نحن وأوربا - ج 1 - الفصل الثاني
 
 


الفصل الثاني

                           

الدول العربية الشمالية

 

لقد عرفت بداية الألفية الأولى، أي في زمن ولادة السيد المسيح، عدداً من الدول العربية فيما يمكن أن نسميه قلب الهلال الخصيب، أي في الأجزاء الداخلية منه.  فقد ازدهرت دولة الأنباط منذ زمن بعيد في جنوب الأردن حيث كانت عاصمتهم البتراء إلى الشرق من البحر الميت.  كما كانت تدمر مركزاً تجارياً هاماً وعاصمة دولة لها ثقلها السياسي والعسكري تقع في البادية السورية.  وكذلك كانت مدينة الحضر عاصمة دولة تقع  بين دجلة والفرات إلى الشمال الغربي من مدينة تكريت العراقية.  وقد دلت الآثار المتبقية من المدن الثلاث على حضارات عريقة. 

فحقيقةً أن مدينة البتراء المنحوتة من الصخر الرملي الجميل بألوانه الوردية، لها دلالات قوية، فهي تدل على توفر الثروة والقوة السياسية وامتلاك تقنيات بناء متقدمة.  إن من يزور البتراء ويتأمل الصروح الجميلة والضخمة الموجودة فيها، يمكن أن يتوصل الى استنتاجين غايةً في الأهمية؛ الأول أنها مدينة غير مكتملة، وبالتالي فلا بد وأنه كانت هناك مدينة مبنية بالطريقة التقليدية كانت موضع الاستخدام.  أما الاستنتاج الثاني فهوأن هذه المدينة لا يمكن أن تكون بُنيت بالسخرة كما كان دارجاً في تلك العصور، فقد بنيت من قبل فريق من الفنانين المبدعين، والإبداع لا يأتي مع السخرة.

وقد كان الأنباط قبائل عربية متبدية هاجرت من الجزيرة العربية في القرن السادس قبل الميلاد [1] .  وفي القرن الثالث تحولوا من حياة الرعي الى الزراعة، وفي القرن التالي أصبحوا مجتعاً منظماً ومتحضراً  بل ومترفاً . [2] حيث أسسوا دولة تقع عاصمتها على خطوط التجارة الواصلة إلى شمال سوريا، وإلى ميناء غزة الى الغرب .

وقد ذاع سيطهم عندما نجحوا في صد هجوم سلوقي في عام 312 ق. م.  وقد اشتهر من بين ملوكهم، الملك الحارث الذي استطاع وخلفاؤه من بعده التوسع شمالاً على حساب السلوقيين، وذلك قبل ظهور الرومان.  وعندما جاء الرومان، لم يمكنهم [3] التغاضي عن وجود دولة شبه مستقلة" بينهم وبين فارس، التي كان صدام روما معها حتمياً، فقضت عليها في عام  106 م. وهكذا أصبحت ولاية Arabia Petraea جزءاً من ولاية العرابية Arabia التي أصبحت عاصمتها بصرى. 

أما آثار تدمر فهي شاهدٌ كافٍ على عظمتها.  فلم تكن مركزاً تجارياً فحسب، اوقلعةً صحراوية تلجأ اليها القوافل وتستريح، إنما كانت مركزاً حضارياً وثقافياً .

إن موقع الحضر فريد ويبدوغريباً، فهي تقع على مقربة من نهرين: دجلة والفرات، ولكنها لا تقع على شاطئ أيٍ من النهرين.  وقد تم حل هذه الإشكالية ببناء نظام جر مياه من دجلة عبر قنوات عميقة  تحت الأرض، لا تزال موجودة.  وهذا المشروع الذي تعجز عن مثله كثيرٌ من الدول في زماننا هذا، دلالةٌ كافية على رقي هذا المدينة وتقدمها.

لم تكن أي من المدن الثلاث مدينة دولة city state ، أوما يسمى بمدن القوافل caravan city ، إلا، ربما، في أيامها الأخيرة، بل كانت عواصم لدول كان لها شأنها من الاتساع.  ومع هذا كان لها خصائص مدن القوافل في السيطرة على طرق التجارة الرئيسية.

وكما فعلت روما بقرطاجنة من قبل، وكما فعل الإسكندر بمدن كثيرة، فقد حرص الرومان على القضاء على البتراء  وعلى تدمر.     

وبعد احتلال البتراء،  لم يستطع الرومان تدمير المدينة الوردية المنحوتة في الصخر،  ومن المحتمل أنهم دمروا كل ما كان قابلاً للتدمير من الناحية الإنشائية.   فهناك اعتقاد أنه كان هناك مدينة مبنية بالطرق التقليدية، أي بالحجارة والمونة خارج المدخل المسمى بالسيق، وربما كانت المدينة الأصلية التي تستريح فيها القوافل وتبدل بجمال نشطة لمواصلة الرحلة، وتتمون ويتم فيها التبادلات التجارية، هذه المدينة، إن وُجدت حقاً، فربما تكون قد تهدمت اواندثرت، وعموماً كان الرومان يقسون على المدن التي تستعصي عليهم.  وعاصمة الأنباط استعصت عليهم.  كما أنهم مهروا بطمس تاريخ المناطق المفتوحة.  فمن يعرف اسم البتراء النبطي ؟.  فالبتراء هوالاسم اللاتيني، ويعني الحجر، كدلالة على مادة البناء الوحيدة المستخدمة فيها.  والمصدر الوحيد للتسمية المحتملة للمدينة هوالقرآن، حيث وردت رواية عن مدينة كان اسمها الرقيم، يعتقد بعض الباحثين أنها البتراء . [4]

أما تدمر فإنهم استطاعوا بعد صراعٍ طويل احتلالها في عام 272 م.  ولم يكن نصيبها من التدمير أقل من البتراء او قرطاجنة.  ولكنهم لم يزيلوها تماماً، فتركوها للصحراء تبتلع ما تبقى منها. أما مصير الزباء،  ملكة تدمر، التي أدارت المجهود الحربي بعد موت زوجها أُذينة، فقد وقعت في الأسر، وتم نقلها الى روما حيث تم استعراضها في شوارعها.  وقد منح الرومان اسماً رومانياً لمدينة تدمر، هو Palmyra ، وهواسمٌ مشتقٌ من شجر النخيل.  ويبدوأن الاسم السامي نفسه، تدمر، يحمل نفس الدلالة، فبحذف الدال يصبح " تمر ".

