الفصل الخامس
تأسيس
الدولة
[ الكتاب من تأليف صاحب الموقع م. نديم أسعد ]
وصول
الرسول
وصل الرسول الى قباء، وهي قريةٌ خارج
المدينة يسكنها جماعة من الأنصار، وقد مكث فيها قرابة أسبوعين، حيث انضم إليه علي
بن أبي طالب قادماً من مكة، بعد أن أتم ما
عهد إليه به الرسول (ص) من رد الأمانات، ثم توجه الى المدينة تحت حراسة رجالٍ من
بني النجار، وهم أحد عشائر الأنصار وتربطهم به صلة قرابة، فهم أخوال جده عبد
المطلب. دخل الرسول الى المدينة. وكان أول الأعمال إنجازاً بناء مسجد. حيث تملك مكاناً كان مخصصاً لتجفيف وتخزين
التمور ( مربد ).
وباشر المسلمون البناء متعاونين جميعاً وعلى رأسهم
الرسول(ص). وقد أُلحق في المسجد عددٌ من
الغرف لسكن الرسول وبعض الصحابة. وكان
بعضها يتصل مباشرةً بقاعة المسجد من خلال
أبواب. وقد أخذ هذا المبنى المتواضع دوراً كبيراً في احتضان كافة النشاطات
السياسية والاجتماعية، بالإضافة الى الدينية، التي مارسها الرسول في عشر السنوات
التالية، وخلفاؤه من بعده كذلك، الذين اتخذوا المدينة عاصمةً لهم. وقد اتسع هذا
المبنى وتطور في الأربعة عشر قرناً التالية بحيث أصبح يتسع لمئات الأُلوف من المصلين والزوار. بعد أن أُعيد بناؤه وتوسعته عدة مرات في عهودٍ
مختلفة.
لقد كانت الهجرة من أهم المحطات
التاريخية في تاريخ الإسلام، لدرجة اعتبارها أساساً لبدء التقويم الإسلامي، المسمى
بالهجري، والذي بُدئ به في عهد عمر بن الخطاب.
لقد غادر الرسول (ص) مكة بدون حراسة من
أي نوع، ودخل المدينة محاطاً برجال يشهرون سيوفهم. لقد كانت المرحلة المكية، مرحلة دفاع سلبي، فلم
يؤذن للمسلمين بالقتال. وقد كان التزامهم بذلك مدعاةً للتعجب.
أما في المرحلة الجديدة، فقد كانت آية التصريح بالقتال قد تنزلت، وقد
ارتبطت بإخراج المسلمين من مكة والظلم الذي وقع عليهم " أُذِنَ لِلَّذِيْنَ يُقاتلون
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوْا، وَأَنَّ اْللهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيْرٌ ".
ثم تنزلت آيةً أُخرى، كان
التصريح فيها أكثر وضوحاً ؛ "
وَقَاْتِلُوْهُمْ حَتَىَ لَاْ تَكُوْنَ فِتْنَةٌ .."
، لقد كان التحول
جذرياً.
انتشار
الإسلام في المدينة
وقد بدأ الإسلام بالانتشار في يثرب منذ
العقبة الأولى، وغير اسمها الرسول (ص) الى طيبة واشتهرت بمدينة الرسول
أوالمدينة. واستمر بالانتشار حتى كان في
معظم عشائر الأوس والخزرج مسلمون، ما عدا بني أُمية بن زيد وخطمة ووائل
وواقف. وقد كان ذلك بسبب أبي قيس بن
الأسلت، الذي حال بينهم وبين الدخول في الإسلام .
وقد استمر هذا الحال الى ما بعد الخندق.
وقد كان الاستقبال الحاشد، الذي استقبل
به الرسول (ص) عند وصوله الى المدينة، كما وصفت كتب السير، يدل على مدى انتشار
الإسلام فيها.
أما بين اليهود، الذين يشكلون نسبة ليست قليلة من سكان
المدينة، فلم يحقق انتشار الإسلام شيئاً
يُذكر. إلا أنه كان هناك حالة إسلام عبد
الله بن سلام، الذي أسلم في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً.
كما أسلم قلة آخرون لاحقاً.
المؤاخاة
وكان من أول ما فعله الرسول (ص) على
صعيد بناء المجتمع الجديد، هوالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ونبذ العلاقات
الجاهلية. بحيث أصبح الانتماء الى العقيدة
مقدماً على الانتماء للقبيلة. ولم تتم
المؤاخاة على أساس جماعي بالمعنى العام للتآخي، بل بين رجل ٍ محددٍ من المهاجرين وآخر من الأنصار، بحيث يرث أحدهم الآخر، الى أن نزلت آية من
القرآن تمنع ذلك. وقد كان من أهم غايات
المؤاخاة هوالتخفيف على المهاجرين الذين تركوا أقاربهم في مكة، حيث أن العشيرة
كانت تعني الشيئ الكثير للعربي، وبُعده عنها يعني إضفاء إحساس بعدم الأمان. كما هدفت هذه الخطوة الى خلق حالة من التجانس
في مجتمع المدينة. وقد تركت هذه الخطوة أثرها العميق في نفوس المتآخين، بحيث بقيت
هذه العلاقة موضع تقدير لدى الكثيرين لسنواتٍ طويلة.
كتاب
الموادعة
ثم أعد الرسول (ص) ما سماه ابن هشام
كتاب الموادعة .
وهوقد ينظم العلاقات بين الفئات المختلفة في المدينة. ويشير الى الرسول (ص)، على أنه المرجع في أمورٍ
كثيرة، لكافة الفئات التي تقطن المدينة سواءً كانوا يهوداً اوعرباً، اومسلمين ام
مشركين، اومهاجرين ام أنصار، اوكانوا من الأوس ام من الخزرج.
وفيما
يلي نص الكتاب :
"
النبي عليه السلام هومرجع الناس، وما اختلفوا فيه من شيء فملاذه لله ورسوله، والله
ورسوله جار لمن بر واتقى.
المؤمنون
المهاجرون والأنصار معاً جماعة واحدةعلى من بغى منهم أوابتغى ظلماً أوإثماً
أوعدواناً اوفساداً. يدهم عليه واحدة
ولوكان ولد أحدهم. وبعضهم موالي بعض دونالناس. ذمتهم
واحدة. وسلمهم واحد. يجير عليهم ادناهم. وبعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله. وإذا اختلفوا في شيئ فمرده الى الله
ورسوله.
المهاجرون
يتعاقلون ويفدون عانيهم. وكل بطن الأوس
والخزرج يتعاقلون بينهم ويفدون عانيهم بالمعروف والقسط.
لليهود
التابعين للمؤمنين النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. ومواليهم وبطانتهم كأنفسهم في ذلك. لهم دينهم وللمسلمين دينهم الا من ظلم وأثم
وفتك فتبعة ذلك عليه وعلى أهل بيته، وعليهم النصر مع المؤمنين على من حاربهم،
ويتفقون مع المؤمنين في الحرب. وعليهم
النصح والنصيحة والبر دون إثم. ولا يخرج
أحد منهم الا بإذن محمد.
ليس
لمشرك في المدينة أن يجير مالا لقريش ولا يحول دونه على مؤمن. ومن قتل مؤمناً فعليه القود (القصاص) الا أن
يرضى ولي المقتول. ولا يقتل مؤمن مؤمناً
بكافر. ولا ينصر مؤمن كافراً على مؤمن.
يثرب
حرام جوفها على أهل هذه الصحيفة. والجار
كالنفس غير مضار ولا آثم. ولا تجار حرمة
الا باذن اهلها. وما كان بين اهل هذه
الصحيفة من حرب او اشتجار يخاف فساده فمرده الى الله والى محمد. ولا تجار قريش ولا من نصرها. وبين اهل الصحيفة النصر على من دهم يثرب. وإذا دعوا الى صلح يصالحونه ويلبسونه فعليهم أن
يفعلوا. وعلى المؤمنين أن يتقيدوا به إلا
إزاء من حاربهم في الدين. ومن خرج فهوآمن،
ومن قعد فهوآمن، إلا من ظلم و أثم. وإن
الله ورسوله جار لمن برواتقى" .
يُشكل كتاب الموادعة، وثيقة تشريعية ذات أهمية تاريخية كبيرة. ولكنها تعاني من إسناد ضعيف، وهذا ما جعل بعض
المؤرخين يتجاهلونها. حيث عوملت نشاطات
الرسول (ص) كأحاديثه، التي بدأ جهد جمعها في نهاية القرن الهجري الأول فيما عُرف
بعلم الحديث. وقد تطورت قواعد صارمة لجمع
الحديث، تضمنت ما عُرف بإلإسناد، وهوسرد أسماء الأشخاص الذين قاموا برواية الحديث
واحداً عن الآخر، حتى وصلت الى الشخص
المدون. بحيث يتوجب أن يكونوا أشخاصاً
معروفين، ولم يُعرف عنهم الكذب اوالنفاق اوضعف الذاكرة اووجود مصلحة لديه في مضمون
الحديث. كما تضمن علم الحديث دراسة مضمون
الأحاديث لتقرير صحتها. وهذه الدراسات
احتوت على تحقيقات رائعة.
وقد تعرض بعض الباحثين لهذه الوثيقة
بالتحليل، ويعود ضعفها الى كونها لم ترد في كتب الصحيح المشهورة، ووردت في سيرة
ابن هشام دون إسناد. كما وردت في كتب أخرى بأسانيد ضعيفة. وقد أدرجت في "
صحيح السيرة النبوية " على أنها يمكن الجزم في صحتها، وذلك لأن هناك ما يؤكد
الأحداث التاريخية المتضمنة في الوثيقة ؛ مثل موادعة اليهود وكتابة كتاب بين المهاجرين
والأنصار. كما أن " أسلوب الوثيقة
ينم عن اصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معقدة التركيب، ويكثر فيها
التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في زمن الرسول عليه السلام ".
كما أن الرسول اعتاد أن يكتب كتباً تنظم العلاقات بين مجموعاتٍ من
الناس، اوبينهم وبين الدولة الإسلامية، وقد تكرر هذا كثيراً في عام الوفود، كما
سنرى لاحقاً.
ومن أهم ما يُستنتج من الوثيقة، هوتبوؤ
الرسول موقع القيادة في المدينة، وتعلن الوثيقة تنظيم العلاقات بين مجموعاتها
السكانية، بحيث يُفهم من ذلك مولد " دولة ". كما يُفهم منها أيضاً أن قريشاً تُشكل "
العدو" الطبيعي لهذه الدولة. وترسخ
الوثيقة قيم المساواة والتكافل والحفاظ على العهود.
المعارضة
في المدينة
لقد أخذت المعارضة للدين الجديد والدولة
الجديدة، أشكالاً متعددة، اعتماداً على من
يمارس هذه المعارضة، ومدى معارضته لها.
اولاً
: المنافقون
عندما قدم الرسول (ص) الى المدينة كان
الإسلام قد انتشر فيها الى حدٍ بعيد. كما
أن ولاء الذين أسلموا كان عالياً جداً.
ولم يكن قد آمن جميع الأوس والخزرج.
وعلى عكس ما كان عليه الوضع في مكة، فمعارضو الدعوة وجدوا أن معارضتهم ستكلفهم
عزلةً عن أهلهم وعشيرتهم، فوجدوا أن مجاراة المسلمين بالتظاهر بالإسلام، دون أن
يكونوا راغبين ومقتنعين بالإسلام. وهكذا
ظهرت حركة النفاق، التي رافقت الحقبة المدنية من حياة الرسول من اليوم الأول الى
اليوم الأخير.
وقد تزعم المنافقين عبد الله بن
أُبي. وقد كان متزعماً على الخزرج قبل
قدوم الرسول الى المدينة. وقد كان يرى أن
الرسول (ص) قد "سلب ملكه".
وقد كان في بداية الأمر
يقف في المسجد ويدعوالناس الى الالتفاف حول الرسول، إلا أنه كان لا يضيع فرصة
لخذلان النبي إلا انتهزها. فكان له مواقف
سلبية في غزوات أُحد وبني المصطلق وتبوك، كما أساء للرسول مراراً.
وقد كان الرسول يسايره ويرفق به.
كما لم يكن الرسول (ص) يعتبر المنافقين أعداء يتوجب محاربتهم.
وقد تبع ابن أُبي أعدادٌ ليست قليلة من
أهل المدينة. فقد استطاع أن يرجع الى
المدينة بثلث الجيش يوم أحد. كما وُصف معسكره يوم تبوك، بأنه لم يكن أصغر
المعسكرين، بالمقارنة مع معسكر الرسول، الذي أُقيم استعداداً للانطلاق الى أرض
المعركة.
لقد كان النفاق أمراً نسبياً. فقد كانت درجته تختلف من شخصٍ الى آخر. كما تختلف لدى الشخص نفسه من ظرفٍ الى
آخر. وقد تشكلت حركة المنافقين بدايةً ممن
كرهوا التغيير وممن كان لهم مصلحة في بقاء النظام القديم. وقد كانت
تعتمد في تغذيتها لروح النفاق على العصبية القبلية التي لا تتقبل أن تُحكم
القبيلة من قبل شخصٍ لا ينتمي إليها.
وكذلك بالتخويف من معاداة العرب وعلى رأسهم قريش. وبالطبع لم تكن حركة منظمة، ولم يكن المنافقون
معروفين جميعاً للمسلمين. كما وأن كثيراً
منهم عادوا عن نفاقهم.
وقد ورد ذكر المنافقين في آياتٍ كثيرةٍ
من القرآن. ولم تخلُ السور المدنية،
وخصوصاً الكبيرة والمتوسطة منها، من ذكرٍ لهم .
وقد ذكر ابن هشام في سيرته أسماء عددٍ
من المنافقين الذين كانوا معروفين، ويتبين أنهم ينتمون الى جميع بطون الأوس
والخزرج. كما يذكر أسماء عدد من اليهود
الذين تظاهروا بالإسلام.
لقد ارتبط النفاق بمجتمع المدينة، ولم
يُعرف منافقون من غيرها. ولكن ظهرت فيما
بعد فئة مشابهة في تذبذبها، وهي فئة " المؤلفة قلوبهم ". وقد ظهرت عندما أصبح الإسلام واقعاً من الصعب
تجاوزه في جزيرة العرب بين زعماء القبائل.
الذين كانوا بحاجةٍ لما " يتألفهم " من عنايةٍ خاصة، معنويةٍ
ومادية.
ثانياً
: اليهود في المدينة
لقد تكون المجتمع اليهودي في المدينة من
عدة قبائل. كانت كل قبيلة تسكن في حيٍ
منفصلٍ يحيط به سور. وكانوا يعملون
بالزراعة والتجارة. فكانت مزارعهم تقع في
الأراضي المحيطة بمساكنهم. حيث كانوا
يزرعون النخيل بشكلٍ أساسي. كما كان في كل
حيٍ من أحيائهم سوقٌ عامر يؤمه الأعراب من
القبائل المحيطة بالمدينة.
ومن المتفق عليه أن اليهود سكنوا
المدينة قبل الأوس والخزرج. وأن المدينة
(أي يثرب) كانت مسكونة من قبلهم. ويذكر
الإخباريون العرب أنها كانت مسكونةً من قبل "العماليق". وهذه تسمية كان يطلقها العرب على سكان الجزيرة
العربية القدماء، الذين لا يستطيعون نسبتهم الى قبيلةٍ من القبائل المعروفة
لديهم. كما كان أمراً متفقاً عليه أن
اليهود ليسوا عرباً. أي أنهم يتبعون
الديانة اليهودية وينحدرون من نسل بني إسرائيل.
هذا، على الرغم من أن طباعهم كانت تشابه طباع العرب من حولهم الى حدٍ
بعيد. مما يرجح إمكانية أن يكونوا من
القبائل العربية التي تحولت الى اليهودية.
