نحن وأوربا - ج 1 - الفصل الرابع
 
 


الفصل الرابع

                         

ظهور الإسلام

 

البعثـة

لما بلغ محمد بن عبد الله سن الأربعين، بدأ يشعر برغبةٍ شديدةٍ لأن يخلو بنفسه.  وكان بعض القرشيين المتمسكين بما تبقى من الحنيفية، يقضون أوقاتاً من السنة في عزلة، للتأمل في الخلق.  وكانوا يسمون ذلك تحنثاً.  فأصبح يحب قضاء وقت اطول في كهوف مكة.  كما أصبح يرى أحلاماً صادقة.  بحيث يتحقق ما يراه من احلام بكل وضوح.  ثم أخذ يرى ضوءاً ويسمع أصواتاً.  فذكر ذلك لزوجته خديجة وقال لها  "أخشى أن يكون بي جنون".  فشجعته   خديجة،  وقالت له : "لم يكن الله ليفعل ذلك   بك". وقد عزت ذلك لما عُرف عنه من خلقٍ كريم. 

ثم جاءه المَلَك ( جبريل ) وهو بغار حراء، على صورة رجل. وقال له: " إقرأ ".  فرد عليه:  "ما أنا بقارئ".  فضمه الى صدره بقوةٍ.  ثم تركه وكرر الأمر: " إقرأ "  فكرر الرسول (ص) الجواب : "ما أنا بقارئ".  فضمه بشدة مرةً ثانية، وطلب نفس الطلب وسمع نفس الجواب.  فضمه مرةً ثالثة.  وتركه وقال : " إِقَْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَََّذِيْ خَلَقَ.  خَلَقَ اْلِإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ.  إِقْرَأْ  وَرَبِّكَ الْأَكْرَمِ".  فعاد مسرعاً الى بيته ، [1] واثناء الطريق كان يرى المَلَك في كل اتجاهٍ ينظر إليه.  ثم قال له " أنا جبريل وأنت رسول الله ". [2] ودخل بيته وهويرجف ويقول : " زملوني، زملوني " أي غطوني، كما يُغطى النائم.  ولما هدأ أخبر زوجته خديجة بما حدث معه.

وهنا تصرفت خديجة، كزوجة مُحبة ورفيقة، تمتلك بُعد نظر وسعة أُفق، على موعدٍ مع لحظة تاريخية، حولت زوجها من شخصٍ كان من الممكن أن يعيش وأن يموت مثل الملايين من البشر قبله وبعده، لحظة تاريخية حولت العرب من أمةٍ لا مكانةً لها على خارطة العالم السياسية رغم توفر الطاقات والطموحات، لحظة تحول غيرت العالم.  لقد تعاملت مع زوجها كأم.  بالتصديق، وبتخفيف وقع التكليف.  وكان تأثير ذلك على الرسول (ص) أن اعترته الرجفة.  وهذا رغم أنه هُيئ لذلك من خلال عدة مؤشرات على شكل رؤىً وأصوات، كان يذكرها لخديجة، وكانت تُطمئنه على الدوام، وكانت على ثقة من أن الله لن يخذل شخصاً مثله، فهوالصادق الأمين ،الكريم واصل الرحم.  لقد بادرت هي بمقترحٍ أن يتزوجا قبل خمسة عشر عاماً لِما رأته من صفات.  ولم يكن هذا من عادة النساء.  ولا تزال ترى فيه صفاتٍ لا تعتقد معها أن يكون تفسير ما يحصل معه جنوناً، كما كانت العادة في تفسير عوارض غريبة، مثل سماع أصوات.  استبعدت الفكرة تماماً، وعملت على تهدئته.       

ثم أخذته الى ورقة بن نوفل، ابن عمها. وورقة، كان واحداً من المستنيرين العرب الذين أدركوا أن دين العرب -  في الجاهلية – غير مقنع.  وقد اطلع على ديانات أخرى، وأتقن لغات قد تكون الآرامية واحدةً منها.  وكان ورقة في هذا الوقت قد كبر وفقد بصره.  قال ورقة مخاطباً محمد (ص)، بعد ما استمع إليه : " إني لأرجوأن تكون نبي هذه الأمة " وأن الذي جاءك هوالذي كان يأتي الأنبياء من قبلك. [3] وكان الاعتقاد بحتمية ظهور نبي  سائداً لدى المطلعين على الكتب السماوية، وغيرها من كتب وأفكار رُويت ونُقلت عن كبار رجال الكنائس المسيحية في ذلك الزمان. 

لقد ظهرت نبوة محمد (ص) في زمنٍ ليس بعيداً عن زمن قادة الرأي والفكر من أساقفة وبطاركة، الذين اجتهدوا واتفقوا واختلفوا  في قضايا عقيدية عديدة على مدى عقود، وأغنت نقاشاتهم فهم المتنورين من البشر في قضايا الدين والخلق.  لقد وُلد محمد (ص) في نفس العام الذي توفي فيه يعقوب البرادعي، الذي تُنسب إليه المذاهب اليعقوبية.  تقول كتب السيرة، أن ورقة كان قد قرأ الكتب.  ولا بد أن تكون هذه هي الكتب، التي " يُحتم " بعضها أن العدالة الإلهية لن تحرم هذه الأمة من دعوة تُخرجها من الظلام الى النور.  وربما يكون ورقة قد أدرك أن أوان ذلك قد حان، فقد كان يروى عنه قوله تكراراً " الى متى ؟ " مستبطئاً ظهور ذلك النبي.  فلا عجب أنه لم يستغرب الأمر.  ومن خلال معرفته لشخص محمد صدق ما جاء به.

وقد وعد ورقة بمساندة النبي عندما يضطهده قومه ويطردونه.  الأمر الذي أثار استغرابه (ص) حيث قال : " أطاردي هم ؟. "  

وقد كان لخديجة دورٌ هامٌ جداً في انطلاقة الدعوة الإسلامية.  وهناك حديثٌ يُنسب الى الرسول (ص) ينص : " كَمُل من الرجال كثير،  ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد ".  وقد  رعت كل واحدةٍ منهن نبياً . [4]   وهنا لا يسعنا إلا تذكر زوجتي نوح ولوط اللتين لم تؤمنا بزوجيهما، كما هومذكورٌ بالقرآن.  كما نذكر كثيراً من الأنبياء الذين لم يؤتوا زوجات يقفن بجانبهم.  لقد كانت خديجة مصدر راحة للرسول في معاناته مع قريش.  وقد سمى العام الذي ماتت فيه ( ومات فيه أيضاً عمه أبوطالب ) عام الحزن، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.   

وانقطع الوحي عن النزول على الرسول (ص) فحزن حزناً شديداً.  وعلى ما يبدوأن الوحي استمر بعض الوقت لدرجة أن حزنه عليه السلام كان شديداً.  ويبدوأن الوحي انقطع، اوبالأحرى فتر حسب كتب السير،  بعد عدة لقاءات.  فلوكان الانقطاع بعد ان رآه المرة الاولى في الغار لاعتبرذلك أمراً عارضاً، ولما تأثر الى هذه الدرجة.  ولم يكن يقتصر نزول الوحي على تنزيل القرآن.  وإنما لتعليم الفروض وأمور أخرى.  ومن المعلوم أن الصلاة فُرضت في مرحلةٍ مبكرة جداً.  وتذكر رواية عن عفيف الكندي أنه جاء مكة تاجراً فرأى الرسول وخديجة وعلياً يصلون، قبل أن يسلم غيرهم، وهذا يعني في الأسابيع الأولى للبعثة.  كما أن هناك حديثاً آخر يشير الى أن علياً أسلم في اليوم التالي للبعثة " أوحي الى الرسول (ص) يوم الإثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء ".  فلا بد أن الوحي جاء الرسول  (ص) كثيراً ليعلمه الصلاة والوضوء،  لدرجة أنه أحس بالإحباط لانقطاعه.  ثم استؤنف الوحي وتنزلت  " يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِرُ.قُمْ فَأَنْذِرْ.وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ.وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ.وَالْرُّجْزَفَاهْجُرْ " . [5]   والسورة تتضمن إيعازاً واضحاً ببدء الدعوة .

 

أول الناس إسلاماً

لا يختلف أن أول من آمن بالرسول كانت زوجته، خديجة. ويختلف المؤرخون على الثاني،  فالبعض يعتقد أنه علي بن ابي طالب، ابن عم الرسول (ص) وربيبه وزوج ابنته فيما بعد. ب ينما يعتقد البعض الآخر أنه أبوبكر، صديق رسول الله ورفيق عمره وخليفته فيما بعد.  ولا أحد يعتبر ورقة بن نوفل كمنافس على هذا الشرف،  فقد عرف بالنبوة قبلهما، كما أنه أقر وصدق وآمن.  لقد كان من اول الناس إيماناً زيد بن الحارثة، الذي كان ابناً بالتبني للرسول (ص).  كما كان من المسلمين الأوائل كل من عامر بن فهيرة، مولى أبي بكر وبلال بن رباح الذي كان مولى أحد سادة قريش فاشتراه أبوبكر وحرره، وكذلك عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وأبوعبيدة بن الجراح  وعبد الله بن مسعود وآخرون .

 

الله، عز وجل

إن الله هوخالق السماوات والأرض، وخالق البشرية.  اصطفى الأنبياء والرسل من بين البشر لهدايتهم لعبادته.  وجعل الملائكة رسلاً بينه وبينهم.  ومن الأنبياء من هومعروف، ومنهم من هوغير معروف، أي لم يرد اسمه بالكتب السماوية.  وقد اُستثني موسى، عليه السلام، بأن كلمه الله.  وقد خاطبه قائلاً "أنَاْ اْللهُ َلا إِلَهَ إِلَّا أَنَاْ"  وهذه أهم صفاته، الوحدانية.  كما يتصف بصفات كثيرة تأخذ شكل الأسماء، فتسمى "  أسماء الله الحسنى ".  فالله هوالخالق، الرحيم، الكريم، المهيمن، الشافي..  وهوكذلك " لم يلد ولم يولد "، فليس له أب ولا أم  وليس له أبناء .

والله هومعبود أتباع الديانات السماوية جميعاً، وما تفرع عنها من ديانات.  وأغلب الظن أنه المقصود في العبادة في الديانات الآسيوية المتفرعة عن الهندوسية والمتأثرة بها، مثل البوذية والتاوية والسيخية وغيرها.  ففي الديانة الهندوسية، يُعبر عن " الرب الأكبر " بثالوث " برهما- فيشنو- مهيش " أي " الخالق – المدمر – المانح "، وتُجعل له تماثيل للواحد منها رأسٌ بثلاثة وجوه.  ويأتي تعدد الآلهه في الديانة الهندوسية من خلال الاعتقاد أن     " روح " الإله حلت باحد بني البشر، فيما يعرف بالتناسخ، فأصبح بدوره إلهاً،  وينجم هذا الاعتقاد عن قيام هذا الشخص بأعمال مهمة.  ويعتقد بعض الباحثين المسلمين في الهند، أن معظم من عُرفوا بالأُلوهية في الموروث الهندوسي، إنما هم أنبياء .

فالمفهوم الإسلامي للألوهية بسيط، وينضوي على التوحيد المطلق، فليس له ابن، كما يعتقد غالبية المسييحين اليوم.  ولا تحل روحه بأحد، كما يعتقد أتباع الديانات الآسيوية.  ولا تتحد روحه مع روح عابد، كما يعتقد بعض المتصوفة.  إن أهم ما يميز الدين الإسلامي هوبساطته، وأي محاولة لزجه في متاهات فلسفية وجدلية، إنما هوعملية تزاوج مع عقائد وفلسفات أخرى، مثل الفلسفة اليونانية وعقائد أخرى قديمة.   

 

بنو البشر

لقد خلق الله الجنس البشري من نسل آدم وحواء.  وقد ورد في القرآن في أكثر من مكان أن الله خلق الإنسان من تراب ومن ماء.  وقد ورد في القرآن قصة خلق آدم.  "وَإِذْ قَاْلَ رَبُّكَََََ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاْعِلٌ فِيْ الْأَرْضِ خَلِيفِةً.قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الْدِّمَاْءَ". [6]   والخلافة تعني وجوداً سبق.  وهذا ما يدعوللاعتقاد بوجود إنسان قبل آدم عاش على الأرض، جاء آدم ونسله ليخلفوهم.  والآية اللاحقة تقوي هذا الاعتقاد؛  حيث كان رد الملائكة ينم عن تجربة سابقة، وتوقعوا لهذا الخليفة أن يكون سافكاً للدماء ومفسداً، وذلك بناءً على الاطلاع على تجربةٍ سابقة.  لقد شكلت قصة الخلق، هوةً كبيرة بين العلم والدين.  وذلك بعد شيوع نظرية الارتقاء.  التي تقول أن الكائنات الحية، الحيوانية والنباتية، تطورت عبر سلسلة طويلة من كائنات مجهرية نشأت في ظروف مناخية مؤاتية في وسط مائع.  وهذه الهوة بين الدين والعلم، لا يُقصد بها الدين الإسلامي تحديداً، وإنما بين العلم وبين  الموروث الديني المشترك للديانتين اليهودية والمسيحية كما هومبين بالتوراة. ولكن سُحب ذلك بصورةٍ تلقائية على الدين الإسلامي أيضاً.  وهذا ليس دقيقاً.  فبالنسبة للقرآن فإن الروايات المقتضبة التي تشير الى خلق الإنسان، والموجودة في أكثر من سورة من سور القرآن، لا تبدومتناقضة مع النظريات العلمية. فقد ذكر القرآن أن الله خلق الإنسان من تراب ، او من تراب وماء، أي من طين ، في بعض الآيات "وَإِذْ قَاْلَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرَاً مِنْ طِيْنٍ" [7] ،و".. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صِلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ " [8] . و".. مِنْ مِاءٍ دَاْفِقٍ.يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ" [9] ،  في أماكن أخرى،  فأين التناقض.  إن المعتقد الإسلامي يعتبر التوراة كتاباً مقدساً للمسلمين، ويعتبر الإيمان  بالتوراة والإنجيل شرطاً أساسياً للإيمان بالنسبة للمسلم.  ولكن هناك آيات قرآنية عديدة تشير الى أن الكتابين قد تم إجراء تغييرات عليهما.  وعودة الى قصة الخلق، فيحتمل أن التناقض ناجم عن تفاصيل أُضيفت فيما بعد.