لقد وُجد لتدمر ذكر قديم، يعود إلى عام 1800 ق.م.  وقد ارتقت أُسرة أُذينة سدة الحكم في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد.  ودام حكمها نحو 500 عام.  وقد كانت متعاونة مع روما، مثل البتراء، قبل ضمها الى الإمبراطورية فعلياً .

أما الحضر فقد كان تدميرها على يد فارس، كما هومذكور في سيرة ابن هشام، وهي أيضاً اختفت كقوة سياسية وتجارية، كما لم يَسمح نظام ريها المعقد  للحياة أن تستمر فيها بدون دولة تداوم على صيانته، فخلت من السكان.  وفي زمن الفتوحات الإسلامية لم تكن أي من المدن الثلاث تشكل هدفاً لهذه الفتوحات.  

عرفت بداية القرن السادس دولتين عربيتين على حدود الدولتين البيزنطية والفارسية، هما دولتا الغساسنة والمناذرة.  كما ظهرت قبل ذلك واختفت دول أخرى مثل دولة كندة ودولة سليح. وتمتد هذه الظاهرة إلى القرن الرابع حيث بدأت دول، مثل الدول المذكورة هنا، في الظهور لتتحول تدريجياً الى دول عازلة Buffer States   بين الإمبراطوريتين الكبيرتين.  وقد لعبت هذا الدور بفعاليةٍ عالية،  على مدى القرنين الخامس والسادس.  كما تعاون مع الروم والفرس عدد من القبائل العربية دون أن يرتقي تشكيلها الإداري والسياسي الى مستوى الدولة.  وحتى الدول الأربع المذكورة فقد استمرت بممارسة بداوتها، وكانت عواصمها، في معظم أوقاتها، وخاصةً في بداياتها، عبارة عن مضارب بدوية تتكون من خيام.  ولذلك سُميت كل من عاصمة المناذرة وعاصمة الغساسنة بحيرتا، والتي تعني المعسكر اوالمضارب.  وسنأتي على كلٍ من هذه الدول بشيئٍ من التفصيل :

 

دولة كندة 

تعد قبيلة كندة من القبائل العربية الجنوبية الكبيرة عدداً ونفوذاً.  وهي قبيلة يمنية موطنها جنوب الجزيرة، حيث اتخذت حضرموت موطناً.  وهذا ما أعطى المؤرخين الباحثين في دولة كندة في الشمال القضية الأولى ليختلفوا عليها.  فما الذي جاء بسلالةٍ كِندية لتحكم في الشمال؟.  كانت كِندة قبيلة عربية  كبيرة في الجنوب أثناء الفتوحات الإسلامية، وكانت من القبائل التي ارتدت بقيادة الأشعث بن قيس، الذي كان بمنزلة ملك بين قومه.  وقد مَنَّ عليه أبوبكر وزوجه أخته.  وأصبح فيما بعد أحد معاوني علي بن أبي طالب في حروبه.  كما اشتهر ابنه من بعده.

 ولا يقتصر اختلاف المؤرخين على كيفية إقامة هذه الدولة، وإنما يمتد الخلاف على تاريخ بدئها وعدد ملوكها ومنظومة علاقاتها السياسية مع الدولتين العظميين في حينه.

ولا غرابة في ذلك فمصادر التاريخ شحيحة، ويزيد من ذلك تعقيداً المبالغات الواردة في أخبار العرب عن هذه الدولة.  وقد تسبب هذا الغموض في إهمال بعض المؤرخين لهذه الدولة، واعتبار فترة حكمها فترة عابرة لا أهمية لها.

لقد تساءل بعض المؤرخين عن كيفية قيام دولة في الشمال باسم قبيلة في الجنوب.  هل هاجرت هذه القبيلة إلى الشمال؟.  والجواب أن هذا لم يحصل بدليل وجودها في مكانها المعتاد في صدر الإسلام.  إذن هل هاجر جزءٌ منها الى الشمال وأقام دولة؟.  وأعتقد أن هذا، أيضاً لم يحصل بدليل عدم ذكر أخبار العرب لقبيلة باسم كندة غزت اوغُزيت في العقود التي سبقت الإسلام في شمال الجزيرة العربية.  وهذا يتركنا أمام رواية ترد في بعض المصادر العربية بأن قبيلة بكر بن وائل لما كثروا  وأخذوا في الانقسام الى قبائل مثل تغلب والنمر ويربوع والرباب وضبة وغيرهم، أرادوا أن يملكوا عليهم ملكاً، لضبط أمورهم.  وقد تعذر أن يختار من بينهم لأنهم لن يتفقوا على أحد.  وكما كان العرف السائد في ذلك الزمان أن المُلك في العرب لليمن.  وقد كان لدول اليمن سلطان سياسي ملحوظ على قبائل الشمال لفترةٍ طويلة.  وقد " كان الرجل من أهل اليمن يأتي ومعه كاتب وطنفسة يقعد عليها فيأخذ من أموال نزار ما شاء "  حتى امتنعت قبائل معد عن دفع هذه الأعشار والإتاوات  فيما عرف بيوم خزاز. [5] وهويوم من أيام العرب موغل في القدم.  ففي أجواء كهذه ممكن تفهم طلب مشايخ بكر بن وائل من ملك حمير آنذاك أن يرسل من يدير شؤونهم، فأرسل حُجر بن عمروالكندي، المعروف بآكل المرار.  فتملك عليهم وغزا بهم المناذرة والغساسنة وانتزع منهم أقاليم واسعة، وأسس دولة نالت اهتمام دول المنطقة الكبرى بالإضافة الى القبائل العربية.

ويعزو بعض الباحثين تأسيس دولة كندة الى اضطرار شطر من قبيلة كندة إلى الهجرة شمالاً على إثر هزيمة حمير على يد الأحباش في منتصف القرن في منتصف القرن الخامس، بقيادة آكل المرار، الذي تسميه بعض المصادر حُجر بن عمرو.  الذي استقر في أرض معد وثبت سلطانه عليهم. [6] ويؤكد هذا ورود اسم "  حُجر بن عمرو ملك كدت "  أي ملك كندة في أحد الرقوم المكتشفة في وسط الجزيرة العربية.

والصحيح أن ظهورها جاء تعبيراً  عن ضرورة تاريخية عميقة.  فقد ظهرت بعد القضاء على دولة تدمر بفترة وجيزة، أي في حدود بداية القرن الرابع.  كتعبير عن رغبة العرب بكيان سياسي خاص بهم.  ومن المؤكد أنها سبقت دولتي الغساسنة في الشمال الغربي والمناذرة في الشمال الشرقي، وإن عاصرتهما في الفترة اللاحقة.