فقد حدث تحول الى اليهودية في اليمن، كما أن بعض القبائل العربية عرفت
اليهودية، حسب بعض المصادر. فكما ذكرنا في
فصلٍ سابق أن اليهودية انتشرت في بني نمير وبني كنانة وفي كندة .
ولم تكن المدينة المعقل الوحيد لليهود
في المنطقة، فقد كان هناك فدك وخيبر، وعلى
عكس المدينة، لم يكن يجاورهما فيهما أحد من العرب.
كانت علاقات اليهود بالأوس والخزرج،
علاقات تحالف، تربط بعض قبائلهم ببعض قبائل الأوس والخزرج، وقد كانت هذه التحالفات
ضرورة يمليها واقع العداء المستفحل فيما بين الأوس والخزرج.
وقد اشتهر من بين قبائل اليهود
بنوالنضير وبنوثعلبة وبنوقينقاع وقريظة وبنو زريق. وقد بدأت العلاقة بين المسلمين
واليهود بعقد اتفاق، يُقر اليهود بموجبه للرسول (ص) بقيادة المدينة، وينظم العلاقة بينهم. ولكن سرعان ما تزعزعت الثقة بينهم عندما اتخذوا
موقفاً سلبياً من الدعوة، وساندوا المنافقين من الأوس والخزرج، وأرهقوا الرسول
بكثرة أسئلتهم ومجادلاتهم، ولم ينفذوا
الاتفاق القاضي بنصرة المسلمين عند تعرضهم للهجوم، كما توجوا عداءهم بمحالفة أعداء
المسلمين يوم الأحزاب. وقد تضمنت آيات
قرآنية كثيرة ذكرأ لمواقف اليهود وأسئلتهم الكثيرة التي وجهوها للرسول (ص).
ثالثاً
: المشركون في المدينة
وكما ذكرنا في مكانٍ سابق أن انتشار
الإسلام في المدينة لم يشمل بطون الأوس والخزرج جميعها. فقد بقيت ثلاثة من بطون الأوس على شركها، وهي
المسماة أوس الله. وذلك تحت تأثير أبي
عامر بن صيفي، الذي كان يسمي نفسه " الراهب "، والذي كان قد ابتعد عن
دين الجاهلية، وتوقف عن عبادة الأصنام، واقترب من الديانات السماوية، بصورةٍ
اوبإُخرى. وكان من المتوقع أن تكون نبوة
محمد ( ص ) استجابةٍ طبيعيةٍ لرغبةٍ داخليةٍ في نفس أبي عامر وأمثاله من العرب
" المتنورين "، الذين رفضوا دين العرب بالفطرة، فيتلقونها بالتأييد والدعم. ولكنه قابل الدعوة بالرفض والعداء، لدرجة أن لا
أحد من أقاربه دخل في الإسلام.
وقد ذكر ابن هشام أن أبا عامر أتى
الرسول ( ص ) وقال له : "ما هذا الدين الذي جئت به.؟" فقال : " جئت بالحنيفية، دين إبراهيم
". فقال أبوعامر: "أنا
عليها". فقال الرسول ( ص ): "إنك لست عليها". فقال :" بلى، إنك أدخلت عليها ما ليس منها
". فرد الرسول ( ص ) :" ما فعلت، ولكن جئت بها بيضاء
نقية ".
ولا تعطي كتب السير، وخصوصاً سيرة ابن هشام،
أهميةً كبيرةً لهذه المعارضة، كما لا تذكر أبا عامر كثيراً.
كما لا يوجد آيات قرآنية تطرقت لذكرهم.
ويُفهم من هذا أنها كانت معارضةً خاملة.
وخصوصاً أن أبا عامر ومجموعة من شباب الأوس، يقدرون بخمسة عشر اوبخمسين شاباً، هاجروا الى
مكة، حيث ظهروا في معركة أُحد، ضمن جيش
قريش.وقد كان أبوعامر يعد قريش أنه " لولقي قومه، لم يختلف عليه اثنان
"، أي لانضموا إليه جميعاً. فنادى :
" يا معشر الأوس أنا أبوعامر ".
فردوا عليه : " فلا أنعم الله عليك يا فاسق ". فقاتلهم قتالاً شديداً. وبقي في مكة حتى فُتحت، فذهب الى الطائف، ولما
فُتحت هاجر الى الشام .
أما البطون الثلاث من الأوس التي امتنعت
عن الإسلام في السنوات الأولى، فلا بد أنهم تحولوا الى الإسلام ما بين مؤمنٍ
ومتظاهرٍ بالإيمان في السنوات القليلة التالية.
إن الذي يستعرض القوى المعادية للإسلام
في المدينة نفسها، ناهيك عن عداء قريش والقبائل العربية الأخرى، لا يملك إلا أن
يتملكه الإعجاب بحجم الإنجازات التي تحققت على كل الصعد في عشر السنوات التالية،
على الرغم من هذه القوى الموجودة في عاصمة الدعوة. الأمر الذي يُعزى لقيادة النبي الفذة، والعقيدة
التي بثت في صحابته روحاً جديدة، ومعدن الرجال والنساء الذين تحملوا عبء الرسالة.
النشاط
العسكري
بعد الاستقرار في المدينة ؛ وبناء
المسجد الذي هوبمثابة دار الحكومة، وتنظيم المجتمع المحلي بعلاقات تسمح بالتعامل
مع قريش والعالم الخارجي، العدوالسياسي والعسكري والفكري. ولم تُبنَ عداوة قريش على أنها وقفت في وجه
الدعوة لمدة ثلاث عشرة سنة، ولا لاضطهادها للمسلمين طوال هذه المدة ونجاحها برد
بعضهم عن معتقدهم الجديد، ولا لمصادرتها لممتلكات بعض المهاجرين في مكة، ليس لهذه
الأسباب فقط وإنما لاستمرار العداء والتآمر على المسلمين. حيث ثبت تأليبهم للقبائل على المسلمين، كما كان
هناك إشارات تثبت وجود اتصال مع بعض المنافقين واليهود في المدينة، هذا بالإضافة
الى مصادرة أملاك المهاجرين في مكة. لقد
تمكن الرسول (ص) من الاستفادة من موقع المدينة لضرب قريش في اقتصادها. لقد كان خط القوافل القادم من الشام الى مكة
يمر في المدينة. ولكن، على ما يبدو، أن
قريشاً غيرت مسار قوافلها منذ اليوم الأول لوصول الرسول الى المدينة. فأصبحت القوافل تسلك طريقاً ساحلياً. حيث كان الاحتكاك الأول. وذلك عندما أرسل الرسول (ص) سريةً بقيادة عمه
حمزة بن عبد المطلب الى ساحل البحر للقاء قافلة بقيادة ابي جهل في ربيع الأول سنة اثنتين،
وهي أول سرية يبعثها رسول الله (ص). حيث لم يحصل قتال، لأن أحد شيوخ قبائل المنطقة
حجز بينهم، وكان حليفاً للطرفين .
وهنا يظهر أن الرسول استطاع وبسرعة أن
يبني شبكة علاقات تجعله يرصد، بدقة، حركة
قوافل قريش، وأن يكون شيخ القبيلة التي كان من المفترض أن تجري المعركة على أرضها،
تربطه بالمسلمين علاقة تكافئ تلك القائمة بينه وبين قريش، بمكانتها وثقلها.
ولكن قافلة أُخرى بقيادة ابي سفيان هذه
المرة، تم رصدها، أدت الى الانتصار الأول للمسلمين على قريش. حدث ذلك في بدر، وهي واحة فيها عددٍ من الآبار
تستريح عندها القوافل، ويُعقد عندها سوق في موسمٍ معينٍ كل سنة. نجت القافلة ولكن الجيش الذي خرج لحمايتها
التقى مع جيش المسلمين في رمضان سنة اثنتين.
وقد فقدت قريش ثمانية وستين قتيلاً
من بينهم ابوجهل وحنظلة بن ابي سفيان وابوالبختري وعقبة بن ابي معيط ونوفل بن
خويلد والنضر بن الحارث ونبيه ومنبه ابنا الحجاج
وآخرون من زعامة قريش، ومن الذين كانوا يؤذون الرسول (ص) والمسلمين في
مكة. كما وقع في الأسر 66 شخصاً. أُطلق سراح معظمهم مقابل مبلغ من المال، وأطلق
البعض لعدم قدرتهم على الفداء بدون مقابل، وقدم البعض خدمة للمجتمع الإسلامي
بتعليم عدد من الأطفال في المدينة القراءة والكتابة .
لقد صُعقت قريش من الهزيمة، ومن فقدها لزعامتها،
فصممت على الانتقام. وكانت خسارة المسلمين
22 شهيداً .
ثم كانت أُحد التي كانت جيشاً مقابل
جيش. حيث حشدت قريش ثلاثة آلاف مقاتل من
ابنائها ومن حلفائها من كنانة وغيرها
وزحفت نحوالمدينة للانتقام لقتلى بدر.
وذلك في شوال سنة ثلاث.
وأُحد جبل خارج المدينة، عسكر عنده جيش
قريش، وخرج إليهم الرسول (ص) بجيشٍ تعداده الف مقاتل، عاد منهم الثلث مع عبد الله
بن أبي. وكانت معركة تُجمع المصادر
الإسلامية المعاصرة على أنها كانت هزيمة للمسلمين. فقد فقدوا سبعين شهيداً، مقابل 22 قتيلاً من
قريش وحلفائها .
ولم يؤخذ أسرى من الطرفين
.
لقد أعدت قريش جيداً لهذه المعركة،
فحشدت كل قدراتها البشرية، واستفادت من تحالفاتها في محيط مكة، فشارك معها كنانة
وغيرهم ممن يسكن المنطقة الواقعة حول مكة.
كما رصدوا للمعركة ريع القافلة التي تسببت في معركة بدر. ولا يُستبعد أن يكون انسحاب عبد الله بن أُبي،
في الطريق الى المعركة، أمراً مرتباً.
وكان نتيجته أن حارب المسلمون جيشاً اربعة اوخمسة أضعاف جيشهم.
وتعزى أسباب الهزيمة الى عدم تقيد
قوةٍ وضعها الرسول على سفح جبل أُحد، لمنع المشركين من الالتفاف حولهم. فلم تتقيد هذه القوة بذلك، بل هبطوا الى ميدان
المعركة عندما رأوا الغلبة للمسلمين في الجولة الأولى من المعركة، للمشاركة في جمع
الغنائم. وقد استفاد من هذا الفراغ خالد بن الوليد الذي كان قائد الخيالة لقريش،
حيث نجح من خلال حركة التفافية من قلب موازين الأمور، وتشتيت جيش المسلمين. وجُرح الرسول (ص)، عدة جراحات، لدرجة اعتقد البعض أنه قُتل. وكان لهذا الخبر وقعاً سلبياً على معنويات
المقاتلين. ولكن سرعان ما استطاع المسلمون
التماسك من جديد واللجوء، ومعهم الرسول
الى مرتفعٍ حجز بينهم وبين المشركين، الذين حاولوا أن يتبعوهم فمنعهم جماعة من
المسلمين. فغادروا ارض المعركة عائدين الى
مكة، بعد أن واعدوا المسلمين أن يلتقوا في العام القادم في بدر للقتال . ولكن الرسول، سرعان ما أعاد تنظيم قواته ولحق
بهم في اليوم التالي في مناورة تركت أثراً قوياً.
وكان ابوسفيان قال لجماعته اثناء العودة
: " لا محمد قتلتم، ولا الكواعب
أردفتم، شر ما صنعتم ". فبلغ ذلك
رسول الله، فخرج ليرهبهم. ومقولة ابي
سفيان تدلل على ان قريش لم تعتبر نفسها انتصرت، ولكن هدأت نفوسها بعض الشئ لقتل
هذا العدد من المسلمين. وكان من بين شهداء أُحد حمزة بن عبد المطلب وسعد بن الربيع
ومصعب بن عمير. وكان أحد مشركي المدينة قد اعترض على مرور جيش المسلمين في أرضه،
وأخذ حفنة من تراب وقال للرسول (ص) : " والله لوأعرف أنها لا تصيب غيرك لضربت
وجهك بها ". كما أنه لم يطلب مساعدة اليهود ولم يرفض مشاركتهم. فقد شارك أحدهم في المعركة ومات فيها.
وفي العام القادم ذهب المسلمون الى موعد
قريش، ولكنهم لم يأتوا.
وأعدوا العدة لمهاجمة
المدينة، حيث جمعوا أكثر من خمسة عشر ألف مقاتل
من قريش وكنانة وغطفان وأشجع وبني النضير وآخرين، فيما عرف بغزوة
الأحزاب. وذلك في شوال سنة خمس. تؤكد بعض
الروايات أن المبادرة جاءت من بني النضير، القبيلة اليهودية التي كانت تقطن
المدينة، وأجلاها الرسول عنها بعد معركة بدر.
وكانت قريش تبحث باستمرار كيف يمكن لها
التخلص من محمد (ص)، الذي بدأ يبني دولة تتهددهم بخطرٍ كبيرٍ آتٍ. فأرسلوا رسالة الى عبد الله بن أُبي وآخرين من
منافقي ومشركي ويهود المدينة، يطالبونهم بإخراج المسلمين، وإلا فإن جميع العرب
ستحاربهم، وتهزمهم وتسبي نساءهم .فبدأ عبد الله بن أُبي ببناء جبهة في المدينة
لمحاربة المسلمين. ولم يكن صعباً أن يشيع
الخبر. فانقسام مجتمع المدينة لم يكن
واضحاً، كما لم يكن نهائياً. فهناك أبناء
أُسرة واحدة ينتمي بعضهم الى احد المعسكرين بينما ينتمي آخرون الى المعسكر الآخر. كما كان بعض الأشخاص يتذبذبون بين هذا وذاك.
عرف الرسول بما يجري، فاصطحب مجموعةً من
صحابته وذهب لمقابلتهم. وتكلم معهم فعادوا
عما كانوا يخططون له.
لقد كان الرسول يتبنى سياسة ملؤها الرفق والصبرمع المنافقين، فلم يُعرف أنه عاقب
أحداً منهم. كان يقول سنرفق بهم طالما
بقوا معنا. واستمر بالصلاة على موتاهم الى
مرحلةٍ متأخرة.
كما كان الرسول يتحمل الاختلاف بالرأي
ويتعامل بصبرٍ مع أصحاب الرأي المغاير. وبعد بدر أعادت قريش المحاولة مع بني
النضير، الذين وافقوا وباشروا بتنفيذ خطة إغتيال.
ومع ما تحدثنا عنه من استحالة الحفاظ على سرية خطة كهذه في مجتمعٍ منقسمٍ
ولكنه غير مستقطب تماماً، فقد قامت سيدة
خزرجية متزوجة في بني النضير، بإبلاغ أقاربها، فجاء أحدهم وأبلغ الرسول بما تم
ترتيبه. فتراجع الرسول (ص) عن قبول دعوة
وجهها إليه بنوالنضير، وأعد جيشاً وحاصر حصون بن النضير. فطلب منهم توقيع اتفاقية عدم اعتداء، فرفضوا،
فتركهم واتجه الى بني قريظة وطلب منهم توقيع اتفاق عدم اعتداء، فوافقوا ووقعوا. فعاد إلى بني النضير، وخيرهم بين المعاهدة
والجلاء. فاختاروا الجلاء. وهكذا تم إجلاء بني النضير عن المدينة، حيث
توجهوا الى خيبر الى الشمال من المدينة .
وكانت خطة بني النضير أن دعوا الرسول
(ص) ليحاوروه، فإن اقتنعوا دخلوا في الإسلام.