لقد خلق الله الإنسان ليحمل رسالة معينة.  وهذه الرسالة يظهر أنها العبادة.  وإن تظهر إشارات أخرى على أنها إعمار الأرض واستمرار الحياة؛ فالإسلام يُبدي اهتماماً كبيراً بالأسرة ويدعوالى الحفاظ على مؤسسة الزواج، ويقدر الحياة البشرية.  كما يهتم اهتماماً استثنائياً بالبيئة، ويدعوالى ترجيح العقل واحترام العلم.  كما يدعوالى خلق حالة من التوازن بين المخلوقات كافةً ؛ الإنسان والحيوان  والنبات وحتى الجمادات.  ويتجلى هذا في موسم الحج، وفي منطقة الحرم.  حيث يحرم القتل والصيد وقطع النباتات ( مع بعض الاستثناءات ) ويدخل حجرٌ ( الحجر الأسود ) ضمن الشعائر، في ممارسة ( اللمس والتقبيل)  تقترب من الوثنية، التي يحاربها الإسلام.  ورغم رمزية هذه الممارسة فإنها تدفع باتجاه الحفاظ على الحياة على الأرض بشكلٍ متوازن.  ومن أجل استمرار الجنس البشري.  من أجل هذا  لا بد من عقيدة تنظم العلاقات بين البشر فيما بينهم ونشاطهم الدؤوب لضمان ديمومتهم كجنس، في السياق النسبي، ولهذا كانت الرسالات والرسل. 

 

النبي، عليه الصلاة والسلام

إن الأنبياء هم رُسل الله الى البشرية، لهدايتها.  ويُفترض أنه أُرسل الكثير منهم الى شعوبٍ مختلفةٍ بأزمنةٍ مختلفة، وبعضهم حقق نجاحاً وبعضهم حورب وقُتل.  والمتعارف عليه أن الاتصال  مع  النبي يكون بالوحي، أي أن يوصل المضمون المراد إيصاله الى الجهاز العصبي ( الدماغ ) للمتلقي بغير الوسائل الحسية المعتادة لتلقي الاتصال، وهي السمع والنظر واللمس.  كما أن هناك وسائل أخرى مثل الكلام ؛ وهي أن يأتي المَلَك بصورة إنسان ويكلم النبي، وكذلك المناجاة ؛  وهي لغة الكلام من بعيد،  كأن يسمع المتلقي الكلام ولايرى المتحدث، اوأن توصل الرسالة من خلال منام.   

وُلد محمد بن عبدالله بن عبد المطلب سنة 570 م، وهوعام الفيل. [10]   لقد تغيرالمشهد السياسي في العالم كثيراً بين ولادة عيسى ومحمد عليهما السلام.  وهما نبيان لم يُبعث بينهما نبي. 

لقد كانت الدول العربية المنتشرة على أطراف الجزيرة،  إما قد زالت من الوجود، أوعلى وشك.  وانقسمت الإمبراطورية الرومانية الى قسمين، غربي متآكل يفقد أهميته تدريجياً لصالح دول الفرنجة Franks والآفار والساكسون في الشمال، الذين كانوا لا زالوا على وثنيتهم.  والقسم الشرقي الذي كان في صراعٍ مستمرٍ مع دولة فارس، التي كانت تمتد حدودها حتى تخوم الهند.  وفي الجنوب الغربي كانت دولة الحبشة قد اعتنقت المسيحية، وكانت قد احتلت اليمن.  وفي الهند كانت شبه القارة غير موحدة، وسلالة أخرى تحكم في الشمال، وهي الجُبتا، والتاميل يحكمون الجنوب والصراع محتدم بينهما على الوسط، وكانت مناطق إندونيسيا وماليزيا وبورما واقعة تحت تأثير الديانة الهندوسية، بينما الديانة البوذية التي بدأت في الهند قد لاقت نجاحاً في التبت والصين واليابان أكثر مما لاقت في الهند نفسها.  وفي الصين كانت سلالة السوي في الحكم.  وفي الأميركتين كانت حضارة المايا قد تشكلت. هكذا كان المشهد السياسي في العالم الذي بُعث إليه محمد ( ص  ) ليغيره.  

 إن إختيار الله للأنبياء هوعملية اصطفاء، فهم يتصفون بصفات متميزة.  لقد ادعى النبوة أُناسٌ كثيرون في أزمنةٍ مختلفة.  وقد حصل هذا بعد وفاة الرسول (ص) مباشرةً، كما حصل في عهودٍ لاحقة.  وفي عهد الخليفة العباسي المأمون، تكررت هذه الظاهرة عدة مرات.  وتذكر الروايات، بشئٍ من الطرافة، كيفية تعامل المأمون شخصياً مع هذه الحالات.  فكان مثلاً يلجأ الى استفزازه، مما يجعله يتلفظ بألفاظ لا تليق بنبي.  وكذلك كان تعامل هرقل من خلال الأسئلة التي وجهها لأبي سفيان، اوالأسئلة التي وجهها ملك الحبشة لجعفر بن أبي طالب.  فالأنبياء لم يكونوا ليأتوا بكتاب اعتمادٍ يثبت نبوتهم، ولكنهم يُعرفون من خلال صفات خُلقية تدلل على صحة ما جاؤوا به، وتساعدهم في إكمال الرسالة.  ومن هنا بإمكاننا القول أن نبوة محمد (ص) كانت نموذجية .

من أهم صفات ألأنبياء الصدق والأمانة.  فهذا يشكل رصيداً لهم  يعطيهم مصداقية.  ففي الحياة اليومية، ليس من المعتاد أن يسمع المرء من أحدٍ أنه نبيٌ، يوحى إليه.  الأمر الذي يجعل رد الفعل التلقائي هوالاستغراب، إن لم يكن الاستهزاء والتكذيب.  ولكن وجود تاريخ طويل من المعاملات المتسمة بالخلق القويم المتمثل بالأمانة والصدق، تجعل التكذيب التلقائي امراً ليس سهلاً، وأقل احتمالاً. 

يتحلى الأنبياء بالشجاعة.  فعليهم مواجهة مواقف صعبة، كما يتعرضون لمخاطر شتى.  ومذكورٌ في القرآن، أنه لما ألقى موسى عليه السلام عصاه وانقلبت أفعى، هرب فقال له الله : ".. إِني لا يَخَاْفُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ " . [11] فالمرسلون يجب أن يكونوا شجعاناً.

كما يتم اختيار الأنبياء من نسبٍ معروف.  وقد حصل مع كثيرٍ من الشخصيات السياسية وغيرها، في مختلف العصور، أن طعن خصومهم بنسبهم.  ويحصل هذا في حال وجود بعض الغموض في النسب.  فيُشكك بأصولهم، ويُشكك في دوافعهم .

لقد كان الرسول (ص) يقول : "إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق "، فقد كان خلوقاً صدوقاً مؤتمناً، كما كان شجاعاً بعيد النظر تمتاز تصرفاته بالثبات والبعد عن المزاجية،  وكان متحدثاً لبقاً بليغاً، يحب الشعر ولا يقوله، كما كان كريماً عادلاً رحيماً واصلاً للرحم.  وقد كان لائقاً جسمانياً،  ولديه قدرة عالية على التحمل والصبر.

لقد احب المسملون نبيهم ، وحقيقةً كانت محبته ضرورةً إيمانية، وقد كان لذلك أهلاً ، فقد كان مُحباً رحيماً بعيداً عن غلظة الحكام ومكر الساسة وانتهازيتهم.  كما كرهه اعداؤه من قريش وغيرها ، ولقبوه مذمماً وقاطعاً.  واكثر من هذا انهم اتهموه انه ياخذ القرآن عن غلام كتابي كان يعمل في دكان في مكة. كما ظهرت في القرن الحادي عشر الميلادي نظرية تقول ان الرسول ( ص ) اخذ تعاليمه من بحيرة الراهب الذي قابله في بصرى في طريقه الى دمشق قبل البعثة. وهي " اسطورة مسيحية نشأت في حضن جماعة فارسية وقد كتبت بالسريانية ثم نقلت الى العربية وكان لها انتشار واسع في الأوساط المسيحية في القرون الوسطى". [12] كما طعن بعض المستشرقين بنسبه من ناحية جده عبد المطلب. [13] ومع هذا يبقى محمد انساناً غير تاريخ البشرية واغنى تراثها الأخلاقي. ولم يستطع جبابرة قريش وبيزنطة ، بكل ما اوتوا من مكر، ان يوقفوا عملية التغيير الذي جاء محمد ليحدثها.

وقد كان محمد (ص) أُمياً، أي لم يكن يستطيع القراءة والكتابة.  وقد كان النبي محمد    (ص) آخر الأنبياء، وهوجزء من سلسلة مباركة من الأنبياء قدمت للإنسانية خدمات   جليلة، وأحد هؤلاء الأنبياء، الذين لم يرد ذكرهم في القرآن، كان اسمه عاموس، وقد ظهر بحدود 750 ق.م.، وقد كان أيضاً أُمياً كما رعى الغنم، وقد جاء برسالة مفادها أن الإله لا تُقتصر عبادته على بني إسرائيل، وأنه إله عدالة إجتماعية.  وكان مما جاء به : " وليجر الحق كالمياه، والبِر كنهرٍ دائم ". [14]

 

الدين

لم ياتِ محمد (ص) بدينٍ جديدٍ تماماً، إنما كانت بعثته تهدف الى تصحيح وتجديد.  أي تنقية دين الله العالمي الأزلي المسمى الإسلام مما علق به من تغيرات وتحريفات ومفاهيم خاطئة، مع إجراء بعض التغييرات في العبادات وفي الحلال والحرام. 

لقد جاء محمد بصيغةٍ مبسطةٍ للغاية للدين. " بَلىََََََََََََ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وهُومُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ، ولَاْ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولَاْ هُمْ يَحْزِنُونَ " [15]

إسلام الإنسان وجهه لله تعالى، يشكل محور العقيدة الإسلامية، ويتضمن التوكل على الله وحسن الظن به، والإيمان العميق والفعلي بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر، ويترجم ذلك بالعبادات المفروضة. 

ويصبح الإنسان محسناً، بأن يتعامل مع الناس بخلق ويمتنع عن إيذائهم، وأن يكون عضواً بناءً في المجتمع. 

طبعاً يوجد كم هائل من التفاصيل، ولكن يُؤْثر عن الرسول (ص) عدم حبه لكثرة الأسئلة والخوض بالتفاصيل، وذلك لإبقاء الدين بسيطاً ويسيراً.

ولفهم المبادئ الأساسية التي يرتكز عليها الدين الإسلامي ينبغي دراسة الشريعة التي تتضمن قوانين وتوجيهات تفقه المسلم بدينه، ومن هنا سُمي علم دراسة الشريعة بالفقه.  وتقسم الى ثلاثة أقسام :

1.    العبادات : وأركانها خمسة؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والصلاة خمس مرات في اليوم  وصوم رمضان والزكاة والحج الى مكة مرة في العمر على الأقل.

         والزكاة هي دفع جزء مما يملكه الأغنياء لبيت المال بحيث يوزع على الفقراء، وهوغير النظام الضريبي في الإسلام، الذي يستخدم ريعه لتشغيل أجهزة الدولة. 

2.    المعاملات : وتضم الأحوال الشخصية من زواج وصداق وطلاق وعلاقات زوجية وأسرية  وميراث، والمعاملات التجارية بأنواعها.

3.    العقوبات : وينص على العقوبات التي ينبغي للدولة أن توقعها بحق مقترف ذنبٍ ما.  والعقوبات الحدية هي قطع اليد والقتل والجلد، ولم يرد السجن ، مثلاً ، كعقوبة في القرآن، [16] ولكنه أُستخدم كعقوبةٍ في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً.

ومصادر الشريعة في الإسلام أربعة ؛ وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس.  ويحتوي القرآن على آيات الحدود والوصايا.  والسنة أي ما رُوي بشكلٍ موثوق م ن أقوال وأفعال الرسول (ص).  والإجماع هو إجماع فقهاء العصر على قضيةٍ معينة.  " لذا فإن المجالس التشريعية المنتخبة .. هي جزءٌ لا يتجزأ من النظام السياسي في الإسلام ". [17] والقياس مثل تحريم المخدرات قياساً على تحريم المسكرات.  