وقد برز من بين ملوكها الحارث بن عمرو، حفيد حُجر، الذي عقد اتفاقاً مع الدولة الرومانية عام 502 م، وهذه الاتفاقات عموماً كانت لخدمة جهد الدفاع عن حدود الإمبراطورية، وكان الطرف الثاني عادةً ما ينال دعماً مالياً واعترافاً سياسياً.  وفي زمن الحارث هذا استطاع الكنديون السيطرة على مدينة الحيرة، حيث فر ملكها اللخمي المنذر.  وجاء هذا ضمن فترة من النزاعات الدينية في الدولة الفارسية.

وقد استطاع اللخميون ( المناذرة ) استعادة الحيرة في زمن ابن الحارث المسمى حُجراً.  حيث استطاعوا القضاء على مُلك كندة بالحرب وبعقد التحالفات القبلية.  وقد كان حجرٌ هو والد الشاعر المشهور امرئ القيس، الذي قضى بقية حياته في محاولات غير ناجحة لاستعادة مُلك أبيه، الذي كان وريثه الشرعي.  وهذا ما يؤكد عدم وجود قاعدة قبلية لحكم كندة، فلم يكن هناك قبيلة حاكمة، وإنما ائتلاف قبائل عديدة، فزالت مبررات الحكم بتحول الولاءات، الأمر الذي جعل جميع محاولات امرئ القيس تنحصر بطرق أبواب الملوك بما في ذلك المناذرة أنفسهم. فقد قصد حمير والغساسنة، ثم ذهب الى القسطنطينية في عهد جستنيان، الذي تعاطف معه بدايةً ولكن سرعان ما سخط عليه عندما بلغه أنه على علاقة مع ابنة الإمبراطور، والتي على ما يبدو، تغزل بها الشاعر.  وقد مات امرؤ القيس في طريق عودته من عاصمة الروم.

 

مملكة اللخميين في الحيرة

شغلت الحيرة مكانة خاصة في تاريخ الشرق في القرنين الخامس والسادس.  فقد أثبتت هذه الدولة العربية أنها دعامة من دعامات دولة الفرس، ومن الخطأ أن يُظن أن  "عرب الفرس" هؤلاء قد عاشوا تحت إمرة الفرس.  فالمصادر ذات الوزن تتحدث عن دولة قوية ذات شأن لها مصالحها الخاصة بها. [7]  

وفي الواقع أن هذا ينطبق على دولة الغساسنة ايضاً كا ينطبق على دولة كندة من قبلهم.  وقد دفعت الدول الثلاث ثمناً غالياً مقابل استقلالية قرارها، ولم يكن هذا الثمن أقل من وجودها.  وفي المقابل دفعت كل من الإمبراطوريتين ثمناً باهظاً مقابل تضحية كل منها بحليف قوي وفعال، وذلك في مواجهة الفتوحات الإسلامية بعد ذلك بسنين قليلة.

بدأ حكم اللخميين بامرئ القيس ، الذي بدأ حكمه في عام 379 م، على أغلب الروايات.  وانتهى في بداية القرن السابع.  وقد حكم منهم ثلاثة عشر ملكاً، برز من بينهم عدد من الملوك العظام الذين اشتهروا كمحاربين أشداء.  وقبيلة لخم من القبائل العربية الكبيرة العدد، ويقطن معظم بطونها في الشام. ومن أهم بطونها نُمارة التي تتنمي إليها السلالة الحاكمة في الحيرة، [8] الذين عُرفوا أيضاً بالمناذرة وآل نصر. [9] لقد شارك اللخميون في جميع حروب فارس، على الأقل جميع حروب جبهتها الغربية، أي تلك التي خاضتها طوال قرون طويلة في صراعها مع الدولة الرومانية.  كما كان للخميين حروبهم الخاصة، والتي كانت ذات طابع قبلي، إما مع قبائل عربية مارقة او مع دولة الغساسنة في الشام اوحتى غارات على الولايات الرومانية في سوريا.

ويستدل على أنهم كانوا لاعبين اساسيين في الحروب بين الإمبراطوريتين أن المعاهدات التي كانت توقع بعد الحروب كانت لا تغفل ذكرهم، بل تشير اليهم كشركاء.  بحيث تتعامل مع مطالبهم وحقوقهم.

لقد اعتنق كثيرٌ من مواطني الدولة اللخمية الديانة المسيحية، حيث مارسوا طقوسهم بحريةٍ كاملة، وقد كانت الحيرة ملاذاً آمناً لأتباع المذاهب المغضوب عليها من قبل الكنيستين البيزنطية والرومانية ( الأرثودوكسية والكاثولوكية )، وبالأخص النساطرة.

لقد كانت الحيرة مركزاً تجارياً هاماً.  كما اشتغل أهلها وملوكها بالتجارة.  كما عملوا على تأمين خطوط التجارة الدولية، مثل الطريق المسمى  إسطراط دقليانوس الذي يصل بين الشام والعراق، وهوطريق معبد ويمر في بادية الشام.  اوخطوط القوافل داخل الجزيرة العربية التي كانوا يكلفون بعض زعماء القبائل، الذين كانوا بدورهم " يجيرون " هذه القوافل أثناء مرورها.

استلم النعمان الثالث بن المنذر الحكم في عام 592 م.  وقد حكم لمدة أربع عشر سنة في زمن خسروالثاني، الذي اختلف معه مما أدى الى قتله ونهاية الدولة اللخمية.  وتتفق معظم الروايات على أن سبب الخلاف هورفض النعمان تزويج ابنته لخسرو. 

لقد أدى القضاء على حكم اللخميين الى إضعاف الحيرة كمركز سياسي، حيث حاول الفرس تنصيب عربيٍ من طي حاكماً يشاركه حاكم فارسي.  الأمر الذي نجم عنه خروج بعض القبائل العربية ومن بينها بكر بن وائل، التي أخذت تغير على أطراف الإمبراطورية.