وكان الرسول لا يضيع فرصة تتضمن إمكانية أن يقتنع احدٌ بدعوته، وقد كان
اكثر ما يكون حرصاً على إسلام اليهود. وقد
أمضى معهم ساعات وأياماً طويلة في حوارات
ونقاشات، مذكورٌ منها الكثير في القرآن.
وكانت الخطة تتطلب استفراد اليهود بالرسول وقتله بالخناجر.
في العام الرابع لم يجر قتال لجدبٍ أصاب
المنطقة. وفي السنة الخامسة بادر
بنوالنضير بترتيب التحالف مع قريش وغطفان وآخرين .
علم الرسول (ص) بالتحالف الذي تم عقده،
وبالخطة الموضوعة لمهاجمة المدينة. وعلى
ما يبدو فأنه علم بالحجم المحتمل للقوة المهاجمة.
وباشر بالاستعداد لمواجهتها بطريقةٍ مختلفة. فبدأ بحفر خندقٍ حول المدينة، حيث لم تكن
المدينة مسورة. فقد كانت تتكون من حصون
ومنازل متفرقة. وبدأ الجميع يعمل بحفر
الخندق في جوبارد، وحالةٍ تتسم بمزيجٍ من التفاني المطلق من جانب المؤمنين
والتخاذل الواضح من جانب المنافقين الذين كان بعضهم يشارك في حفر الخندق مع
المؤمنين جنباً الى جنب .
نجح المسلمون في إكمال حفر الخندق
بالعمق والعرض الكافيين، وإحكامه قبل وصول الجيوش المهاجمة. وتفاجؤوا من هذا التكتيك الدفاعي الجديد على
العرب. وفعلاً فقد جاء اقتراح حفر الخندق
من شخص غير عربي، وهوسلمان الفارسي.
عسكرت الجيوش في أماكن مختلفة حول
المدينة، ليس ببعيد عن الخندق. وقد نجح
بنوالنضير في أن يكسبوا بني قريظة الى جانب الأحزاب، الذين وافقوا بعد تردد، لأنهم
مرتبطون بمعاهدة مع المسلمين. وما لبث
الرسول أن علم بنقض بني قريظة للمعاهدة،
فأرسل ثلاثةً من زعماء الأنصار للتأكد مما حدث، فعادوا بعد قليل ليؤكدوا
صحة ما بلغهم. فزادهم غماً على غم.
جرت محاولات لاختراق الخندق من قبل
الأحزاب في نقاط ضعيفة، ولكنها باءت
بالفشل. كما جرى تراشق بالنبل، لم تحقق
الكثير لأيٍ من الطرفين، إلا أن أحدها أصاب سعد بن معاذ أحد زعماء الأنصار.
وبقي الوضع على هذا الحال لأكثر من
عشرين يوماً. حصار من الخارج في ظروف
مناخية قاسية. وخوف وترقب في الداخل، مع
تصميم شديد على مواجهة العدوان. لم يكن
الوضع سهلاً، فقد كانت القوة المحاصرة تعادل خمسة أضعاف القوة المدافعة، التي تتضمن
كثيراً من المنافقين، وجاء انضمام بني قريظة، وهم من أهل المدينة، ليزيد من تعقيد
الوضع. فكان المخرج الوحيد للمسلمين يكمن
في زعزعة التحالف .
كانت غطفان إحدى كبريات القبائل
العربية، وكانت تقطن نجداً الى الشرق من المدينة.
وكان يرأسها عيينة بن حصن، الذي كان يسميه الرسول " الأحمق المطاع
"، وقد ورث زعامة غطفان، دون إخوته، لأن أباه طلب من أبنائه أن يُجهزوا عليه
عندما كان على فراش الموت، فلم يقبل أحد غيره، حيث هم بقتله فعلاً ،حتى أشار إليه
أن لا يفعل ولكنه أوصى إليه بالزعامة، لأنه أطاعه. أسلم عيينة فيما بعد، ونزلت فيه آيات تتحدث عن
جفائه وجهله. وكان عيينه من المؤلفة
قلوبهم يوم فتح مكة وحنين، حيث تألفه الرسول، وقتئذٍ، بمائة بعير.
جاء أحد قادة غطفان، بمبادرة من عيينة
على ما يبدو، واقترح على الرسول (ص) أن يأخذوا
ثلث محصول المدينة من التمور مقابل انسحابهم من تحالف الأحزاب، فقال الرسول
حتى أُشاور زعماء الأنصار. عرض الأمر
عليهم، فرفضوا الفكرة. وكان صحابة الرسول
لا يرفضون له طلباً إلا إذا تأكدوا أنه يخيرهم فعلاً، وعرفوا ذلك عندما قال لهم
الرسول أنه يفعل ذلك من أجلهم. فقال له
سعد بن معاذ أن المشركين لم يكونوا يطمعون أن يأكلوا تمرةً واحدة إلا ضيافةً
اوشراءً ونحن مشركون، " أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك
وبه، نعطيهم أموالنا. . والله لا نعطيهم
إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا " فوافقهم الرسول (ص) وصرف النظر عن
الفكرة. ولكن لا بد أن يكون الخبر قد تسرب
وبلغ قريش. وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ على
زعزعة التحالف. كما بدرت من بني قريظة مؤشرات تدعوالى زعزعة الثقة في داخل
التحالف.
وفي إحدى الليالي الباردة شديدة الظلمة،
طلب الرسول (ص) من حذيفة بن اليمان أن يتسلل الى معسكر قريش ليعرفهم بما
يجري. وفعلاً ذهب حتى دخل بينهم. وبينما هوبينهم في ظلام دامس، حيث كانت رياح
شديدة وباردة تعصف، إذ صاح ابوسفيان : " يا معشر قريش إنكم ما أصبحتم بدار
مقام، لقد هلك الكراع ( الخيل ) وأخلفتنا بنوقريظة، بلغنا منهم الذي نكره، ولقينا
من هذه الريح ما ترون، والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم
قام الى جمله .."
غادر ابوسفيان دون أن
يسمع جواب رفاقه، كما روى حذيفة بعد عودته.
كما أنه، على ما يبدو، لم يتشاور
مع غطفان. وهذا لأنه، على ما يبدو، اعتبر
نفسه غير ملزم بذلك لأنهم فاوضوا منفردين .
لقد كانت غزوة الأحزاب الأكثر خطورة على
المسلمين منذ الهجرة. بعد أُحد قال الرسول
لعلي بن ابي طالب أن المشركين لن ينالوا من المسلمين اكثر مما نالوا ذلك
اليوم. وبعد الأحزاب قال للمسلمين أن
قريشاً لن تغزوهم، ولكنهم سيغزون قريش.
وهكذا كان. لقد انقلب ميزان القوى
لصالح المسلمين .
لم تنتهِ الجولة بانسحاب الأحزاب، وإنما
بتسوية الحساب مع بني قريظة. حيث وضعهم
الرسول تحت حكم سعد بن معاذ، الذي كان حليفاً لهم قبل الإسلام، وكان الرسول قد
بعثة، أثناء الحصار، للتأكد من نقضهم للاتفاق، فصُدم بموقفهم . فحكم بقتل المقاتلين وسبي الذراري ومصادرة
الأموال. ثم ما لبث سعد أن مات متأثراً
بجراحه .
الحديبية
وفي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة،
قام الرسول بنشاطٍ من نوعٍ جديد، لكسر الجمود بين المدينة ومكة. فقد أصبح واضحاً لقيادة قريش عجزها عن الحسم
العسكري، كما ثبت فشل كافة أنواع المحاولات من تآمر وحروب بالإنابة وغير ذلك. ومع هذا تستمر قريش بعدائها للمسلمين. كما أصبح واضحاً لقيادة المدينة – الرسول وصحبه
– أن العرب ينتظرون ما تؤول إليه الأمور
بين الرسول وقريش، حتى يحسموا موقفهم .
جمع الرسول ألفاً وأربعمائة من المسلمين
من المدينة وما حولها، وانطلق بهم بنية العمرة، حاملين معهم أسلحة خفيفة لا يقتصر
عليها سلاح المحارب، ومصطحبين معهم الأضحيات التي تُقدم عادةً في مثل هذه
المناسبات. فمضوا حتى وصلوا الى الحديبية،
وهو موضع قريب من مكة .
وُضعت قريش في مأزق،
فمهمتها التاريخية كانت وما تزال تسهيل وصول الحجاج والمعتمرين الى مكة،
وضمان أمنهم وطيب إقامتهم. والآن جاء
المسلمون بتظاهرةٍ ضخمة يريدون أداء العمرة.
فلومنعوهم لكانت سابقةً تُسيء
لصورة قريش، ولوسمحوا لهم، لاعتبر نصراً سياسياً للمسلمين. ومن الجدير بالذكر أن العمرة كان يمارسها المسلمون
والمشركون على حدٍ سواء.
فحاولت قريش ثنيهم بالترهيب أولاً ثم
بالتفاوض. فقد قاد خالد بن الوليد مجموعة
من الخيالة، حيث أحاطوا بمعسكر المسلمين في حركة استعراضية يراد منها ترهيب
المسلمين، الذين كانوا يلبسون ملابس الإحرام، غير المخيطة. كما جاء الى معسكر المسلمين أكثر من موفد،
لإيصال رسالة مفادها أن قريش تستعد للقتال لمنعهم من دخول مكة، ثم أرسل
الرسول (ص) موفده عثمان بن غفان، الذي
اختير بعناية، فهوابن عم زعيم قريش غير المُنازع، أبي سفيان. ومع ذلك فقد ورد خبر أنه قُتل.
خريطة
رقم 6
فاستعد الرسول للقتال، على الرغم من
التسليح الضعيف لرفاقه. فطلب البيعة على
عدم الفرار عند القتال، فأخذ المسلمون بتقديم البيعة واحداً بعد الآخر، إلا ما كان
من الجد بن قيس الذي إرتأى أن لا يبايع .
فكانت المبايعة، وهي، في
هذه الحالة، ضربٌ من ضروب التصويت، فكانت النسبة أكثر من 99%. لم ينزعج الرسول (ص) من أن برنامجه لم يحصل على إجماع. ولكن الجد بن قيس شُجب من قبل المؤرخين
المسلمين على مر العصور، لدرجة أن البعض اعتبره منافقاً، ولايزال بعض أئمة المساجد
يتعرض له لغاية يومنا هذا، ولوكان منافقاً حقاً لاستسهل المبايعة وبايع وكان أول
الفارين لوحصل قتال. وكان الجد أحد زعماء
الأنصار، فقد كان سيد بني سلمة .
ولكن سرعان ما جاء ما يُكذب مقتل عثمان
بن عفان، ثم ما لبث أن جاء موفدٌ آخر، عرف أن قريشاً تريد إنفاقاً بمجرد أن رآه
وعرفه، وهوسهيل بن عمرو، أحد زعماء قريش.
وفعلاً باشر سهيل بمفاوضة الرسول (ص) على اتفاق.
وعُقد اتفاقٌ، سُمي صلح الحديبية، وكان
ظاهره مجحفاً للمسلمين. وقد كان سهيل
مفاوضاً صعباً، حتى أنه رفض أن تُضاف عبارة " رسول الله " الى اسم محمد
عليه السلام في مقدمة الاتفاق، وإنما يُكتب " هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله .." فرفض علي بن أبي طالب شطبها، فشطبها الرسول
بيده .
وكان الاتفاق أن يعود
المسلمون هذا العام ويُسمح لهم بالاعتمار في العام التالي. كما اتفقوا على هدنة لمدة عشر سنين، بحيث يدخل
في حلف قريش من يريد ويدخل في حلف المسلمين من يريد. وكان البند الأكثر إجحافاً ينص على أنه على
المسلمين أن يردوا من جاءهم مسلماً من قريش.
استاء المسلمون من قرار العودة من غير عُمرة ومن نصوص الاتفاقية. ولكن سرعان ما تفهموا الموقف، وأثبتت مجريات
الأمور صحة رؤية الرسول، الذي أراد صلحاً بأي ثمن، يحيد قريش ولومؤقتاً. فبعد أقل من سنتين زحف الرسول (ص) الى مكة على
رأس جيش تعداده عشرة آلاف مقاتل، بالمقارنة مع الألف وأربعمائة الذين اصطحبهم في
الحديبية، ومع الألفين الذين اصطحبهم
الرسول (ص) في عمرة " القضاء " بعد الحديبية بعام، وكذلك بالمقارنة مع الثلاثة آلاف مقاتل، وهوالجيش
الأكبر الذي استطاع حشده في معركة الخندق الدفاعية.
ولم يصمد الصلح طويلاً حيث اعتدت قبيلة
بكر بن كنانة، بدعم من قريش، على قبيلة
خزاعة، وكانت بكر بن كنانة متحالفة مع
قريش وكانت خزاعة متحالفة مع المسلمين .
فتح
مكة
لقد شمل صلح الحديبية كل من تحالف مع
طرفي الصلح الأساسيين، فلما دخلت خزاعة مع المسلمين، وبنوبكر بن كنانة مع قريش،
عنى ذلك أن الاتفاق ارتبط عمره بحدوث عملية ثأر للدماء الكثيرة بين القبيلتين،
وبمعنى آخر توفر فرصة لا تفوت لثأر.
فالقبيلتان متجاورتان في المناطق المحيطة بمكة، وكانت مساكن خزاعة أقرب الى المدينة، وكانت بنوبكر بن كنانة تربطهم صلة قرابة مع
قريش. وما جمع خزاعة مع المسلمين، قبل
الصلح وبعده، هوالعداء المشترك لقريش وكنانة، وعلى الرغم من تفشي الإسلام في خزاعة،
فقد كان مسلموها وكذلك مشركوها عيوناً للرسول على تحركات الجيوش والقوافل والأفراد
في تلك القفار .
ولم يأتِ خرق الاتفاق على شكل حادثة قتل
طارئة معزولة، بحيث يمكن حلها بدفع دية يتبعه صلحٌ ، كما جرت العادة. جاء الخرق على شكل غزومنظم ومبيت من أحد بطون
بكر لأحد بطون خزاعة، بمباركة وتسليح ومشاركة من قريش. كما لم تكن الغزوة سريعة، وإنما تبعها قتال،
استمر حتى تراجع الخزاعيون الى الحرم، ولم يتوقف بنوبكر عن القتال، حيث قُتل عدد
من أبناء خزاعة.
فجاء قادة خزاعة الرسول (ص) يشكون ما
حصل لهم من قبل بكر وقريش. فعقد الرسول
العزم على غزومكة وفتحها. وفي هذه الأثناء
جاء ابوسفيان الى المدينة " ليشد العقد " أي ليقويه ولا يجعل ما حدث
يفرطه. فلم ينل ما أراد.
أمر الرسول (ص) المسلمين بالتجهز للخروج
للقتال، وقد أعلم الجميع أن وجهتهم مكة .
وخرج في العاشر من رمضان بعشرة آلاف
مقاتل، من المهاجرين والأنصار وقبائل سُليم وزينة وغيرهم .
وقد كان العباس بن عبد المطلب، قابل
الرسول (ص) في منتصف الطريق الى المدينة مهاجراً بعياله. وقد كان أسلم قبل ذلك وبقي في مكة برضى الرسول
.
انضم العباس الى الجيش،
وكان يشغله هاجس أن لا تُذل قريش بدخول جيش المسلمين إليها عُنوة. فلما كان الجيش معسكراً على مسافة ليست كبيرة
عن مكة، خرج أبوسفيان يستطلع الوضع
" فغشيته خيول رسول الله (ص)، فأخذوه أسيراً فأتى النبي (ص) وجاء عمر
وأراد قتله فمنعه العباس وأسلم ".