وفي زمنٍ لاحق ظهرت عدة مذاهب، نتيجةً لتباين الاجتهاد، اونتيجةً لاختلافات سياسية، ولكن أتباع هذه المذاهب ( المتبقي منها حالياً سبعة ) لا تكفر بعضها البعض، وهذا، ببساطة، يعني، القبول بالتعايش مع الاختلاف، وهذا ما شجعه الرسول (ص).  فهناك روايات قبل فيها باجتهادين مثل ما حدث في غزوة الخندق، اوتحول أحد الصحابة عن القبلة الأولى قبل الاعلان عن ذلك .

 

القرآن

لقد ارتبط بدء البعثة النبوية مع بدء تنزيل القرآن.  " قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً غَيْرَ ذِيْ عِوَجٍ.. " [18] فمنذ اللحظة الأولى كانت " إقرأ "، وكان التنزيل تِباعاً.  تتنزل الآيات على الرسول (ص) بمقدارٍ  يسهل حفظه.  ثم يقوم الرسول بتلاوتها على أصحابه، الذين يتلقونها باهتمام بالغ، حفظاً وتدويناً وشرحاً وتفسيراً.  وكان هناك مَنْ عُرفوا بكُتّاب الوحي، كانت مهمتهم تدوين القرآن اولاً بأول.  وكان الرسول (ص) يُشير عليهم أين يضعون الآيات المنزلة للتومع الآيات المنزلة سابقاً لتشكل سوراً متقاربة في الموضوع، لقد كان الرسول والمسلمون الأوائل حريصين جداً على الحفاظ على القرآن.  وقد كان الرسول يقول أن جبريل كان يأتيه ليذاكر معه القرآن.  وقد تم جمعه بين " غلافين " او" دفتين " في زمن عثمان بن عفان.  أي بعد وفاة الرسول بمدة تزيد عن عشر سنوات، ولم يشعر المسلمون، قادتهم وفقهاءهم، بضرورة الجمع لغاية ذلك الزمن.  وعلى عكس ما قد يُفهم، فقد كان القرآن مدوناً، ولكن ليس بكتابٍ واحد.  ولم يُحبذوا تدوين اقوال الرسول (ص)، أي أحاديثه،  لكيلا تختلط، بصورةٍ اوبأخرى، مع الآيات القرآنية، على الرغم من سهولة تمييز الفارق في أسلوب الصياغة بينهما. وقد تم نسخ عدة نسخ من القرآن، وتم إرسالها الى عواصم الأقاليم المختلفة، وبعضٌ من هذه النسخ لا يزال موجوداً في المتاحف.

يقسم القرآن الى ثلاثين جزءاً ، في حوالي 600 صفحة في أغلب الطبعات الحديثة ، ويحتوي على 114 سورة.  ويعتبر القرآن بمثابة الدستور بالنسبة للمسلمين فهو يتضمن قوانين وأحكاماً تنظم حياة المجتمع.  ووصف للعبادات وما أُحل وما حُرم من مأكلٍ ومن مشرب، كما يتضمن عظات ونصائح وآداباً، مع قصص متعددة عن أُممٍ سبقت.

يُعد القرآن معجزة النبي محمد عليه السلام.  فهويتضمن إعجازات علمية، كُتب عنها الكثير.  كما يتضمن إعجازاً في صياغته.  فقد تنزل على أُمةٍ اعتزت بلغتها، وبتطويع هذه اللغة في شعرٍ لا يزال له نفس الوقع ونفس الرونق بعد كل هذه القرون.  كما كان تقدم العرب في النثر لا يقل عن شعرهم، وإن كان نثراً غير مدون.  ومع هذا فقد أذهل القرآن كل من سمعه من مشركي العرب، وكانت ردود فعلهم تُعبر عن الإقرار بعذوبة الصياغة وحلاوتها.  كما تضمن القرآن إعجازاً تاريخياً أيضاً.  بمعنى عرض القرآن لحقائق تاريخية لم تكن معروفة في زمن نزول القرآن، وعُرفت نتيجةً لتنقيبات واكتشافات في العصر الحديث.  ومن الأمثلة على ذلك ؛ نسوق قصة الخروج كما تسمى بالتوراة، وهي قصة خروج  بني إسرائيل بقيادة نبي الله موسى عليه السلام من مصر.  فالشائع أن فرعون وجيشه أُغرقوا في البحر، هذا ما ورد بالتوراة، وهذا ما ورد في أكثر من مكان في القرآن، حيث وردت القصة في أكثر من سورة.  وحديثاً صدرت أبحاث تشكك في الرواية لعدم ثبوت موت أحد فراعنة مصر من تلك الحقبة بعيداً عن عاصمته، وبالتالي فقدان  جثمانه.  إلا أن إحدى روايات القرآن تقول : " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون " [19] وهذا ما يجعل الرواية القرآنية بكاملها، تتطابق مع المكتشفات العلمية الحديثة.  فالغرق حدث، دون أن يُفقد الجسم، الذي قد يكون أُعيد الى العاصمة وتم تحنيطه وحفظه الى يومنا هذا .

والمثال الثاني، الذي نود سوقه هنا،  يتعلق بتاريخ مصر أيضاً،  ففي مواضع عديدة يُشار الى حاكم مصر باسم فرعون، ما عدا في سورة يوسف، حيث يُشار إليه باسم ملك.  وقد شكل هذا إشكالية لبعض المفسرين عبر العصور.  وجاء التفسير قبل 200 سنة عندما اكتشف حجر الرشيد الذي أدى الى معرفة اللغة الفرعونية بتحليل الكتابة الهيروغليفية،  مما كشف صفحات كانت يكتنفها الغموض من التاريخ المصري، ومنها مرحلة حكم الهكسوس لمصر، الذين كانوا غرباء عنها، وكان حكامهم يسمون ملوكاً وليس فراعنة.  وكان نبي الله يوسف عليه السلام قد عاش في مصر في زمن الهكسوس .

وسورة يوسف تتضمن إعجازاً من نوعٍ آخر،  ففن الرواية لم يتطور إلا في القرون القليلة الأخيرة.  ولكن سورة يوسف يظهر فيها نسيج روائي مذهل.  وقدرة عجيبة على سرد الحوار بصورةٍ مختصرةٍ مع حذف بعض أجزاء الحوار التي يسهل على القارئ استنتاجها. وهي القصة الوحيدة التي تظهر في سورةٍ واحدة من أولها الى آخرها، ولا تتضمن مواضيع أُخرى.        

كما يتضمن القرآن إشارات غامضة الى ظواهر علمية اوأحداث تاريخية لا يسهل تفسيرها.  ومن المؤسف أن الكثيرين من كبار المفسرين أقحموا أنفسهم في تفسيرات غير مقبولة، ولم يرد في أيٍ من التفاسير الكثيرة، حسب ما نعلم، اعتذار عن عدم القدرة على تفسير آيةٍ اوسورةٍ معينة.  لعجز المفسر اولعجز العلم المعروف والمكتشف.  فمثلاً كيف لجلال الدين السيوطي أن يفسر الآية التي تقول أن الأرض والسماء " كَانَتَاْ رَتْقَاً فَفَتَقْنَاهُمَا "، مع توفر لديه ولدى البشرية كافة من تحصيل علمي في ذلك الوقت.  فبعض الباحثين المعاصرين فسرها بانفصال الأرض عن الشمس، كما هي النظرية السائدة  في الأوساط العلمية عن نشوء الأرض، وقد بذلوا مجهوداً واضحاً لإثبات أن العرب كانت تسمي الشمس سماءً أحياناً. وقد يكون هذا التفسير صحيحاً، كما قد لا يكون.  كما يأتي القارئ للقرآن على كثيرٍ من الآيات لا يجد لها تفسيراً.  مثل " أَولَمْ يَرَوْا أَنَّاْ نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافَهَا. ." [20]   فما عسى أن يكون هذا " الإنقاص " ؟  وهل للأرض أطراف ؟  لشكلها الكروي.  فهذا تحدٍ لبعض الباحثين.  قد تكون عملية الإنتقاص من سماكة القشرة الأرضية.  وقد يكون الأمر له علاقة بحقيقة أن الأرض ليست كرةً  تماماً، فهناك انبعاج بسيط  في شكلها الكروي!.     

وغير ذلك من الآيات التي تتضمن معضلات علمية، مثل البحر المسجور، ومرج البحرين، ودور الجبال في استقرار القشرة الأرضية الخ..  لقد قام باحثون أفذاذ، مثل الدكتور الزنداني، في بحث وتبيان آيات إعجازية في القرآن،  وربط آيات قرآنية بمكتشفات علمية حديثة، ما كان لبشرٍ أن يعرفها في زمن تنزيل القرآن.  ومع تقدم العلم يقدم القرآن إعجازات جديدة، تثبت أنه ليس من وضع بشر.  وهذه هي المعجزة المتجددة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم .

 لقد شهدت نهاية عهد الصحابة خلافات سياسية تطورت الى اختلافات مذهبية، فنشأت عدة مذاهب تنوعت لديها الاجتهادات، واختلفت فيما بينها في قضايا ثانوية، ولكنها اتفقت كلها على نصوص القرآن جميعاً، فلم يوجد للمسلمين إلا قرآن واحد.  يُسيء بعض الباحثين الأجانب فهم القراءات المتعددة التي يُقرأ بها القرآن، على أنها قرائين مختلفة.  ولكن من المعروف أن القرآن الذي نزل بلغة قريش، كان يًقرأ بلهجاتٍ عربيةٍ  متعددة.  وقد شكل القرآن أداة رادعة ذات تأثير كبير، فجعل أكثر الحكام جبروتاً يتراجعون عن ظامهم عندما ذُكروا ببعض نصوصه.  

 

الجهر بالدعوة  

لما تنزلت " يَاْ أَيُّهَاْ الْمُدِّثِرُ.  قُمْ فََأَنْذِرْ. " [21] كانت بمثابة إشارة الانطلاق لمسيرة النبوة.  ولما نزلت " وأنذر عشيرتك الأقربين ".  كانت بداية انطلاق مرحلة من مراحل الدعوة؛ وهي دعوة الأقارب.  عند ذلك دعا أقاربه الى اجتماع، وكانت الطريقة المتبعة أن يقف الداعي الى الاجتماع على مرتفع ويصيح " وا صباحاه " او" يا صباحاه ".  وهذه الصيحة تعني أن هناك  أمراً خطيراً.  مثل غارة عدو.  فصاح الرسول (ص) فتجمعوا عليه.  فقال :    " أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟. "  قالوا :" ما جربنا عليك كذباً ".  قال :" إني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد ".  أي أحذركم من عذاب الله الشديد إذا لم تؤمنوا وتعملوا صالحاً.  فرد عليه عمه أبولهب :" تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ".  فأفسد عليه محاولته. [22]  

ولكنه استمر بالدعوة بأشكالٍ متعددة، من بينها التحدث مع من يلقاه في طريقه، ولم يكن يوفر أحداً.  وحقق بعض النجاحات.  كما تعرض لمواقف حرجة كثيرةٍ جداً.  وقد كان من بين من اتبعوه قليلٌ من " ذوي الحسب " من قريش، وكثيرٌ من العبيد و" المستضعفين " من غير القرشيين الذين يعيشون في مكة، اومن فقراء مكة.  

 

رد فعل قريش

كانت قريش وإن بدت موحدة،  تتكون من فروع، كان من الممكن أن تسمى أفخاذاً اوبطوناً اوعشائر، حفاظاً على وحدة قريش، ولكنها كانت تسمى قبائل.  وكانت متنافسة على الجاه منافسةً شديدة.  ولكن مع الحفاظ على النظام القائم ووحدة قريش، فلم يسجل التاريخ اختلافاً اوالاقتراب من الاختلاف إلا مرتين اوثلاثاً في المائة سنة التي سبقت البعثة.  وهذا لا يبدومستغرباً إذا ما أدركنا مدى التزام زعماء قريش بهذا العقد الاجتماعي.  ففي زمن البعثة كان هناك أبوسفيان من بني أُمية والحكم بن هشام (أبوجهل) من بني مخزوم وأبوطالب (ثم العباس من بعده) من بني هاشم ونبيه ومنبه ابني الحجاج من بني سهم والعاص بن وائل من بني سهم وعتبة بن ربيعة  من عبد شمس بن عبد مناف وأبوالبختري بن هشام من بني أسد والوليد  بن المغيرة من بني مخزوم.

وكان التنافس شديداً بين بني مخزوم وبني عبد مناف (الذين منهم بنو هاشم وبنو أمية)، وهذا ما جعل أبا جهل معادياً للدعوة للحظة الأخيرة من حياته.  كما كانت المنافسة شديدة بين أبناء العم  بني أمية وبني هاشم.  وهذا ما جعل بني أمية من المعارضين للدعوة.  كما جعل بني هاشم يقبلون على الدين الجديد اكثر من غيرهم، ومن لم يُسلم منهم، لم يعادِ الرسول (ص) ودينه. 

وكان هناك استثناءات ملفتة للنظر، فعثمان بن عفان من بني أمية، وقد كان من أول من أسلم.

كما كان أبولهب عم النبي، وكان من أكثر المجتهدين لإحباط الدعوة.  وربما يُفسر ذلك أن زوجته كانت من بني امية، وكان لها تأثيرٌ قويٌ عليه. 