تتوج النزاع عندما أصر خسرو أن يقوم هانئ بن مسعود بتسليم ما استودعه النعمان لديه من أسلحة ومتاع، لكنه رفض ذلك.  فاقتتلوا فيما عرف بيوم ذي قار، الذي كانت فيه الغلبة للعرب.  "وبطبيعة الحال فقد كان يوم ذي قار يوماً من أيام العرب الكبرى.  ذلك أن نهاية اللخميين أصبحت في ذلك الوقت بداية فترة جديدة من تاريخ العرب أحسوا فيها بتفوقهم وتمكنوا من إقامة الدليل على صيرورتهم قوة يحسب لها حسابها". [10]

 

دولة الغساسنة

من الحقائق الثابتة لدى المؤرخين العرب وغيرهم أنه كان هناك دولة عربية على أطراف بادية الشام تسمى تنوخ، بزعامة قبيلة تحمل الاسم نفسه.  توصلت الى ترتيبات مع الدولة الرومانية، تساعد في الجهد الحربي الروماني مقابل أعطيات تُدفع لها بالإضافة الى الاعتراف السياسي.   ثم تلتها قبيلة أخرى في لعب الدور نفسه، وهي قبيلة سليح.

وقد برزت هذه الضرورة لتعذر قيام الجيوش الرومانية الاضطلاع  بنفسها بمواجهة غزوات القبائل العربية على أطراف الولايات البيزنطية.  فانتهجت بيزنطة التفاهم مع إحدى القبائل الكبيرة العدد والقوية والتي يقودها قائد يمتلك الطموح.  ولم يكن الأمر بطبيعة الحال،  يتم بإجراء مسابقة لاختيار الأقوى، وإنما ترك المنافسة تأخذ مسارها الطبيعي، طالما انها في مصلحتهم.  ولهذا تم تعاقب أربع قبائل على هذا الدور خلال أقل من اربع مائة عام، هذا إذا ما أضفنا كندة ثم غسان .

وهذا النهج مناقض لما فعلته الدولة الرومانية في بداية حكمها لبلاد الشام، حيث عمدت لتصفية الدول التي كان من الممكن أن تلعب دوراً عازلاً، مثل التدمريين والأنباط. 

كانت هذه القبائل تحتفظ ببداوتها، فتستمر في العيش في الخيام على سبيل المثال.  ولذلك لم يكن لها ارتباط بمكان، كعاصمة، مثل كل الدول.  وطبعاً لم يكن الحال ليبقى كما هو.  إذ سرعان ما يتحضر أبناء الملوك تدريجياً، فيفقدون بداوتهم، ويفقدون قدرتهم في التعامل مع أهل البادية،  فتتأثر فعاليتهم، وبعد عدة أجيال تصبح فعاليتهم في هذا المجال ليست أفضل من الروم أنفسهم الذين تركوا هذا الدور لهم، الأمر الذي يعجل في نهايتهم.  وقد كانت عاصمة اللخميين الحيرة، وقد كانت في زمن الفتح الإسلامي مدينة مسورة تعج بالمباني والقصور والبيع.  ولكن اسمها يوحي أنها تطورت من معسكر للبدو( مضارب ) فكلمة الحيرة محرفة عن كلمة حيرتا الآرامية والتي تعني معسكر.  وكذلك كان مقر إقامة الملك الحارث الغساني يسمى " حيرتا الملك الحارث "، ولم تكن بصرى عاصمة لهم، كما هوشائع،  وإنما مقر إقامة حضري لما تبقى من أمرائهم في أواخر أيامهم.  لقد كانت بصرى ( اوبصطرى ) مركز ولاية رومانية، وقد انضم واليها الروماني الى المسلمين، بعد أن أسلم. [11]

عندما هاجرت قبائل غسان من اليمن الى بلاد الشام، كانت لسليح دولتها في الشام.  وهناك رواية تقول أنهم استأذنوهم في الإقامة في بادية الشام ورعي مواشيهم في مراعيها.  فاستأذنوا ألإمبراطور اوأحد عماله، فأذن لهم. [12]

وهناك احتمال أن وصولهم الى المنطقة كان كغزاة. وأثبتوا أنهم محاربون أشداء، "فغزوا ارض الجزيرة وفينيقية وفلسطين"  لدرجة دعت السلطات الرومانية الى التفاهم معهم بالتوصل الى ترتيبات مشابهه لتلك المتفق عليها مع سليح.  وهذا ما وردت الإشارة اليه في بعض التواريخ الكنسية. [13] وفي جميع الأحوال، وسواء ما حدث مع الغساسنة اوسليح اوغيرهما، تدعم التحالف باعتناق الطرف العربي للديانة المسيحية، مما أعطى بُعداً عقائدياً للمشاركة في الحروب الرومانية.

لا يتفق الباحثون على زمن بدء الدولة الغسانية، كما لا يتفقون على عدد حكامها.  فيقدر عددهم بين أحد عشر واثنين وثلاثين. [14]  

وكان أعظمهم الملك الحارث بن جبلة الملقب بالملك الأمجد. 

 

دور الغساسنة في الحروب مع فارس

بدأ القرن السادس والحرب مستعرة بين الإمبراطوريتين.  فقد تجددت في عام 497 م.  ولوأنها لم تكد تتوقف.  وقد أبدى المناذرة شجاعةً نادرة فيها،  حيث أغاروا على ولاية الفراتية التابعة لبيزنطة.  ثم توغلوا أبعد من ذلك الى أن تم صدهم على يد أحد قادة الرومان. 

وفي عام 502 طلب الشاه الفارسي قباذ من الملك النعمان اللخمي أن يعاونه بجذب القوات الرومانية بعيداً عنه، لأنه كان يحاصر مدينة آمد في الجزيرة.  فقام بإختراق الأراضي الرومانية ممعناً تخريباً ونهباً وسبياً، حتى وصل الى الرها.  وفي العام التالي أغار الفرس على منطقة نهر الخابور.  فاغتنم بعض العرب المتحالفين مع الروم الفرصة وهاجموا الحيرة التي لم تكن بها حامية تذكر، ولكنها كانت تجهز قافلة تجارية، او قافلة تموين للجيش المحارب، فنهبوها وقتلوا كل من وجدوه في الحيرة.  وعلى كل حال لم يقتلوا الكثير " لأن الحيرة كانت قد ارتحلت الى الصحراء ". [15] وهذا يعطي صورة عن طبيعة النظام السياسي الاجتماعي الذي كان قائماً.

وقد أصيب المنذر فيما بعد بإحدى المعارك، وسرعان ما توفي.  وقد كان من أقوى ملوك اللخميين وحكم ما يقارب خمسين سنة. 