وفي صباح اليوم التالي انطلق أبوسفيان الى مكة، حيث أبلغ أهلها
الأمان لمن دخل البيت الحرام، اودخل بيت ابي سفيان، اوأغلق بابه دونه .
وكان هذا كفيلاً بان ينزع
فتيل المقاومة التي لم تنظم على نطاق واسع أصلاً، وذلك لمضمون الرسالة ؛ وهوالأمان
ولحامل الرسالة وهوابوسفيان، الذي يعني حمله وتبليغه للرسالة موقفاً. حدث قتالٌ
قليلٌ على جبهة المقاتل المحترف خالد بن الوليد، حيث كان عكرمة بن ابي جهل قد شكل
قوةً من المقاتلين، حيث فروا بعد مواجهةٍ سريعة.
دخل الرسول مكة على رأس جيشٍ من عشرة
آلاف مقاتل يؤمنون برسالته، بعد أن كان غادرها بصحبة ثلاثة أشخاص، أحدهم مشرك.
باشر الرسول بتكسير الأصنام، ثم طلب من
مؤذنه بلال الحبشي، الذي عُذب في مكة قبل الهجرة
ليدع دينه، أن يعلوالكعبة ويؤذن.
فتجمع أهل مكة فخطب بهم، سائلاً " ماذا تظنون أني فاعلٌ بكم ؟."
فقالوا " أخٌ كريم وابن أخٍ كريم "
فقال " إذهبوا فأنتم الطلقاء " .
وأصبح
هذا التعبير – الطلقاء- يطلق على مسلمي يوم الفتح من المكيين وعلى أبنائهم،
لضرورات سياسية في العقود التالية. وكان
قد طلب إعدام بعض الذين أساؤوا للإسلام والمسلمين وقاموا بأعمال تتسم بالغدر،
فظفروا بالبعض وهرب البعض وعفا الرسول (ص) عن البعض الآخر .
ثم تأهب المسلمون لقتال قبيلة هوازن،
التي بلغهم أنها تستعد لقتالهم. وغادروا
مكة في شوال، وقد أصبح جيشهم يعد اثني عشر ألف مقاتل، حيث انضم إليهم ألفان من أهل
مكة.
انتصر المسلمون في معركة حنين على
هوازن، ثم ذهبوا لحصار الطائف، وعجزوا عن فتحها،
ففك الرسول (ص) عنها الحصار، وعاد الى مكة ثم الى المدينة. إلا أن أهل الطائف ما لبثوا أن أرسلوا وفداً
ليدخلوا في الإسلام في شهر رمضان من العام التاسع للهجرة. فدخلوا الإسلام بعد
مفاوضة طويلة بينهم وبين الرسول على قضايا تتعلق بالعقيدة، فلم يعطهم منها الرسول
(ص) شيئاً، منها ترك الصلاة وتأجيل هدم صنمهم الأكبر، ولكنه كتب لهم كتاباً نورد
منه : " إن عضاة ( شجر حرجي ) وج وصيده لا يعضد ( يُقطع ) " وقد ذكر ابن
هشام أن وج موقع بالطائف
بينما ذكر البلاذري أنها اسم الطائف القديم
. و
عاد الرسول الى المدينة بعد حسم الصراع
مع عدوالإسلام الأول، قريش، ليس بكسرها عسكرياً ولكن بكسبها عقائدياً، حيث دخلوا
في الإسلام جميعهم، على الرغم من وجود الفئة المسماة " المؤلفة قلوبهم
"، وهم ممن دخل الإسلام من غير اقتناعٍ كامل. وإذا اعتبر بعض المكيين أنهم هُزموا، فربما
تكون هزيمتهم أيمن وأنفع هزيمة في التاريخ، فبالإضافة الى الهداية الى دينٍ قويم،
أصبح القرشي يحتل موقعاً أكثر تميزاً بين العرب والمسلمين. وأصبح ابن ابي سفيان خامس خليفة، وغدا كثيرٌ من
" الطلقاء "، قادة جيوش وولاة وساهموا في صنع تاريخ جهدوا على أن لا
يكون.
عام
الوفود
لقد كانت معظم القبائل العربية تنتظر
حسم الموقف بين المسلمين وقريش، حتى يقرروا موقفهم. فلما تم فتح مكة وإسلام أهلها، بدأت القبائل
بإرسال وفود لإعلان إسلامها. وقد وفد عددٌ
كبيرٌ من الوفود، من نجد وحضرموت وعُمان ومن خارج الجزيرة ؛ من العراق ومن
الشام. وتذكر كتب السير عدداً كبيراً من
الوفود، الذين جاءوا فرادى وجماعات، وكتب الرسول لبعضهم كتباً، مذكورة بنصها
الكامل.
وكان من بين الوفود وفد تميم، الذين يسكنون نجد، وهم من أكبر
القبائل العربية عدداً، فجاءوا بوفدٍ كبير فيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر
وآخرين. وقد نزل فيهم قرآن ينتقد أدبهم في مناداة النبي (ص)، بطريقةٍ تخلومن اللباقة .
كما وفد عليه صلى الله عليه وسلم وفد
عبد القيس من البحرين، وكان معظم الساحل المقابل للبحرين المعاصرة تسمى البحرين،
وكان الوفد برئاسة الجارود بن عمرو، وقد كان مسيحياً فأسلم، وأسلم معه قومه بعد
عودته .
وجاء وفد بني حنيفة الذين يسكنون
اليمامة، وفيهم مسيلمة، الذي تركوه خارج المدينة في رحالهم. فأسلموا، ولما رجعوا ارتد مسيلمة وادعى أن
النبي أشركه في نبوته. وكان علي بن هوذا
الحنفي قد كتب الى الرسول (ص) يسأله أن يجعل الأمر له من بعده، على أن يسلم ويأتي
إليه فينصره. فرفض الرسول قائلاً :"
لا وكرامة، اللهم اكفنيه " فما لبث أن مات.
وقد ذكرنا علي بن هوذا على أنه المضري الوحيد الذي لبس التاج.
وقدم على رسول الله (ص) وفد طي الذين
يسكنون شمال غرب نجد، وعلى مقدمتهم زيد
الخيل، وهوأحد فرسان العرب المشهورين.
فأسلم، ولكنه مات أثناء رحلة العودة متأثراً بالحمى التى أصابته بالمدينة.
ووفد عمروبن معد يكرب في جماعة من بني
زبيد وأسلم . وكان عمرومن فرسان العرب،
وهوصاحب الصمصامة، السيف المشهور. ولكنه
ارتد بعد وفاة الرسول.
وقدم الأشعث بن قيس في وفد من كنده،
وكندة تسكن حضرموت. وكانوا أصهاراً لملوك
حمير، كما ظهرت لهم دولة في الشمال تطرقنا لها في مكان آخر من هذا الكتاب. وكان الوفد قد أسلم قبل مقابلة رسول الله،
فأنكر عليهم لبس الحرير فشقوها ورموها.
وجاء وفد الأزد، وهم سكان عُمان، بقيادة
صرد بن عبد الله وأسلموا .
وجاء الحارث بن عبد كلال ونُعيم بن عبد
كلال مبعوثين من أمراء حمير في اليمن يخبرون الرسول بإسلامهم. فكتب لهم الرسول كتاباً هنأهم على إسلامهم
وأورد بشيءٍ من التفصيل أحكام الزكاة وبعض الوصايا الأخرى من بينها " ومن كان
على يهوديته اونصرانيته فلا يُرد عنها " وأخبرهم أنه مرسلٌ معاذ بن جبل
وآخرين ليفقهوهم في الدين ويجمعوا الزكاة .
وبعث فروة بن عمرو الجذامي بإسلامه مع
هدية. وجذام تسكن الى الشرق من خليج
العقبة على تخوم الشام. وكان فروة عامل
الروم على بادية معان. وجذام من القبائل
العربية بالشام. فلما علمت السلطات
الرومانية بإسلامه، اعتقلوه وقتلوه "على ماء لهم يقال له عَفراء
بفلسطين"، وهوينبوع ماء معدني بالقرب من الطفيلة في جنوب الأردن، يُسمى
عِفرا، باللهجة المحلية. وقد كانت في
ولاية فلسطين الثانية ضمن التقسيمات الإدارية الرومية في القرن السابع
الميلادي. وقد كان هذا من الأعمال الرومية
العدائية المبكرة تجاه الإسلام والمسلمين.
كما وفد جذامي آخر وأسلم وهورفاعة بن زيد.
ولم يكن وفدا جذام الوحيدين من خارج
الجزيرة، وإنما وفد أيضاً على الرسول تميم بن أوس الداري وأخوه نعيم وهما من منطقة
الخليل في فلسطين، وأسلما .
وقد بقي الوفد في المدينة الى ما بعد وفاة الرسول (ص) وقد أقطعه
الرسول (ص) قريتين في منطقة الخليل هما حبرى وعينون بناءً على طلبه، وجدد أبوبكر
العهد لتميم وأخيه.
وجاء وفد همدان من اليمن، وأسلموا وكتب
لهم الرسول كتاباً.
وقد كانت هذه الكتب جميعاً متسقة من
ناحية المضمون، ولم يكن جاه اونفوذ اوقوة تجعل الرسول (ص) يغير الخطوط العامة لهذه
الكتب / العقود ولا من مضامينها .
كما ذكر ابن سعد في
الطبقات وفود قبائل بهراء وبكر وتغلب وشيبان.
كما وفدت وفود أخرى
كثيرة على المدينة في ذلك العام، وكذلك قبله وبعده.
موقف
الروم
هناك مؤشرات كثيرة تدل على أن الروم لم
تلههم مشاغلهم في حروب الفرس عن مراقبة الدين الجديد. فبيزنطة كانت تولي اهتماماً كبيراً لقضايا أقل
أهمية، فتبعث السفراء الى حلفائها بتوجيهات واستفسارات. كما أن وفدي نجران اللذين زارا الرسول في مكة
والمدينة لهما دلالات هامة. كما أن سياق
حديث الهجرة الى الحبشة يدل على أنه كان هناك معارضة لمد يد العون للدين الجديد،
وقد كانت علاقة الحبشة مع القسطنطينية علاقة تحالف رغم وجود خلاف مذهبي، وذكرت
الروايات أن اقتتالاً داخلياً حدث في الحبشة أثناء وجود المسلمين فيها، حيث طلب
منهم النجاشي أن يخرجوا من العاصمة الى مكانٍ يمكنهم من الهرب الى بلادهم في حال
هزيمته، مما يدل انهم كانوا مستهدفين من قبل الطرف الآخر، فربما كان الرومان قد
حرضوا معارضين ضد النجاشي لغاية عدم تقديم الحماية للمسلمين .
لقد وردت كثير من المؤشرات التي تدل على
أن تجاراً عرباً من الشام كانوا عيوناً للروم على المسلمين. وأن بعضهم حمل رسائل تحريض لبعض أهل
المدينة. وهذا ما يفسر ازدياد حدة النفاق
أثناء التحضير لمعركة تبوك.
إرسال
الرسل
لقد أنهينا الفصل السابق، وقد انتصرت
جيوش الروم على جيوش الفرس، حيث أسرع هرقل راجعاً الى القسطنطينية، التي تغيب عنها
ست سنوات. لقد فقد ملوك كثيرون في التاريخ
عروشهم لأنهم غابوا كثيراً عن عواصمهم، وقد حصل هذا مع حكام جلبوا النصر والمجد
لأممهم. فلا غرابة أن يعود هرقل مسرعاً
الى القسطنطينية. لا غرابة أن يفعل ذلك
دون زيارة القدس، للصلاة ولإعادة الصليب المقدس الى كنيستها العظمى، كنيسة
القيامة. لقد كانت القدس مدمرة، وخصوصاً
الكنائس. فتوجه هرقل، الذي انتهت الحرب
وهوفي طريقه زاحفاً من نينوى الى المدائن، غرباً الى حمص. حيث أخذ استراحة محارب، وبدأ بتنظيم عملية إعادة البناء في المناطق
المستعادة، كما أعاد التقسيمات الإدارية لهذه الأقاليم وفقاً للنظام الجديد، الجند
themes
،الذي تم إقراره بينما كانت هذه الأقاليم
واقعة تحت الاحتلال الفارسي، وعين حكاماً لها.
وكذلك جلس يستقبل المهنئين من أبناء الإقليم، الذين يقدمون مع تهنئتهم،
الولاء والطاعة .
كان من بين المهنئين، ابوسفيان، صخر بن
حرب بن أمية، الزعيم القرشي المناوئ للدين الجديد.
وقطعاً لم يكن ابوسفيان العربي الوحيد
بين جموع المهنئين. فقد كان هناك حشد من
أمراء الغساسنة وغيرهم من العرب، الذين تولى بعضٌ منهم حكم بعض المناطق في جنوب
الشام بعد عودتها الى الروم. وكان أيضاً
دحية بن خليفة الكلبي، حاملاً كتاباً من رسول الله محمد (ص) الى هرقل يعرض عليه الدين الجديد.
في العام 628 للميلاد الموافق للعام
السادس للهجرة، كان الروم والفرس قد فرغوا
من حربهما وعقدا صلحاً وضع حداً لآخر الحروب بينهما. كما كان الرسول (ص) قد أبرم صلح الحديبية مع
قريش، أعطى أتباع الدين الجديد الفرصة للتفرغ لبناء دولتهم. من أول الأمور التي قرر الرسول عملها بعد الصلح
هوإيفاد رسل الى ملوك العالم من حوله بكتبه إليهم. وقد أُرسل كتاب هرقل مع دحية بن خليفة الكلبي،
الذي أوفده عليه حاكم بصرى في حمص .
لقد شكك بعض الستشرقين بأن الرسول قد
أرسل كتباً الى ملوك المنطقة يدعوهم الى الإسلام.
ويحتجون على ذلك بأن هذا لم يذكر في القرآن، كما أن الإسلام بُعث للعرب
فقط. ولم تذكر أيٌ من المصادر الرومانية
والفارسية والقبطية والسريانية شيئاً عن هذه السفارات. وقد اقتصر ذكرها على المصادر العربية
الإسلامية، حيث وردت في كتب السير والتاريخ جميعها، كما أن المصادر الإسلامية مضطربة
ومتناقضة. ومع هذا فإن هناك من الدلائل
والمؤشرات التي تؤكد إرسال الرسل الى الملوك.
فمثلاً الرسالة التي أُرسلت الى المقوقس لقيت تجاوباً منه، حيث تروي بعض
الروايات أنه استلم الرسالة وقرأها، واحتفظ بها في صندوق من العاج، ويقال أنها لا
تزال موجودة وأن مجلة الهلال نشرت صورتها في عام 1904.
كما أن المقوقس أهدى
للرسول جاريتين، جيء بهما الى المدينة، وهما حقيقتان. كما أن بعض الرسل قُتلوا
اوتعرضوا للأذى
،
وآخرين رجعوا بإسلام من أُرسلوا إليهم، وهذه جميعاً حقائق مثبته.
لم يكن مستغرباً من الملوك الذين كانوا
يدينون بالمسيحية، أن يقفوا موقفاً إيجابياً من هذه الدعوة. وهم أبناء عقيدة تدعولعبادة الإله نفسه، وأن
الله، من أجل هداية البشر، يرسل أنبياء
يختارهم من بين البشر. والعهد القديم يذكر
عدداً منهم أُرسلوا في أوقاتٍ مختلفة. فلم
لا يكون محمدٌ واحداً منهم؟. كان بعضهم
يُبدي استغراباً لكوْن النبي ليس من الشام، التي هي الموطن التقليدي لأكثر
الأنبياء. لهذا لم تكن ردود فعلهم سلبية،
وليس من الضرورة أن يكونوا آمنوا.