وتحت تاثير هذين العاملين القويين ؛ التنافس المحموم  والحرص العميق على صلة الرحم، قبل الإسلام وبعده، كانت الحالة التي كان عليها المسلمون في مكة.  فقد وصف أبوجعفر المنصور نفسه لإعرابي لا يعرفه أنه من أبغض قريش لقريش فعرفه.  وسندرج هنا بعض الأمثلة التي تُلقي ضوءاً على هذه الصورة. 

مثل قول الحكم بن هشام (ابوجهل)، وهو، وإن كان شديد العداوة للرسول، فقد كان يمثل حالة نموذجية للتنافس بين القبائل، والحرص على ذات البين بين القرشيين.  فقد وصف حالة التنافس بينهم (بني مخزوم)  وبين بني عبد مناف (وتحديداً بني هاشم) بكلامٍ بليغٍ وصريح، فقال أنهما كانا كحصاني سباق، فتنافسا في الكرم والفروسية والثروة، فلما أوشكا على التعادل، " قالوا منا نبي " أي بني هاشم .." فمن أين لنا بمثل ذلك .. والله هذا لا يكون أبداً ". [23]   وفي قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب، عم الرسول (ص) ما يدل على ما نتحدث عنه؛ فقد ورد في كتب السير أن حمزة كان عائداً من الصيد عندما أخبرته امرأة أن أبا جهل قد آذى محمداً  ابن أخيه (ص).  فجاء الى حيث كان يجلس أبوجهل وضربه بالقوس التي كان يحملها على رأسه، فأدماه.  فقام رجالٌ من بني مخزوم لينتصروا لأبي جهل، فأشار إليهم  أن يرجعوا مُقراً أنه كان البادئ، حرصاً على عدم الانشقاق.  

وقصة العباس وأبي سفيان يوم الفتح وغيرها تدلل على طبيعة العلاقة التي كانت سائدة فيما بينهم. 

على أن المحرك الأكبر لمعاداة الدعوة الجديدة نبع من النزعة البشرية الفطرية لمقاومة التغيير.  وهذا كان مصدر الصعوبة الأكبر الذي واجهه الأنبياء جميعاً.  " قَاْلُوْا إِنَّمَاْ أَنْتَ مِنَ الْمُسْحَرِيْنَ.وَمَاْ أَنْتَ إِلّاَ بَشَرٌ مِثْلُنَا، وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاْذِبِيْنَ ". [24] فقد كانوا يرفضون تقبل أفكار جديدة من شخصٍ لأنه بشر، ويحتارون كيف يصفونه ؛ ساحر أم شاعر. 

وفي مجتمعٍ تحول الى دينٍ آخر، كان آخر من يتحول، في الغالب، هم رجال الدين القديم وخدمة المعابد وطبقة الكهنة وأصحاب المصالح المكتسبة، وقد كانت قريش كلها، كقبيلة، تحظى بهذا الوضع بين العرب، فقد كانوا يسمون " آل الله ".  وفي الحالات التي تقبلت هذه الفئات الدين الجديد، انتشر بسرعةٍ هائلة.  ومن الأمثلة على حالةٍ كهذه، انتشار الإسلام في غرب الهند على يد التجار اليمنيين في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً من الإسلام، حيث انتشر في أوساط طبقة البراهمن ( البراهمة ) في ما يعرف الآن بولاية كُجرات.  فلوتقبلت قريش الدين الجديد لتغير تاريخ العالم، وليس تاريخ العرب، كما سنرى في الفصل الأخير.

بدأ القرشيون يحسون أن الدين الجديد يقسم مجتمعهم، بخلق علاقات اجتماعية جديدة تتخطى القبيلة.  كما أحس القرشيون بالحرج من زوار الحرم، العمار والحُجاج، الذين كانوا يتساءلون عن ما يحدث.  وكيف لقريش أن تدعو لعبادة أصنامها بينما يتخلى بعض أبنائها عن ذلك.  كان لهذين السببين، بالإضافة الى أن الرسول (ص) وأصحابه كانوا يذكرون أصنام قريش بسوء، وحدث أن توجه بعض رجالات قريش للحديث مع أبي طالب، عم النبي، من أجل ترك دعوته.  وعلى ما يبدوأنهم فعلوا ذلك عدة مرات.  وقد حصلت الأولى على هامش زيارة قاموا بها لمرضٍ ألم به.  فطلب استدعاءه، فجاء فأخبره ابوطالب بما يريدون.  فقال الرسول : " أترون هذه الشمس "  فقالوا : " نعم " فقال : " والله ما انا بأقدر أن أدع ما بُعثت به، من أن يُشعل أحدٌ من هذه الشمس شعلةً من نار ".  فقال ابوطالب :   " والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين ."

وفي روايةٍ أخرى اوربما في زيارةٍ أخرى كان جواب الرسول (ص) :  " أريدهم على كلمةٍ تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية ".  فقالوا : " ما هي "  فقال : " لا إله إلا الله ".  فقالوا : " أجعل الآلهة واحداً ".  فنزلت : " ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ.بَلْ الََّذِيْنَ كَفَرُوْا فِيْ عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ.كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاْتَ حِيْنَ مَنَاصٍ.وَعَجِبُوْا أَنْ جَاْءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ،وَقَالَ الْكَاْفِرُوْنَ هَذَاْ سَاْحِرٌ كَذَّابٌ.أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهً وَاحِدَاً،إِنَّ هَذَاْ لَشَيْءٌ عُجَاْبٌ". [25]

 

أخذ مشركو قريش يتمادون تدريجياً في تعاملهم مع الرسول.  فأخذوا يوجهون إليه كلمات نابية، ويستهزؤون منه.  وكان يفعل ذلك بعض سفهائهم، مدفوعاً من بعض زعماء قريش اوربما سعياً لإرضائهم دون أن يكونوا طلبوا ذلك صراحةً.  إلا أن أبا جهل كان يقوم بنفسه بتوجيه الأذى لشخص الرسول عليه السلام.  كما عرف آخرون باسم المستهزئين، اشتهروا باستهزائهم بالرسول وأصحابه وما جاء به.   

وعلى الرغم من حالة الحصار التي فرضتها قريش على الدعوة.  وعلى الرغم من أن الأولوية انحصرت بدائرة قريش كهدف للدعوة، فقد أسلم عددٌ من العرب الذين ينتمون الى قبائل أخرى.  ولكلٍ منهم قصةٌ طريفة وردت في كتب السير، كما وردت في كتب الأحاديث الصحيحة.  ومن أشهر من أسلم في هذه الفترة أبوذر الغفاري،  الذي ينتمي الى قبيلة غفار، والتي تقطن في الحجاز. ولم يأتِ إسلامه صدفةً، وإنما سمع بالرسول (ص) فأرسل أخاه الذي لم يأته بشيء، فذهب بنفسه وقابل الرسول (ص) وأسلم. 

وضماد الأزدي، وهومن الأزد في عُمان.  جاء مكة تاجراً، فسمع أهل مكة يقولون أن محمداً مجنون.  وكان ضماد يعالج من الجنون، فبحث عن محمد (ص) ليعرض عليه خدماته، فقرأ عليه آيات من القرآن، فأسلم.  ثم عمروبن عبسة السلمي.  وكان من العرب الذين لم يكونوا راضين عن دينهم.  فلما سمع بالرسول في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً، جاء مكة وأسلم، وطلب منه الرسول (ص) أن يرجع الى قومه وأن ينضم إليه فيما بعد، فجاءه في المدينة، بعد الهجرة.

ويذكر ابن هشام قدوم وفدٍ من عشرين رجلاً من مسيحيي نجران الى مكة.  فوجدوا الرسول (ص) عند الكعبة، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه.  فأجابهم وقرأ عليهم القرآن وعرض عليهم الإسلام.  فلما استمعوا للقرآن تأثروا ودمعت عيونهم وأسلموا.  فاعترضهم ابوجهل فقال لهم: " خيبكم الله من ركب، بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوا لهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده، حتى فارقتم دينكم وصدقتموه، ما نعلم ركباً أحمق منكم".  لقد أغاظ قريش سرعة تصديق الوفد للرسول.  وكان رد الوفد مدروساً، حذراً :   " سلامٌ عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً ". [26]   هل كان وفداً استطلاعياً، مرسلاً من قبل جهةٍ ما ؟. دينية اوسياسية.  إذا كان كذلك، فماذا كانت النتيجة ؟.  لم يعرف بإسلام أعداد كبيرة في نجران في تلك المرحلة المبكرة .

وقد روت المصادر عن وفدٍ آخر من نجران جاء الى المدينة.  وكان يتكون من ستين راكباً، تعمدوا أن يُعطوا انطباعاً قوياً لسكان المدينة، ونجحوا.  فقد كانت هيئتهم ولباسهم، وكذلك تنظيمهم، بوجود توزيع أدوار قيادية فيما بينهم، له تأثير قوي على سكان المدينة البسطاء.  وقد جرت المقابلة في المسجد.  وعندما حل موعد صلاتهم، أقاموها في المسجد، دون أن يمنعهم الرسول والمسلمون.  ولما طلب منهم الرسول أن يسلموا، قالوا له: " لقد أسلمنا قبلك يا محمد ".  فقال لهم أنتم تعتبرون المسيح ابن الله.  فقالوا له إذا لم يكن كذلك فمن أبوه إذن.  فلم يجبهم.  فنزلت آيات من سورة آل عمران تتطرق الى هذا الموضوع.  وفي جلسةٍ لاحقة اقترح الرسول عليهم " المباهلة "، وهي أن يدعوالطرفان على الكاذب.  فطلبوا وقتاً للتفكير.  وفي اللقاء التالي قالوا للرسول لقد رأينا أن لا نفعل ذلك، وأن نتركك على دينك، وأن نرجع على ديننا . [27]   لم يذكر ابن هشام وقت مجيء هذا الوفد، ولكنه جاء في مرحلةٍ مبكرةٍ، ربما بعد أُحد.  وقد ذكر ابن هشام أن هناك ما يؤكد أنهم اقتنعوا بالإسلام ولم يسلموا مخافةً من الروم، الذين كانوا يرعونهم ويكرمونهم، حيث روى أن أحدهم أسلم فيما بعد وذكر ذلك. 

إن احتمال أن يكون الوفدان مرسلين من قبل جهات سياسية اودينية رومانية عالٍ جداً.  كما أن الوفد الأول قد يكون من العراق.  لأن ابن هشام ذكر اثنين من أعضاء الوفد من قبيلة بكر بن وائل، وهي قبيلة تسكن العراق، وقد كان بعض أفرادها على المسيحية. 

ولما أخذ أمر الدعوة يتعاظم، حاول بعض رجالات مكة أن يستخدموا أساليب أخرى.  فاجتمعوا فقرروا أن يكلفوا أعرفهم بالسحر والشعر والكهانة، ليتكلم مع الرسول (ص) ليعرض عليه ما يمكن أن يجعله يتراجع عن طريقه.  فاتفقوا على عتبة بن ربيعة ليقوم بهذه المهمة.  فأتاه فقال له : " هل أنت أحسن أم أبوك ؟ " فلم يجبه.  وكرر السؤال عن جده عبد المطلب، فلم يجبه أيضاً.  ولكنه أضاف أن هؤلاء " عبدوا الآلهة ".  وتابع قوله " أما والله ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، وما يُنتظر إلا مثل صيحة الحبلى حتى يقوم بعضنا الى بعض بالسيوف ".  وختم كلامه عارضاً عليه المال، إذا كان غرضه  هوالمال، وعرض عليه الزواج من أفضل بنات قريش . [28]   كما عرض عليه تنصيبه ملكاً إذا كان هدفه الحكم.  فلم يجبه ولكنه قرأ عليه آيات من سورة فصلت. [29]

ثم أخذ بعضهم يجتهد بطلب أمور تعجيزية كشرط لإسلامهم.  وقد ورد ذلك في القرآن.  مثل تفجير ينبوع اوأن تكون له جنة يجري بها نهر، وأمور من هذا القبيل. 

ثم أخذ أذى مشركي قريش يتزايد على الرسول وأصحابه، وقد وصلتنا بعض الروايات عن حالات ضرب وإلقاء قاذورات في طريقه وفي بيته وحتى عليه وهويصلي. 

كما عمدت كل قبيلة الى مسلميها بالأذى والتعذيب، وخصوصاً المستضعفين منهم.  فكانوا يُؤخذون الى خارج مكة في أيامٍ حارةٍ،  ويُربطون ويُضربون ويُحرمون الماء والطعام، حتى مات بعضهم تحت التعذيب . [30]

ولم تعد مكة آمنةً للمسلمين.  ولم يحاول الرسول أن ينظم أي نوع من الدفاع عن أصحابه، ولا عن نفسه.  فلم يُعرف عنه حرصه أن يمشي برفقة عددٍ من أصحابه.  كما لم يُنقل عنه إعطاؤه تعليمات للمسلمين، عن كيفية الدفاع عن أنفسهم.  ولم يحاول، على سبيل المثال، تجميعهم في حيٍ واحدٍ.  ويُعزى هذا لسببٍ واضح وهوأنه لم " يؤذن " للمسلمين بالقتال، فلم تتنزل آيةً قرآنية واحدة، تحض على القتال بأي شكلٍ من أشكاله.  كما أن الخطر لم يرتقِ الى محاولات منظمة لإبادة المسلمين.  وحتى عندما ازداد الخطر، جاء رد فعل الرسول   (ص) سلمياً.  فدعا قسماً من أصحابه للهجرة .

 

الهجرة الى الحبشة

تحتل الحبشة ،  كما هومعروف، الجزء الجنوبي من الساحل الإفريقي للبحر الأحمر.  وقد كانت في بداية القرن السابع، غير ما هي اليوم،  فقد أصبحت معظم أراضيها في تلك الحقبة، جزءاً من السودان وإريتيريا اليوم. كما ضمت، فيما بعد، أراضي داخلية لم تكن جزءاً من أراضيها في ذلك الزمن، وهوما يعرف بالهضبة الإثيوبية.  لقد كانت عاصمتها أكسوم Axume ، وهي على مقربة من الساحل، وتقع على أحد روافد النيل،  الى الغرب من ميناء عدولي المشهور بالسفن التي تحمل اسمه،  والتي كانت محطة تجارية مهمة على خطوط التجارة البحرية الرومانية.  ولم تكن علاقات الحبشة  مع القسطنطينية تقتصر على التجارة، بل تختطت ذلك الى الجوانب السياسية والدينية.  ولم يُستبعد التعاون العسكري تماماً، رغم بعد المسافة، فهناك اعتقاد أن حملة الحبشة على اليمن في القرن السادس، كانت حركةً استباقية لمنع فارس من جذب اليمن الى صفها في حروبها ضد الرومان في ذلك الزمن.  وعلى الرغم من أن الحبشة – وهي مشتقة من  كلمة حبشات المصرية القديمة – كانت تتبع المذهب المونوفيزي، فإن الصلات الدينية بين الدولتين  كانت قائمة.  وقد سجل التاريخ سفارات رومانية كثيرة أُرسلت الى أكسوم، بقيادة رجال دين من سوريا اومن بيزنطة.  ولكن لم يسجل التاريخ مشاركة نشطة للكنيسة الحبشية في المجمعات الدينية. 

وقد حكمت الحبشة سلالة حاكمة تعتبر نفسها من نسل نبي الله سليمان، الذي كان ملكاً لدولة إسرائيل، وملكة سبأ، الوارد ذكرها في التوراة والقرآن.  وهذا ما جعل النفوذ اليهودي قوياً في الحبشة،  وخصوصاً بعد أن ضعف النفوذ الروماني،  بعد فتوح الشام ومصر، وفقدان الحبشة لأهميتها التجارية، حيث تحول كثيرٌ من الأحباش الى اليهودية في القرن الثامن للميلاد.

 

 

 

خريطة رقم 5

                                    مسارالهجرة الى الحبشة

 

وقد اختار الرسول (ص) الحبشة على بدائل مفترضة أخرى كثيرة ؛ مثل الشام ومصر    ( أي الدولة الرومانية ) والعراق ( أي الدولة الفارسية ) وكذلك اليمن ( التي كانت تحت النفوذ الفارسي )، اوأن يهاجروا  الى كنف إحدى القبائل العربية.  وقد حظيت الحبشة بمزايا جغرافية، مثل عدم وجود حدود برية مع الجزيرة العربية، وبالتالي عدم وجود مصالح متشابكة مع القبائل العربية.  وهي بنفس الوقت ليست بعيدة، والقرب ضروري لضمان التواصل، للاطلاع على أحوال المهاجرين من جهة ولإحاطتهم بما يتنزل من قرآن أولاً بأول.  وتذكر المصادر أن الرسول (ص) اختار الحبشة لأن فايها " ملكاً لا يُظلم عنده أحد " وأنها " أرض صدق" [31]   وربما وصفها كذلك لدينها ومذهبها. 

وقد هاجر أولاً خمسة عشر شخصاً، بينهم أربع نساء، في رجب من العام الخامس للبعثة.  وقد أبحروا من جدة على متن سفينة مقابل نصف دينار لكل شخص. [32] وقد حاولت قريش اللحاق بهم لإعادتهم، ولم تتمكن من ذلك.  ولا تذكر المصادر العربية، إذا ما كانت الهجرة الى العاصمة أكسوم، أم الى ميناء عدولي اوأي ميناء آخر الى الشمال يكون اقرب الى جدة، مثل ميناء عيذاب الى الشمال. وهناك مؤشران يؤيد الأول أن المهاجرين ذهبوا الى أكسيوم لأن هناك ذكراً للنيل في حادثة الاقتتال الداخلي الذي دار فيها، حيث سبح الزبير بن العوام في النيل لمراقبة المعركة، كما تُشير المصادر.  والمؤشر الثاني هوجنوح سفينة أبي موسى الأشعري في طريقه من اليمن الى الحجاز، حيث قادته الى المدينة التي هاجر إليها المسلمون، التي يجب أن تكون ساحلية، وهذا يعني أنهم هاجروا الى مدينة ساحلية، وليست العاصمة أكسوم.  ما لم يكن بعض المهاجرين في العاصمة والبعض الآخر في الميناء، لتقصي أخبار مكة اوإرسال رسالة مع بعض التجار.

وبعد شهرين من وصولهم الحبشة بلغتهم إشاعة أن قريشاً قد أسلمت.  فعادوا الى مكة.  وعندما وصلوا الى أطراف مكة، قابلوا من أبلغهم بعدم صحة ما سمعوا.  فدخلوا مكة بعد أن استجار كل واحدٍ منهم برجلٍ من مكة [33] .  إن  وصف ما وصلهم بإشاعة،  هوتبسيط لما حدث فعلاً،  فتذكر الروايات أن القرشيين سمعوا الرسول (ص) يذكر آلهتهم بخير في صلاته.ففرحوا، ويقال أنهم سجدوا مع سجوده.  فانتشر الخبر أن قريشاً أسلمت ( طبعاً بعد أن قدم الرسول تنازلات في صميم معتقده – وهوالتوحيد )  وهذا مستحيل، لمن يفهم طبيعة الدين الإسلامي، ويعرف شخصية الرسول (ص) الذي لم يساوم على قضايا أصغر.  فإذا حدث شئ قريب من هذا، فإنه غالباً ما يكون سوء فهم، وسرعان ما اتضح. ولا يعقل أن ناقل الخبر لم ينقل نفيه، أولم ينقل نفيه غيره.    

 فاشتد الأذى أكثر على المسلمين، مما حدا بالرسول (ص) بأن ينظم هجرةً ثانية.  وقد هاجر هذه المرة 101 شخص، منهم ثماني عشرة امرأة . [34]  

والملاحظ أن الرسول اختارهم  بعناية.  فلم يكونوا من " المستضعفين " ولكن من أبناء البيوت القرشية المعروفة.  وكان من بينهم أبناء زعماء كبار يناوئون الإسلام العداء الشديد؛ مثل عمروبن سعيد بن العاص، وفراس بن النضر بن الحارث، ورملة بنت أبي سفيان، وهشام بن العاص بن وائل، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وغيرهم.  ويبدوأن قريشاً كانت حريصة على إعادة هؤلاء الى دينها أكثر من حرصها على إعادة من كانت تسميهم        " الأراذل "، حتى يؤكدوا لمن يزورهم في مكة أنه " اتَّبَعَهُ أَرَاْذِلُنَا " فقط.

فوصلوا الحبشة واستقروا فيها يلقون معاملةً حسنة. 

وقد حاولت قريش إعادتهم.  فأرسلت عمروبن العاص وعبد الله بن ابي ربيعة الى ملك الحبشة ليطردهم من بلاده. [35]   وفي رواية عمروبن العاص أنه كان يتردد على الحبشة وأن النجاشي كان صديقه.  وقد مات عمروفي زمن معاوية سنة ست وثلاثين، على أفضل الروايات، عن عمرٍ يناهز التسعين ، [36] فهذا يعني أن عمره حينئذٍ يناهز الخمسين،  فهل كان هذا يؤهله لمثل هذه المهمة، وأن يكون قد زار الحبشة مراراً وأن يكون صديقاً للملك.  لقد كان عمروبن العاص يقول أنه يذكر يوم وُلد عمر بن الخطاب، الذي كان يتولى السفارة في الجاهلية. حيث كانت ترسله قريش في مهام الى القبائل الأخرى. لقد كان عمروبن العاص نبيهاً يُتقن التعامل مع المعضلات، كما كان يحب الزعامة.  وصلوا إلى الحبشة وقابلوا الملك وقالوا له في اجتماع حاشد رُتب لهذه الغاية :  "  أيها الملك، قد جاء الى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين آبائهم، ولم يدخلوا دينك، وجاءوا بدينٍ مبتدعٍ لا نعرفه نحن ولا تعرفونه أنتم "  وأضاف عمروأنهم جاءوه ليردهم الى قبيلتهم.  فقال النجاشي أنه لن يفعل حتى يسمع منهم، فاستدعاهم.  وكان المتحدث باسمهم جعفر بن ابي طالب، حيث قال مجيباً النجاشي على سؤاله عن الدين الجديد: "  أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته     وعفافه، فدعانا الى الله – عز وجل – لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئاً، وإيتاء الزكاة وإقام الصلاة."  ومضى يعدد ما أمر به الإسلام وما نهى عنه". فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده  لا نشرك به شيئاً ... فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا الى عبادة الأوثان، .. وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.. " .. فلما " ضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك ."

فقال النجاشي: " هل معك مما جاء به عن الله من شئ ؟."

فقرأ عليه " كَهَيَعَصْ " من القرآن.  فبكا النجاشي وقال : " إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة.  انطلقا، فوالله لاأُسلمهم أبداً ." 

ولكن عمروبن العاص، الذي عُرف، فيما بعد، كأحد دهاة العرب الأربعة، أصر على أن لا يفشل في مهمته.  فجاء في اليوم التالي ودخل على النجاشي وقال  له أن أتباع الدين الجديد يرون في المسيح غير ما ترى.  فاستدعاهم ثانيةً وسألهم عن السيد المسيح عليه السلام، فأجاب جعفر : " نقول به الذي جاء به نبينا (ص) ؛ هوعبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها الى مريم العذراء البتول ." وتذكر الروايات أنه التقط عوداً صغيراً من الأرض وقال : " ما يزيد هؤلاء على ما يقولون في ابن مريم ما يزن هذه ". [37]        

وقد انضم إلى المهاجرين لاحقاً مجموعةٌ من المهاجرين اليمنيين، الذين كانوا مسافرين بحراً من اليمن الى الحجاز، وكان عددهم يزيد عن خمسين شخصاً،  ومعهم ابوموسى الأشعري.  فجنحت بهم سفينتهم الى الساحل الغربي ورست في ميناء قريب من أكسيوم، وعلى ما يبدوأنهم التقوا بالمهاجرين هناك، الذين كتبوا الى الرسول بأمرهم، فطلب منهم البقاء في الحبشة.  وهذا الميناء قد يكون ميناء عدولي المقابل لجيزان على الساحل الغربي للبحر الأحمر.

لقد كانت الهجرة الى الحبشة خطة بقاء.  وقد كان الرسول (ص)  على اتصال مستمر معهم.  فقد كان يبعث لهم ما يتنزل من قرآن، وما يُفرض من عبادات، وما يستجد من أخبار.

عاد المهاجرون بعد اثنتي عشرة سنة، بعد ان أرسل لهم الرسول بذلك.   

وكانت الحبشة قد شهدت اقتتالاً داخلياً، عندما كان المسلمون هناك.  فقد يكون ثورة ضد النجاشي.  ولكن ما يلفت النظر أن النجاشي طلب منهم أن ينحازوا الى ناحية البحر، بانتظار حسم المعركة، حتى إذا خسرها النجاشي عادوا الى بلادهم.  فيفهم من ذلك أن لوجودهم علاقة بسبب الاقتتال.  هل كان لبيزنطة دور في ذلك ؟  هذا ما سنعود الى احتماليته في فصل لاحق.

ولم يتوقف الاضطهاد والقمع للمسلمين من قبل قريش.  وقد وصل ذروته بمقاطعة منظمة اتفقت عليها قريش لبني هاشم.  وقد استمرت سنتين في بعض الروايات، وثلاثاً في روايةٍ أخرى.وكان أكثر ما عانى من مستضعفي المسلمين آل ياسر، عمار وأُمه وأبيه. وقد ماتت أُمه تحت التعذيب.وقد كان الرسول يطلب منهم أن يصبروا، حتى أنه رفض أن يدعوالله لهم مؤكداً عليهم أن يصبروا، حيث أتاه أحد المسلمين الأوائل واسمه خباب بن الأرت، وكان حداداً، يطلب منه ذلك، فقال له الرسول (ص) : " لقد كان مَن  قبلكم يُحفر له حفرةٌ ويجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق، ما يصرفه عن دينه ... ". [38]   وهذا ربما يكون في إشارةٍ الى الاضطهاد الديني الذي مارسته الدولة الرومانية ضد أتباع المسيح لمدة ثلاثة قرون، ويذكرنا كذلك بأصحاب الأُخدود المرثيين بالقرآن. 

وفي هذه الأثناء قام الرسول (ص) بزيارة الى الطائف، لم ينجم عنها شئ.  كما أسلم عمر بن الخطاب، الذي كان يُظهر عداءً شديداً للإسلام.  وكان من جبابرة قريش.  وكان زوج أخته يقول عنه :" لن يُسلم حتى يُسلم حمار الخطاب ".  ولكن الرسول (ص) كان يأمل في إسلامه، فقد كان يدعوالله دائماً :" اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ".  أما الآخر فهو عمروبن هشام، أبوجهل، أشد قريش عداءً للمسلمين.   

ومع شدة الحصار والاضطهاد،  فقد استمرت الدعوة  وحققت نجاحات كثيرة، كان أهمها تحقيق اختراق كبير في الشمال، حيث أخذ الإسلام بالانتشار في يثرب بين الأوس والخزرج.

 

الهجرة الى المدينة

ثم جاءت الهجرة الشاملة الى المدينة، التي كانت تعرف باسمها القديم يثرب في عام 622 م، لتشكل المنعطف الأهم في تاريخ الدعوة الإسلامية بعد البعثة.  وهي الهجرة التي أُريد لها أن لا تكون مؤقتة من اليوم الأول.

 

يثرب كمدينة

تقع مدينة يثرب على تقاطع خط عرض 24 وخط طول 39.  وتبعد عن مكة حوالي 400 كم.  وهي عبارة عن مجموعة من الواحات، المحتوية على آبار ماء عذب.  واشتهرت بزراعة النخيل ومحاصيل زراعية أُخرى.

وكان يسكنها عرب ويهود.  والعرب هم قبيلتا الأوس والخزرج، وكانتا قد هاجرتا من اليمن كقبيلة واحدة، لأنهما من نسل جدٍ واحد.  أما اليهود، فتذكر الروايات أنهم هاجروا من الشام، وكانوا ينتمون الى ثلاث قبائل رئيسية ؛ هم بنوقينقاع وبنوالنضير وبنوقريظة.  ولم تكن المدينة مسورة وتتكون من أحياء وتخترقها الشوارع كما هي العادة.  إنما كانت عبارة عن آطام، أي حصونٍ،  متفرقة ومستقلة.  اشتهر من بينها " فارع " الذي يعود لحسان بن ثابت، الشاعر.  كما كان هناك بيوت متناثرة خارج الآطام، والتي وُصفت بأنها عورة يوم الخندق.    

لقد كانت يثرب مدينة زراعية أساساً، إلا أنه كان بها عدة أسواق دائمة، يرتادها أبناء وبنات البوادي المحيطة بيثرب.  ولم يُعرف عن تجارة دولية منظمة تُمارسها يثرب كما هوالحال في مكة.

ولم تكن يثرب مدينةً صغيرة، فقد تخطى عدد سكانها العشرين ألف نسمة، منهم 40% من اليهود.  وهذه تقديراتنا مبنيةً على حساب قدرة كل فئة على حشد مقاتلين، ومن ثم احتساب بقية السكان.

لقد أخذت الدعوة  مراحل متعددة، كما بينّا آنفاً، على شكل دوائر تتسع شيئاً فشيئاً.  فمن العشيرة الأقربين الى العشيرة الأكبر، ثم مكة وما حولها، ثم العرب عامة.  فأخذ يغتنم فرصة قدوم حجيج من القبائل الى مكة، فبدأ يعرض عليهم الدين الجديد.  فكان يتقدم الى حيث يقيمون، ويخاطبهم بلغةٍ واضحة مباشرة، أن يؤمنوا به كرسول، أن يدَعوا الشرك بنبذ الأصنام.  وقد وصلت الينا بعض الروايات التي نُقلت عن أشخاصٍ كانوا صغاراً في ذلك الوقت، وكبروا وأسلموا فيما بعد.  مثل رواية أحدهم، واسمه ربيعة بن عباد، قال :  " إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله ( ص) يقف على منازل العرب فيقول: " يا بني فلان إني رسول الله اليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً... "  ويتابع الراوي انه كان يقف وراءه شخصٌ أحول  له ضفيرتان، كان ينتظر بمنتهى الصبر حتى يُنهي كلامه دون أن يقاطعه ثم يطلب من الحضور أن لا يستمعوا إليه. 

وهكذا كانت تذهب جهوده هباءً .كانت مكانة قريش كبيرة بين العرب.  فكان يكفي أن تعرف العرب أن قريش لم تتقبل الدين الجديد، حتى يتجاهلوا هذه الدعوة.  وقد كان هذا يسبب حرجاً شديداً لقريش ويهز مكانتها بين العرب. ولذلك اجتمعوا في إحدى السنين قبل موسم الحج، وقد كثُر متبعوالدين الجديد، ليوحدوا تفسيرهم للظاهرة التي يصعب إخفاؤها عن الحجيج. فعرضوا عدة اقتراحات، منها أنه مجنون أوأنه ساحر اوشاعر.  فاتفقوا على أن يقولوا أنه ساحر، فلما ذُكر للعرب أنه كذلك، تجاهل غالبيتهم دعوته، ولكن بعضاً منهم خلق ذلك لديهم فضولاً، جعلهم يقصدون الرسول ويستمعون إليه. 

وعلى ما يبدوأنه استمر على هذا النهج لسنوات، حيث وصلت إلينا عدة روايات عن محاولات مع قبائل شتى، من بينها كندة وبنوفزارة وبنومرة وبنوسليم وكلب وبنوحنيفة الذين كانوا أقبح العرب رداً عليه.  وأتى بنوعامر، فقال أحدهم، وقد أدرك البعد السياسي للدعوة : " لوأني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ". [39]  

ولم تحقق هذه المحاولات أية نتيجةٍ تذكر، فلم تتبنَ الدعوة أية قبيلة.  فكانوا يقولون :    " قومه أعلم به ". [40]

ومن بين أطرف المقابلات، تلك التي جرت مع وفدٍ من شيبان.  حيث جرى حديثٌ مع ثلاثة من مقدميهم، المثنى بن حارثة الشيباني.  وقد وصف أحدهم عرض الرسول للدين، أنه دعوة الى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.  وكان رأي الآخرين لا يختلف كثيراً، ولكن أضاف المثنى أنهم يقطنون على أطراف بلاد  فارس، وأنهم نزلوا على عهد " أن لا نُحدث حدثاً، ولا نؤوي محدثاً، ولعل الأمر الذي تدعونا عليه مما تكرهه الملوك ".  فذكروا له أنهم لا يستطيعون منعه فيما يلي فارس، بينما يستطيعون منعه بين العرب.  فقال لهم رسول الله (ص) : " ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق.  إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه."  ثم أضاف الرسول أنهم لن يلبثوا طويلاً حتى يحوزوا أرض الفرس، ثم سألهم هل سيسلمون عندئذٍ.  فأجابوا بالموافقة. [41]   وقد صدق الرسول نبوءته وصدق الشيبانيون وعدهم. 

كما توجه الرسول الى سوق عكاظ لعرض الدين على القبائل هناك، عسى أن تكون مؤثرات قريش أقل، وقد ذهب في ثلاثة مواسمٍ متعاقبة،  قبل هجرته، ولم تكن النتيجة أفضل من موسم الحج، بل لقد حاول أحد الأشخاص رميه في بئر. [42]

 

الأوس والخزرج

كان أول من آمن من الأوس سويد بن الصامت، الذي جاء مكة معتمراً، فقابله الرسول وعرض دينه.  فاستحسن سويد ما سمع، وقال : " إن هذا قولٌ حسن " وعاد الى يثرب حيث قُتل في إحدى المعارك مع الخزرج.  وعلى ما يبدوأنه اهتم بما سمع، حيث كان يردد كلمات رسول الله، ويعتقد بعض رجال الأوس أنه مات مسلماً. [43]

ثم أسلم إياس بن معاذ.  حيث كان قد جاء مع وفد من الخزرج يلتمسون حلف قريش ضد  الأوس.  فجاءهم الرسول (ص) في مكان إقامتهم وقال لهم : " هل لكم في خير مما جئتم له"  فعرض عليهم الإسلام، فسارع إياس الى الموافقة، وكان أصغرهم سناً، فزجروه.  وقالوا للرسول أنهم جاءوا لغير هذا، فقام عنهم، وعادوا الى يثرب.  وسرعان ما مات.  وكان قبل موته يهلل الله ويسبحه ويحمده.  ولم تشك الخزرج أنه مات مسلماً . [44]  

لقد مات كلٍ من سويد وإياس، وقد مهدا للدين الجديد، وساهما في تقبل الدين الجديد، مساهمةً لا يستطيع أحد أن يجزم مدى حجمها. ولكن كان هناك عاملان آخران ساعدا على أن يكون موقف ألأوس والخزرج مختلفاً عندما يعرض عليهم الرسول الإيمان بالدين. وهما كون ألأوس والخزرج يجاورون اليهود في يثرب، وعلى مر السنين استمعوا منهم عن أنبياء بني إسرائيل، كما استمعوا منهم عن نبيٍ " أظل زمانه ".  فمن ناحية، كانوا مهيئين لإمكانية أن يكون هناك نبي يبعث في هذا الزمان.  من المعروف أن هناك رفضاً تلقائياً لفكرةٍ من هذا النوع، ناتجاً عن استغراب وإنكار.  كما كان العرب عموماً يحسون بالدونية تجاه اليهود والمسيحيين فيما يتعلق بالدين.  أما السبب الثاني فهوتعب الأوس والخزرج من الانقسام والاقتتال.  فقد وقعت بينهم مؤخراً وقعة بعاث، حيث قُتل من الطرفين أعدادٌ كبيرة. وكان قبلها حروب كثيرة.   

وفي الموسم التالي قابل الرسول وفداً من الخزرج، فطلب منهم أن يسمعوا منه كعادته، فوافقوا.  فاستمعوا إليه وآمنوا.  فقالوا له : " إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم.  وعسى أن يجمعهم الله بك .. فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ".  ثم انصرفوا راجعين الى يثرب بعد انتهاء الموسم . [45]    

وقد كان عددهم ستة،  وقد كانوا من الأوس والخزرج .  فقد كان من بينهم أبوالهيثم بن التيهان، وهومن الأوس.  وعلى ما يبدوأن الستة كانوا ممن لم يكن لهم دورٌ نشط في موقعة بعاث التي كانت لم تجف الدماء التي أريقت فيها بعد. فكيف كان لهؤلاء الستة أن يتصاحبوا في رحلةٍ كهذه وبينهم عداء مستحكم ودماء.  فلا بد وأنهم كان هناك ما هومشترك بينهم، وهوقناعة مشتركة بعبثية الاقتتال وإراقة الدماء.  فوجدوا بالدين الجديد ما يرضي حسهم بالحاجة الى عقيدة أكثر إقناعاً، كما وجدوا فيه وسيلة توحيد بينهم.  فقد كانت عائشة تقول :" كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله ". [46] فرجعوا الى قومهم فدعوهم الى الإسلام فتجاوبوا.  ثم أرسلوا الى رسول الله شخصين ، ليبعث إليهم من يفقههم.  فبعث معهم  مصعب بن عمير، وهو احد اوائل الناس إسلاماً. [47]

في الموسم التالي جاء اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج، والتقوا بالرسول في العقبة، وهومكانٌ في مكة، حيث بايعوا الرسول بيعة العقبة الأولى.  وهي ما سميَ بيعة النساء، لأنها لا تتضمن الدفاع عن الرسول.  وقد كانت البيعة على أن لا يشركوا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يكذبوا ولا يفتروا . [48]  

وعلى ما يبدوأن مصعب بن عمير رافق الوفد الى مكة،  فعاد معهم عندما انقضى الموسم، واستمر بالدعوة في يثرب.  وكان يؤم من أسلم منهم في الصلاة.  وعلى ما يبدوأن الرسول كان يحيطه علماً بمستجدات العقيدة والعبادات، وبما يُنزل من القرآن.  فتذكر الروايات أن الرسول بعث إليه يأمره أن يقيم صلاة الجمعة، على سبيل المثال.  

وفي الموسم التالي أخذت الأمور بالتسارع، حيث حضر عددٌ كبيرٌ من أهل  يثرب الى مكة حجاجاً، مسلمين ومشركين، ومعهم مصعب بن عمير.  وكان كثيرٌ منهم قد أسلم دون ان يرى الرسول (ص)، فكان همهم الأكبر رؤيته.  فتواعدوا بنفس المكان، العقبة، في وقتٍ متأخرٍ من الليل، في يومٍ محدد بعد الانتهاء من شعائر الحج في أواسط أيام التشريق، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من ذي الحجة . [49]  

فتسللوا من مخيمهم خشية أن يتنبه إليهم مشركو يثرب وبقية الحجيج من قبائل العرب المختلفة، وكذلك أهل مكة الذين يهتمون بأمر الحجيج، ويسهرون على راحتهم. 

فتجمعوا بالعقبة وكان عددهم ثلاثةً وسبعين شخصاً بينهم امرأتان.  وجاء الرسول (ص) ومعه عمه العباس.  وكان العباس لا يزال على دينه، لم يسلم بعد.  وكان الموضوع المدرج على قيد البحث هوانتقال الرسول الى يثرب، أي هجرته اليها.  فجلسوا جميعاً، وبدأ العباس الحديث، وكان معروفاً لأهل يثرب، كتاجر وكأحد رجالات قريش وزعمائها.  قال العباس: " إن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا .. فهوفي عزٍ في قومه ومنعة في بلده  .. وإن كنتم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم،  فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍ ومنعة من بلده وقومه ".  فقالوا له : " قد استمعنا ما قلت.  فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما أحببت ". [50]        

فبدأ الرسول (ص) بتلاوة آيات من القرآن  ورغّب في الإسلام وقال:" أُبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم ". فأخذ أحدهم يده وقال : " نعم، والذي بعثك بالحق نبياً، لنمنعك مما نمنع منه أُزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ( أي السلاح )، ورثناها كابراً عن كابر ". [51]  

وهكذا كان، فبعد محاولات كثيرة، خاطب بها وفود الحجيج، سنةً بعد سنة، باحثاً عن ملجأ ليكون نقطة انطلاق للدعوة، بعد أن يئس من قريش أن تتبعه كقبيلة، ففي ذلك الوقت كانت المعارضة القرشية للدعوة شديدة جداً وتتمثل ببعض رموز الزعامة الذين كانوا على استعداد لبذل اموالهم وأرواحهم وتوظيف نفوذهم وخبراتهم من أجل إحباط الدعوة.  لقد حاول الرسول (ص) مع قبائل عديدة، اقترب بعض منها من الموافقة، والبعض الآخر قدم عروضاً مشروطة رفضها الرسول، كما أجابه بعضهم أجابات قاسية.  وكانت كل قبيلة تعبر عما تحتويه من إرث سياسي وعسكري وثقافي لدى قادتها، ومقدرتهم على إدراك البعد السياسي للعرض، فالقبيلة التي ستأوي الدعوة، ستتحمل الصدمة الكبرى في صدامها مع القبائل المعارضة وأولها قريش.  فبعض وفود القبائل استخفوا بما سمعوا، ولم يرغبوا بإغضاب قريش بمجرد الاستماع إليه.  وهؤلاء كانوا من القبائل المحيطة بمكة.  ومنهم من أدرك أبعاد الدعوة المختلفة، وامتلك بعد نظرٍ كافٍ ليتصور التبعات المترتبة على هذه الخطوة، فمنهم اعتذر لعدم امتلاك الحرية للاضطلاع بمشروع كهذا.  ومنهم من اشترط أن يكون لهم الأمر من بعده، فرفض.  وهذا دليل أنه لم يكن يائساً.  ومنهم من أدرك أنهم أضاعوا فرصة مهمة، ولكن بعد فوات الأوان.  القرار لم يكن سهلاً.  فوفد أي قبيلة لم يكن ليمثلها التمثيل الكامل.  كما أن الأوس والخزرج احتاجوا ثلاث سنوات لحسم أمرهم تماماً .

لم يشترط الأنصار، كما أصبح اسمهم من هذه اللحظة، أي شرط، إلا أنهم سألوا الرسول إذا ما كان سيرجع الى قومه إذا ما أظهره الله.  فكانت إجابته أن " العيش عيشكم والممات مماتكم". [52]   ثم طلب منهم أن يختاروا اثني عشر نقيباً من بينهم،  فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.  ثم انصرفوا الى رحالهم كما جاءوا .

وهكذا وضع حجر الأساس لدولة المسلمين بمزاوجة الإمكانات القبلية للأوس والخزرج مع العقيدة الجديدة تحت قيادة فذة لشخصٍ يمتلك بعد نظر عميق  ويتحلى بأخلاق كريمة ونسب يؤهله لهذه القيادة، كما كان يتسلح بسلاحٍ لم يكن يمتلكه أحدٌ في زمانه، وهوالاتصال بالوحي.

وفي صبيحة اليوم التالي جاءت مجموعة من القرشيين الى مكان إقامة الأوس والخزرج، وقد بلغهم ما جرى.  فأخذ بعض مشركي الأوس والخزرج، والذين لم يعرفوا بما جرى في الليلة السابقة، يحلفون أن هذا غير صحيح.  فصدقوهم .

ثم بدأوا برحلة العودة.  وفي هذه الأثناء تأكد الخبر لقريش، فتبعوهم.  فاستطاعوا القبض على أحدهم، سعد بن عبادة، وكان أحد النقباء.  فأعادوه الى مكة.  وأخذوا يتجاذبونه ويضربونه، إذ همس أحدهم في أُذنه " أما بينك وبين احد من قريش جوار اوعهد "  فقال :  " كنت أجير لجبير بن مطعم وللحارث بن حرب  تجارةً في بلادي "  فهتف باسمهما،  فبلغهما ذلك فجاءا وخلصاه . [53]   وبهذا  أخذ الصراع العقيدي بُعداً جديداً، فقد أصبح عربياً بعد أن كان قرشياً محضاً.  والجوار هونوع من الحماية يقدمه من يقدر عليه لمن يحتاجه، ونوع من الحماية من أي خطرٍ محتمل .

 

تسرب الخبر

كنت دائماً أتساءل إذا ما كان هناك خائن بين الذين بايعوا الرسول (ص) في تلك الليلة المصيرية.  وكنت أنزه تلك النخبة من الأنصار عن ذلك، وأُرجح أن يكون بينهم ثرثارٌ تحدث الى قريبٍ اوصديق وثق به، الذي قام بدوره يإيصال المعلومة.  ولكن بعد التعمق في دراسة هذه الفترة، بدأ الاستغراب يحل محل الشك.  الاستغراب من كيفية الحفاظ على سرية الموقف لغاية انتهاء البيعة.  فكيف فسرت قريش اختفاء مصعب بن عمير عاماً كاملاً وظهوره فجأةً بصحبة حجيج يثرب.  كما أن الدعوة في يثرب لم تكن سرية، ولم يكن من أسلم من الأوس والخزرج، بحاجة لإخفاء إسلامه.  وبالتالي فمن المؤكد أن غير المسلمين ممن حضر من يثرب الى مكة، كانوا على اطلاع  بإسلام إخوانهم وبتفشي الإسلام في مدينتهم، ومن المستغرب أن لا يكونوا تحدثوا بذلك.  كما أن أخبار نجاحات الدين الجديد في يثرب، لم تكن بحاجة الى الانتظار لموسم الحج للوصول الى مكة، فالأخبار والأشعار كانت تنتقل بسرعة تثير الاستغراب.   إن هذا يشير الى أن مجهوداً خاصاً قد بُذل من التمويه على العملية، كما أن انشغال قريش بالموسم قد يكون ساعد بعض الشيء.  وعلى ما يبدوأن أمر إسلام هذا العدد الكبير لم يكن معروفاً الى درجة التخوف على أمنهم الشخصي.  فلوكان الأمر كذلك لأرسلوا الى مكة عدداً أقل، اوربما تواعدوا خارج مكة، ولم يخاطروا بدخولها.  ويمكن أن يكون اطمئنانهم لحرمة مكة، والتزام قريش بذلك، جعلهم لا يخطر ببالهم رد فعلٍ من أي نوع من قبل قريش.     

 

وقد كانت بيعة العقبة الأخيرة بيعة حرب، على عكس البيعة الأولى التي لم تتضمن تعهداً بحمل السلاح دفاعاً عن النبي (ص).  فقد كان أُذن للرسول والمسلمين في القتال بين البيعتين، في قوله تعالى : " أُذِنَ لِلََّذِيْنَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوْا وَأَنَّ اْللهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيْرٌ" . [54]  

 

الهجرة

ثم أمر الرسول أصحابه، كما كان يسمى أتباعه، بالخروج الى المدينة مهاجرين.  فخرجوا أرسالاً، وأقام الرسول (ص) ينتظر أن يأذن له ربه بالهجرة . [55]

فعملت قريش ما بوسعها لإحباط هجرتهم.  وعلى ما يبدوأنه لم يكن هناك جهد منظم لهذه الغاية.  فقد كانت المحاولات تقتصر على الأقارب، فيمنع الأب ابنه، ويمنع الأخ أخاه، فيحبسونهم.  كما نجح البعض بإعادة بعض المهاجرين بعد أن وصلوا المدينة،  بالاستعطاف أحياناً والخديعة أحياناً أُخرى.  كما نجح المسلمون بإطلاق سراح بعض المعتقلين في مكة وتخليصهم .وقد عانى بعضهم معاناة شديدة في هجرتهم مثل أم سلمة التي منعت من مرافقة زوجها ثم نُزع منها ابنها من قبل أهل زوجها.  كما نُزع من صهيب الرومي ماله، فتنازل عنه وأكمل مسيره الى المدينة. ونزلت بعض الآيات فيمن تخلف من المسلمين في مكة.  فبعثها عمر بن الخطاب من المدينة الى صديقٍ له هوهشام بن العاصي في مكة.  فقرأها حتى أدرك أنها نزلت به وبأمثاله من المتخلفين عن الهجرة، فركب راحلته ومضى الى المدينة. [56] وقد كان الموقف الإسلامي الرسمي يشجع هجرة المسلمين، خوفاً عليهم من أن يُردوا الى دين قريش.  ومع هذا فقد تبقى البعض.  وعلى ما يبدوأن آخرين أسلموا بعد الهجرة، بعضهم هاجر وبعضهم مكث في مكة.  ولم تخلُ مكة من المسلمين منذ الهجرة حتى فتحها على يد المسلمين، الذين غادروها فرادى وبجماعات صغيرة، والذين عادوا إليها بعد ثماني  سنوات ضمن جيش تعداده عشرة آلاف مقاتل .

 

هجرة الرسول

لقد كان المكيون يرددون مقولةً مفادها أن مكة لا يحكمها ملك، ولحسن حظ المسلمين لم يكن يحكمها ملك.  فلوكان يحكمها اويديرشؤونها ملك، اوشخصٌ واحدٌ تحت أي مسمى، لكانت آلية اتخاذ القرارات فيها أسرع.  فقد كان هناك تسريبات عن الاتفاق الذي أُبرم في العقبة في أواسط شهر ذي الحجة.  ولا بد أنه كانت هناك معلومات عن نشاط المسلمين في يثرب، منذ وصول حجاجها الى مكة، وربما قبل ذلك، كما أن اختفاء مسلمي مكة، بما في ذلك أُسرٍ بكاملها، غادر بعضها علناً، وغادر البعض الآخر، من المستضعفين، سراً،  ومع هذا لم تضع قريش خطةً لمواجهة الموقف، كما لم يكن هناك خطة عمل شاملة على صعيد قريش بكاملها، فكان كل فرعٍ من فروع قريش، يتعامل مع مسلميه اضطهاداً وحبساً وتعذيباً، على حدة.  ولذلك لم يُضطهد مسلموبني هاشم من قبل بني هاشم كعشيرة، ولا من قبل قريش كقبيلة.  لقد نجحت قريش في السنوات العشرالأخيرة، في الحيلولة دون تحول الإسلام الى كيانٍ سياسي.  لا في مكة ولا خارجها. ولم تكلل رحلة الرسول (ص) الى الطائف بنجاح، ولم تلاقِ جهوده مع القبائل النتائج التي كان عليه السلام يرجوها، بالرغم من مخاطبتة عشرات القبائل على مدى أربعة اوخمسة مواسم.  على أن الرسول (ص) كان مستعداً  للأسوأ، ولم تكن الهجرة الى الحبشة إلا ضمن خطة لمواجهة الأسوأ .

فبعد أن هاجر الجميع تقريباً، ولم يتبقَ إلا الرسول وعلي وأبوبكر، الذي كان يستأذن الرسول في الهجرة، فيقول له :" لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً "، فيطمع أبوبكر أن تكون له شرف مصاحبة الرسول (ص) في هجرته الى يثرب. [57]   في هذا الوقت قرر رجال قريش أن يجتمعوا في دار الندوة، لتدارس الموقف، ولاتخاذ موقفٍ جماعي.  لقد كان القرشيون يدركون أن لوأفلت المسلمون ومعهم نبيهم (ص)، فإنهم سيشكلون قوة تناصبهم العداء، وربما تتغلب عليهم.   حيث كان المسلمون قد بدأوا هجرتهم قبل أكثر من ثلاثة شهور.  وكانت هذه الهجرة هي الثانية، فقد سبقتها الهجرة الى الحبشة.  وهذه، على عكس الهجرة الأولى، كانت هجرةً شاملة.  وربما هذا ما جعل قريشاً تتأخر في تحركها.  لقد أصبح واضحاً أنها هجرةً شاملة، لا بد أن ينجم عنها تأسيس كيان سياسي يهدد أعداءه.  التقى في دار الندوة رموز قريش جميعاً، ما عدا عمي الرسول العباس وأبا لهب.  وعلى ما يبدوأن موضوع البحث كان يهم قريش كلها اومعظمها،  فقد سُمي ذلك اليوم بيوم الزحمة، من كثرة ما اجتمع من بشر، داخل دار الندوة وخارجها. [58] طُرح في الاجتماع أكثر من وجهة نظر.  فقد أصبحت خيارات قريش محدودة بعد أن هاجر معظم المسلم\و من مكة.  فكان التفكير يتجه نحوحرمان المجتمع الإسلامي، الآخذ بالتشكل في يثرب، من مسلميها وممن هاجر إليهم من مسلمي مكة، من قائده، محمد (ص).  فطُرح الحبس كما طُرح القتل.  وكان مما يقف حائلاً دون هذا الخيار في السابق، الذي راود كثيرين  من المكيين خلال السنوات الماضية، هوتجنب استعداء عشيرة الرسول (ص) ؛ بني هاشم، والخوف من ثأرهم، وأيضاً الحرص على وحدة قريش.  وقد كانت وحدة القبيلة خطاً أحمر، يحرص الجميع على عدم تخطيه، حتى أشدهم عداءً للإسلام وللنبي، أبوجهل.  وهناك آية قرآنية تشير الى هذا الاجتماع  وتدل أنه كان هناك اقتراح ثالث ؛ "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا لِيُثَبِّتُوْكَ أَويَقْتُلُوْكَ أَويُخْرِجُوْكَ " [59] ، فعلى ما يبدوأن بعض مشركي مكة فكر بإبعاد الرسول (ص) عن مكة،  في الوقت الذي كان يفكر بالهجرة. والثابت أن قرارالهجرة ووجهتها كانتا سراً لم يعرفه إلا قلائل.

استقر رأي المجتمعين في دار الندوة على أن يجمعوا قوةً يتم اختيارها من عشائر قريش جميعاً، بحيث تنتدب كل عشيرة شاباً.  فيدخل عليه الشبان ويضربونه" ضربة رجلٍ واحد " فيقتلون، " فيضيع دمه بين القبائل " أي بين أفخاذ قريش.  فلا يستطيع بنوهاشم أن يثأروا من قريش كلها، فلا يبقى أمامها إلا قبول الدية والصلح . [60]  

لقد عُقد هذا الاجتماع، واتخذ هذا القرار في الأسبوع الأخير من صفر، ربما في الرابع والعشرين اوالخامس والعشرين منه.  فإذا أفلت مسلموالأوس والخزرج من أهل مكة في حدود منتصف ذي الحجة، وبدأ المسلمون بالهجرة مباشرةً بعد ذلك.  فإن هذا الاجتماع جاء  متأخراً شهرين ونصف.  

فأُوحي الى الرسول أن لا ينام في مكان، فلما دخل الليل، تجمعوا امام بيت رسول الله (ص)، الذي  رآهم، وطلب من ابن عمه علي أن ينام في فراشه. 

كان أبوجهل، كما سماه الرسول (ص)، وهوأشد الناس عداوةً للإسلام، مع الفتية الذين تم اختيارهم من قبائل قريش، ولم يكتفِ بالمشاركة باتخاذ قرار التصفية، ولم يكتفِ بالتوجيه عن بعد، كما يليق بزعيمٍ مثله، بل جاء بنفسه ليضمن تنفيذ القرار.

لم يكن القرار سرياً، فقد كان هناك أعدادٌ غفيرةٌ من القرشيين وغيرهم حضوراً في الاجتماع.  ولا بد أن الخبر قد وصل الى بني هاشم، عشيرة النبي وجيرانه.  وقد كان بنوهاشم في هذا الوقت إما مسلماً هاجر الى يثرب مثل عم الرسول  حمزة، اومشركاً معادياً للرسالة مثل عمه الآخر ابي لهب،اومشركاً متعاطفاً مثل عمه العباس. ولم يكن باستطاعة الفئات الثلاث حشد قوة للدفاع عن النبي (ص)، من رغب منهم أم من لم يرغب.  وهذا ما قد يكون تفسير عدم حدوث اقتتال في تلك الليلة. 

تجمعوا خارج بيت الرسول (ص)، ولم يحاولوا دخول البيت لوجود نساءٍ فيه،  وهذه من الخطوط الحمراء التي ما كانوا ليتخطوها مخافة ان يعيرهم العرب أنهم اقتحموا البيوت على بنات أعمامهم.  فلم يكن العرب يؤمنون أن  " كل شئ مباح في الحرب ".  فخرج الرسول من بينهم وهويقرأ آيات من سورة ياسين انتهت بقوله تعالى " فَأَغْشَيْنَاْهُمْ فَهُمْ لَاْيُبْصِرُوْنَ " دون ان يروه بإرادة الله عز وجل.  وانطلق الى بيت أبي بكر. [61]

وتذكر الروايات أن شخصاً ماراً قد رآه يخرج،  فقال لهم ذلك ولم يصدقوه، واستمروا بمراقبتهم.  وفي الصباح نهض علي فرأوه من حيث يراقبون، فأدركوا أن الرسول (ص) أُفلت منهم. 

ذهب الرسول الى بيت ابي بكرمتقنعاً، وأخبره أنه أُذن له بالخروج . [62] فقال ابوبكر     " الصحبة يا رسول الله ؟ " فقال : " الصحبة " فبكى أبوبكر. وقد كان احتمال عدم هجرة الرسول (ص) نهائياً، بنظر البعض،  قائماً كما حصل في هجرة الحبشة، ولكن أبا بكر لم يفاجأ تماماً بما سمعه، لأن الرسول (ص) كان يطلب منه أن لا يتعجل بالهجرة عسى أن يجعل له صاحباً، وكان يرجوأن يكون الرسول (ص)  ذلك الصاحب. 

وكان قد أعد راحلتين لهذه الغاية، واستأجر دليلاً يعرف الجبال والأودية والصحاري الواقعة بين مكة والمدينة.  وقد كان هذا الدليل مشركاً على دين قريش، فواعداه أمام غار جبل ثور، أسفل مكة،  بعد ثلاثة أيام . [63] وعلى ما يبدوأن الرسول غادر بيت أبي بكر لينجز بعض الترتيبات، هجرة بناته، اووداع بعض أقاربه مثل عمه العباس، والذي كان يحترمه كثيراً، وإن لم يكن قد أسلم بعد،  اولوضع الترتيبات النهائية مع علي لتأدية الأمانات، كما أن هناك احتمال أنه رضي ببقاء بعض المسلمين دون هجرة، وخصوصاً من بين نساء بني هاشم، فكان لا بد لتنظيم وسائل اتصال بينهم وبينه لضمان الاطلاع على ما يتنزل من قرآنٍ اولاً بأول، وبقائهم جزءاً من المجتمع الإسلامي، فما كان الرسول ليغادر دون أن يودعهم.  من المؤكد أنه أمضى يومه الأخير في مسقط رأسه مكة، في ترتيبات من هذا النوع،  لقد أهملت كتب السير ذلك،  كما أن الغالب انه كان يسير في طرقات مكة، التي كانت تغلي وحده دون حرس اورفقه. 

ولما أزمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج، أتى أبا بكر"ليلاً على الأغلب"، وغادرا البيت من بابٍ صغيرٍ خلفي.  وانطلقا الى مغارة في جبل ثور جنوب مكة، ودخلاها، ومكثا بها لمدة ثلاثة أيام، ريثما تهدأ الأوضاع، حيث وضعت قريش جائزة كبيرة لمن يدل على الرسول (ص)  وهي مائة بعير . [64]

وهناك احتمالٌ آخر؛  أن يكون الرسول (ص) قد أمضى الليل في بيتٍ من بيوت بني هاشم، ممن أسلم منهم، حيث رتب كل ما أراد ترتيبه، قبل مغادرته لمكة.  وغادر في اليوم التالي الى بيت أبي بكر، عند الظهيرة، وبقي هناك الى الليل، ثم خرجا من باب خلفي الى الغار في الليل.  

وفي هذه الأثناء كان أكلهم وشربهم يأتيهم بانتظام، فقد كان راعي غنم أبي بكر يأتي بالغنم الى باب المغارة، فيحتلبونهاويشربون، كما كان القطيع يخفي أية آثار على الأرض قد تدل عليهم وعلى آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر الذي كان ياتيهم يومياً بأخبار قريش. [65] وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن أبي بكر كان يبيت في الغار معهما. [66] الذين جندوا كل الإمكانيات لمنع وصول الرسول (ص) الى يثرب، اوعلى الأقل عدم مغادرته مكة. وعلى ما يبدوانهم فتشوا بعض البيوت، فقد تم تفتيش بيت أبي بكر والتحقيق مع عائلته، وقد فعل ذلك أبوجهل شخصياً، حيث تذكر الروايات أنه لطم ابنته أسماء بنت أبي بكر على وجهها.  كما بعثوا السرايا باتجاهاتٍ مختلفة، فأصبح كثيرون من الأعراب، فيما يحيط بمكة طامعين في الجائزة  ومستنفرين.  لم يكن الرسول شخصاً مكروهاً، في مكة وما حولها،  ولا بد أنه كان هناك بين المشركين من كان يتعاطف معه، وبالتالي فلا بد أن يكون قد لوحظ، أثناء تنقله، من قبل كثيرين ولم يشوا به، فالمكان مكشوف، والعرب يمتلكون مهارات خاصة باقتفاء الأثر.  إلا أن البحث المحموم قاد جماعةً من قريش الى باب المغارة.  فرأوا عنكبوتاً قد نسج بيته على باب المغارة.  فقال أحدهم لودخل أحدٌ المغارة لتمزق بيت العنكبوت، فانطلقوا يبحثون في أماكن أُخرى . [67]

وفي اليوم الثالث، هدأ البحث، حيث جزم القرشيون أنه أفلت وأنه قطع مسافةً بعيدة.  فقرر الرسول وأبوبكر الانطلاق، فطلبا الراحلتين، وركبا عليهما واتجهوا بصحبة الدليل وعامر بن فهيرة خادم أبي بكر، باتجاه البحر.  وصلوا الى يثرب في يوم الإثنين،  الثاني عشر من ربيع الأول، وكانوا غادروا الغار في الأول من ربيع الأول، وهي أطول من المدة المعتادة للسفر بين المدينتين،  فقد وصل خبر مغادرتهم مكة الى المهاجرين والأنصار في المدينة، كما أصبح مسلمومكة ( وغيرها ) الذين هاجروا، والذين نصروهم واحتضنوهم من مسلمي يثرب.  وكانوا يخرجون يومياً، من الصباح الباكر، لاستقبال النبي الذي آمنوا به دون أن يراه معظمهم.  كان الرسول (ص)، عملياً، آخر المسلمين هجرةً.  فلم ينجُ بنفسه قبل أن تتعقد الأمور، ولم يترك وراءه في مكة إلا إبن عمه علي بن أبي طالب، ليؤدي عنه الأمانات.  وقد كان الرسول،  قبل نبوته بزمنٍ طويل،  يسمى الأمين.  ولم يكن ليحوز على هذا اللقب إلا لكونه اميناً مجرباً بأمانته. وقد أعطاه هذا اللقب مهمة، لم تعِقها أعباء النبوة، وهي الائتمان على مقتنيات المكيين الثمينة.  وقد كلف علياً، كأحد  أبناء البيت النبوي، للقيام بإعادة الأمانات، عندما أزمع السفر.وقد فعل.والملاحظ أنه لم يبادر أحد بطلب أمانته، على الرغم من ما أُشيع من أن محمداً ص) يود مغادرة مكة، اوأنه محكومٌ عليه من قبل قريش بالإعدام.   كما أن هناك ملاحظة أُخرى أنه، رغم العداء و قتل الأحبة من قريش،  فيما بعد، ورغم قصائد الهجاء، ورغم إطلاق الألقاب على شخص النبي عليه السلام، رغم كل هذا لم يدعِ أحد أنه استلم أمانته منقوصة  فيطعن في أمانة الفتى القرشي، كما كانت وفود قبائل العرب تسمي الرسول،  فأي فتىً فقدت قريش.    

 




[1]  صحيح السيرة النبوية.

[2]  السيرة النبوية لإبن هشام.

  [3]  السيرة النبوية لإبن هشام .

[4]  البداية والنهاية.

[5] سورة المدثر.

[6]  سورة البقرة، آية 30.

[7]  سورة ص 71.

[8]  سورة الحجر 27 .

[9]  سورة الطارق، آية 6و7.

[10]  السيرة النبوية لإبن هشام.

[11]  سورة النمل ، آية 10 .

[12]  المسيحية والحضارة العربية، د. جورج قنواتي.

[13]  تاريخ الجنس العربي.

[14]  تاريخ سوريا ولبنان وفلسطسن نقلاً عن العهد القديم.

[15]  البقرة 112.

[16]  الكتاب والقرآن، محمد شحرور.

[17]  الكتاب والقرآن.

[18]  سورة الزمر،آية 28 .

[19]  يونس 92 .

[20]  سورة الرعد، آية 41.

[21]  سورة المدثر ، آية 1و2.

[22]  السيرة النبوية لإبن هشام.

[23]  السيرة النبوية لإبن هشام .

[24]  الشعراء 185 و186 .

[25]  سورة ص، آيات 1الى 5.

[26]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[27]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[28]  صحيح السيرة النبوية.

[29]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[30]  نفس المصدر.

[31]  السيرة النبوية، ابن هشام .

[32]  تاريخ الجنس العربي عن ابن سعد .

[33]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[34] نفس المصدر.

[35]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[36]  الإستيعاب في معرفة الأصحاب.

[37]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[38]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[39]  البداية والنهاية.

[40]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[41]  البداية والنهاية.

[42]  الروض المعطار.

[43]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[44]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[45]  نفس المصدر.

[46]  نفس المصدر.

[47]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[48]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[49]  نفس المصدر.

[50]  نفس المصدر.

[51]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[52]  نفس المصدر.

[53]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[54]  الحج 39.

[55]  السيرة النبوية، إبن هشام.

[56]  نفس المصدر.

[57]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[58]  نفس المصدر.

[59]  سورة الانفال، آية30.

[60]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[61]  السيرة النبوية، ابن هشام.

[62]  البداية والنهاية.

[63]  صحيح السيرة النبوية.

[64]  نفس المصدر.

[65]  صحيح السيرة النبوية.

[66]  نفس المصدر.

[67]  نفس المصدر.

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter