية وطبيعة الأرض.
يمكن أن يُعزى نصر اليرموك الى العقيدة
الجديدة، وما رافقها من روح جديدة، وقيادة خالد بن الوليد العبقرية، وتفاني المرأة
العربية التي منعت انهيار الجبهة مرات عديدة، ولم تكن القبيلة العربية غائبة .
وتم فتح القدس في عام 637 م. فبعد الفراغ من اليرموك، أرسل ابوعبيدة الى عمر
يطلب تعليماته، فطلب منه أن يتجه الى بيت المقدس.
فأرسل ابوعبيدة سبعة جيوش في كلٍ منها خمسة آلاف مقاتل، وذلك في شتاء العام
نفسه، وبعد حصار دام ما يقارب السنتين،
طلب بطريرك المدينة أن يحضر عمر بن الخطاب لتسلم المدينة، ويوقع على معاهدة
تسليمها. حيث كان لديهم شروط، من بينها أن
لا يسكن فيها يهود، وقد حضر عمر بن الخطاب
فعلاً لتسلم المدينة. بدون حراسة وبدون حاشية. ووقع ما عرف بالعهدة العمرية .
لم يشارك هرقل في معركة اليرموك بنفسه، ولا في
الدفاع عن القدس، ولكنه كان في شمال
الشام، في حمص، وسرعان ما غادرها مودعاً " وداعاً، لا لقاء بعده ".
ثم توجه ابوعبيدة الى شمال الشام حيث
فتح حلب وغيرها من المدن والبلدات. وتوجه
عمروبن العاص الى قيسارية، التي كانت حصينة ومليئة بالجنود، ولكن بعد حصار، لم يكن
محكماً تماماً، لأنها على البحر، حيث وصلتها مساعدات كثيرة، صالح عمروبن العاص
أهلها. وسرعان ما صالح أهل عكا وعسقلان
ونابلس وبيروت وجبلة واللاذقية. وقد كان
صلح قيسارية في رجب سنة تسع عشرة.
استغرقت حروب الشام ما
يقرب من سبع سنوات.
عمر
بن
الخطاب
تولى عمر الخلافة بعهدٍ من أبي بكر قبل
وفاته. وقد تسلم السلطة في شهر جمادي
الثانية من سنة 13 للهجرة. وفي ولايته بدأ التقويم الهجري، واستمرت
الفتوحات في العراق، وتم فتح الشام، وبدأ وتم فتح مصر. وقد أذهل إيقاع الفتح العالم في ذلك الزمان،
والمؤرخين عبر العصور. وقد كان أسرع ما
يكون في عهد عمر، " فيجب أن يكون له تأثير شخصي على الجيوش الإسلامية : في
تنظيمها وتسليحها وتدريبها وإدارتها وقيادتها"،
وكان معروفاً عن عمر اهتمامه بأدق تفاصيل الإعداد والمتابعة. وكان سؤاله المفضل للرسل القادمين من الجبهة،
صف لي أرض المكان الفلاني كأني أراها.
وقد كان عمر حازماً عادلاً، ويهتم
بمصالح الناس. وهوصاحب المقولة الشهيرة :
" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أحراراً ". وقد قالها لأحد كبار رجال الدولة، وهوعمروبن
العاص، عندما كان والياً على مصر، فضرب
ابنه مصرياً لأنه تغلب عليه في سباقٍ للخيل، فجاء إلى المدينة يشتكي، فأرسل عمر
الى الأب والابن، حيث طلب من الشاب المصري أن يضرب الابن ويضع السوط على صلعة الأب
.
لقد كان عمر يتصرف بقوة
تجاه ولاته، فقد كان يحاسبهم على ما في أيديهم، على مبدأ " من أين لك
هذا؟." ولم يُعرف عن أيٍ منهم من حقد عليه، فقد كان يعزل الوالي اوالقائد،
لأسباب تتعلق بالصالح العام، فلا يتردد أحد بالانصياع. وفي زمانه أصبح الخليفة يسمى أمير المؤمنين .
وكقائد
عام لم يكن همه البحث عن سبب لشن الحروب.
ففي زمنه هاجمت سفن حبشية سواحل الحجاز، ولم يعتبره أكثر من حادث قرصنة،
ليس للدولة الحبشية يد بها، فأرسل الى ملك الحبشة يستفسر منه، فأكد أن لا علاقة
لدولة الحبشة بما جرى .
وبالتالي لم يعمل على الانتقام.
وهكذا رجح خيار السلم، وخاصةٍ أن الحبشة صاحبة فضل على الإسلام. وبقيت العلاقات مع الحبشة جيدة، فلم تنشب أي
حرب بين الحبشة والدول الإسلامية المتعاقبة طوال أربعة عشر قرناً، علماً بأن
الحبشة واليمن تحاربتا وتبادلتا الاحتلال عدة مرات قبل الإسلام.
قُتل عمر على يد أسير فارسي طعناً. وقام قبل وفاته بتشكيل لجنة من ستة من كبار الصحابة
لينتخبوا واحداً منهم خليفة، فتم اختيار عثمان بعد منافسة شديدة مع علي. وكانت فترة حكم عمرعشر سنين .
في زمن عمر بدأت تتدفق على المدينة
أموال طائلة. فقد ورد ابوموسى الأشعري على
عمر بألف ألف. " فقال له عمر: بكم
قدمت ؟. فقال : بألف ألف. فقال عمر : هل
تدري ما تقول ؟. فقال : نعم، قدمت بمائة ألف ومائة ألف حتى عد عشر مرات. فقال عمر : إن كنت صادقاً ليأتين الراعي نصيبه
وهوباليمن ".
فتح
مصر
لم تتغير مصر كهوية جيوسياسية عبر
التاريخ كثيراً، لقد احتفظت بنفس الشكل المربع طوال تاريخها. لقد عرف العالم مصر
باسمين أحدهما مصر، والآخر
Egypt
،
وقد عُرفت بالأول لدى العرب والشعوب السامية والشرقية جميعاً. وحتى في الهند البعيدة، التي ربطتها علاقات
تجارية وثقافية مع مصر الفرعونية، ويوجد بها طائفة هندوسية تسمى مِسرا وتلفظ
أحياناً مِشرا
Misra
يُعتقد أنها منسوبة الى مصر. وقد قدم العلامة الكبير عباس محمود العقاد
تحليلاً علمياً لأسباب التسمية. فكلمة مصر
في العربية وفي لغات سامية أخرى، من بينها العبرية، تعني قطر. وقد اتصل بنوإسرائيل بمصر من أيام النبي يوسف
عليه السلام. وأطلقوا على البلاد اسم
" مصرايم ". وهواسم مثنى لمصر
التي تعني قطر
، فبالتالي تعني " قطرين "، ومن المعروف أن مصر كانت
منقسمة وتوحدت في زمن مينا، الذي سمي موحد القطرين. وربما كان الاسم في
بدايته " القطرين الموحدين " ثم
سقطت الكلمة الثانية للتسهيل، كما يقول البعض في الإنكليزية "
The
States
"
بدلاً من "
The
United
States
" للتسهيل. ولا يزال اسم مصر بالعبرية "مصرايم" وإن لُفظت
"متصرايم" أحياناً، فإنما ذلك نتيجةً لمؤثرات جرمانية على اللغة العبرية
المعاصرة من خلال لغة اليديش. أما في
اللغة العربية فقد سقطت صيغة التثنية، فأصبحت مصر.
أما التسمية الثانية فهي دارجة في
الغرب، وتشبه لفظة قبط، ويُعتقد أنها مستمدة من مدينة في الصعيد لا تزال تحمل اسم
قُفط، ربما كانت عاصمة في وقتٍ من الأوقات .
أما المصريون فقد كانوا يسمون بلادهم
" خيم " وتعني الأرض السوداء.
ومصر هبة النيل الذي يمنحها الحياة
ويشقها من جنوبها إلى شمالها لأكثر من ألف كيلومتر. وقد كانت مصر مهداً لحضارة عريقة وقديمة، تركت
آثاراً لا تزال تشكل لغزاً للباحثين. كما استمرت مدنها الكبيرة، عبر جميع العصور،
كمراكز إبداع إنساني غير منقطع. وقد حكمت
مصر إحدى وثلاثون سلالة حاكمة مصرية، تم القضاء على آخرها من قبل الفرس في القرن
الخامس قبل الميلاد.
وقد كان الرسول (ص) بعث رسالة الى
المقوقس، كما ذكرنا آنفاً، وذكرنا أن شخصية المقوقس يكتنفها الغموض. وبناءً على
تحليل العقاد فإن المقوقس هولقب وليس اسم.
وهولشخصٍ مصري، وليس يونانياً اورومانياً. وهذا أكيد لأن الرسول لم يبعث الى الولاة
الرومان اوالفرس برسائل، لأسباب قد تكون سياسية، فبعث للإمبراطور الروماني وللشاه
الفارسي، وبعث لشخصيات محلية في هذه الأقاليم.