اختلفت المصادر على مكان التقاء دحية بهرقل،
فالبعض ذكر أنه التقاه في القدس، ولكنا نرجح أن اللقاء كان في حمص، لأنه لم يذهب
الى القدس إلا في سنة 629م، وذلك لإعادة الصليب الى كنيسة القيامة بعد ترميمها.
وتروي بعض المصادر أن هرقل لم يستخف
بالكتاب، بل سأل حاشيته إذا ما كان هناك من ينتمي الى قبيلة مُرسل الرسالة
للاستفسار عنه، ومعرفة تفاصيل أكثر.
وهناك رواية سردها ابن عباس عن أبي
سفيان مفادها أنه خرج بتجارةٍ كبيرة، بعد
صلح الحديبية، انطلق بها الى غزة. وقد
كانت غزة أقرب ميناء على المتوسط للجزيرة العربية. ويذكر أبوسفيان أنه تم إستدعاؤه بناءً على طلب
هرقل، عندما طلب احداً من الحجاز. حيث أخذ
الى القدس اوحمص. وهذا أمرٌ مستبعد،
فلوطلبوا شخصاً من الحجاز وبحثوا حتى
وصلوا غزة، لاستغرق ذلك أشهراً، اولوجدوا آخرين غيره قبله. فعلى الأغلب أن أبا سفيان كان في حمص
نفسها. وعلى الأغلب أنه ذهب مهنئاً لهرقل
بعد أن باع تجارته في غزة، وقبل أن تجهز حمولة الإياب. فقد سبق وزار ملك الفرس في إحدى الروايات، فهذا
يتماشى مع حبه للزعامة، وخاصة وأنه كان هناك ما يستوجب الزيارة وهوالتهنئة
بالنصر. تم استدعاء أبي سفيان لمقابلة
هرقل، وجرى بينهما الحوار التالي : "
قال هرقل: كيف نسبه فيكم ؟ فرد أبوسفيان:
من أوسطنا نسباً. قال هرقل : هل كان من
أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهويتشبه به ؟
قال أبوسفيان : لا. قال هرقل : هل
كان له مُلك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه ؟ فرد أبوسفيان : لا. فسأل هرقل: أخبرني عن
أتباعه من هم؟ فقال ابوسفيان : الأحداث والضعفاء والمساكين، أما الأشراف وذووالأنساب
فلا. قال هرقل: أخبرني عمن صحبه، أيحبه
ويكرمه أم يقليه ويفارقه ؟ فقال
أبوسفيان: ما صحبه أحد ففارقه. قال: أخبرني عن الحرب بينكم وبينه. قال ابوسفيان: سجال، يدال علينا وندال عليه.
فقال هرقل : هل يغدر ؟ فرد ابوسفيان: لا.
ثم أضاف محاولاً الإساءة إلى الرسول :
نحن في مدة، ولا نأمن غدره فيها".
إلا أن هرقل لم يلتفت الى ما قال آخراً، وأعاد ما سمعه من أبي سفيان :
" زعمت أنه من أوسطكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي، لا يأخذه إلا من أوسط
قومه. وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم
الأحداث والضعفاء والمساكين، وكذلك أتباع
الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمن يتبعه
أيحبه ويكرمه، أم يقليه ويفارقه. فزعمت
إنه قل من يصحبه ويفارقه. وكذلك حلاوة
الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك
عن الحرب بينكم وبينه، فزعمت أنها سجال، وكذلك هي حرب الأنبياء، ولهم تكون
العاقبة. وسألتك هل يغدر، فزعمت أنه لا
يغدر. فلئن كنت صدَقْتني ليغلبن على ما
تحت قدمي ".
لقد أجرى هرقل بأسئلته اختبارأً يدل عن فطنة وبعد نظر شديدين،
وهذا ما هومعروف عن هرقل.
هناك رواية عن اقتناع هرقل
بالرسالة. فالرواية المروية عن أبي سفيان
أعلاه انتهت بعبارة منسوبة الى هرقل ،وهي "ولوددت أني عنده فأغسل قدميه
".هذه العبارة لوصدرت عن هرقل أمام حاشيته، لتبعتها شهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله، ولركب فرسه وانطلق الى المدينة، وهي أقرب من
القسطنطينية. ولوأن هرقل قالها لما ترجمها
المترجم لأبي سفيان. ولوأن هرقل تملك هذه
الرغبة في أن يغسل قدمي النبي (ص) لعنى ذلك أنه اقتنع اقتناعاً كاملاً وأشهره،
فلماذا وقف بجيوشه بعد سنوات قليلة في وجه الدعوة، وكذلك كان هذا الموقف كان
مفترضاً أن يتبعه ردٌ إيجابيٌ على الرسالة .وهذا ما لم يحصل. وفي رواية أخرى عن الزهري أخذها عن أسقف "
قد أدرك ذلك الزمان " أن هرقل استشار
أحد الضالعين في العلم، وأنه أشار عليه بأن محمداً نبيٌ. وعلى ما يبدوأن هذا حصل في القسطنطينية بعد
عودته اليها، فجمع كبار الدولة وقال لهم
أنه يعتقد بنبوة محمد، فأنكروا عليه ما
قاله، وأبدوا غضباً شديداً. مما جعله يتراجع مدعياً أنه إنما قال ذلك
اختباراً لهم.
وهذا أيضاً أمرٌ
مستبعدٌ. فلوآمن هرقل لوجد أسلوباً أفضل
للتعامل مع ما آمن به. ولكن أغلب الظن أن
هرقل لم ينكر الإمكانية، فترك دحية يعود سالماً، وقد عاد سالماً فعلاً. ومما يؤكد هذا الاحتمال أن أحد أمراء الغساسنة
الذين وصلتهم الرسائل استأذن هرقل في غزوالمدينة، ولم يأذن له .
وعلى
كل الأحوال لم تكن الاستجابة، عملياً إيجابية.
فمثلما فشلت روما لثلاثة قرون من فهم الدين الذي جاء به السيد المسيح ( ع
)، رفضت بيزنطة بصلفها الدين الجديد .
عاد دحية الى المدينة سالماً، ولكنه كان
قد تعرض للسلب من قبل أفراد من قبيلة جذام
أثناء عودته بتجارةٍ من الشام، مما
حدا بالرسول الى إرسال سرية لقتالهم بقيادة زيد بن حارثة. ولم يكن حظ
دحية أسوأ من شجاع بن وهب الأسدي الذي أرسل الى المنذر بن الحارث بن أبي
شمر الغساني ملك تخوم الشام ،
. وقد ذكر إبن هشام أيضاً
ان شجاع بن وهب أرسل الى جبلة بن الأيهم الغساني
وهوملك ( ! ) آخر من الغساسنة، وهوحقيقةً لم يكن إلا والياً
للروم. وتروي روايات أخرى أنه أسلم. وهذا
مستبعدٌ تماماً، ولم يكن قد أسلم وقتئذٍ، بدليل دوره في معركة اليرموك، فلوكان قد
أسلم لما حارب ضد المسلمين فيها. أما شجاع
بن وهب فمذكورٌ في الكتب المعجمية التي تُدرج أسماء الصحابة على الحروف الهجائية
مع نبذة عن سيرتهم، مثل " الإصابة في تمييز الصحابة " و" الاستيعاب
في معرفة الأصحاب " و" أسد الغابة في معرفة الصحابة " وهوالأمر الذي يعني أنه شخصية فعلية، كان قد
هاجر الى الحبشة، واستشهد في حروب الردة في اليمامة
عاش ودفع حياته من أجل
إيصال الكلمة، كلمة الحق، لقد كان شخصاً حقيقياً عاش حدثاً حقيقياً، وهوإرسال
الرسل الى الملوك، الذي ذكره عددٌ كبيرٌ من الرواه، وأنكره بعض المستشرقين أمثال
كايتاني.
لقد احتجوا على ذلك أن الرسول ما كان ليجرؤ على ذلك. وهذا غير صحيح، فقد كان يتحلى بشجاعةٍ نادرة،
كما كان يعي حركة التاريخ وعياً عميقاً، ويمتلك حساً قوياً بالتوقيت، تشهد على ذلك سيرته، مثل قبوله بصلح الحديبية وتوقيت إرسال الرسل. كما يحتج المشككون بعدم عموم رسالة النبي محمد
(ص) الى كافة البشر. وهذا أيضاً خطأ. ففي سورة المائدة " آيةً ذات مغزى خاص
" : " يَاْ أَيُّهَاْ الْرَّسُوْلُ بَلِّغْ مَاْ أَُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَاْلَتَهُ وَاْللهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ الْنَّاسِ " وهذه السورة نزلت
بعد صلح الحديبية.
وهي تتضمن أمراً بتوسيع دائرة الدعوة، بعد العشيرة والأقارب، ثم
أم القرى وما حولها، دون حصرها في أمةٍ أوشعبٍ محدد.
أما بالنسبة الى نص الرسائل، فمعظمها
شديد الاختصار ومباشر ولا يحتوي على أدنى محاولات الإقناع، ولذلك يُستبعد أن تكون
صحيحة. فما كان الرسول ليبعث شخصاً لمسافة
تزيد عن الف وخمسمائة كيلومتر ليوصل رسالةً من سطرٍ ونصف. كما لم يكن هذا أسلوبه عليه السلام. ولكن هناك نصاً رُوي أنه أُرسل الى النجاشي،
يبدومقبولاً : " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي
الأصحم ملك الحبشة. سلام أنت. فإني أحمد
إليك الله، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم
البتول الطيبة الحصينة. فحملت بعيسى فخلقه
الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه.
وإني أدعوك إلى الله وحد لا شريك له والموالاة على طاعته. وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول
الله. وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً
ونفراً معه من المسلمين فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك الى
الله. فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي،
والسلام على من اتبع الهدى ".
ومضمون النص يتناسب وأسلوب الرسول بالدعوة المعروف بالرفق والكلمة
الطيبة. إلا أن هذه الرسالة تثير تساؤلاً
آخر، حول توقيت إرسالها ؛ هل أرسلت مع جعفر حين هاجر من مكة؟ أم أنها أرسلت مع
رسول الى جعفر الذي طلب منه تسليمها الى النجاشي وهذا هوالاحتمال المقبول، وهذا الرسول هوعمروبن أمية الضمري. فقد كان المهاجرون على اتصال دائم لمعرفة ما
ينزل من قرآن وما يُفرض من عبادات. ترجح
أكثر الروايات إسلام النجاشي.
أما بالنسبة للرسول الذي أُرسل الى شاه فارس،
فعلى ما يبدوأنه أُرسل اووصل قبل الآخرين،
لأنه قابل الشاه خسروقبل أن يعزله ابنه،
أي قبل انتهاء الحرب مع بيزنطة، فالحرب انتهت بعد عزل خسرو. ولكن الثابت أن الرسل غادروا المدينة بنفس
الوقت. بينما وصلت الرسالة الى هرقل بعد
انتهاء الحرب. وهذا منطقي، فقد كان هرقل يقود المعارك بنفسه، بينما كان خسروفي عاصمته، اوفي مكانٍ خلفي، بينما يقود أحد قواده المعارك. فمن الجائز أن دحية اضطر للانتظار، فبعض
المصادر يشير الى أن مقابلة دحية لهرقل تمت في نهاية سنة ست اواول سنة سبع للهجرة.
أي سنة 628 ميلادية، وهي السنة التي انتهت فيها الحرب بين الفرس
والروم.
لقد وصل كتاب الرسول (ص) الى خسرو وهو
على ما يبدو، في حالةٍ سيئةٍ للغاية،
فجيشه يتقهقر أمام الجيش الروماني الى الشمال من العاصمة. كما كانت حالة الجيش مترهلة، فبعد ست سنوات من
القتال، وبعد حملة فاشلة في آسيا الصغرى،
لا بد وأن الحالة المعنوية كانت في الحضيض، وأن التقارير التي تصل الى خسرولم
تكن سارة. غضب خسرومن الرسالة، عندما اطلع
على مضمونها من خلال مترجم، ومزقها، ثم
أرسل الى عامله على اليمن أن يرسل الى المدينة من يعتقل النبي ويبعثه إليه الى
المدائن. ولم يؤذِ حامل الرسالة، حيث تذكر
الروايات أنه طرده، ولكنه سرعان ما استدعاه لتوجيه بعض الأسئلة، ولكن لم يعثر عليه
في المدينة.
وكان اليمن محكوماً من قبل الجيل الثاني
من الفرس الذين قدموا بناءً على طلب سيف بن ذي يزن لطرد الأحباش من البلاد. كان هؤلاء الفرس يسمون " الأبناء "
لأنهم أبناء الذين قدموا مع الحملة الفارسية.
بناءً على طلب خسروأرسل حاكم اليمن، واسمه باذان، اثنين من الفرس الى المدينة. فوصلا وقابلا الرسول، وطلبا منه أن يذهب معهما
الى خسرو، وإلا غزاهم. فقال لهما أن يعودا
في اليوم التالي. وفي اليوم التالي أبلغهم
أن خسرومات، قتله أبناؤه. فعادا مسرعين
الى اليمن. فذكرا ما سمعا للحاكم
باذان. الذي استغرب من هذا الرد، وأخذ
يستفسر منهما عن الرسول. مثل هل يحيط به
حرس الخ ..
وما لبث الخبر أن وصل الى اليمن.
وتقول بعض الروايات أن الكتاب الذي جاء بالخبر، طلب من الوالي عدم التعرض
للنبي. وعلى كل حال فقد كانت تجربةً تدعو للتساؤل بالنسبة لحكام اليمن الفرس، حيث
تذكر بعض الروايات أنهم أسلموا. وهوعلى
أقل تقدير آمن بصحة نبوة محمد (ص). وهناك
ما يؤكد صحة هذا الاعتقاد، حيث كان موقف الفرس أثناء فتح اليمن إيجابياً، كما كان لهم
موقفٌ آخر له دلالةٌ خاصة. وهوعدم
ارتدادهم عن الدين بعد وفاة الرسول، وارتداد الكثيرين في اليمن وتنبؤ العنسي، فيما
سنأتي عليه لاحقاً بتفصيل أكبر. وهذا ما
يجعل هذا الفصل من العلاقات العربية الفارسية ينتهي بنهاية مشرفة للأمتين.
كما أرسل مبعوثاً الى المقوقس، والذي
كان يشار إليه على أنه عظيم القبط، وهوشخصية يكتنفها بعض الغموض، فهوليس حاكماً، إذ أن مصر كانت تحت حكم بيزنطة
آنذاك. وقد رجح بعض الباحثين أن يكون
شخصية دينية. وقد كان رده على الرسالة،
كما تشير بعض المصادر، أنه، بعد قراءتها، احتفظ بها في صندوقٍ من العاج. وأرسل هدايا الى الرسول من بينها جاريتان
وخادم. وإحداهما ماريا، التي ولدت إبراهيم
ابن الرسول (ص)، اما الثانية فقد وهبها الرسول إلى حسان بن ثابت، فولدت له عبد
الرحمن، الذي أصبح شاعراً ايضاً.
وقد كان حامل الرسالة حاطب بن أبي بلتعة، الذي قال أنه خاطب
المقوقس قائلا ً : " كان قبلك رجلٌ –
فرعون- زعم أنه الرب الأعلى، فانتقم الله به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا
تعتبر بك، إن لك ديناً لن تدعه إلا لما هوخير منه، وهوالإسلام، وما بشارة موسى
بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك الى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة
الى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكننا نأمرك به".
كما أرسل الرسول (ص) رسائل الى بعض
الحكام العرب على أطراف الجزيرة .