واستمرت الحروب على نفس الوتيرة.  حروب تخوضها جيوش جرارة تلتقي في معارك بين قادة الإمبراطوريتين، يكسب هذا ويخسر ذاك،  وتحاصر المدن وتُدك الحصون.  وعندما يُنهك أحد الطرفين، يبعث السفراء لمناقشة هدنة واتفاقية.  وقد كان الإنهاك ينجم عن حرب أخرى، قد يعلم بها الخصم وقد لا يعلم.  ففي الوقت الذي تنشغل جيوش رومانية في محاربة جيوش فارسية في حوض الفرات، اوفي شرق الأناضول، ربما يكون جيشٌ من اللمبارديين يعد العدة لمهاجمة شمال إيطاليا، اوجيش من الكروات يتقدم جنوباً نحوالبلقان، وربما تكون العاصمة نفسها محاصرة.

وربما حصل الشيئ ذاته مع الفرس فدولتهم التي تحاذي الرومان غرباً، تجاور الهند شرقاً،  والترك شمالاً.  وكان الترك قد بدأوا بالتحرك غرباً في القرن الرابع، وأصبح معظم آسيا الوسطى مكاناً لسكناهم.   

وقد تنجح مساعي السفراء وقد تحتاج الى مزيد من الجهد الدبلوماسي اوالى مزيد من المآسي عل أرض المعركة.  وحدث أكثر من مرة أن مات أحد العاهلين، فسهل ذلك الصلح،  وكانت اتفاقيات الصلح تحتوي على بندين يتكرران باستمرار ؛ إخلاء الأقاليم المحتلة وإطلاق سراح الأسرى.  وهذا ما زاد من عبثية هذه الحروب جميعاً.  وحدث مرة أن أُغفل الغساسنة والمناذرة من الاتفاقية، فلم يتحقق السلم، إذ استمرت غاراتهم.  فأصبحت الاتفاقيات لا تغفلهم، وإنما تتضمن بنوداً تتعامل مع رغباتهم .

لقد نبغ ملكٌ عربيٌ آخر في الفترة التالية، وهوالملك الحارث بن جبلة الغساني.  الذي كان متحالفاً مع الرومان وشارك في جميع حروبهم.  وقد تم تتويجه ملكاً من قبل جستنيان سنة 530 م، وذلك بعد إسدائه خدمتين كبيرتين لبيزنطة: الأولى انتقامه لمقتل الحارث الكندي، الذي كان هوالآخر حليفاً لبيزنطة، وعدواً للمناذرة، الذين قتلوه.  أما الخدمة الثانية فقد كانت مشاركته في قمع عصيان السامرة.  ولم يكن لقب الملك يعطى جزافاً. [16] وخصوصاً في زمن جستنيان، واضع القوانين والمشرع الكبير.  كان الحارث يلقب " فيلارخ "، وكذلك كان يلقب عددٌ آخر من مشايخ القبائل العربية التي تقطن الشام.  فكان يُراد باللقب الجديد تمييز الحارث وتوحيد الجهود تحت قيادته.  وخاصةً أن الولاة الرومان المعروفين باسم الدوكسات، لم يكن تحت تصرفهم قواتٍ كبيرة، على عكس نظرائهم في الدولة الفارسية.  فكانت الحاجة للقوات العربية كبيرةٍ وملحة.  

في العام 531 م حدثت معركة قرب قيلينيقية، اشترك فيها الحارث.  حيث تقدمت القوات الفارسية فاجتازت الفرات، وعسكرت على ضفته الغربية وتخندقت هناك.  فسارع القائد الروماني  بليزاريوس وجمع قواته، وقدم الحارث مع القوات العربية.  ونشروا قواتهم في مواجهة الفرس.  فلما بدأ القتال انقض خيرة الوحدات الفارسية على جيش الحارث،  فزحزحوهم من مكانهم، وهرب بعضهم.  الأمر الذي مكن القوات الفارسية من الإلتفاف حول القوات البزنطية.  مما تسبب في خسائر كبيرة بالأرواح.  بعد المعركة عُزل بليزاريوس، واتهم المؤرخ بروكوبيوس الحارت بالخيانة،  حيث قال أنه انسحب لكشف ميسرة الجيش الروماني، علماً بأن مؤرخاً  معاصراً آخر اسمه ملالة أكد أن معظم العرب صمدوا حول قائدهم الذي حارب ببسالة.  مشيراً الى أن جزءاً من القوات العربية فرت من المعركة نتيجةً لفرار قوات أخرى، قليلة التدريب، كانت تحارب مع الجيش الروماني.

غير هذا الاتهام مسار حياة الحارث، الذي كان مستبعداً عنه هذا السلوك، فقد كان مسيحياً مؤمناً صاحب عقيدة، حيث كان من ألقابه " محب المسيح ".  كما كان عداؤه للفرس واللخميين مستحكماً، لدرجةٍ تمنعه من التعاون معهم مهما كان المقابل اوالدافع.  فقد قدم المنذر إبن الحارث قرباناً للعزى بعد أسره في إحدى الغزوات في عام 554 م، حيث اعتبر البعض هذه الواقعة دليلاً على عدم صحة خيانة الحارث.  كما قُتل ابنٌ آخر في معركة أخرى مع الفرس واللخميين.  

كما يشيرالبعض الى ان بعض المؤرخين اللاتين اعتادوا تحميل مسؤولية هزائمهم الى السريان والعرب،  مثلما فعل بلوتارخ مع ابحر ملك الرها. [17]

في العام 561 م عقدت اتفاقية صلح بين الإمبراطوريتين.  وفي هذه المرة أخذ العرب في الجانبين، حقهم كطرف من أطراف الصلح مثلما كانوا وقت القتال.  بل نالوا بعض المطالب مثل حق توريث الحكم والإعفاء من الإتاوات المدفوعة على البضائع التي يتاجرون بها.

في العام 563 م سافر الحارث الى القسطنطينية، حيث قابل الإمبراطور وحسم معه موضوع الخلافة.  كما تحادث مع جستنيان في أمر أتباع المذهب المونوفيزي، والذين كان أكثرهم من العرب والسريان والشعوب المشرقية الأخرى، والذين كانوا يحظون بتأييد الملك الحارث حيث أخذ معه رسالتهم المذهبية وطلب اعتمادها من قبل بطاركة واساقفة القسطنطينية، فوقع عليها سبعة وامتنع اثنان، فغضب الحارث واتهمهما بالهرطقة.

وكان الحارث قد نجح قبل ذلك في تنصيب اثنين من المشارقة كأسقفين، وهما يعقوب وتيودور، مستعيناً بالملكة الرومانية .