ومن بين الاحتمالات التي وضعها العقاد نرجح أنها تحريف للقب " القومس
" وهولقب كنسي قبطي. وإذا ما قسنا
ذلك مع تحريفات أخرى ارتكبها الرواة والمؤرخون العرب ( وغير العرب ) لأسماء العلم
من شعوب أخرى، مثل " كسرى/خسرو"
اولاحقاً " لذريق/ رودريكس" او"هازن/الحسن بن الهيثم"، لما
استبعدنا أن تحرف كلمة القومس الى المقوقس.
كانت مصر في زمن الفتح الإسلامي قد عادت
للتوالى الإمبراطورية الرومانية، ولم تكن الأوضاع مستقرة فيها تماماً، فالصراع
المذهبي كان على أشده، لدرجة أن البطريق بنيامين كان متخفياً من الروم في ديرٍ صغير في الصعيد منذ ثلاث عشرة سنة، ولم
يظهر الى أن أصدر عمروبن العاص منشوراً يقول فيه لعماله :" إن الموقع الذي
يكون فيه بنيامين البطريرك الذي للنصارى القبط له العهد والأمان والسلامة من الله،
فليحضر آمناً مطمئناً، ويدبر حال بيعه وسياسة طائفته ." ويروي مؤرخٌ آخر أن
بنيامين قد أصدر أمراً بمساندة المسلمين عندما دخلوا مصر.
وكان بنيامين قد تم تنصيبه أثناء الاحتلال الفارسي.
وقد كانت مصر بلداً تعداده السكاني
عالياً منذ زمنٍ بعيد، فقد قدر بثمانية
ملايين في القرن الأول للميلاد، ومن المؤكد أن الرقم قد اصبح اعلى من ذلك بكثير في
القرن السابع، وربما كان بحدود خمسة عشر مليوناً في زمن الفتح كما يمكن ان يستدل
من خراج السنوات الأولى بعد الفتح.
وفي وقت الفتح الإسلامي ،" لم يكن
في مصر كلها من يود بقاءها في حوزة الدولة الرومانية."
فقد كان الأقباط ساخطين
على الروم، لأن كنيسة القسطنطينية حاولت أن تفرض على كنسية الإسكندرية مذهباً
مخالفاً لمعتقدها، وهوالمذهب الملكي. وقد بدأ ذلك بعد مجمع خلقيدونيا سنة 451 م ،
حيث حرم بطريرك الكنيسة المصرية وتم تعيين بطريرك ملكاني بدلاً منه، فقام المصريون
بانتخاب بطريرك آخر، فطارده الحاكم الروماني وعزله.
وقد رافق ذلك كثيرٌ من
الاضطهاد. ففي زمن الإمبراطور الروماني
فوكاس، الذي سبق هرقل قام الرومان بطرد المصريين من الوظائف الحكومية، لإلزامهم
اتباع المذهب الرسمي في الإمبراطورية. كما لم يكن الروم ( اللاتين ) راضين، كل
الرضى عن القسطنطينية، الآخذة في الابتعاد عن روما سياسياً ومذهبياً، كما لم تكن
ثقتهم كبيرة في قدرتها على التماسك .
أما اليهود فقد كانوا أيضاً ناقمين على
الدولة الرومانية التي مارست تجاههم كل أنواع الاضطهاد، سواءً أيام وثنيتها، اوبعد
تحولها الى المسيحية. وقد اتهموا بالتعاون
مع الفرس أيام الاحتلال الفارسي، وأوغروا صدر هرقل عليهم عند زيارته للقدس، فنكل
بهم تنكيلاً شديداً.
وكان سكان شرق الدلتا وسيناء ومناطق
واقعة على البحر الأحمر، وحتى في منطقة
الفيوم من أصول عربية قديمة، ويسمون البشموريين، وهؤلاء كانوا عوناً للمسلمين عند
دخولهم مصر.
كان عمروبن العاص قد تولى فتح ذلك الجزء
من بلاد الشام المتاخم لمصر، وهوفلسطين، وقد بدأ بغزة. وكان يسكن جنوب غزة قبائل
عربية متنصرة، وكانت قد عانت من الاضطهاد المذهبي للروم، فلجأوا الى معسكر
المسلمين وعاونوهم على فتحها في شباط 634م.
كما يروي احد المؤرخين ان اهل غزة خرجوا مع جيش الروم عندما فتحها
العرب، الا انهم عادوا بعد ان اطمأنوا الى الفاتحين، واسلم فريق منهم، ثم طلبوا من
عمروان يقسم ينهم الغنائم. فقسمها بينهم
بالنسبة والتناسب فأعطى الكبيرة لمن أسلم وأعطى الصغيرة لمن بقي على دينه.
وكانت أخبار الشام لا تخفى عن أهل
مصر، وبالذات غزة المجاورة، وخصوصاً أن
هناك قوات استعان بها الروم من مصر حاربت في غزة وغيرها، فنقلوا أخبار الفاتحين الجدد،
الذين يعدلون بين المسلمين والمسيحيين، فكيف يُقارَنون مع الروم الذين لا يعدلون
بين مذهبٍ ومذهب ضمن الدين الواحد. كما
وصلتهم أخبار حفظهم للعهود وتعاملاتهم المتسقة والبعيدة عن التقديرات الفردية
للقادة. هذه الأخبار جعلت من فتح مصر
أمراً ممكناً. ولم يكن العهد الفارسي
خالياً من الاضطهاد الديني، فقد ذكر مؤرخ من القرن السابع، أن الفرس شنوا حملة
تنكيل ضد المؤمنين.
وكان فتح مصر قد جاء باقتراحٍٍ من عمرو
بن العاص في كتابٍ إلى الخليفة عمر بن الخطاب، الذي وافق بعد تردد. فانطلق عمرو بأربعة آلاف مقاتلٍ في سنة 18
للهجرة، الموافق 640م عبر صحراء سيناء.
وتذكر بعض الروايات أن عمر بن الخطاب ندم على قراره، فبعث إلى عمرو أن يرجع
اذا وصله الكتاب قبل أن يصل مصر. فوافاه
الرسول في العريش، فقال عمرو إن هذه مصر لأن العريش تسمى عريش مصر، فاستمر في
طريقه.
بدأ بمدينة الفرما، وهي بوابة مصر بعد
سيناء، وتقع في مكان قريب من بور سعيد الحالية، ثم توغل في الدلتا ووصل الى بلبيس
وفتحها، ثم اتجه الى حصن بابيلون، ويقع بالقرب من القاهرة الحالية، وقد بناه الفرس
أثناء احتلالهم لمصر، وكان حصيناً جداً، فلم يستطع عمرواقتحامه فطلب مدداً من المدينة. فجاءه مددٌ من أربعة آلاف مقاتل. وكان عمروقد اتجه جنوباً في هذه الأثناء الى
الفيوم. ثم عاد منها وشدد الحصار على حصن
بابيلون الذي استسلم في النهاية، حيث انسحب الروم باتجاه الإسكندرية.
وصالح عمروالقبط على
معاهدة تنظم العلاقة بين المصريين والحكام الجدد فتحت صفحة جديدة في تاريخ مصر
والمنطقة، وقد كانت معاهدة منفصلة عن تلك التي أبرمها مع الروم.
ثم اتجه جيش المسلمين الى الإسكندرية، التي حاصرها لمدة ثلاثة
أشهر ثم دخلها عنوة، وذلك في عام 21 هجري
الموافق 642 م.
وكان فتح مصر قد تم في عهد الإمبراطور
قسطانز الذي بدأ حكمه في عام 641 م، وقام بمحاولات مستميتة لوقف الهجمات الإسلامية
ضد الدولة البيزنطية، سواء على جبهة آسيا الصغرى، اوالشمال الإفريقي.
أصبح عمروبن العاص اول والٍ على
مصر، حيث بنى مدينة الفسطاط وجعلها عاصمة،
وبنى فيها مسجداً، حمل اسمه، ولا تزال تقام فيه الصلاة الى يومنا هذا.
عثمان
بن عفان
أوصى عمر إلى
لجنة من ستة، كما ذكرنا، من الصحابة القرشيين هم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان
وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص، على أن
يختاروا واحداً منهم، وأمَّر صهيباً على الصلاة لثلاثة أيام، يتم فيها اختيار
خليفة، وفي حال تعادل الأصوات يحضر معهم عبدالله بن عمر ليدلي صوتاً مرجحاً. بعد مداولات مطولة ومشاورات مكثفة، تم اختيار عثمان .
كانت محاولة
عمر خطوة على طريق بناء نظام انتخاب مؤسسي.
ولكن هذا النظام اعتمد على نخبة النخبة للاختيار، وهذا قلما يخلومن شخصنة. وهذا ما تم فعلاً، فقد استبعد علي بخبراته
الواسعة وعلمه الغزير وشجاعته المعروفة.
لقد كان علي مرافقاً للرسول (ص) طوال حياته، بحكم قدم إسلامه وقرابته
ومصاهرته له. وكان عثمان ايضاً قريباً
للرسول وصهراً له، ولكن لم يعرف بدورٍ بارزٍ في المجهود السياسي والعسكري للدولة
الإسلامية، كتقديم مشورة اوالتكليف بمهمة في زمن الرسول وأبي بكر وعمر، ما عدا
إرساله الى قريش في الحديبية، ولكنه عُرف بورعة وكرمه وإستقامته وأسبقيته.
سار عثمان على
نهج رفيقيه أبي بكر وعمر لنحو ست سنوات، ثم بدأ بإيثار أقاربه، وتوليتهم مناصب
الدولة المختلفة. فبنوأُمية معروفون
بتماسكهم وحسهم العميق بالانتماء للقبيلة. وفي زمنه بدأت الدولة تتشكل بعد أن
اتسعت رقعتها وأخذت بالاستقرار. حيث أجرى
إصلاحات إدارية عديدة، واشتهر عنه كتابة منشورات للولايات، تتضمن توجيهات ومواعظ. كما زاد في العطاء وأقطع الأراضي للمجاهدين
وفرض مرتبات للمؤذنين وغيرهم. وفي عهده تم جمع القرآن .
ثم عين مروان
بن الحكم كاتباً له. والكاتب كان منصباً يتراوح بأهميته بين السكرتير
والوزير. ومروان بن الحكم، هوابن الحكم بن
أبي العاص، ابن عم عثمان.
كان عُمر مروان
أحدى وعشرين سنة عندما تولى عثمان الخلافة.
وقد كان نفي مع أبيه من مكة الى الطائف عام الفتح .
كما أن الحكم بن أبي
العاص طُرد ثانيةً من المدينة على يد
الرسول، ولذلك كان يطلق على مروان لقب الطريد ابن الطريد.
ولم يقتصر
الأمر على مروان، بل استبدل بمعظم الولاة آخرين من بني أمية. ولم يكن الاستياء من
المبدأ فقط، وإنما لأنهم جميعاً كانوا ممن دخل الإسلام عام الفتح، أي ممن يسمون
الطلقاء الذين عفا عنهم الرسول (ص)، ولأن بعضهم
كان تصدر عنهم إساءات، فكثرت الشكاوي عليهم. وهذا أزعج الصحابة في المدينة فراجعوا عثمان
بذلك، ولم يفعل شيئاً. فتفاقم الوضع. ويبدو هنا شيء من عنصر المؤامرة؛ فقد ادعى بعضهم أنهم تلقوا
رسائل استدعاء إلى المدينة من علي وعائشة، اللذين نفيا ذلك كليةً.
خريطة رقم 7
وكان عبدالله
بن أبي السرح والياً على مصر، وكان قد أسلم وهاجر الى المدينة ثم ارتد الى مكة،
وتكلم بما يسيء الى الإسلام، فأهدر الرسول دمه عام الفتح ولكن عثمان تشفع له.
ولم يكن سكان مصر راضين عنه، حيث كان قد قتل
رجلاً منهم، فجاؤوا الى المدينة يطالبون بتنحيته.
فوافق عثمان على ذلك، وطلب منهم أن يقترحوا شخصاً يوليه، فاقترحوا محمد بن
أبي بكر، فكتب عثمان بذلك كتاباً. فلما
كان الوفد بطريق العودة مع واليهم الجديد، إذ مر عنهم رجلٌ مسرع فأوقفوه، فوجدوا
معه رسالة موجهة الى ابن أبي السرح بتعليمات مناقضة تطلب منه قتلهم عند وصولهم،
فعادوا الى المدينة مغضبين. أنكر عثمان
علمه بالرسالة، واتجه الاتهام الى مروان.
وأخذت الأحداث
تتسارع، وانتهت بقتل عثمان. كان مقتله
مأساةً مزقت المجتمع الإسلامي وهزته من جذوره.
لوحدث هذا في الجيل الثالث اوالرابع، لكان أخف وقعاً، أما أن يحدث في جيل
الصحابة العظام الذين تكبدوا أعباء نشر الدين وتأسيس الدولة، فهذا يصعب
تبريره. كما جعل الكثير من المؤرخين
يتجنبون الخوض بالتفصيل في ما حصل، وهذا يجعل دراسة هذه المرحلة أكثر صعوبة، ويعود
ذلك الى تخوف المؤرخين من أن يسيئوا الى الصحابة الذين يجلهم كل مسلم .
لا يستطيع أحد أن يشكك في
عثمان، فقد أسلم من دون بني أُمية، الذين عادوا الدعوة، الأمر الذي يعني أنه لم
يكن إنساناً ضعيفاً، فقد تجشم مصاعب إضافية في إسلامه.
تعزى الأزمة برأيي الى سببين :
الأول
: هيمنة العقلية القبلية في أوساط
العرب. وقد حارب الإسلام القبلية، ولكنه
دعا الى صلة الرحم. وكان هذا ما وضع شخصاً
مثل مروان بن الحكم في موقعٍ مهم بهذا القدر.
بقي مروان في دائرة التأثير طوال حياته، ونجح قبل أن يموت في تأسيس سلالة
حكمت لأربعة أجيال. وكان في زمن معاوية
واليا على المدينة يتعاقب عليها مع سعيد بن العاص، يتولى هذا سنة، وهذا سنة. فيروى أنه مازح أحد أبناء المدينة عندما كان
خارج الولاية، فرد عليه : " ما أسمجك والياً ومعزولاً ".
وقد كان فعلاً سمجاً فحاشاً.
وبعد هذا بسنين، عندما أراد أهل الشام اختيار خليفة عليهم، وترددوا بينه وبين خالد
بن يزيد، لم يجد ابنه عبدالعزيز من تزكيته بعبارة أفضل من قوله : " والله لقد
شابت يداه من الكبر " .
لقد وصفه البعض على أنه فقيه، فقد روى الكثير
من الأحاديث نقلاً عن بعض الصحابة، ولكنه عُرف أيضاً بسلاطة اللسان، والأغلب أنه
مات خنقاً من قبل زوجته وجواريها.
الثاني
: غياب نظام وآلية انتخاب
للخلفاء. لم يكن للعرب موروث إداري
متراكم. وحتى الدول العربية التي ظهرت على
أطراف الجزيرة، سواءً في الشمال أوفي الجنوب، كانت قد اختفت كقوىً سياسية، مع ما
كانت قد اكتسبته من خلال الارتباط بدولتي الفرس والروم، اللتين امتلكتا نظماً
متقدمة، أوراكمته من خلال تاريخها الطويل في اليمن. وفي العموم لم يعرف العرب الانتخاب، كما لم
يعرفوا تشكيل اللجان والمجالس. وكانت
زعامة القبائل تنتقل بالوراثة، إما للابن الأكبر اوبالوصاية، ولم يعرف العرب ولاية
العهد. كما لم يكن هناك نائب للحاكم. كانت إدارة شؤون القبيلة، وحتى إدارة المدن
التي سميناها دولة القبيلة، كمصطلح أدق من دولة المدينة، مثل مكة والطائف وحتى
يثرب، لم تكن تتم ضمن تسلسل قيادي واضح.
فقد كان هناك نظام تشاوري لا يمكن تخطيه، ولكن لم يكن هناك ما يحدد من هم
الذين يتوجب التشاور معهم، وكيف تتم عملية التشاور، وهل تؤخذ القرارت بالإجماع أم
بالأكثرية، وما هي الأكثرية. لم يكن هناك
وسيلة للتخلص من حاكم تجده الأكثرية غير مناسب.
لقد كان التشاور لايعني أكثر من مساعدة الحاكم على اتخاذ القرار. كان الغائب الدائم هوالمؤسسية حيث كان العمل
يعتمد على أفراد .
لقد كان لدى
الرومان والفرس نظم وقوانين تغطي هذه الجوانب جميعاً، وأكثر من ذلك. بل كان للمغول الذين هاجموا المنطقة في القرن
الثالث عشر الميلادي كتاب وضعه جنكيز خان، ينظم مؤسسة الحكم، بل يحدد إمكانية عزل
ملك في حال خروجه عن تقاليد معينة، وقد تمسكوا بهذا الكتاب، لأجيال، حتى بعد أن
أسلموا.
لقد حدثت أزمة
كادت تتفجر عند اختيار عثمان. لقد حاول
عمر أن يضع نظاماً، يساعد على اختيار الأنسب، ويأخذ طابعاً مؤسسياً الى حدٍ ما،
ولكن كان هناك ثغرات.
لوأن عمر توفي على الفور ولم يتمكن من أن يوصي لكانت
المصيبة أعظم.
لقد تطرق
القرآن الى نظام الإرث بالتفصيل وكذلك نظام جمع الزكاة، وشجع المسلمين ان يوثقوا
العقود بينهم. ولكن القرآن لم يتطرق الى
كيفية انتقال السلطة ولمن. كما لم يتطرق الرسول الى هذا الجانب في أحاديثه. وهذا
مفهوم. فلووضع نظام في القرن السابع
الميلادي لأوجب التمسك به في القرن الواحد والعشرين، وهذا غير ممكن لتغير
الظروف. قد تكون الوسيلة الأمثل هي
الاقتراع المباشر، وهذا كان متعذراً في ذلك الزمان، في أي مكان من العالم. لقد تسبب غياب النظام في أزمةٍ أدت الى انقسام
أتباع الدين، انقساماً لا تزال آثاره باقية .
لقد أعطى
الإسلام العرب قدرات لم يكونوا يمتلكونها، كما فجر فيهم طاقات لم تكن موجوده،
وأخرج من بين صفوفهم قادة عظاماً، ما كانوا ليعرفوا خارج الجزيرة اويخلدوا في
التاريخ لولا الإسلام. ولكن هناك مقدرات
إدارية لا يمكن مراكمتها وإغناؤها إلا بمرور زمن.
ولم يكن قد مر كثير وقتٍ منذ أن كان العرب بدون دولة وبدون نظام. فالوقت كان قصيراً جداً منذ أن استكمل فتح
المرحلة الأولى، وتفرغ العرب لبناء دولتهم مستفيدين من تجارب الآخرين وباجتهادات
ذاتية.
فتح
إفريقيا
عندما انتهى
عمرو بن العاص من فتح مصر، توجه لفتح برقة وطرابلس، وأرسل الى عمر بن الخطاب أنه
على بعد تسعة أيام من إفريقية، ويستأذنه بغزوها، فرد عليه عمر بالرفض.
ولى عثمان
عبدالله بن سعد بن أبي السرح مصر، بعد عزل عمروبن العاص. وكان عثمان متردداً في غزوإفريقيا، ولكنه بناءً
على طلب من عبد الله، وبعد مشاورات أمده بجيشٍ كبير لهذه الغاية. وقد كان ذلك في عام سبعة وعشرين. وفي روايات أُخرى في ثمانية وتسعة وعشرين. وسار الجيش حيث اشتبك مع جيشٍ كبير وتغلب عليه
،وقتل قائده. ثم جرى صلح على مبلغ ضخم من
الذهب .
وفي زمن معاوية
أرسل عقبة بن نافع سنة خمسين بجيش، حيث فتح موقع القيروان وبنى مدينة بهذا
الاسم.
وفي زمن يزيد
بن معاوية، أرسل عقبة بن نافع ثانيةً حيث توغل في الأراضي المغاربية. وفي هذه الأثناء اضطربت الأوضاع السياسية
فتوقفت النشاطات العسكرية. ولم تكن الأمور
مستتبة تماماً، حيث هاجم الروم سواحل الشمال الإفريقي، كما كان هناك مقاومة عنيفة
من السكان المحليين، وخصوصاً في زمن " الكاهنة " التي أوقعت بالمسلمين
هزائم عديدة الى أن تمكنوا من هزمها وقتلها.
اكتمل فتح
الشمال الإفريقي على يد موسى بن نصير، بعد أن استتبت الأوضاع لبني مروان في
دمشق. حيث بلغ المحيط الأطلسي، ثم ما لبث
أن أرسل جيشاً لفتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد وهومن أبناء المغرب.
خلافة
علي بن ابي طالب
من الأمور غير المقبولة في الإسلام
لدرجة التحريم، أن لا يكون على الأمة حاكم، وأن لا يشارك المسلم في " بيعة
". ولذلك طلب عمر بن الخطاب، من أحد وجهاء الأنصار أن يجهز خمسين مقاتلاً،
لحماية عملية الاقتراع من جهة، وطلب منه " قتل " المرشحين الستة إذا لم
يتفقوا على مرشحٍ من بينهم خلال فترة ثلاثة أيام. ومع في هذا القرار من قسوة
واضحة، قد لا تتخطى التهديد الرمزي، فإنه يجنب الأمة فوضى، ويشجع على حسم الاختيار
بسرعة. وانطلاقاً من هذه الروح، سارع
وجهاء المدينة الى اختيار علي بن أبي طالب، رابع
خليفة للمسلمين، قبل أن يتجاوزوا الصدمة التي عصفت بهم.
ولكن هذا لم يرق للجميع، فقد تحول كل من
الزبير وطلحة اللذين بايعا علياً ومعهم عائشة الى البصرة. وجيشوا الناس للثأر لعثمان. فلما وصل الخبر الى المدينة انتقل علي، بدوره، الى الكوفة.
وكان من المعروف أن الكوفة ولاؤها لعلي، والبصرة ولاؤها للزبير. والتقى الجيشان في ضواحي البصرة، فيما عرف
بمعركة الجمل، لأن عائشة شهدت المعركة في هودج على جمل، وقد حصل اقتتال شديد حول
الجمل. ولم يتوقف القتال، إلا بعد أن عُقر الجمل ( أي قطعت أرجله ) فبرك، وقام
محمد بن ابي بكر، الذي كان يحارب مع علي،
بحمل أخته عائشة وإخراجها من ميدان المعركة.
قتل في المعركة طلحة بسهمٍ يُعتقد أن
مروان بن الحكم رماه به. كما قتل الزبير
بن العوام، وهوعائد الى المدينة متجنباً القتال.
كما قُتل أعداد كبيرة من الطرفين، وخصوصاً من أهل البصرة.
كان المحرض الأكبر على هذه المعركة
هوعبد الله بن الزبير، الذي لم يُقتل في هذه المعركة. كما كان في معسكر علي عبد الله بن سبأ، كان له
دور مشبوه.
لم يكن معروفاً من ينتقم مِن مَن لدم
عثمان. ولكن المسألة، وإن حُسمت بسرعة،
فقد جرأت طرفاً آخراً على المطالبة بالخلافة بحجة المطالبة بدم عثمان،
وهومعاوية بن أبي سفيان، والي الشام لعمر
وعثمان.
وكان ممن اتهموا بقتل عثمان محمد بن ابي
بكر، بشكلٍ لم تجمع عليه المصادر جميعاً.
وقد كان مع علي. وكان ابن زوجته
أسماء بنت عميس التي كانت زوجة جعفر بن ابي طالب ثم أبي بكر ثم علي. إن المطلع على تفاصيل الأحداث يلاحظ بكل وضوح
أن الصحابة كانوا لا يريدون للفتنة أن تستعر، وإنما دُفعوا إليها. وهذا ليس لجوءاً لنظرية المؤامرة، وإن بانت بعض
عناصرها بوضوح.
لم يرجع علي
الى المدينة بعد الانتهاء من المعركة، بل اتجه الى الكوفة حيث جعلها عاصمته.
وهكذا انتهى
دور المدينة كعاصمة سياسية لدولةٍ ناشئة،
وقفت في مواجهة أكبر دولتين بين الراين والإندوس، وأزالت واحدة منهما من الخريطة السياسية، وأدخلت الثانية في طريق الاضمحلال بعد أن فقدت
أكثر من نصف ممتلكاتها.
لقد توقفت
النشاط العسكري في سنة خمس وثلاثين، الى أن استقرت الأوضاع بعد أن أجمعت الأمة على
معاوية في سنة أربعين. بعد صراعٍ طويل تتوج في معركة صفين التي احتدمت بعد مراسلات
ووساطات كثيرة، ثم مفاوضات محكمين كحل لإيقاف القتال. ولم ينته الصراع بالاتفاق
على معاوية، بل ترك شرخاً عميقاً في جسم المجتمع الإسلامي لا تزال آثاره
باقية. فقد ظهرت ظاهرة التشيع لآل البيت،
التي أخذت طابعاً مذهبياً في العقود والقرون التالية. كما ظهرت حركة الخوارج التي بدأت برفض التفاوض
مع معاوية، ثم تطورت الى تكفير الآخرين من المسلمين وإحلال دمهم. لقد كلفت هذه الخلافات الأمة الكثير من الدماء،
لعدة قرون .
قتل علي بن ابي
طالب اغتيالاً على يد أحد الخوارج. ولم
تفقد الأمة علي بن أبي طالب عندئذٍ. بل
فقدته حين لم تستطع الاستفادة من قيادته.
روى عبدالله بن
عباس أن عمر بن الخطاب قال له يوماً : " أتعرف لماذا لا يحبذ الناس إمرتكم
" .. "لأنهم لا يريدون أن تجمعوا فضل الإمارة مع النبوة". وهذا تحليل صدق به عمر، ولكن المنطق المتضمَن
في المقولة غير مقبول. فشخصية علي بن أبي
طالب تؤهله للخلافة، ولوكان وليها بعد عمر، في ظروف أكثر استقراراً، لتغير وجه
التاريخ. ولكان بعلمه وخبراته التي
اكتسبها من ملازمته للرسول وأبي بكر وعمر قد أرسى قواعد الدولة الإسلامية تنظيماً
وإدارةً. لقد كان الرسول يقول : "
أنا مدينة العلم وعليٌ بابها ". وقد ازداد
علماً وخبرةً بعد وفاة الرسول (ص). لقد
وقف بجانب عمر كمستشار، فكان كلما أراد عمر البت في قضيةٍ ما، كان يأخذ بما يشير
عليه علي، لدرجة أن قدراته في ممارسة الإدارة السياسية تظهر في هذه الفترة أكثر من
فترة حكمه في الكوفة. حيث لم تكن
الأوضاع مستقرة، بل كانت في غاية التعقيد،
وكان علي كخليفة يعمل في جومختلفٍ تماماً، فقد كانت الكوفة غير المدينة، كما كانت
أقاليم أُخرى لا تتبع دولته. كما كان
الاقتتال الداخلي السمة السائدة، بينما توقفت الفتوحات تماماً. فقد خاض علي ثلاثة نزاعات مسلحة الأول مع حزب
الجمل، والثاني مع معاوية والثالث مع الخوارج.
لقد كان علي بن
أبي طالب خريجاً نموذجياً من مدرسة الرسول، وهذا لم يسهل الأمر عليه كثيراً، فكان
يجد صعوبة في المساومة على القضايا الأساسية.
لقد كان عادلاً، فقد تعرض لموقفٍ
غريبٍ عندما كان عائداً من صفين، إذ واجهه شخصٌ يهودي مطالباً بدرعه على أنه
له. فما كان من علي إلا أن اقترح عليه
التقاضي لدى أحد القضاة، فلما جلسا أمام القاضي كمتساويين، خاطب القاضي علي بكنيته
وخاطب خصمه باسمه الأول، فلام علي القاضي على هذه المعاملة غير المنصفة، الأمر
الذي دفع خصمه للتنازل عن القضية مذهولاً بتواضعه وأخلاقه وحبه للعدل.
ننهي حديثنا عن
علي بن أبي طالب بشهادة حق جاءت على لسان خليفة أموي بعد أكثر من نصف قرن، حيث
اشتكى إليه واليه على الكوفة، فرد عليه أن أهل الكوفة خذلوا علياً وقد كان
"إمام عدل". ولم يكن علي عادلاً
فحسب بل كان مدرسةً في القضاء، فهومعدودٌ مع قضاة الرعيل الأول.
نهاية
مرحلة
إن المتتبع
للتاريخ العربي يُفجع لما آلت إليه الأمور في مرحلة التكوين. فهذا الخلاف بين كبار
الصحابة، والذي تصاعد الى درجة الاقتتال.
دفع البعض الى اعتبار هذه الصفحة من التاريخ العربي، غير مشرفة. وهذا خطأٌ فادح. فالصحابة لم يقتتلوا لمصالح شخصية. وإنما حرصاً منهم على التمسك بالأُسس
الصحيحة. وإن تضاربت هذه الأُسس، فهي قضية
اجتهادية. ربما كان لبعض أبناء الجيل
الثاني بعض المصالح الخاصة، فلا يستطيع أحد تبرئة مروان بن الحكم، كما أن تصرفات
محمد بن أبي بكر لم تكن مقبولة، وكذلك كان طموح عبد الله بن الزبير. فهناك في
التاريخ العربي صفحات مشرفة كثيرة. حتى في
هذه الصدامات، كان هناك بعض الجوانب المضيئة.
لقد حسم المسلمون معاركهم الحاسمة مع الروم وفارس خلال أيام قليلة، بينما
استمرت صفين لأشهر. وهذا له دلالاته
الواضحة، وهوإقبال الطرفين على القتال بدافعية ضعيفة.
ولكي نجد بعض
" العزاء " فيما حصل، يجب النظر في إنجازات المرحلة، ونقيمها بحجم
إنجازاتها وليس بطولها. ثم نقارن التاريخ
العربي مع تواريخ الشعوب الأخرى، لنجد أن الصراع على الكراسي سمة بشرية، قد يكون
حدة هذا الصراع أقل ما يكون عند العرب.
ونحن في صدد المقارنة بين المدينة كعاصمة الدولة الإسلامية مع القسطنطينية
؛ نود أن نوسع المقارنة مع ثلاث عواصم ؛ المدينة ودمشق وبغداد، حيث حكم في العواصم
الثلاث أربعة أُسر خلال أكثر من ستة قرون، بينما حكم في القسطنطينية ثلاث عشر
أُسرة لمدة أحد عشر قرناً. لقد مر على
البشرية أُسرٌ حاكمة، كان الحاكم يبدأحكمه بقتل إخوته لكيلا ينافسوه على الحكم،
كما حدث أن قتل الأبناء آباءهم لأن صبر الأبناء نفد وهم ينتظرون دورهم باعتلاء
العرش، وفي الجانب المضيء ؛ روينا مثالين عن عدل عمر وعلي، واقول أن الخلفاء
الراشدين كانوا حالةً خاصة ولا يجب التغني بها أكثر من ما يجب، ولكن هناك قصصاً
مشابهةً حدثت مع خلفاء أمويين وعباسيين منهم
هشام بن عبدالملك وعمر بن عبد العزيز والمأمون.
رسخ الإسلام
مفهوم المساواة بين البشر، " لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى "،
والتقوى هي مخافة الله التي تؤدي الى الالتزام.
وغير ذلك من أحاديث، بما في ذلك تأكيد الرسول هذا المفهوم في خطبة
الوداع. كما أكد الإسلام قيمة الإنسان،
حياته وكرامته. حق الفقير في مال الغني،
الذي يتحقق من خلال نظام الزكاة. حارب
الإسلام العبودية، دون أن يحرمها، وذلك من خلال تشجيع تحريرالعبيد واعتباره وسيلة
للتقرب من الله وكسب رضاه، وفرض كثير من وسائل التكفير عن بعض الذنوب بتحرير
عبيد. وقد كان هذا نهجاً ممارَساً فعلاً ؛
فعلى سبيل المثال وجد المسلمون ، عند فتح عين التمر، وهي مدينة في غرب العراق،
عدداً من الغلمان مودعين كرهائن لدى دولة فارس، وكان هذا نظاماً متبعاً لضمان
تنفيذ اتفاق. فأخذهم المسلمون كأسرى وتم اعتبارهم عبيداً كما كان دارجاً في ذلك
الزمان. ولكن سرعان ما أصبح أبناء وأحفاد
هؤلاء، ليس فقط أحراراً، بل يتبوأون مواقع هامة في المجتمع الإسلامي ؛ فمنهم ابن
إسحق كاتب السيرة، وابن سيرين المعبر، وإخوته يحيى وأنس ومعبد، وكانوا من اهل العلم، وموسى بن نصير فاتح
المغرب، وعبد الأعلى الشاعر ومحمد بن زيد بن مرة، احد نشطاء ثورة المدينة، والربيع
حاجب المنصور المشهور وعبد الله بن ابي فروة، وكان قادة الموالي
وغيرهم.
كما أرسى
الإسلام قواعد مبنية على التسامح مع سكان أهل البلاد المفتوحة. وقد رُويت وصية واضحة عن الرسول بهذا
الخصوص.
لقد تخلص العرب
من دينٍ عقيم لا يُعنى بالجانب الأخلاقي ولا ينظم الحياة اليومية للعرب. كما وحدهم على دينٍ واحد، متكامل يُقدم حلولاً
لمشاكلهم، وقد كان هذا الدين مقنعاً وبسيطاً لدرجة أن سارع كثيرون من أبناء
الأقاليم المفتوحة الى الدخول فيه.
لقد أكد
الإسلام أهمية الزواج كمؤسسة تضمن استمرار الجنس البشري، وعلى أهمية الأسرة كوحدة
إجتماعية. كما أكد أيضاً أهمية التكافل
الاجتماعي في المجتمع .
من أهم ما حصل
عليه العرب في الجانب الأمني، هوشيوع الأمان في جزيرة العرب. وتوقف الاقتتال بين القبائل، وتوقف مسلسل الثأر
والثأر المقابل. كما توقف السلب والنهب،
وأصبح العربي أكثر اطمئناناً على مواشيه عندما تتوجه صباحاً الى مرعاها.
لقد وحد
الإسلام العرب كأُمة، للمرة الأولى في تاريخهم، وأعطاهم الفرصة في المساهمة في
الحضارة الإنسانية. كما رسخ الإسلام
احترام السلطة عند العرب، الأمر الذي مكنهم، مع ما تعلموه من الأمم الأُخرى، من
إدارة دولة مترامية الأطراف، وُضعت تحت مسئوليتهم خلال فترة وجيزة. وسعى لنبذ النزعة القبلية، وحقق بعض
النجاح.
لقد تراجعت
الأُمية في المجتمع، وأصبح يُنظر إليها كنقيصة.
وأخذ التعليم يأخذ شكلاً مؤسسياً بالتدريج. كما ازدهر الشعر الذي كان جزءاً من حياة العرب
اليومية، وبدأ يُدون، ووضعت له الأُسس، العروض.
كما ظهرت أنواعٌ أخرى من الأدب، وبدأ العرب بترجمة نتاج الأمم أخرى
الثقافي.
على الرغم من
أن العرب كانوا مقاتلين شجعاناً ومهرة، إلا أن العرب كانوا يفتقدون مهارات هامة
مثل اختراق الأسوار والعوائق الأخرى. ففي
الجاهلية تمكنت قبائل عربية من التوغل في بلاد الشام الى أعماق بعيدة دون أن
يستطيعوا دخول مدينة مسورة واحدة. كما
افتقد العرب القدرات التنظيمية واللوجستية الضرورية لخوض حروب معقدة، تتطلب استطلاع
ودعم ومعلومات وإمداد الخ..
لقد تضمن
القرآن كثيراً من القوانين التي تنظم حياة المجتمع. كما رُوي عن الرسول (ص)
الكثير من الأحاديث التي تغني الإرث القانوني للمسلمين. وقد نشأت علوم تبحث وتجتهد في مجال الفقه.
لقد تعامل
العرب مع جهلهم بالمعارف الإدارية، التي كانوا يفتقدونها تماماً، بمنتهى الواقعية،
وبعيداً، كل البعد، عن المكابرة وغطرسة
المنتصر، حيث أبقوا النظم الإدارية كما هي، لدرجة أنهم طبقوا نظامين، الروماني
والفارسي، مع ما فيهما من اختلاف. لقد
أعطى هذا الوضع الفرصة للعرب أن يتعلموا الإدارة، فعندما واجهوا تحدي ضرورة تعريب
الدواوين في زمن عبد الملك بن مروان، فعلوا ذلك بنجاح لم يُسجل معه اضطراب .
إذا ما
استثنينا الموروث الهندسي والمعماري الراقي الذي كان موجوداً في اليمن وفي البتراء
وتدمر، فإن خبرات العرب في البناء كانت بدائية.
وخلال قرن او قرنين، أصبح هناك فن معماري إسلامي له خصائصه المميزة. وقد قامت الدولة بجهدٍ معماريٍ كبير، بما في
ذلك بناء مدن لتكون مقرات للجيوش الإسلامية.
لقد كان العرب
متسامحين فيما يتعلق بالاختلاف، سواءً كان ذلك دينياً اوغير ذلك. ولكن الإسلام جاء ليؤكد هذه المفاهيم الراقية،
وقد نجح .
تطورت اللغة
العربية بإغنائها بمزيد من الاستعارات من اللغات الأخرى التي احتك العرب
بمتكلميها. كما وضعت العلوم المتعلقة بفقه
اللغة للمرة الأولى، وقد أُنجز هذا على أيدي أشخاص أفذاذ من غير العرب. ورافق ذلك زيادة عدد المتكلمين باللغة العربية.
انتشار
الإسلام واللغة العربية
لقد تعاقب على بلاد الشام أقوامٌ
عديدون، منهم من هاجر إليها واسس دولاً فيها اوعلىجزءٍ منها، وأصبح، بالتالي جزءاً من نسيجها السكاني، ومنها من ألحقها
بحكمه ضمن إمبراطورية كبيرة، وساهم بتلوين هذا النسيج بلونٍ اوأكثر.
فقد ظهرت منذ
القدم الشعوب الآرامية والسريانية والفنيقية والكنعانية والأدومية والعمونية
والمؤابية والعبرانية، كشعوب سامية استوطنت هذه الأرض وارتبطت بعلاقة قربى مع
بعضها. كما عرفت بادية الشام عدد من
الممالك والإمارات العربية منذ القرن الأول للميلاد. كما ظهرت بأطرافها الجنوبية
قبائل عربية في مراحل لاحقة. وفي زمن
الفتوحات كانت القبائل العربية تقطن في منطقة الشراة ومؤاب والبلقاء والبادية
الواقعة الى الشرق من حوران وبادية الفرات والنقب ومنطقة غزة والخليل.
وقد كان معظم
سكان المدن والقرى الزراعية من بقايا الشعوب السامية التي قطنت الشام في عهودٍ
مختلفة. وكانت هذه الشعوب لا تزال تحتفظ
بلغاتها الأصلية رغم محاولات نشر الثقافة اليونانية / الرومانية في الألف سنة
السابقة .
كما كانت تقطن
في الشام قبائل عربية عديدة، لم تتأثر بالثقافة الهيلينية. وهذا لم ينطبق على تدمر والبتراء اللتين تأثرتا
بهذه الثقافة الى درجةٍ واضحة.
لقد كانت
الحالة العامة للشام ،عند بدء الفتح الإسلامي، حالة بلاد تخلصت من الإحتلال
حديثاً، وهوالاحتلال الفارسي، وما يرتبط مع ذلك من إعادة تنظيم، وإعادة بناء،
وتحول في الخارطة الاجتماعية وما يرافق ذلك من تصفية حسابات ؛ فيُتهم البعض
بالتعامل مع الاحتلال المدحور وذاك بالتقصير في المجهود الحربي الذي ادى الى
إقصائه . وقد كان لهذا أثره على سير
عمليات الفتح.
وكان من بين
الطوائف التي عانت أكثر من غيرها، الطائفة اليهودية. فقد روت المصادر أن هرقل عند عودته الى الشام
مر في طبريا في طريقه الى القدس، حيث استقبلته الجالية اليهودية مهنئة ومقدمة له
الهدايا، فمنحهم كتاب موادعة. وبعد أن وصل
الى القدس، شكا إليه رجال الدين من أن اليهود شاركوا باضطهادهم مع الفرس، وطلبوا
منه أن ينكل بهم. فرفض، لأنه أعطاهم
عهداً. ولكنهم ضغطوا عليه ورغبوه بما
طلبوا، فوافقهم، وفعلاً نكل بهم تنكيلاً شديداً، ومنعهم من دخول القدس، وحرمها
عليهم.
أما بالنسبة
للعرب فقد كان دورهم مغيباً في الحرب الرومانية الفارسية الأخيرة، على عكس الحروب
السابقة، التي كان يتحمل العرب وزرها مثل الروم أنفسهم. وذلك لأن الحرب دارت في أماكن بعيدة مثل شرق
الأناضول وشمال العراق. ولا توجد مؤشرات
تدل على أن القبائل العربية عانت أثناء الاحتلال الفارسي، فلوحصل ذلك، لسمعنا
بنزوح واسع من الشام الى الحجاز. ومن المؤكد
أن عرباً ينتمون الى قبائل عدة، كانوا أمراء على أقاليم واقعة في جنوب بلاد الشام،
كما أن من المؤكد أن " دولة الغساسنة " لم يكن لها وجود، ولكن كان هناك
أمراء من غسان مثلما كان من كندة وغيرها.
وكانت حالة من التصالح قائمة بين القبائل العربية والدولة الرومانية لدرجة
انحياز العرب كاملاً بجانب الرومان، فقد كان هذا واضحاً في مؤتة وفي اليرموك
وغيرهما. ولكن لم تخلُ الأحداث من حالات
من التعاطف العربي مع الجيوش الإسلامية.
وكان غالبية
السكان العرب وجميع السريان ( أي جميع السكان عدا الرومان واليونان ) تدين
بالمسيحية على المذهب اليعقوبي، المونوفيزي، وكان هذا مخالفاً لمذهب بيزنطة، وكان
هذا الخلاف يظهر إلى السطح من فترةٍ لأخرى.
وكان أكثر من يعاني من هذا الوضع رجال الدين اليعاقبة.
كان الخلاف
المذهبي أشد في مصر، حيث كان، كما ذكرنا سابقاً،
البطريرك بنيامين متوارياً في الصعيد من وجه السلطات الرومانية. وقد كانت التركيبة السكانية في مصر أكثر
تجانساً. حيث لم يكن من أقليات سوى يهود
وروم ويونان يتركزون في المدن الرئيسية مثل الإسكندرية. كما كان هناك أقوام من أصول عربية قديمة تسكن
شرق الدلتا.
كان الوضع في
العراق مختلفاً، فلم يكن للعامل الديني ثقلٌ كبير، وكان العرب، إما وثنيين
اومسيحيين اوعلى ديانة فارس. كما كان
انتشارهم يمتد في المنطقة الجنوبية الغربية والمنطقة الغربية والمنطقة الشمالية
الغربية. وقد كان في العراق فرسٌ وسكانٌ أصليون، من بقايا البابليين والآشوريين والكلدان. كما كان سكان الجبال الشمالية من الأكراد. كان الجوالسياسي العام في العراق وإيران
متأثراً بالهزيمة التي تلقتها مؤخراً الدولة الفارسية مؤخراً على يد الروم،
وبالتغييرات السياسية الناجمة عن تعاقب الملوك السريع على الحكم.
كان القادة
العسكريون الرومان الموكلون بالحاميات المختلفة، قد تسلموا مواقعهم منذ سنوات
قليلة، ولا بد أنهم ممن اشتركوا في الحرب الأخيرة واكتسبوا خبرات جيدة. وقد يُفترض أنهم كانوا يعملون ضمن نظام الأجناد
themes
، الذي ابتدعه هرقل، وساعده على تحقيق نصره
على الفرس. كما أن الموظفين الإداريين، هم
أيضاً بدورهم، كانوا قد استلموا وظائفهم مؤخراً.
ولا بد أن كان لهذا الوضع تأثيرٌ على مجريات الأحداث، سلباً أم إيجاباً.
عندما ظهرت الجيوش الإسلامية في أطراف
الشام الجنوبية، من المحتمل أنها ذكرت أهل البلاد والحكام بغزوات العرب، وخصوصاً تلك القادمة من العراق،
فلم يكن عهد الملك النعمان ليس بعيداً. ولكن
لا بد أن الصورة اتضحت بسرعة، فهذا قادمٌ جاء ليبقى، ولم يكن هدفه النهب والسلب،
لأنه لم يكن هناك نهب وسلب، بل كان هناك فتح لمدن، ومعاهدات تظهر بوادر التزام غير
معهود بها. وهذا ما جعل السكان، إن لم
يرحبوا بالفاتحين الجدد، فهم ينظرون إليهم باحترام .
وبعد استتباب الوضع وتوقف العمليات
الحربية. أصبح واضحاً أن حكاماً جدداً
تولوا السلطة، يختلفون في معاملتهم عمن سبقهم من رومٍ وفرس ،
من تسامحٍ ديني وابتعاد عن الظلم وتمسك بالمعاهدات ، مع بعد عن الغطرسة
المعروفة عن الحكام السابقين.
لم يكن الدين الجديد، جديداً
تماماً. فقربه من دين البلاد واضح، كما
أنه بسيط وسهل الفهم، فبدأ بعضهم يدخل في
الإسلام.
كما بدأوا بتبني اللغة
العربية. وخلال قرن أصبحت اللغة العربية
شائعة على نطاق واسع في بلاد الشام. وأخذت
فترة مشابهة في جنوب العراق، وأطول من ذلك في وسط وشمال العراق وفي مصر. لقد حققت الثقافة العربية نجاحاً خلال قرن
أوقرنين أكثر مما حققته الثقافة اليونانية / الرومانية التي سادت خلال ما يقارب
ألف عام، وذلك دون اللجوء الى بناء مدن جديدة، اوالى تغيير أسماء المدن القائمة
الى أسماء عربية. وحيث عادت أسماء المدن
الى أُصولها السامية، أكاد أجزم أن العرب، كحكام جدد، لم يبذلوا مجهوداً لتحقيق
ذلك .
فإذا كان هناك ناتج إيجابي للحروب
والاحتلالات، فربما يكون التفاعل الثقافي بين الشعوب. وقد تفاعلت الحضارة اليونانية الهيلينية مع
الحضارات السامية، نجم عن هذا التفاعل ما أغنى الحضارة الإنسانية. وقد نبغ كثيرٌ من أبناء البلاد الأصليين بأدب
وشعر وغناء المحتل اليوناني / الروماني، ومن بين هؤلاء خلد التاريخ الشاعر ميليغر،
كمثال، الذي كان يعيش في جدارا ( أم قيس )، وقد كان من أصل سوري. ومن يرجع الى مصادر الشعر اليوناني القديم يجد قصيدة
له يختمها بقوله :
انا ميليغر
الذي سرت بجانب عرائس مينبوس
بمساعدة آلهة الشعر
فإذا كنت سورياً فما هي الغرابة
أيها الغريب إننا نقطن بلداً واحداً
هوالعالم
وشيء واحد أنبت كل البشر.
ظهور
قوة عظمى جديدة
توقفت حركة
الفتح في عهد عثمان، حيث بلغت رقعة مساحة الدولة الإسلامية أكثر من سبعة ملايين
كيلومترٍٍ مربعٍ. حيث شملت الجزيرة
العربية بكاملها وبلاد الشام ومصر من غير النوبة وليبيا وتونس والجزائر والعراق
وإيران وأفغانستان وأرمينيا وجورجيا وأذربيجان وأجزاء من الأناضول وقبرص .
تسلم القواد
العسكريون إدارة الأقاليم المفتوحة في بداية الأمر. التي بدأت تتشكل كوحدات إدارية في أوقات
مبكرة. كانت التشكيلات الإدارية خارج
الجزيرة العربية ذات طبيعة عسكرية، ومن
أول ما تشكل ما سُمي " جند الأردن " وكان مقره في طبريا. وهذا ما يفسر وجود قبور كثير من قبور الصحابة
في وادي الأردن، وخصوصاً الذين توفوا بطاعون عمواس. أما في العراق فقد تم بناء البصرة والكوفة في
زمن عمر بن الخطاب. وقد تم ذلك بناءً على تعليمات مفصلة تتعلق بالموقع وعرض
الشوارع الرئيسية والفرعية. كانت الأسس
التي تم اختيار الموقع على أساسها ؛ أنه " يصلح للعرب ما يصلح لإبلها "
و" أن لا تجعلوا ماءً بيني وبينكم ".
وقد بُنيت البصرة في سنة 14 بالقصب أولاً، في ولاية عتبة بن غزوان، ثم
باللبن والطين في ولاية أبي موسى الأشعري. وكان أول مولود في البصرة هوعبد الرحمن
بن أبي بكرة، حيث أولم أبوه على جملٍ، فأشبع أهل البصرة جميعهم.
وهذا المولود أصبح له ذكرٌ
عندما كبر، حيث ولي لعمه زياد بعض النواحي كما قاد بعض الجيوش.
وفي مصر تم
بناء الفسطاط، ليس بعيداً عن بابلون العاصمة الفارسية ومنف العاصمة
الفرعونية. وفي الشام لم يبنوا أية مدينة
طوال القرن الهجري الأول، باستثناء الرملة، التي بُنيت في العهد الأموي. ولم تسمَ
أيٌ من هذه المدن باسم خليفة. وقد أصبحت
دمشق، بعد إتمام الفتح، عاصمة الشام،
وحافظت على هذا الدور لزمنٍ طويل.
وقد كانت هذه
العواصم الأربعة هي المراكز السياسية الوحيدة خارج الجزيرة في الدولة الإسلامية
لفترةٍ طويلة. وفي بعض الأوقات تم ضم
البصرة والكوفة تحت إدارةٍ واحدة. وقد
كانت الفسطاط عاصمة مصر وجميع الأقاليم الواقعة الى الغرب والجنوب. كما كانت البصرة اوالكوفة عاصمة إقليمها وجميع
الأقاليم الواقعة الى الشرق والشمال. ولم
يأخذ المسلمون بالتشكيلات الإدارية الرومانية والفارسية، وأخذوا بكل شئ عدا
ذلك. فقد حافظوا على العملة، أي حافظوا
على العملتين الدرهم الفارسي المصنوع من الفضة، والدينار الروماني الذهبي. كما حافظوا على اللغتين في سجلات الدولة
المالية وغيرها، وهذا يعني أيضاً لغتين، غير اللغة العربية، كما يعني الاعتماد على
غير العرب في الكتابة وحفظ السجلات. حيث بقي
هذا الحال الى الى أن مضى نحوثلاثة أرباع القرن الهجري الأول، حيث تم تعريب "
الدواوين " في أيام عبد الملك بن مروان.
لقد جرت تحولات
كبيرة في ملكية الأرض، وقد جرى هذا التحول وفق المعاهدات التي تم عقدها مع أهل
المدن والأقاليم المفتوحة. وفي كل الأحوال
لم يتم طرد أحد من الأراضي الزراعية، بل بقوا فيها يفلحونها وفق ترتيب معين. وقد حافظ المسلمون على المساحات المزروعة، فلم
يسجل تراجع في المساحات المزروعة في البلاد المفتوحة. سوى ما حدث في زمن الحجاج، في جنوب العراق، حيث
حدث انبثاق في حافات النهر، فغُمرت مساحات واسعة من الأرض الزراعية. ويروى أن هذا الانبثاق جاء بعد ثورة ابن
الأشعث، الذي كان معه كثيرٌ من سكان القرى التي غُمرت، فلم يأبه الحجاج لإصلاح
الانبثاق، انتقاماً منهم. وكان انبثاقٌٌٌ
آخر حدث في أواخر العهد الفارسي، في عهد أبرويز.
وفي عهد معاوية تم تجفيف أراضٍ واسعة.
وقد تسبب هذا في فقدان مساحات
واسعة من الأرض الزراعية سهلة الري. وفي
مراحل لاحقة تم زيادة الأراضي الزراعية بحفر مزيد من القنوات والترع، إلى الشمال
في منطقة الفرات الأوسط وغيرها.
لقد تغيرت خطوط
التجارة العالمية مع التحولات الجيوسياسية التي نجمت عن الفتوحات. فقد توقفت التجارة عبر المحطات التجارية
التقليدية، الى أن أعيد رسم خطوط جديدة للتجارة الداخلية والعالمية. لقد أصبحت طرق القوافل أكثر أمناً مما كانت
عليه قبل الإسلام. فحتى طريق دقلديانوس
المار بتدمر كان يحتاج لمتعهد أمني، قبيلة تقوم بحراسته بمقابل. ولم تعد قوافل العراق المتوجهة الى الحجاز
بحاجة لمن " يجيرها "، مثلما كان يحصل لقوافل النعمان بن المنذر الذاهبة
الى عكاظ، قبل أقل من نصف قرن.
لقد كانت
الحبشة أحد اللاعبين الذين توقعت منهم بيزنطة الكثير في القرون الثلاثة
السابقة. فبسبب رابطة الدين، توقعت بيزنطة
أن تهب الحبشة لمساعدتها في حروبها مع الفرس، ولكن هذا لم يحصل نهائياً. وليس لبعد المسافة علاقة بهذا، فقد كانت الجيوش
الرومانية المحاربة على جبهة الفرات، على سبيل المثال، تكون قد قطعت مسافة اكبر من
تلك المتوقع للجيش الحبشي أن يقطعها الى أقرب جبهة. ولم يفكر المسلمون بمهاجمة الحبشة، ربما حفظوا
جميل الهجرة، ومع هذا فقد خسرت الحبشة أهميتها التجارية، على خطوط التجارة
الرومانية. كما جرت فيها تحولات جذرية
خلال القرن التالي، فقد انكمشت من الشمال وتوسعت الى الداخل الإفريقي، كما دخلها
الإسلام واليهودية.
بقيت الحرف في
المدن المفتوحة على حالها، فلم يغادر من سكانها إلا القليل، من عسكريين وبعض
السكان ذوي الأصول اليونانية الرومية، من العاملين في أجهزة الدولة
الرومانية. وهذا لم يُفقد البلاد من قواها
المنتجة، الحرفيين، النساجين والحاكة والنجارين والحدادين والخزافين وغيرهم. لم يقبل العرب على هذه المهن، وكذلك الزراعة،
في البلاد المفتوحة، لبعض الوقت.
لقد تدفقت
ثروات هائلة على مدن الحجاز، وخصوصاً المدينة، وكذلك مدن دمشق والبصرة
والكوفة. فتغيرت أنماط الاستهلاك. وزادت احتياجات العرب الى سلع ترفيه لم يكونوا
يعرفونها، فتغير مأكلهم وملبسهم وحتى نمط البناء .
لقد حدثت
تحولات هائلة في تكوين المجتمع العربي،
لقد بقي للقبيلة دورها، ولكن لم
يعد على أبنائها أن يقطنوا الأرض نفسها، فقد انتشروا في بقاع مختلفة، وحدث أن
تقابل أبناء القبيلة الواحدة في ميادين المعارك يحاربون في الجانبين، في المعارك
الداخلية. لقد انتقل آلاف من أبناء
القبائل العربية للعيش بشكل دائم في مدن الشام والعراق ومصر وفيما بعد في إيران
وغيرها. وتغيرت أنماط العلاقات فيما بينهم
وأصبحوا أكثر تهذباً وتحضراً، وأصبح يُنظر الى القادمين حديثاً من الصحراء، الأعراب،
على أنهم أجلاف. وانتشرت القراءة
والكتابة، وبدأت تظهر فروع من العلوم بدءاً بالدينية منها مثل الفقه والتفسير
والحديث. وازدهر الشعر، وقد شهد صدر
الإسلام شعراء لا يقلون عن شعراء الجاهلية.
لقد أصبحت
الأمة، أمة علم. فقد كان العرب يُسمون
الأُميين، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، مثل اليهود والمسيحيين، وهكذا سماهم
القرآن. وقد كانوا أُميين بالمعنى الدارج
للكلمة. فقد كانت الأمية متفشية الى حدٍ
كبير. ولكن بعد الإسلام اختلف الوضع. فالذي يتصفح القرآن يجد فيه آيات كثيرة تتطرق
الى القراءة والكتابة، وكأنها تعكس حال ما هوآتٍ، اكثر ما تعكس ما هوكائن في
حينه. ويكفي للمقارنة، ذكر كتاب صدر
باللغة السريانية في نهاية القرن السادس، عدد الأمم " ذوات الآداب "، أي
الأُمم المتحضرة، ولم يكن للعرب ذكرٌ في القائمة.
وقد أُعيد نسخ الكتاب نفسه بعد نحومئة سنة حيث أُضيف العرب الى القائمة،
فقد أصبحوا من "ذوي الآداب" .
وبدأت تتبلور
ثقافة عربية إسلامية، بلغت من القوة والتأثير، أنها جذبت أبناء الأقاليم المفتوحة،
الذين لم يسلموا ويتعلموا اللغة العربية فحسب، بل تعمق بعضهم وأبدع في لغة جديدة
عليهم، وهي اللغة العربية، لدرجة أن بعضهم أصبح واضع علوم النحووالعروض، وذلك في
مرحلةٍ مبكرةٍ جداً. كما أبدع آخرون في
الفقه، وقد كان أفقه أهل المدينة ومكة
والبصرة والكوفة والشام في بداية العهد الأموي من غير العرب، اوالموالي، كما كانوا
يسمون.
كان يسكن منطقة
الفرات في غرب العراق، قرب عانة، وعلى مساحة واسعة قبيلة عربية تدين بالديانة
المسيحية، هي قبيلة تغلب. وعندما فُتحت
مناطقهم رفضوا دفع الجزية، فكُتب بذلك الى عمر الذي أعفاهم من الجزية مقابل مضاعفة
الصدقة ( الضريبة التي يدفعها المسلمون ) فقبلوا.
وقد نبغ منهم الشاعر المشهور الأخطل، الذي قال في إحدى قصائده:
فلست بصائم ٍ عمري
ولست بآكلٍ لحم
الأضاحي
ولست بزاجرٍ عنساً بكوراً
الى بطحاء مكة
للنجاح
ولست بقائمٍ كالعير يدعو قبيل
الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً
وأسجد عند منبلج الصباح
ولم يؤذه أحد.
ولم يهدر دمه أحد. وكان يتردد على
الخلفاء، الذين كانوا يُغدقون عليه وعلى غيره من الشعراء الأموال مقابل قصائد
المديح، ما عدا عمر بن عبد العزيز الذي لم يأذن له أن يدخل عليه بسبب هذه القصيدة
بالذات .
لقد نشأت دولة
في " وسط العالم "، كقوة سياسية وعسكرية، بدينها وثقافتها الجديدين،
وكان على العالم أن يتعامل معها، وفي مقدمة هذا العالم بيزنطة وأوروبا من
خلفها.
بيزنطة
بعد فقدان ولاياتها الشرقية - التحول الى الثقافة اليونانية
لقد تقلصت
مساحة الدولة الرومانية بنسبة 50%. فقد
اقتصرت على غالبية الأناضول والبلقان وبعض جزر المتوسط من بينها كريت وصقلية وبعض
المدن على الساحل الشرقي في إيطاليا،
بالإضافة الى السواحل الشمالية للبحر الأسود.
لقد هُزمت الدولة الرومانية على يد العرب، في عهد واحدٍ من أفضل أباطرتها. الذي قاد، فيما بعد، تحولاً من نوعٍ آخر في دولته، ففي زمنه أخذت اللغة والثقافة اليونانيتان
تحلان محل الثقافة واللغة اللاتينية.
وطبعاً لم تكن
اللغة اليونانية مهملة تماماً قبل ذلك.
ففي زمن الوجود الروماني في بلاد الشام، كان المؤرخون المحليون يكتبون
حولياتهم، إما باللغة السريانية اوباللغة اليونانية، وقد كُتب بإحدى هاتين اللغتين كثيرٌ من كتب الأدب
والعلوم الأخرى.
وقد بدأ هذا
التحول بعد جستنيان، الذي يعتبر آخر الأباطرة الرومان، فعلى الرغم من أن لقب
إمبراطور ظل يطلق على خلفائه، فإنهم لم يسيطروا على الشطر الغربي اللاتيني، ولم يحفلوا
بذلك .
فقد أصبحوا حكاماً للشرق الهيلنستي، المتأثر
بالحضارة الهيلينية بنكهة سامية، وأصبحوا، هم وإمبراطوريتهم، يُنسبون الى بيزنطة. ولغاية أيام جستنيان كانت اللغة اللاتينية
مستخدمة كلغة بلاط ولغة رسمية في دوائر الحكومة المختلفة. وربما اقتصر ذلك على العاصمة فقط، دون عواصم
الأقاليم. وبقيت القسطنطينية مدينة
يونانية، لغةً وثقافةً.
وفي عهد أُسرة
هرقل، أصبحت اللغة اليونانية اللغة الرسمية للدولة، وأضحى من الضروري ترجمة ما
تبقى من مصطلحات لاتينية الى اللغة اليونانية.
كما اتخذ الإمبراطور الروماني لقب بازيليوس .
من المفارقة أن
يتم هذا بتسارعٍ أكبر، بعد ما هُزمت بيزنطة في الشرق، فبدلاً من أن تُدير ظهرها
للشرق أدارت ظهرها لإوروبا.