لم يسجل التاريخ إرسال رسل الى الولاة
الرومانيين في الشام ومصر. فهؤلاء كانوا
في العام 628 م، وقت إرسال الرسائل، قد تبوؤا مناصبهم للتو، وذلك لأن الشام ومصر
كانتا بيد الفرس. وربما لم يكونوا قد
وصلوا أماكن عملهم في وقت إعداد الرسائل وانطلاق الرسل بها. كما لم ترسل رسائل الى ولاة فارس على هذه
الأقاليم اوعلى اليمن، فربما يكون هناك مغزىً سياسيٌ وراء ذلك. فرسالته الى الشام موجهةٌ الى أمير عربي،
ورسالته الى مصر موجهه الى شخصية مصرية وكذلك الحال بالنسبة لليمن.
الإسلام
كدين سماوي
يعتبر الدين الإسلامي الحلقة الثالثة في
الأديان السماوية الثلاث. وحقيقة الأمر أن
الإسلام، حسب المفهوم القرآني، لا يعتبر ديناً أتى به محمد (ص)، وإنما هو ديانة
عبادة الله والتسليم بأُلوهيته منذ
بدء الخليقة. فإبراهيم كان مسلماً وكذلك
أنبياء الله ورسله جميعاً ومن تبعهم. وقد
تسمى أتباع موسى عليه السلام ببني إسرائيل، وهي تسمية عرقية وليست دينية، وإسرائيل
هونبي الله يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وأبويوسف عليهم السلام. وقد عُرفوا باليهود، كما أنهم يسمون أحياناً
موسويين، اوعلى الأقل تُطلق هذه التسمية على بعض فرقهم مثل السامريين. كما تَسمى أتباع المسيح عيسى بن مريم
بالمسيحيين. ولم يسمَّ أتباع محمد
محمديين، وإنما مسلمين – وإن أُطلق تعبير
Mohammadan
على المسلمين من قبل
شعوب أُخرى دون إقرار المسلمين أنفسهم بهذه التسمية – كتعبير عن عالمية
universality
الدين الإسلامي وارتباطه بالديانات السماوية الأخرى. وبالمفهوم القرآني، ارتباط المراحل بعضها ببعض. ويواجه الإسلام إشكالية عدم الاعتراف من قبل
اليهود والمسيحيين، كما يواجه المسيحيون إشكالية عدم الاعتراف من قبل اليهود. تجد كل فريق أقرب ما يكون الى الفريق الذي لا
يعترف به، وأبعد ما يكون عن الذي يقر بوجوده كدين سماوي، ومن هنا يكون المسلمون
الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى ويقدسون التوراة والإنجيل، يُنظر إليهم كأتباع ديانة
لا تختلف عن الديانات التي كانت سائدة في الأزمنة القديمة مثل الديانة الفرعونية
اوالرومانية، وبالتالي يُعتبرون كفاراً بنظر اليهود والمسيحيين
Goyim
و
Pagans
.
لا يعرف غالبية المسيحيين في العالم،
وحتى بعض المسيحيين العرب أن المسلمين يؤمنون بولادة المسيح الإعجازية، وأن
أُمه، مريم العذراء البتول، تُعتبر حسب الموروث الإسلامي أعظم امرأة في
التاريخ. ففي حديث للرسول (ص) يصف فيه
نساء قريش على أنهن " أعظم من ركبن الإبل " ويقصد بذلك أنهن الأفضل بين
نساء العرب، ولكنه، المعروف بدقة الحديث وشموليته، أضاف " ولوأني عرفت أن
مريم بنت عمران ركبت الإبل لاستثنيتها"، فهي أعظم النساء لما تحملته وللمجهود
العظيم الذي بذلته في رعاية السيد المسيح عليه السلام. وقد وُصف عيسى بن مريم عليه السلام في القرآن
بأنه ".. وَجِيْهَاً فِيْ الْدُّنْيَاْ وَالْآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِيْنَ"
. واسمه مذكورٌ في القرآن
أكثر من اسم محمد عليهما الصلاة والسلام.
كما لا يعلم غير أصحاب الاختصاص من
اليهود المكانة المرموقة التي يحتلها موسى عليه السلام بين ألأنبياء بنظر
المسلمين، ويستغرب البعض من أن المسلمين يعتقدون أنه الوحيد بين بني البشر الذي
كلمه الله، وسمي لذلك كليم الله. ولم يكن
محمد " نبي المسلمين " كليم الله.
إن شروط الإيمان للمسلم هي الإيمان
بالله وملائكته ورسله وكتبه. ورسله جميعاً
بدون استثناء. وكتبه تعني التوراة
والإنجيل والقرآن بدون استثناء. ولكن
المسلمين أيضاً يعتقدون أن التوراة والإنجيل تم تحريفهما. كما أن الإيمان بالمسيح يقتصر على نبوته، مع
إنكار طبيعته الإلهية، التي يعتقد بها اكثر المسيحيين، التي تتناقض مع عقيدة التوحيد. وهذا يجب أن لا يُستغرب، فهوقريبٌ من بعض
العقائد المسيحية المندثرة، مثل النسطورية وغيرها. كما يقترب مع بعض الكنائس
المسيحية المعاصرة؛ مثل
Iglesia
Ni
Cristo
، والتي تعني كنيسة المسيح، وتنتشر، أساساً، في الفلبين. فعلى الرغم من أن كنيستهم تأسست في بداية القرن
العشرين، فهم قادرون على تقديم أدلة من التوراة والإنجيل تدعم عدم إيمانهم
بالتثليث وبأن المسيح كان بشراً.
كما أن وصف السيد المسيح على أنه بشرٌ لم يكن أمراً مستنكراً،
" وصادف أن قام في تلك الأيام أحد الكهنة بإرشاد، فقال: أن مريم ولدت
إنساناً. فقال له البطريرك: لانقول أنها ولدت إنساناً كما يعترف بولس بأن المسيح
هوإنسان بسيط وحسب. ولا أنها ولدت الإله كما يعترف أبولينوس. بل نقول أنها ولدت المسيح الإله
والإنسان."
كما يختلف الإسلام مع اليهودية
حول داود وسليمان عليهما السلام، فبينما يعتبرهما الإسلام نبيين، فهما بالنسبة
لليهود مَلِكان .
بينما يتفق الإسلام واليهودية على نبذ
الصور والتماثيل من دور العبادة والكتب الدينية، استقر الوضع في الكنيسة
الكاثوليكية على السماح بالصور والتماثيل، وفي الكنيسة الأُرثودوكسية على السماح
بالصور فقط ( فيما يُعرف بالإيقونات ) وذلك بعد خلاف ونقاش دام عدة قرون .
يُركز الإسلام على " الوسطية
"، وهذا مذكورٌ في القرآن "
وجعلناكم أُمةً وسطاً "، ويفسر البعض هذا الوصف على أنه وسط بين الديانة
اليهودية، التي كانت موغلة بالمادية، والديانة المسيحية التي كانت موغلة
بالروحانية، فجاء الإسلام وسطاً بين الإثنين.
وفعلاً، ينهى الإسلام عن "
الإسراف "، في كل شيئ، حتى في
العبادة، وبالتالي فإن الرهبانية ممنوعة في الإسلام، وهي موجودة في المسيحية.
حدث في مكة أن أُسري بالرسول الى بيت
المقدس، ثم عُرج به الى السماء في رحلةٍ اختلف في شرحها رجال الدين الإسلامي،
فالبعض اعتبرها رؤيا بينما اعتبر البعض الآخر أن الرسول سافر بجسمه فعلياً. على كل حال يمكن أن يفهم الحدث على أنه ربط بين
الدين الجديد مع الدينين السابقين له، بربط المقدسات بمكانٍ واحد، وهوالقدس.
ثم جاء حدثٌ آخر وهوتغيير القبلة، من
القدس الى مكة. وكانت هذه خطوة يمكن أن
يُفهم منها فك ارتباط مع الأديان السماوية القديمة، بحيث أصبح المسلمون يصلون
باتجاه الكعبة، وليس باتجاه القدس، مع بقاء المسجد الأقصى ثالث أقدس مسجد في
العالم.
إن عناصر الوحدة مع الدينين السماويين
الآخرين، وعناصر التميز عنهما تظهر في الصلاة التي يؤديها المسلمون خمس مرات كل
يوم. ففي نهاية كل ركعة يتجه المسلم
بالدعاء إلى الله تعالى قائلاً : " اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك محمداً وآل محمد كما باركت إبراهيم وآل
إبراهيم "، فالربط واضح. كما يبدأ
المسلم صلاته بقراءة الفاتحة، وهي سورة قرآنية لها مكانة خاصة ، قائلاً :
"الْحِمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَاْلَمِيْنَ، الرَّحْمَنِ الْرَّحِيْمِ،
مَالِكِ يَوْمِ الْدِّيْنِ، إِيَّاْكَ نَعْبُدُ وَإِيَاْكَ نَسْتَعِيْنُ،
اهْدِنَاْ الْصِّرَاْطَ الْمُسْتَقِيْم َ،
صِرَاْطَ الَّذِيْنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم ْ ،غَيْرِالْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ
وَلَاْ الْضَّالِّيْنَ." ويقول المفسرون
أن " الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ " هم اليهود، وأن " الْضِّاْلِّيْنَ
"هم المسيحيون، أما " اْلَّذِيْنَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " فإنهم
المؤمنون الحقيقيون من أتباع الأنبياء، الذين اتبعوهم على رسالاتهم كما جاءوا بها،
دون تحريف. وأن يوصف إنسانٌ بأنه مغضوبٌ
عليه او أنه ضال أمرٌ غير مبهج بالتأكيد ولكنه، بالسياق النسبي ، افضل من أن يوصف
بأنه كافر وغير ذلك من الصفات.
انشغال
الروم بحروبهم مع الفرس عن الدين الجديد
في السنة التي تمت فيها الهجرة أي 622
م، بدأت العمليات العسكرية بين الروم والفرس.
وكانت بلاد الشام تحت الاحتلال الفارسي.
وكان جهد كل واحدة من الدولتين
مركزاً على هزيمة الآخر. وبقي هذا الحال
لغاية عام 628 م، وهوالعام الذي عُقد فيه صُلح الحديبية. وقد يكون هذا هوالسبب الذي جعل الرسول مصمماً
على الصلح، تحسباً لتفرغ الدولتين للتعامل مع الدين الجديد، ودولته الجديدة.
ولم تذكر مصادر كتب السير أن الرسول كان
لديه معلومات عما يجري في الشام والعراق من عمليات عسكرية بين الفرس والروم. كما لم تذكر صدى نصر الروم على الفرس، وخاصة
أنه جاء استجابةً لنبوءةٍ قرآنية ( سورة الروم ).
ولا يُعقل أن العرب لم تسمع بما جرى، فقد ذكر المؤرخون أن ملك الهند أرسل
يهنئ إمبراطور الرومان على نصره، وكذلك
فعل ملوك آخرون، فالحدث كان كبيراً، ولم يكن العرب معزولين عما حولهم، فهم تجار
وأصحاب مصالح تتأثر بالنتائج. كما أن
الرسول (ص) كان يعتمد في تحركاته على المعلومات، فلا بد أنه كان يستقصي "
الركبان " ويسأل التجار، صحيح أن مسرح المعارك لم يكن قريباً، فقد كان في شمال العراق، ولكن أخبار نصر الروم
وصلت الهند كما ذكرنا، ولا بد أن تكون وصلت المدينة، إذن لماذا هذا الفتور ؟ فلا بد أن يكون حدث ما جعل النصر الموعود
والمنتظر لا يُسعد المسلمين، فالتحالف المحتمل لم يتحقق. فلا بد من حدوث أعمال
عدائية من طرف الروم جعلت المسلمين لا ينظرون الى الروم كحلفاء عقيدة، وإنما خصوم.
هل لوفد نجران علاقة بالموضوع ؟ أم هل عارض الروم احتضان الحبشة لمهاجري المسلمين
؟ بدليل وجود بعض رجال الدين المعارضين
لذلك، وهل للاقتتال الداخلي في الحبشة علاقة بوجود المهاجرين المسلمين؟. لا يوجد ما يثبت ذلك بشكلٍ قاطع، وخاصة انه لم
ينزل بذلك قرآن، كما لم تصل إلينا رواية تُلقي ضوءاً على هذا الموضوع.لقد كان
الفرس والروم يسعيان باستمرار الى مد نفوذهما الى داخل الجزيرة العربية. لقد توصلا الى قناعة بعدم جدوى السيطرة العسكرية المباشرة منذ
قرون. فهي إما مستحيلة اومكلفة. فسهلوا نشوء دول عربية على أطراف الجزيرة،
مرتبطة بترتيبات عسكرية وسياسية. وهذه
الدول كانت " دول قبائل ". فهي
تتكون أساساً من قبيلة، يشكل أبناؤها معظم جيش الدولة، وينصب شيخها ملكاً على
الدولة. وكانت العاصمة مضارب خيام "
معسكر " تحول الى مدينة، وهكذا كانت حيرة المناذرة وحيرتا الملك الحارث
الغساني.
ولم تكن تحالفات الفرس والروم تقتصر على
المناذرة والغساسنة. بل تخطت ذلك الى شبكة
تحالفات مع قبائل عربية تقطن العمق العربي.
ومن الطبيعي أن تلعب العقيدة دوراً في هذه التحالفات لدى الروم، فالقبائل
التي انتشرت فيها المسيحية على المذهب الملكي، ارتبطت تلقائياً ببيزنطة. لقد كانت هذه التحالفات ضرورية، فغارات القبائل
العربية كانت مدمرة. وكانت كلا الدولتين قد قامتا بإضعاف وتصفية الدولتين
العربيتين العازلتين بطريقة تتسم بالغباء السياسي. ولهذا لم يكن للعرب دورٌ مهم في حرب 622 – 628
م بين الإمبراطوريتين. وكانت الحدود
مفتوحة تماماً بين العرب والروم من جهة وبين العرب والفرس من جهة أخرى. لم تذكر المصادر التاريخية اهتماماً رومانياً
بالدين الجديد قبل وصول وفد نجران في السنة الخامسة للهجرة، الذي تشير الوقائع أنه ذهب الى المدينة
بإيعازٍ من الروم.
كما لم يُسجل اهتمام فارسي بالإسلام قبل
ذهاب وفد فارسي من اليمن بعد استلام خسروالثاني لرسالة النبي محمد عليه السلام في
السنة السادسة للهجرة.
ولكن إذا لم يكن هناك تاريخ مدون وصل
إلينا، لا يعني عدم احتمالية المتابعة والاستقصاء. لقد زار أبوسفيان العاهلين الفارسي والروماني،
هل كانت زيارات لغاية الحصول على هدية، أم لطلب المساعدة ؟. هل كانت مشاركة غطفان في معركة الخندق بتشجيع
وإيعاز من الفرس. أم أن دور الفرس أكبر من
ذلك، فقد كان من المعروف أن علاقة اليهود بالفرس قوية، ومن الثابت في كتب السير أن
غزوة الأحزاب كانت بمبادرة من بني النضير، فهل كان الفرس وراء ذلك، اوعلى اطلاع،
وخاصةً أن بعض القبائل المشاركة كانت من القبائل الواقعة ضمن النفوذ الفارسي.
لقد أساء ولاة الروم في جنوب الشام الى
العلاقات المحتملة بين المسلمين والروم، فبعد أن كان المسلمون يألمون لهزائم الروم
على أيدي الفرس في العقد الثاني من القرن،
أصبحوا يألمون مما يلقى مبعوثوهم من قتل على أيدي ولاة المدن الحدودية من
عرب أوروم. وفيما يلي نستعرض النشاطات
العسكرية الإسلامية في الأراضي التابعة للروم.
وسنرى أن بعضها قد تم كحركة استباقية لغزورومي محتمل. مما يدلل على أن الاحتمالية كانت قائمة .
معارك المسلمين على تخوم الشام
لقد ركزنا على حروب المسلمين مع قريش
وحلفائها، لأنها التي صنعت تاريخ المرحلة. ولكن كانت هناك نشاطات عسكرية أخرى مع
قبائل غير قريش. حيث بدأ الرسول بإرسال السرايا والبعوث الى ما حول المدينة،
لتأكيد هيبة الدولة الجديدة. كان معظمها
بدون قتال. كما أرسل أوقاد جيوشاً بنفسه
لردع قبيلة تُعد لحربه. وقد بلغ عدد الغزوات
التي شارك فيها الرسول (ص) بنفسه سبعاً وعشرين غزوة .
وهذا يدل على توفر معلومات.
ولم تذكر المصادر أنه كان هناك جهاز، ولوبدائي، للمعلومات. ولكن هناك روايات عدة عن إرسال من يستطلع وضعاً
معيناً، مثل إرسال خباب بن الأرت ليدخل في معسكر قريش ليلاً أثناء حصار الأحزاب،
كما أرسل أحد الصحابة بعد أُحد ليرى ماذا امتطى القرشيون، ليعرف أين سيتجهون ؛
فالجمال للمسافات البعيدة وتعني أن وجهتهم مكة، اما الخيل فتعني أن وجهتهم المدينة
لقربها.
كانت هذه الغزوات استباقية، كما قلنا،
بتعبيرٍ معاصر
pre-emptive
. وقد وفرت الكثير من الدماء ليس فقط على
المسلمين، ولكن أيضاً على المشركين. وغطت
هذه المعارك مساحاتٍ واسعة، الحجاز وتهامة كلها، ونجد. كما أرسل جيوشاً الى اليمن وحضرموت وعُمان
وأطراف الشام.
وكان من بين النشاطات العسكرية الهامة،
الصدام مع القبائل اليهودية في الحجاز. وقد تحدثنا عن بني قينقاع وبني النضير وبني
قريظة، الذين تعامل المسلمون، معهم حسب التسلسل الزمني، مما أدى الى جلائهم
اوإنزال عقوبة اكبر كما بينا ما حصل مع بني قريظة، ولم تكن هذه سياسة تطهيرٍ عرقي،
بدليل وجود يهود في المدينة الى أيام معركة تبوك، حيث برزت ظاهرة النفاق من جديد،
وكان بعض المنافقين يجتمعون في منزل شخص يهودي اسمه سويلم.
كما
هاجم الرسول خيبر التي انتقلت زعامتها الى بني النضير الذين أُجلوا عن المدينة،
والذين هندسوا غزوة الأحزاب. فتح المسلمون
خيبر وفدك وهما واحتان أُخريان يسكنهما اليهود في شمال الحجاز.
دومة
الجندل
أرسل الرسول جيشاً بقيادة عبد الرحمن بن
عوف إلى دومة الجندل لمواجهة حشد من المقاتلين بلغ الرسول أنهم تجمعوا بها، يؤذون
من حولهم، ويزمعون غزوالمدينة.
كما
يذكر ابن سعد أن الرسول قاد السرية بنفسه .
ودومة الجندل في بلاد
الشام قرب تبوك، وهي حصنٌ منيع .
وصل الجيش ولم يجد الجمع، ويبدو أنهم
هربوا عندما سمعوا بالمسلمين.
تذكر كتب السير دومة الجندل على أنها من
أراضي الإمبراطورية الرومانية، واعتبرت الغزوة تحدياً للإمبراطور الروماني. كما يكرر ذلك بعض المؤرخين المعاصرين .
وهذا
وهمٌ واضح، فإن بلاد الشام بكاملها كانت في ذلك العام تحت حكم الفرس، وكان الفرس
والروم منشغلين بحربهم في شمال العراق.
لم تكن هذه الغزوة ذات أهمية تاريخية،
سوى أنها تُثبت أن المسلمين كانوا يتوقعون أن يهاجمهم الروم، وأنهم كانوا مستعدين
لمواجهتهم. وخصوصاً أنه كان هناك عدد من
الأعمال العدائية التي بادر بها الروم وحلفاؤهم، مثل قتل الحارث بن عمروالأزدي،
والي مؤتة، مبعوث رسول الله الى ملك بصرى، كما ذكر ابن سعد .
وقد ذكر أنه كان والياً للغساسنة، وهذا مستبعد، لأن دولة الغساسنة كانت قد تآكلت
قبل ذلك بكثير، ولم يبق منها إلا إمارات متناثرة، ولا يعرف إذا ما أُعيدت إليهم
بعد تحريرالشام من الحكم الفارسي في العام السابق. ولكن من المؤكد أن ولاة عرب تم
تعيينهم.
كما سُلب دحية بن خليفة الكلبي أثناء
حمله لرسالة الرسول (ص) الى الإمبراطور الروماني، من قبل قبيلة جذام. وكانت جذام تسكن المنطقة الواقعة الى الشرق من
خليج العقبة، وكانت موالية للروم.
ويبدوالأمر متناقضاً، فقد وفدوا على المدينة حيث أبدوا تأييدهم للمسلمين من
جهة ومن جهةٍ ثانيةٍ يمارسون أعمالاً عدائيةٍ كهذه. ويفسر هذا بعدم وحدة القبيلة، ببطونها
المختلفة.
وأرسل الرسول (ص) سرية بقيادة كعب بن
عمير الغفاري من خمسة عشر شخصاً للدعوة للإسلام، فوصلوا الى ذات أطلاح، موقع بجنوب
الأردن. فقابلتهم جموع من عرب الشام
وقاتلتهم الى أن قُتلوهم جميعاً، ونجا من بينهم جريحٌ تمكن من الوصول الى المدينة
ليخبر بما حصل.
ثم جاءت غزوة دومة الجندل، التي ذكرنا
أعلاه، والتي جاءت في السنة الخامسة للهجرة، حيث بلغ الرسول أن هناك جمعاً من
المقاتلين يقطعون الطريق ويستعدون لغزوالمدينة، فغزاهم بنفسه حسب رواية ابن سعد،
وأمّر عبد الرحمن بن عوف في رواية ابن هشام، وربما تكونان غزوتين منفصلتين. وعلى
كل حال نود التأكيد ثانيةً أن الشام في العام الخامس للهجرة الموافق للعام 627 م
لم تكن تحت حكم الروم، إذ كانت لا تزال محتلة من قبل الفرس. ولكن لا يعني الأمر أن نفوذ بيزنطة كان غير
موجود. فاذا كانت هزيمة الروم تسببت في
رحيل الجيوش الرومانية واختفاء الحكام والموظفين الإداريين الروم، فإن الكنيسة
كانت موجودة ونشطة، وهي تملك التنظيم القادر على متابعة كثيرٍ من الأمور، ومن بينها، ربما، مواجهة دينٍ جديد
ينافسها. وقد ثبت أن الكنيسة كان لها
دورها بعد خروج الرومان على أيدي العرب خلال السنوات القليلة التالية. وقد ذكرنا في فصلٍ سابق أن أحد الأساقفة كان له
دورٌ كبيرٌ في النقاش المحتدم حول طبيعة السيد المسيح في القرن الثامن، وكان على
اتصال دائم مع القسطنطينية.
لقد كان الصراع الأزلي بين بيزنطة وفارس
هوالمحرك الأكبر للسياسة الخارجية للرومان في الشرق الأوسط. فقد كانت الحروب لا تنتهي، وفي أيام السلم لا
يتوقف اللخميون عن الإغارة على مدن الشام وقراها.
وقد ذكر مؤرخ معاصر، هوبركوبيوس، أن الملك المنذر " أذل الروم ".
لقد كان الرومان يعملون جاهدين منذ أوائل القرن السادس لعقد اتفاقية بين حمير وإثيوبيا، وأن ترتبط
بعلاقات صداقة مع النوبيين في إفريقيا، والقبائل العربية في وسط الجزيرة العربية.
لقد سعوا لمحاصرة فارس غير متجاهلين أية قوة يمكن أن تكون طرفاً.
وقد كان الدين ( والمذهب ) يلعب دوراً هاماً.
ففي نجران، حيث اضطهد المسيحيون على يدي ذي نواس، كان هناك صراع مذهبي بين
النساطرة حلفاء إيران والمونوفيزيين حلفاء بيزنطة. وهذا ناجم، غالباً، عن أسباب
سياسية أكثر منها دينية. لم يكن بطء وسائل
الاتصال في ذلك الزمان ليجعل الصراع الديني في اليمن ( بين اليهود والمسيحيين )
وكذلك الاحتلال الحبشي لليمن، من أن يأخذ طابعاً دولياًًً. ثم جاء الإسلام كقوةٍ جديدة، وعقيدةٍ جديدة،
فعقد الوضع، وجعل من إمكانية تحقيق خطط بيزنطة أقل احتمالاً.
وعودة الى القرن السابع، فيمكن القول أن أعمال العداء التي مارستها بعض
القبائل العربية المحسوبة على القسطنطينية، كانت عبثية في طابعها، اوعلى الأقل لا
تعدوفي شكلها أعمال السلب والنهب التي اعتادها العرب، فلم تأخذ هذه الأعمال طابعاً
منظماً إلا بعد عودة الشام الى الدولة الرومانية بعد هزيمة الفرس، وهي التي أدت
الى مؤتة وتبوك وماتلاهما.
معركةمؤتة
أرسل الرسول جيش مؤتة في شهر جمادى
الأولى من عام ثمانية. وكان الجيش يتكون
من نحو ثلاثة آلاف مقاتل، حيث سلم القيادة، على غير العادة، الى ثلاثة قواد. قائد ونائب ونائب للنائب. وكان الأول زيد بن حارثة، الذي كان ابن الرسول
بالتبني قبل الإسلام، والثاني جعفر بن ابي طالب، ابن عم رسول الله، والذي كان قد
عاد مؤخراً من هجرة الحبشة، والثالث عبد الله بن رواحة، أحد وجهاء الأنصار
وفرسانهم.
مضى الجيش حتى وصل معان، فبلغهم
"أن هرقل قد نزل مؤاب في مئة ألف "
ومعهم مئة ألف من عرب الشام، من قبائل لخم وجذام والقين وبهراء
وبِلى، يقودهم مالك بن زافلة. تردد المسلمون لمدة يومين، ففكروا أن يكتبوا الى الرسول يستشيرونه. ولكن رجحت فكرةً طرحها عبد الله بن رواحة، وهي
أن يتجهوا لقتال الروم وحلفائهم من العرب، كطلاب شهادة، مضيفاً: "وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوة ولا كثرة،
ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فانما هي إحدى الحسنيين
؛ إما النصر وإما الشهادة".
لقد أصبحت
كلمات عبد الله بن رواحة التي رددها عن رسول الله (ص) عقيدةً عسكرية. فهي إن لم تؤدِ الى النصر في مؤتة، فقد أدت الى النصر الحاسم في اليرموك بعد أقل
من عشر سنوات.
في رواية ابن
هشام ما يدعوالى التشكك في حقيقة وجود جيش بهذا الحجم في مؤاب، وهي منطقة غير
حدودية، تبعد لا أقل من ألف كيلومتر عن اقرب معسكر ( مسلحة ) للجيش الفارسي، الذي
خرج من حرب طويلة مع الروم منهزما قبل سنة.
ثم أن الرقم كبير في كل المقاييس.
ولا يمكن أن يكون قد حُشد لغزوالمسلمين، فعدد المسلمين، جميعهم، لم يكن قد
بلغ هذا العدد. كما أن القبائل العربية لا
تستطيع حشد مئة الف حتى لوطبقوا قانون تجنيد إلزامي على جميع قبائلهم.
وهناك مسألة
وجود هرقل شخصياً في المنطقة، يقول عباس محمود العقاد أنه كان قد حضر للاحتفال
بمرور سنة على انتصاره على الفرس .
وهذا يبدومنطقياً، حيث أن
الاحتفال أخذ شكل زيارة الى القدس للحج والاطلاع على إعادة ما دمره الفرس من
كنائس، بما في ذلك كنيسة القيامة، وقد كان قد مر عامان على انتهاء الحرب مع الفرس.
ولكن إذا قدم هرقل للزيارة فلا يصطحب هذا العدد.
لقد كان في هذه
المنطقة مقر الكتيبة 19 في الجيش الروماني، التي كانت من أفضل الكتائب، حيث لا
تزال ثكنتها قائمة، على شكل مبنىً مربع محاط بغرف من طابقين تستخدم كمهاجع للجنود
والخيل. فربما التقى جيش المسلمين مع قوة عربية تعود لأمير محلي وهذه الكتيبة، وهي
قوة ضخمة بكل المقاييس.
فتقدم جيش
المسلمين حتى وصل قرية مؤتة، وهي في محافظة الكرك اليوم، ووقفوا في مواجهة
عدويفوقهم عدداً. وعبؤوا ميمنتهم
وميسرتهم. ولا بد أن الموقف كان مسلياً
بالنسبة للروم وحلفائهم. وهم يشاهدون القادمين
من البادية بعُددهم الخفيفة وعَددهم القليل، يقفون أمامهم بتحدٍ غير مسبوق، وبكل
جدية ينظمون أنفسهم بوضعٍ قتالي. لم تسجل
كتب السير أن الروم ضجوا بالضحك. ولكن في
موقفٍ مشابه، في القادسية، بعد هذا اليوم بسنين قليلة، ضحك الجنود الفرس عندما
أطلق عليهم الجنود المسلمون سهامهم في اليوم الأول، المعروفة بقصرها مقارنةً مع
سهام الفرس الطويلة، ولكن في اليوم الثالث
أضحى واضحاً أن هذه السهام الصغيرة كان لها دورٌ حاسم في انتصار المسلمين.
فاشتبك
الجيشان، وكان منظر الجيش الروماني مرعباً، فقد روى أبوهريرة، الذي شارك في
المعركة : " شهدت مؤتة فلما دنا منا المشركون رأينا ما لا قبل لأحدٍ به، من
العدة والسلاح والكراع والديباج والحريروالذهب،
فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أرقم : " كأنك ترى جموع كثيرة ". قلت: " نعم " قال : " إنك لم
تشهد بدراً معنا، إننا لم ننصر بالكثرة".
ومع هذا فر جماعةٌ من المسلمين بينهم عبد الله
بن عمر، وعادوا الى المدينة. ويبدوأن فرارهم كان في اليوم الأول. ولكن هذا
لم يؤثر على معنويات البقية، فقاتلوا قتالاً شديداً ضد عدويفوقهم عدداً وعدة. فقتل زيد ثم قُتل جعفر ثم قتل عبد الله. قُتل القادة الثلاثة. فاتفقوا على خالد بن الوليد، الذي كان قد دخل
الإسلام حديثاً ولم يكن مدرجاً في التسلسل القيادي للجيش. وعلى ما يبدوأن هذا تم مع اقتراب نهاية النهار،
حيث أورد ابن كثير نقلاً عن الواقدي أن عبدالله بن رواحة قُتل مساءً. " فلما أخذ الراية دافع القوم، وحاشى بهم،
ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس "
ولكي نفهم عبارات ابن هشام
المقتضبة هذه، يجب أن ندرك أن الفارق العددي لم يكن كما ذكر ابن هشام وجميع
المؤرخين، وأن المسلمين استطاعوا أن يصمدوا نهاراً كاملاً، وأنهم أوقعوا خسائر
كبيرة في صفوف عدوهم. لدرجة أنهم استطاعوا
أن يناوروا مناورة ناجحة ؛ " دافع القوم " ( الروم ) أي ازاحهم عن
موقعهم، "وحاشى بهم " ( المسلمين ) أي فصلهم عن عدوهم،" ثم
انحاز" أي ابتعد بهم عن عدوهم، " انحيز عنه " أي ابتعد العدو عنه،
أي لم يتبعه. ولم ينسحب من أرض المعركة
فوراً، حيث تذكر مصادر أخرى أنهم باتوا ليلتهم في مقابل العدو، حيث أوهموهم أنهم
وصلهم مدد. وفي اليوم التالي رجعوا الى
المدينة، ولم يتبعهم أحد. كما تذكر روايات
أخرى أن خالداً وجيشه ظهر في اليوم التالي وقد قلب الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة
بحيث أعطى الجيش المقابل انطباعاً أن مدداً قد وصل أعداءهم، فتجدد القتال، فقتل
قطبة بن قتادة، قائد ميمنة المسلمين، مالك بن زافلة، قائد عرب الشام فانهزموا .
عند وصول الجيش
إلى المدينة، كانت هناك مشاعر مختلطة تجاهه، فقابلهم صبيان المدينة بهتافات منددة
لأنهم اعتبروهم فروا من أرض المعركة، والفرار من المعركة محرمٌ في الدين
الإسلامي. هذا ما رواه ابن هشام
، ولكن على ما يبدوأن عودة عدد
من المقاتلين فارين من أرض المعركة قد شوشوا المؤرخين وصبيان المدينة. فجيش خالد لم يكن مهزوماً، ولم يفر من
المعركة. ومن الأدلة على ذلك شكوى أحد
المقاتلين الى الرسول (ص) خالداً على المغانم، فقال له خالد :" ألم
أرضِك؟." وهذا يدل على توفر المغانم بكثرة.
والجيش المهزوم لا يتوقع مكافأة.
وفي روايةٍ أخرى وصف أحد المشاركين في المعركة جثمان جعفر من أنه كان به
أكثر من خمسين طعنة. وهذا له دلالة أيضاً،
فالمهزوم فاقدٌ للمبادرة التي تمكنه من تأمل جثمان رفيق ليرى كم جرحاً عانى.
معركة مؤتة لم
تكن هزيمة لجيش المسلمين، ولم يشارك فيها هرقل، كما أن الغالبية العظمى من مقاتلي
الشام كانوا من العرب، وقد انهزموا عندما قُتل قائدهم. وأن القبائل الشامية لا تستطيع حشد جيشٍ بهذا
العدد، لأن تعدادها لا يسمح. وقد جمع عرب
الشام أربعين ألفاً في اليرموك تحت قيادة جبلة بن الأيهم. وقد استشهد في مؤتة اثنا عشر مقاتلاً، وقد سماهم
ابن هشام،
وهذا دليلٌ آخر.
معركة
تبوك
لقد توصل
الرسول الى أن الصدام مع الروم والفرس أمرٌ حتمي، فإن تركهم لن يتركوه. ولم تكن دول الجوار تنحصر في هذين الجارين،
ولكن كان هناك الحبشة، التي لم يفكر الرسول بغزوها، كما أن الهند لم تكن بعيدة عن
سواحل عُمان. فالهند التي قُسمت في عام
1947 كانت سواحل أقاليمها الغربية (السند ) لا تبعد عن الساحل العماني
كثيراً.
فدولتا الروم
والفرس ما كانتا لتسمحا بقيام دولةٍ عربيةٍ موحدة، وهم الذين حالفوا وعادوا
العرب. كما لا يسمحون بظهور دينٍ جديد، لا
يعترف بحدود. كيف لبيزنطة أن تتقبل ديناً
جديداً وهي لا تحتمل اختلافاً مذهبياً ضمن الدين نفسه. وإيران عانت من الخلافات الدينية، فقبل عقود
قليلة انهارت الديانة المزدكية .
وصلت المدينة
معلوماتٌ تشير الى إعداد الروم لغزوالمسلمين.
وكانت قد مرت سنتان على انتهاء الحرب الرومانية الفارسية. فبدأ الإعداد لغزويُجهض هذا الغزو. فطلب الرسول
(ص) من المسلمين أن يتجهزوا لغزوالروم.
وعلى عكس غزواته السابقة، أفصح، من
اليوم الأول، عن الوجهة التي يريدها.
ما بين مؤتة
وتبوك مر أربعة عشر شهراً. فتح المسلمون
فيها مكة، وانتصروا في حنين، وحاصروا الطائف ودخل في الإسلام أعداد كبيرة من
العرب. استطاع الرسول أن يحشد جيشاً من
ثلاثين ألف مقاتل، أي عشرة أضعاف جيش مؤتة، من المهاجرين والأنصار ومن القبائل
المجاورة للمدينة.
إن من يتابع
السيرة النبوية يتفاجأ بالحضور القوي لحركة النفاق في المدينة، وذلك بعد تسع سنين
من قدوم الرسول (ص) إليها مهاجراً. فقد
سارت جهودهم بشكلٍ موازٍ للإعداد للمعركة، فكان المسلمون يستعدون، وكان المنافقون
يعملون على تثبيطهم. وكانوا يعقدون
اجتماعات لهذه الغاية ويشنون حرباً نفسية.
وعندما أقام الرسول (ص) معسكره تمهيداً للانطلاق شمالاً، قام قائد المنافقين، عبد الله بن أُبي، بإقامة معسكر منفصل. وقد وصفه ابن هشام بأنه لم يكن " أصغر
المعسكرين ".
وعندما حان موعد الانطلاق، لم
يتحرك عبد الله بن أُبي. ومع هذا سار جيش
المسلمين ولم تخلُ صفوفهم من بعض المنافقين، الذين لم يُخفِ بعضهم نفاقه.
هل ازداد
النفاق بعد فتح مكة وبعد معركة حنين ؟. هل
تزايد إحساس بعض أهل المدينة من المنافقين بأنهم خسروا استقلالهم السياسي
باحتضانهم الدعوة النبوية ؟. هل كان هناك
تغذية لحركة النفاق من الشام، بتشجيع وتمويل ؟.
هذا محتمل إذا ما قسنا على رواية أحد المخلفين غير المنافقين ( كعب بن مالك
) عن الغزوة، والذين عاقبهم الرسول بعد العودة الى المدينة، بالمقاطعة، فوصلته
رسالة من الشام من أحد أمراء الغساسنة يدعوه الى التوجه الى الشام.
وقد كان كعب مؤمناً فتحدث بالموضوع، فكم من
المنافقين وصلتهم رسائل وأموال، ولم يتكلموا بذلك ؟. أم أن النفاق لم تعلُ وتيرته، بل أن اختبار
تبوك كان صعباً لدرجة كشف المزيد من النفاق.
فقد كان توقيت الغزوة غير مناسبٍ فقد كانت في الصيف، في وقتٍ شديد الحرارة
وموسم ثمار، وفي زمن " عسرة ".
كما أن المسافة كبيرة، والعدوكان .. إمبراطورية
تمتد من شمال تبوك إلى باري على الساحل الغربي للأدرياتيك.
وصل جيش
المسلمين الى تبوك، ولم يلق عدواً. وبقي
فيها ما يقارب الأسبوعين، بعث خلالها سرايا الى المناطق المحيطة ومنها دومة
الجندل. كما استقبل وفوداً، من بينهم وفد
من أيلة، وهي العقبة اليوم، حيث كتب لهم عهداً.
ثم قفل راجعاً .
لم تكن تبوك
خارج حدود الجزيرة العربية، ولكنها متاخمةً للشام. ويسمى الإقليم الممتد من المدينة إلى تبوك باسم
وادي القرى، وكان يسمى أرض النخيل من قبل الرومان، وتروي بعض المصادر غير العربية
( يونانية وسريانية ) أن ملكاً عربياً قام بإهداء هذه المنطقة لإمبراطور
الرومان. حيث قبل الإمبراطور جستنيان هدية
ابوكرب، الملك العربي، كهدية رمزية، دون
أن يحاول ضمها فعلاً.
وعلى كل حال، من المؤكد أن بيزنطة كانت تنظر
الى هذه المنطقة، كمنطقة نفوذ تحظى باهتمام شديد.
وخصوصاً الشريط الساحلي. وقد وصف أحد
الرحالة الرومان الإبحار في البحر الأحمر أنه كان أكثر أماناً إذا ما كان أقرب الى
الساحل الأيسر إذا ما كنت متجهاً الى الجنوب.
أي الساحل العربي .
فماذا كان وقع هذه المناورة العسكرية الضخمة على
الحدود ؟. وهل كانت النية أن تكون هذه
الحملة لا تتعدى كونها مناورة ؟. الأمر
مستبعد، لأن التوقيت كان غير مناسبٍ، فلوانتظر الرسول شهرين اوثلاثة لكان الحر قد
انحسر، وانتهى موسم الثمار ولتحسن الوضع الاقتصادي قليلاً. عنذئذٍ سيكون التخلف أقل، وتكون مشقة الرحلة
أقل.
لقد كانت غزوة
تبوك آخر غزوة يغزوها الرسول (ص) بنفسه.
حجة
الوداع
في السنة العاشرة للهجرة، ذهب الرسول
لأداء فريضة الحج. وكان في العام السابق
قد انتدب أبا بكرٍ للذهاب الى الحج، وأرسل علياً بسورة براءة التي نظمت العلاقة مع
المشركين من العرب. حيث تقرر أنه لا يحج
الى مكة مشركٌ بعد ذلك العام ولا يطوف بالكعبة عريان.
وحج الرسول وأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم
سنن حجهم، من طواف وسعي ورمي جمار وأضحية وحلق الشعر وبالإضافة الى الأدعية
المصاحبة لفريضة الحج. علمها للمسلمين
بطريقة عملية لا تخضع لتأويل مغاير وليس بها لبس.
ثم خطب بالناس فيما عرف لاحقاً بخطبة الوداع، حيث قال:
" أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني
لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، أيها الناس إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام، الى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا، وكحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم
عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها، وإن كل
ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد
المطلب موضوعٌ كله، وأن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن
ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث، فقتلته هذيل، فهوأول ما
أبدأ به من دماء الجاهلية .
أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان يئس أن
يعبد بارضكم هذه أبداً. ولكنه أُطيع فيما
سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم .
أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر،
يُضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله،
فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما احل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها اربعة حرم،
ثلاثة متوالية ورجب مضر، الذي بين جمادي وشعبان .
أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم
حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين
بفاحشةٍ مبينة، فإن الله قد اذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضرباً غير
مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن
عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما اخذتموهن بأمانة الله، واستحللتن
فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن
اعتصمتم به فلن تضلوا ابداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه،
تعلمون ان كل مسلم اخٌ للمسلم، وأن المسلمين أخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما
اعطاه عن طيب نفسٍ منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت ؟." فقال الناس : " اللهم نعم ". فقال الرسول (ص) : " اللهم اشهد ".
لقد أحدث الرسول بخطبته نقلةً ثقافية،
شكلت قطيعة مع الجاهلية بعاداتها ودينها، وقد ذكر مثالين ؛ الدم والربا. فالدم، أي الأخذ بثأر قتيل، يستمر بانتقام
وانتقام على الانتقام وهكذا فيستمر عدة أجيال.. ولا يمكن أن يتوقف إلا بصلح. أما الربا فهوأيضاً قد يورث من جيلٍ الى جيل،
لعجز المدين عن سداد الفوائد المترتبة على أصل الدين وعلى الفوائد ذاتها. وهكذا تستمر المعاناة عدة أجيال. في بعض الدول الآسيوية حيث لم يمنع هذا النوع
من الربا إلا في القرن العشرين، وجد أن عائلة مدينة لأخرى لأكثر من مئة وخمسين
سنة، حيث واظبت على السداد جيلاً بعد جيل، ومع هذا نما الدين الأصلي مئات
الأضعاف. وكان لابد من إحداث خط فاصل
وواضح بين الماضي، بتركته الثقيلة، والحاضر المستنير بنظم وقوانين.
ثم تطرق الى التقويم العربي، الذي اعتاد
العرب في الجاهلية أن يبدلوا الأشهر لتقديم وتأخيرالأشهر الحرم، وكانت هذه العملية
تسمى النسيء، وتقرر من قبل جنادة بن عوف، الذي ورث ذلك عن أبيه وجده، حيث كان يعلن
ذلك على الحجيج في كل موسم، لكي يبلغ لباقي العرب في اماكن سكناهم المختلفة.
لقد حرم الإسلام هذا
التلاعب، لما يسببه اضطراب في ضبط التواريخ وغير ذلك.
ثم وصى بالنساء، فالإسلام أعلى من شأن
المرأة، وجعل لها حقوقاً كثيرة، وإن احتفظ بالقوامة للرجل، كقائد للأسرة.
ثم أكد على مصادر التشريع الأساسية التي
سيتركها للمسلمين ؛ وهي القرآن والسنة، أي ما ترك الرسول من أحاديث وأفعال، وهذه
جميعاً إن تمسك بها المسلمون فلن يضلوا.
ثم دعا الى المساواة.
والرسالة الأقوى في الخطبة هي نعيه نفسه
للمسلمين، حيث أبلغهم بصيغة " لعل " التي لا توجب الجزم الكامل، أنه لن
يكون من أهل الحياة في الموسم القادم، وهذه الرسالة مع ما تنزل من قرآن "
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دَيْنَكُمْ " تعني أن الدين، بشرائعه، وحلاله
وحرامه، قد اكتمل. فلا نسخ ولا إضافة ولا
تعديل بعد هذا اليوم. وهذه حالة نادرة حتى
بالآيدولوجيات الوضعية أن يُعلن هكذا إعلان، دون أن يتم التراجع عنه .
وفعلاً توفي الرسول بعد شهرين من إلقاء خطبة الوداع، بعد أن أكمل الرسالة. ولا يعرف أحدٌ خدم قومه وخدم البشرية بمثل ما
فعل محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وعندما اشتد به المرض، بدأ بزيارة
البقيع، وهي مقبرة المدينة، حيث دعا لموتى المسلمين. ثم زار زوجاته، كلاًٍ في منزلها، وكن تسع
زوجات، مستأذناً أن يرقد في منزل عائشة،
حيث رقد، وتوفي، وغُسل ودُفن. بناءً على
مقالةٍ كان يرددها، أن الأنبياء يُدفنون حيث يُقبضون.
لقد كان آخر ما أمر به الرسول (ص)
هوإنفاذ جيش أُسامة بن زيد، الذي كان قد قرر إرساله الى الشام، لقد مات الرسول
وهومقتنع بحتمية الصدام مع الروم.
كان المرض الذي توفي به الرسول (ص) له
علاقة بالتهاب الرئة، جعل العباس يعتقد أنه ذات جنب. وهومرض التهاب غشاء
الرئة. فقام العباس بإعطاء الرسول دواءً
بينما كان في غيبوبة، فلما أفاق، احتج على إعطائه الدواء الشديد المرارة، ورفض أن
يكون مرضه " ذات جنب "، حيث
كان الرسول حاذقاً في الطب. كما كان
حاذقاً في السياسة وفي العلاقات العامة وفي التخطيط وفي الإدارة، كما كان قائداً
فذاً، متحدثاً بليغاً، وشجاعاً وكريماً ويتمتع بقدرة عالية على التحمل، وكان قبل
ذلك كله إنساناً. ولم يكن الرسول مزاجياً ولا ظالماً ولا قاسياً ولم يكن ينتقم
لشخصه ولم يكن يحمل ضغينة، وكانت سياساته وتصرفاته تحمل درجةٍ عاليةٍ من الاتساق
والثبات
consistency
.
بكت المدينة نبيها. وأنكر البعض موته. واعتقد، البعض الآخر، أنه ذهابٌ مؤقت، وسرعان ما يعود. ولكن أبا بكر أدرك أنه، توفي كبشر. وأدرك كذلك أن صلة السماء بالأرض انقطعت بموته.