مات الملك الحارث في العام 567 م، بعد مرور أقل من عامين على موت جستنيان.  وورث الأول المنذر وورث الثاني جسطين. 

سار المنذر على خطى أبيه،  فقد حافظ على ولائه لبيزنطة واستمر بقيادة الجيوش دفاعاً وانتقاماً، كما فعل ابوه.  كما استمر بدعمه لأتباع المذهب المونوفيزي ورعايتهم .

في العام 567 م استقبل الإمبراطور جستين الثاني سفيراً فارسياً جاء بمطالب، وكان ضمن الوفد سفيرٌ يمثل اللخميين والذي طلب أموالاً من الروم، الذين رفضوا دفعها.  فلما عاد الوفد، طلب ملك اللخميين من أخيه قابوس أن يغزو الغساسنة.  وفعلاً غزاهم فيما يُعتقد أنها موقعة عين أباغ المعروفة في الأخبار ومعدودة من أيام العرب.  وقد حدث هذا في عام 570 م.  وكانت الغلبة للمنذر الغساني.  حيث انتصر بعدة معارك وغنم الكثير. [18]  

ظن المنذر أنه أسدى لبيزنطة خدمة جليلة بحسم الموقف، فأرسل الى الإمبراطور يخبره بانتصاراته ويطلب منه الذهب ليدفع منه أرزاق جنده.  فغضب الإمبراطور الذي اعتقد أن ما ناله العرب من غنائم كافٍ.  فخطط الإمبراطور سراً لقتل المنذر، الذي عرف بالخطة وأخذ حذره.  ثم قاد جيشه وافراد قبيلته متوجهاً الى أعماق الصحراء، تاركاً الجبهة مكشوفةً تماماً، في عام 574م. اغتنم اللخميون، وغيرهم من القبائل العربية المتحالفة مع فارس، الفرصة وانقضوا على بلاد الشام حيث أمعنوا قتلاً ونهباً حتى وصلوا  إنطاكية.  وبقي المنذر في الصحراء لمدة ثلاث سنوات.  وكان يرفض استقبال الوسطاء في البداية، ولكنه أخيراً  قبل الصلح، حيث توجه الى بيعة القديس سيرجيوس، التي يعظمها العرب حيث تمت المصالحة  مع القائد العام للجيوش الرومانية، وتم تبادل وثائق بهذا الخصوص.  ثم ما لبث المنذر أن أغار على الحيرة لإسترداد ما نهبه اللخميون والانتقام منهم.  وفعلاً تحقق له ذلك، حيث تمكن من نصب خيمته في وسط الحيرة لعدة أيام قبل أن يقفل راجعاً.  حدث هذا في عام 578 م. [19]  

وكان قد حدث انشقاق في أوساط أتباع المذهب المونوفيزي أثناء وجود المنذر في منفاه التطوعي.  أدى الى انقسام حاد في أوساط المجتمع سرعان ما امتد الى الجيش.  وربما كان هذا من أهم أسباب موافقته على الصلح.  جهد المنذر على التوفيق بين وجهتي النظر دون فائدة.  كما جرت محاولات من أطراف أخرى جاءت من القسطنطينية ومن الإسكندرية، ولكن دون فائدة.

وقد قابل الوفد المصري المنذر  في مقره في "حيرتا بيت الحارث برجبلة". [20]   والتي تذكر المصادر أنها قرب دمشق،  كما تذكر مصادر أخرى أنها قرب الجولان .  وكلمة حيرتا أُطلقت أيضاً على عاصمة المناذرة وتحرفت الى الحيرة.  وتعني بالآرامية معسكراً اومخيماً اومضارب.  وأغلب الظن ان موقع  حيرتا الغساسنة وعاصمتهم في مكان قرية "حرثا"  في لواء بني كنانة في محافظة إربد في شمال الأردن،  والتي تسمى أيضاً حرتا وهي كلمة لا تختلف في تكوينها عن حيرتا إلا في الياء المحذوفة.

  خارطة رقم 3

تجدد القتال بين الفرس والروم في سنة 579 م.  حيث عبرت قوات رومانية الى الأراضي الفارسية وأمعنت تخريباً، وانسحبت مع حلول الشتاء. وفي العام التالي تم التخطيط لمهاجمة منطقة بابل في وسط العراق.  وقد شارك في هذه الحملة المنذر بجيشه.  وكانت الخطة أن يعبر الجيش على قنطرة على النهر،  وعندما وصلها وجدها قد دُمرت.  فاعتبر القائد الروماني، الذي أصبح لاحقاً إمبراطوراً، أن المنذر أوعز بتخريب القنطرة، فاتهمه بالخيانة كما حدث مع أبيه من قبل.

أمر الإمبراطور باعتقال المنذر وإحضاره الى القسطنطينية.  فتطوع صديقٌ للمنذر بأن يستدرجه، وفعلاً تم اعتقاله واقتيد الى القسطنطينية حيث قضى بعد سنوات.

ثارت ثائرة أبنائه، فهاجموا المكان الذي أُستدرج اليه أبيهم ونهبوه.  ثم انطلقوا الى أعماق الصحراء حيث عسكروا هناك.

وقد جرت بعض المحاولات للصلح، فعرض على ابن المنذر والمسمى النعمان أن يتوجوه، فأرسل شخصاً يشبهه، خوفاً من غدرهم.  ثم تم تتويج أخٍ  للمنذر الذي سرعان ما مات خلال عشرين يوماً من تتويجه.  ثم جرت مفاوضات جادة مع النعمان،  في القسطنطينية، لأنها جرت مع الإمبراطور شخصياً.  حيث وعد أنه يُطلق سراح أبيه إذا شارك العرب في حرب الفرس، وفي حال موافقته على قرارات مجمع خلقيدونيا.  فرفض النعمان ذلك وأكد أن جميع العرب يعقوبيون.  اُعتقل في طريق عودته، وكان مصيره لا يختلف عن مصير أبيه.  لم يعد لآل جفنة دولة بعد هذا.  ولا يعرف الكثير عن دورهم أثناء الاحتلال الفارسي وبعده.

وفي زمن الفتح الإسلامي كان هناك عدد من ألأمراء العرب يحكمون إمارات صغيرة على حدود الجزيرة، من غسان وغيرهم.  وكان جبلة بن الأيهم واحداً منهم، ويبدوأنه كان يطمح لاستعادة دولة الغساسنة، فحارب مع الروم في اليرموك.  وقد وفد فيما بعد على المدينة مسلماً في زمن عمر بن الخطاب.  وقد كان الخلفاء الراشدون يسيرون على نهج النبي، الذي كان يعفوعن من جاء مسلماً.  فرحب به عمر، ثم رافقه الى الحج.  وفي الطواف، داس رجلٌ على إزار جبلة، فلطمه جبلة فأدماه.  فاشتكى الرجل الى عمر.  فطلب عمر من جبلة أن يقيده اوأن يرضيه.  فقال لعمر :" كيف تساوي بيني وبينه، وأنا ملك وهوسوقة ( أي من العامة ) "، فرد عليه عمر أن الإسلام ساوى بينكما.  فطلب جبلة مهلة ليفكر، فهرب الى بلاد الروم.  وهناك رواية مطولة في العقد الفريد تفيد أن عمر أرسل إليه في القسطنطينية ليعيده. [21]   وتعود كثير من العشائر في بلاد الشام في نسبها الى الغساسنة.

كان " بلاط " آل غسان يستقبل الشعراء من الجزيرة العربية،  وكان من بينهم حسان بن ثابت شاعر الرسول، وكان يقول فيهم الشعر :

 

لمن الدار أقفرت بمعــ ـــــــ ـان                بين أعلى اليرموك فالخمــان

ذاك مغنىً لآل جفنة في الدهر            محلاًلحادث الأزمــــــــــــــان      

فما أراني هناك دهراً مكيـــناً                عند ذي التاج مقعدي ومكاني

ودنا الفصــــــــح فالـــــولائد                    ينظمن سراعاًأكلة المرجان [22]

وقد كان الغساسنة يُعرفون باسمٍ آخر هوآل جفنة. 

 

لم تبلغ دولة الغساسنة، ولا دولة المناذرة، ما بلغته دول الأنباط  وتدمر والحضر من تقدم، وخصوصاً في مجالي البناء والحكم والتجارة.  فقد ترك الأنباط والتدمريون والحضريون مباني عظيمة دلت على تقدم كبير في هذا المجال.  وقد عاصرت هذه الدول مرحلة ازدهار وانتشار الحضارة الهيلينية، وقد تأثرت بها، وإن أضافت إليها، حيث نجم حضارة جديدة عُرفت باسم " الحضارة الهيلنستية " تأثرت بالثقافات السامية الفاعلة في سوريا.  لم يترك الغساسنة والمناذرة مباني، ذات بال، تنسب إليهم، فالحيرة لم تكن، في معظمها أكثر من مدينة طينية، والحديث و الخورنق وسنمار والقصة المشهورة، لا يتعدى الأسطورة.  لقد كان الغساسنة والمناذرة ومن قبلهم كندة وسليح دول موغلة في البداوة، وهذا كان سر قوتها،  كقوة قادرة على التعامل مع القبائل العربية. 

لا يوجد دلالات على أن عرب الشام قد اتقنوا اللغات اللاتينية اواليونانية، وبالتالي إطلعوا على الثقافة السائدة اوإكتسبوا معارف إدارية، كان من الممكن أن تستفيد منها إدارات الولايات في الشام والعراق.  والواقع أن المسلمين استعانوا بسكان البلدان الأصليين لتسيير احوال الولايات، ولم يسجل المؤرخون اسماً عربياًٍ واحداَ من بين من عملوا في هذه الوظائف.  وهذا يدلل بكل وضوح أن بنية الدولة لم تكن كاملة النضوج لدى الغساسنة والمناذرة.  فلوكان لديهم جهاز دولة قائم  لخدم الدولة الإسلامية في اكتساب المعارف الإدارية الضرورية وغير المتوفرة.

  

التشريع والبناء

جوستنيان – الإمبراطور المشرع

 

قامت الدولة الرومانية في الشرق على أنقاض " الدولة الهيلينية "، إن صح التعبير.  فلم يكن هناك دولة واحدة  موحدة، وإنما كان هناك  ثلاث سلالات تعود بنسبها الى ورثة الإسكندر المقدوني تحكم في أقاليم مختلفة.  فنتيجةً لهذا التعاقب، كثيراً ما يُقارن بين الحضارتين الهيلينية / اليونانية من جهة والحضارة الرومانية من جهةٍ أُخرى.  وكثيراً ما يقال أنه في ظل الحضارة ازدهرت الفلسفة والفنون مثل المسرح والشعر.  بينما ازدهر في ظل الحضارة الرومانية القانون والبناء. 

وعلى صعيد التشريع، فقد سبق البابليون الرومان في التشريع.  فشريعة حمورابي سبقت المشرعين الرومان بزمنٍ طويل  إلا أن التشريع الروماني، وإن استفاد من تجارب سابقيه، فقد خطا بصناعة القانون الى آفاق غير مسبوقة.  وقد وصل الينا ما يسمى " مدونة جوستنيان "، وهي عبارة عن دستورٍ متكامل، صدر في زمن الإمبراطور جوستنيان، ونُسب إليه، ومقسمٌ الى أبوابٍ ومواد، ويبدأ بتعريف العدالة،  " العدل هوحمل النفس على إيتاء كل ذي حقٍ حقه، والتزام ذلك على وجه الثبات والدوام " [23] .  ويرد في المقدمة إشارة الى أهمية القانون " لكيما تحكم الدولة حكماً صالحاً في وقت السلم والحرب لا بد من الاعتماد على ركنين: الأسلحة والقوانين " فالأسلحة تقهر الأعداء الخارجيين، والقوانين تقطع دابر الظلم في الداخل.  وهذا الكتاب مترجم الى العربية تحت نفس الاسم، ويتكون من أربعة كتب و98 باباً، كما أُضيف إليه عدد من الملاحق.  وهويُعد من المراجع الأساسية  لدارسي القانون الى يومنا هذا .

ولم يقتصر التشريع على صناعة القانون المحض، وإنما تعدى ذلك الى التنظيمات والتقسيمات الإدارية والى وجود نظم وتعليمات تغطي النواحي المالية والضريبية والتعليمية وحتى الدينية وغيرها، مما جعل الطابع المؤسسي هوالسمة السائدة للحياة السياسية والإدارية، فقد كانت المؤسسية جزءاً من ثقافة الدوائر الحاكمة في الإمبراطورية، سواء في عاصمتها الغربية اوعاصمتها الشرقية، بيزنطة. ويدل على ذلك لجوء القيادة السياسية الرومانية الى وضع رأسين للهرم.  وهذا الخيار، وإن لم ينجح تماماً، يدل على تمكن الثقافة المؤسسية من الذهنية السياسية الرومانية. 

وعلى عكس الرومان، كان الطابع المؤسسي مغيباً تماماً لدى العرب عن كافة مناحي الحياة السياسية والإدارية.  ولم تتأثر الدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية، على سبيل المثال، بالدولة الرومانية، على الرغم مما تركه الرومان وراءهم من موظفين حكوميين، وبالرغم من ترجمة أعداد كبيرة من الكتب، وبالرغم من الاتصال المستمر، الذي بقي مستمراً.  فقد كان أحد قادة الرأي في الصراع المذهبي في القرن السابع في الدولة البيزنطية، وكان موظفاً في الحكومة الأموية.  أي أنه كان في حالة اتصال دائم بالدوائر الحاكمة في دمشق وفي القسطنطينية.        

اُشتهرت الدولة الرومانية بقيامها بمشاريع إنشائية ضخمة، مثل الطرق المعبدة، والموانئ والجسور والتحصينات.  ومن بين الطرق التي لا تزال آثارها ماثلة، شبكة طرق بلاد الشام.  ومن بينها الصطراط (طريق دقلديانوس)، وطرق أخرى تمتد من الشمال والجنوب،و كانت تستخدم للتجارة البرية.  وتلك الممتدة من الشرق الى الغرب، والتي توصل الداخل بموانئ المتوسط، حيث كان هناك خطوط ملاحية منتظمة تصل شرق المتوسط مع جنوب أوروبا .

من افضل التحصينات التي بناها الرومان، أسوار بيزنطة، فإليها يعود استمرار بقاء الإمبراطورية أكثر من ألف  سنة، الى أن اخترعت المدفعية. اشتهر من بين إضافات الرومان الإنشائية، ما يعرف بالقنوات المعلقة aqua duct ، والتي تسمح بنقل المياه بالجاذبية خلال مناطق وعرة.  ويوجد منها كثيرٌ من الآثار المتبقية. 

وقد ترك الرومان آثاراً كثيرة في عديد من المدن العربية، إن كثرة الآثار الموجودة في بقاع كثيرة من بلاد الشام، تجعل الرومان جزءاً من ماضي المنطقة.  فهناك آثار رومانية كثيرة في  مدن جرش وعمان وأم قيس وطبقة فحل وأم الجمال ومأدبا  في الأردن.  وكذلك في  مدن دمشق  وبصرى وحمص وأنطاكيا  في سوريا،  ومدن جبيل وصور في لبنان. كما أن هناك مدن القدس ونابلس وقيساريا وبيت لحم والناصرة وغيرها في فلسطين تكثر فيها الآثار الرومانية.  وفي مصر لا يزال هناك آثار باقية في مدينة الإسكندرية وغيرها.  ولا يزال في هذه المدن آثار متبقية من الكنائس والمدرجات وشوارع الأعمدة والأبراج واجزاء من أسوار وتحصينات مختلفة.  كما تنتشر في ضواحي هذه المدن مقابر ومشاريع مائية وقناطر .

برع الرومان بكتابة التاريخ وتدوينه.  وقد ظهر منذ القدم مؤرخون رومان وكذلك من الأمم التي تأثرت بالحضارة الرومانية واليونانية مثل السريان وغيرهم.  وقد كانت مناهجهم بتدوين التاريخ تتصف بالموضوعية والرصانة الى حدٍ كبير، كما أتقنوا تدوين الحوليات، وإن ظهر الانحياز في كتبهم نتيجة نظرة الاستعلاء التي كان ينظر بها الرومان الى الشعوب المحكومة، ومن بينها العرب، والتي كانوا يطلقون عليها البرابرة .

استفاد المؤرخون العرب في مراحل متأخرة من المدرسة البيزنطية في التاريخ، فظهرت كتب لا تزال تحظى باحترام الباحثين الى يومنا هذا.  وقد ساعد على ذلك ظهور مؤرخين من سكان المناطق المفتوحة، مثل الشام كانوا يتقنون اللغات السريانية واليونانية، والذين رجعوا الى مصادر بهذه اللغات. 

وعودة الى جوستنيان اويوسطنيان كما تسميه بعض المصادر العربية، فقد كتب مدونته في عام 533 م، ويمكن أن يمر كوثيقة عصرية بسهولة.  وهي وثيقة تدل على إرث غني وكبير في مجال التشريع، كما تتصف بالشمولية وحسن التبويب، ولا شك أن المشرعين في بلاد العالم المختلفة استفادوا منها الى حدٍ بعيد عند صياغة دساتير بلادهم.  يبدأ الكتاب بمقدمة من جوستنيان، يصف نفسه بقاهر الجرمان والقوط والفرنجة والأنطيين والألانيين والوندال  والإفريقيين [24] و لم يكن العرب من بين الأمم التي عددها.  ولا يمكن الجزم إذا ما كان استثناء العرب من القائمة  يعني أنهم لم يكونوا من بين الشعوب التي قهرها الإمبراطور، أم أنه مجرد تجاهل.  على كل حال لقد كان جوستنيان هوالذي توج الحارث بن جبلة ملكاً . [25]     

 



 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين . [1]

 نفس المصدر. [2]

 نفس المصدر. [3]

 تاريخ سريا ولبنان وفلسطين. [4]

 العقد الفريد. [5]

 العرب على حدود بيزنطة وفارس . [6]

[7]  العرب على حدود بيزنطة وفارس .

[8]  العقد الفريد ، ج3.

[9]  المسيحية والحضارة العربية، د.جورج قنواتي.

 العرب على حدود بيزنطة وفارس.  [10]

[11]  فتوح الشام، الواقدي.

[12]  العرب على حدود بيزنطة وفارس نقلاً عن مصادر عربية عدة من بينها المسعودي .

[13]  العرب على حدود بيزنطة وفارس .

[14]  تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين.

[15]  العرب على حدود بيزنطة وفارس .

[16]  العرب على حدود بيزنطة وفارس .

 الغرب على حدود وبيزنطة. [17]

 العرب على حدود بيزنطة وفارس [18]

 العرب على حدود بيزنطة وفارس. [19]

 العرب على حدود بيزنطة وفارس. [20]

 فتوح الشام للواقدي. [21]

 العقد الفريد [22]

 مدونة جستنيان [23]

[24]  مدونة جستنيان.

[25]  العرب على حدود بيزنطة وايران.

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter