نحن وأوربا - ج 1 - الفصل الأول
 
 


نحن وأوربا - ج 1

تأليف نديم أسـعد

الفصل الأول

                            

ظهور الدولة الرومانية


 

من المتفق عليه أن الدولة الرومانية  تاسست في سنة 754 ق.م.، واعتبر هذا التاريخ بداية تاريخها.  وقد كان نظام الحكم فيها ملكياً ثم تحول الى نظام جمهوري، في سنة 509 ق.م.  وقد تطور نظام الحكم في روما بتشكيل "هيئة العشرة" التي وضعت " الألواح الاثني عشر".  وفي عام 60 ق.م. تم البدء بتولية ثلاثة من كبار رجال الدولة مقاليد الحكم فيها.  وقد كان يوليوس قيصر من بين أول  ثلاثة تسلموا مقاليد الحكم على هذا الأساس، ولكنه استأثر بالأمر، واستصدر من مجلس الشيوخ قراراً يؤيد رغبته.  وفي عام 44 ق. م.، أي بعد سنة من انفراده بالحكم تم قتله في مجلس الشيوخ.  ثم وقع الاختيار على ثلاثة آخرين،  من بينهم مارك أنتوني، رفيق يوليس قيصر.  ولم يتفق الشركاء الجدد ووقعت بينهم الحروب.  وكانت الغلبة لأُكتافيوس شريك مارك أنتوني.  أدت هذه الصراعات الى الانهيار التدريجي للنظام الجمهوري،  فقام مجلس الشيوخ بمنح أُكتافيوس لقب أوغسطس، أي الجليل.  وسنة 29 ق. م. تم تنصيب أكتافيوس إمبراطوراً.  وهكذا عادت الإمبراطورية الى روما، وتم القضاء على الجمهورية.

وقد استمر أُكتافيوس إمبراطوراً الى ما بعد ميلاد المسيح.  فقد توفي عام 14 م.  وقد أصبحت الإمبراطورية تحكم معظم أقاليم حوض المتوسط، بالإضافة الى أقاليم في وسط وغرب أوروبا وآسيا الصغرى وأرمينيا.

لقد أُجهضت فكرة الجمهورية، إلا أن مبدأ المشاركة في الحكم،  بقي قائماً، كما سنرى فيما بعد.   

كانت الديانة السائدة في الدولة الرومانية تهدف الى غرضين الأول ؛ عبادة الإمبراطور والثاني، عبادة آلهة الرومان مثل جوبيتر ويونو ومنيرفا.  لقد كان الجيش الروماني يشكل أهم مراكزالشعور الديني في الإمبراطورية. 

 

تأسيس الدولة الرومانية الشرقية

 

بلغت الدولة الرومانية درجةً من الاتساع أصبحت مسألة الدفاع عن حدودها قضيةً معقدة.  فهناك حروب متكررة مع الفرس في الشرق وهناك ثورات لا تهدأ يقوم بها "البرابرة" في الغرب والشمال.  وهؤلاء البرابرة هم أجداد الألمان والبلجيك والهولنديين في الغرب والشمال وكذلك الصرب والبلغار والروس في شرق أوروبا.  فدعا هذا الأمر الإمبراطور الروماني دقلديانوس الى القيام بإجراء تعديلات جذرية على التقسيمات الإدارية للدولة وعلى كيفية حكمها. { وتعبير البرابرة تعبير أوروبي ويُستخدم بكثرة في هذا الكتاب مع تحفظنا على ما قد يسببه من رفض لإخوتنا البربر} وتهدف الى تقوية إمكانيات الإمبراطورية في الدفاع عن نفسها، الأمر الذي يتطلب وجود " قوة عسكرية كبيرة في كل موضع من المواضع المعرضة للغارات ".  فقام دقلديانوس  بتقسيم الإمبراطورية الى قسمين شرقي وغربي.  تسلم الشرقي بنفسه وجعل عاصمته مدينة نيقوميديا الواقعة على البسفور في الجانب الآسيوي.  وتسلم الجزء الغربي مكسيميان وجعل عاصمته مدينة ميلان، وحمل كل من الحاكمين اللقب نفسه وهوأوغسطس.  وكلمة أوغسطس تعني الرجل الجليل.

ثم تم تقسيم الإمبراطورية الى أربعة أقسام، فاستحدث قسمان جديدان؛ الأول عاصمته ترييف الواقعة على نهر الراين، والثاني عاصمته سيرميوم الواقعة على نهر الدانوب والتي أصبحت بلغراد فيما بعد.  ويدير كلاً من هذين القسمين حاكم برتبة قيصر،  وقد تسلم الحكم في سيرميوم جاليروس وتبناه دقلديانوس وقسطنطيوس في مدينة ترييف وتبناه مكسميان.  ولتوثيق العلاقة قام القيصران بالزواج من ابنتي متبنييهما بعد طلاق زوجتيهما. 

والملاحظ أن العواصم الأربعة تقع جميعها تقريباً في أوروبا، يستثنى منها المدينة اليونانية الواقعة على الساحل الآسيوي للبسفورنيقوميديا المقابل للساحل الأوروبي، على الرغم من وقوع ما لا يقل عن نصف مساحة الإمبراطورية في غرب آسيا وشمال إفريقيا، أي خارج أوروبا.

ووفقاً لهذا النظام يرث القيصر الأوغسطس في حال وفاته، وينتخب مكان القيصر الذي أصبح أوغسطس قيصرٌ جديدٌ.  كما تصدر القرارات الهامة باسم الحكام الأربعة.

وعلى الرغم من كون نظام دقلديانوس يبدومبتكراً وذكياً، إلا أنه لم يلاقِ النجاح.  إن نظاماً كهذا محكومٌ عليه بالفشل حتى في عصرنا الحاضر مع تقدم وسائل المواصلات والاتصالات، الأمر الذي أدى الى تعزيز الانقسام، وخصوصاً بين الشرق والغرب.

فحتى في الدول التي توجد بها عاصمتان، صيفية وشتوية أوعاصمة سياسية وعاصمة اقتصادية، نجد أن هذا يؤثر على تجانس الحياة السياسية والثقافية والفكرية في البلاد.  وكان هذا سيحصل لولا انهيار هذا النظام نتيجةً لسبب آخر وهوعدم الالتزام بنظام الانتخاب واتباع نظام الوراثة في تعيين القيصر من قبل كلٍ من مكسيميان وقسطنطينوس، اللذين كان لكلٍ منهما ابنٌ يفضل أن يورثه الحكم على أن يأتي بشخص آخر منتخب.

فقد اعتزل دقلديانوس الحكم سنة 305 م وهوفي التاسعة والخمسين لأسباب صحية، كما اعتزل مكسيميان في الوقت نفسه بناءً على اتفاقٍ سابقٍ بينهما.  بعد اعتزاله عاش دقلديانوس تسع سنوات معتزلاً الحياة العامة.  وعلى الرغم من أنه ترك أثراً كبيراً في التاريخ الروماني وعلى الرغم من إنجازاته الإبداعية في سن القوانين ووضع التنظيمات الإدارية، إلا أنه فشل في إدراك أهمية الدين الجديد، الدين المسيحي.  فلم يتقبله كعقيدة ولم يدرك أهميته كقوة محركة كبيرة.  ولم يقتصر دوره على هذا  الموقف السلبي بل تعداه الى حملة تنكيل واسعة شملت كافة أنحاء الإمبراطورية جعلت عصره يكتسب اسم عصر الشهداء من كثرة ما استشهد من أوائل المؤمنين على أيدي الجيش الإمبراطوري وشرطته ووشاته.  وقد ترك مؤرخ معاصر سجلاً كاملاً لضحايا البطش الروماني في مؤلفه " شهداء فلسطين ". [1]

سادت الفوضى بعد اعتزال دقلديانوس ومكسيميان ونشبت حرب أهلية استمرت فترة من الزمن الى أن استقر الوضع لصالح قسطنطين ابن قسطنطينوس في عام 311 م بعد عدة معارك.  فقام قسطنطين بإلغاء النظام الرباعي وفكرة تقسيم الإمبرطورية. 

وفي عهد قسطنطين، الذي كان رجل دولة من طراز رفيع، تم الاعتراف بالديانة المسيحية.  فتوقف اضطهاد المسيحيين، وأعيدت اليهم ممتلكاتهم المصادرة وسُمح لهم ممارسة عباداتهم بحرية،  إلا أن المسيحية لم تصبح دين الدولة.

كما تم في عهده بناء مدينة القسطنطينية لتصبح عاصمة له  في موقع قرية يونانية صغيرة على البسفور تسمى بيزنطة، موجودة منذ القرن السابع قبل الميلاد.  وقد أطلق عليها اسم روما الجديدة، ولكن اسم القسطنطينية غلب عليها، ولم تستطع كل القرارات والتسميات أن تنسي الناس القرية اليونانية الصغيرة المسماة بيزنطة، فبقي هذا الاسم متداولاً، وفرض نفسه على الإمبراطورية بكاملها.     

أصبحت المدينة الجديدة عاصمة الدولة الرومانية، وعلى الرغم من خسارة بعض الأجزاء من الدولة إلا أنها بقيت بشكلٍ اوبآخر موحدة تحت اسم الدولة الرومانية، على عكس ما هوشائع من أن نشوء القسطنطينية أدى الى انقسام الدولة الى دولتين، شرقية وعاصمتها القسطنطينية وغربية وعاصمتها روما.  والصحيح أن هذه التسمية، الدولة الرومانية الشرقية لم تظهر الى الوجود إلا في عام 800 م عندما تم تتويج شارلمان في روما من قبل البابا كإمبراطور للإمبراطورية الرومانية المقدسة، فأصبح يعرف بالإمبراطورية الرومانية الشرقية ما كان الإمبراطورية الرومانية، أما تسمية الدولة البيزنطية فأطلقها المؤرخون لاحقاً، ولم يكن اسماً متداولاً في حينه.  وعلى الرغم من فقدان الإمبراطورية لكثيرٍ من ممتلكاتها، إلا أنه بقي لها وجود قوي في غرب أوروبا وفي إيطاليا، مثل مدينة باري على الساحل الشرقي،  وصقلية وغيرهما.  وعندما هاجم العرب إيطاليا وصقلية في القرن الثامن كان تعاملهم مع الدولة الرومانية والتي عاصمتها القسطنطينية  في حروبهم وهدناتهم.

وبنيت مدينة القسطنطينية في موقعٍ فريد على مضيق البسفور على تقاطع خط عرض 43 وخط طول 29 في مكان قرية بيزنطة في الجانب الأوروبي.  كما تقع المدينة على ساحل بحر مرمرة الشمالي.  وقد زود الموقع المختار بعناية المدينة بمرفأ طبيعي على شكل خور به انحناء يشبه القرن، الأمر الذي أعطاه اسماً لا يزال متداولاً وهوالقرن الذهبي،  ووصف بالذهبي كتعبير عن الثروات التي تدفقت على المدينة من خلال هذا الميناء.

استمر بناء المدينة ست سنوات.  وقد اهتم قسطنطين ببناء التحصينات، التي جعلت المدينة عصيةً على الفتح، براً وبحراً، لأكثر من أحد عشر قرناً.  وفي الحادي عشر من أيار سنة 330 م تم الاحتفال بافتتاح المدينة، حيث أصدر قسطنطين مرسوماً أطلق فيه اسم "روما الجديدة" على مدينته، إلا أن اسم "القسطنطينية" طغى على الاسم الرسمي المنقوش على عمودٍ من رخام [2]

 

ولادة المسيح عليه السلام

ولد المسيح، عليه السلام، في سنة ست قبل الميلاد.  وقد وُلد للسيدة مريم البتول، في بيت لحم، التي عرفت بالصلاح، ونشأت في بيتٍ طاهر.  وقد ورد ذكر السيد المسيح وأُمه في القرآن في مواضع عديدة.  فهناك طفولة مريم، وهناك التقاؤها بالروح القدس جبريل عليه السلام، وهناك وصف لولادتها، وصور مختلفة من حياته ورفعه.

"وَاذْكُرْ فِيْ الْكِتَاْبِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أََََََََهْلِهَا مَكَاْنَاً شَرْقِيَّا. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابَاً. فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوْحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرَاً سَوِيَّاً.  قَالَتْ إِنِّي أَعُوْذُ بِاْلرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيَّاً.  قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامَاً زَكِيَّاً.  قَاْلَتَْ أَنَّىَ يَكُوْنُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيَّاُ .قَاْلَ كَذِلَكَ قَاْلَ رَبُّكِ هُوعَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرَاً مَقْضِِيَّا." [3]

وتصف هذه الآيات مشهد لقاء مريم مع جبريل؛ "فتاة عذراء، قديسة .. لا يعرف عنها إلا الطهر والعفة .. ولا يعرف عن أُسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم". [4]   والآيات واضحة تعرب عن الصدمة بلقاء شخص غريب، بالصورة التي قدم نفسه بها وبالموضوع الذي جاء به. وكذلك البشرى بأنه غلام زكي، وسيكون آيةً للناس.  ولم تكن مريم بعيدة عن هذه الأجواء لتدرك الرسالة المتضمنة في هذا المشروع .

" فَحَمَلَتْهُ فَاْنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانَاً قَصِيَّاً.  فَأَجَاْءَهَاْ الْمَخَاْضُ إِلَى جِذْعِ الْنََّخْلَةِ قَاْلَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَاْ وَكُنْتُ نَسْيَاً مَنْسِيَّاً ". [5]

وتتكلم الآيات عن الحالة النفسية والجسمانية المرافقة للحمل قبل الولادة والمعاناة المعتادة للحمل ومن خصوصيته. 

" فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَاْ أَلَّاْ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيَّاً.وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ الْنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبَاً جَنِيَّاً.فَكُلِِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْْْْْْنَاً فَإِمَّاْ تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُوْلِي إنِّي نَذَرْتُ لِلْرِّحْمَنِ صَوْمَاً فَلَنْ أُكَلَّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيَّاً " [6] .

فياتي كلام الطفل، المولود للتو، الإعجازي ليُهدئ من روع مريم ويرشدها .

"فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوْا يَا مَرْيَمُ لََقَدْ جِئْتِ شَيْئَاً فَرِيَّاً.يَا أُخْتَ هَارُوْنَ مَا كَاْنَ أَبُوْكِ امْرَأَ سُوْءٍ وَمَاْ كَانَتْ أُمُّكَ بَغِيَّاً.فَأَشَََََََارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيَّاً.قَاْلَ إِنَّيْ عَبْدُ اللِه أَتَاْنِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً.وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيْنَ مَاْ كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَادُمْتُ حَيَّاً.وَبَرَّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارَاً شَقِيَّاً .وَالْسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوْتُ وَيَوْمَ أًبْعَثُ حَيَّاً" [7] . فتضمنت كلماته الاولى إعلان نبوته وعبوديته لله وتبرئة أُمه من ما اتهمت به. [8]

لقد بُعث عيسى عليه السلام بمعجزاتٍ كثيرة، كان كلامه في المهد أحدها، وقد خدم هذا الإعجاز في تبرئة الأم، كما لفت النظر الى مولد نبي، فقدرة طفل حديث الولادة على الكلام أمرٌ لا يحدث في العادة. 

ولد المسيح في زمن حكم الرومان لفلسطين والمشرق، في زمنٍ كانت روما هي العاصمة، ويمتد حكمها على سواحل المتوسط كاملةً، كما توغلت في الشمال الغربي الأوروبي وآسيا الصغرى وأرمينيا ومنطقة الدانوب.  كانت روما في أوج صلفها. 

وإلى الشرق كانت إمبراطورية فارس، كان الساسانيون يحكمون حتى حدود الهند، التي كانت تحكم فيها دولة الكوشانا، وفي الصين كانت دولة الهان.  وكان بقية العالم على بدائيته ؛ فالعرب كانوا قبائل رحلاً، باستثناء دولة اليمن، وقبائل الهون Huns  لم تكن قد حققت هجراتها الواسعه إلى الشمال والوسط الأوروبي بعد، كما كان جنوب وجنوب شرق آسيا، وكذلك إفريقيا تعيش حياة قبلية بدائية.  هكذا كانت صورة العالم تقريباً عند انبثاق فجر جديد للإنسانية .

والمسيح كلمة عبرانية، كانت لقباً يطلق على ملوك اليهود، ثم أصبح يطلق على الملك الموعود [9] .  " نعم ان المسيح انسان بكل معنى الكلمة : والدليل على ذلك حياته الأرضية وآلامه وموته . ولكن حتى أثناء حياته الأرضية كان يلقب الرب " كيريوس " ومعناها الأصلي هو الملك ." [10]

لقد انقسم المجتمع الذي وُلد فيه المسيح وإختلف الناس في أمره.  فقد آمن بعض اليهود به واتبعوه، بينما أنكر آخرون نبوته وخالفوه.  

فلوحق المسيح وأتباعه وعانوا معاناةً شديدة، ولكن حركته ازدادت قوة، من خلال تنقله وتحدثه مع الناس وإظهاره معجزات علاج المرضى وإحياء الموتى بإذن الله.  الأمر الذي حدا باليهود لأن يشتكوا الى السلطات الرومانية.  التي اعتقلت شخصاً يشبهه وصلبته حسب الرواية الإسلامية، أو اعتقلته شخصياً وصلبته حسب ما يتفق عليه أتباع المذاهب المسيحية كافة.  وهذه نقطة الخلاف الأولى بين الإسلام والمسيحية.  أما النقطة الثانية فهي طبيعته، فبينما المسلمون يعتقدون أنه بشر، يختلف المسيحيون مع المسلمين وفيما بينهم حول طبيعته عليه السلام.  وهذا ما سنأتي عليه في فصلٍ قادم بتفصيل .

 لقد اعتقد كثير من مواطني الإمبراطورية الرومانية الدين الجديد مذهباً يهودياً آخر.  لهذا تقدمت المسيحية ببطء شديد في القرن الأول.  وقد كان المستجيبون للدين من اليهود، لدرجة أن الدعوة كانت تنحصر بالمجتمعات اليهودية في مدن الإمبراطورية المختلفة. وفي زمن تراجان كانت الدعوة الجديدة قد أصبحت قوة تتحدى ديانات ألإمبراطورية المتشابكة والمتكونة من مزيج من عقائد يونانية وسورية وفارسية ومصرية بالإضافة الى ديانة روما وعبادة الإمبراطور.عندئذٍ قام مفكروالنظام من كتاب وفلاسفة بمهاجمة المسيحية، التي كان أساسها المحبة ؛ محبة الله ومحبة الإنسان.  كما " كان الدين الجديد في مجموعة أفكاره وتعاليمه الأخلاقية وفلسفته في الخلود وعقيدته الراسخة قادراً كما يبدوعلى تلبية المطالب الروحية والفكرية والاجتماعية التي كان المتنورون غالباً ما يتوقعونها من دياناتهم،  في كل مكان، دون أن ينجحوا في الحصول عليها" [11] . لقد بدا الدين الجديد غير متسق مع الثقافة اليونانية والرومانية، ولكن  " الهوة أُزيلت نهائياً بجهود بولس والآباء المسيحيين الأوائل " الذين قاموا " بإعطاء المسيحية شكلها الهيليني وجعلوها ملائمة للانتشار في العالم ". [12]

 ومع انتشارها بدأ الاضطهاد يأخذ طابعاً منظماً.  ففي عام 64 م، قام نيرون بتحميل مسئولية حريق حدث في العاصمة على المسيحيين، فأمر بإبادتهم.  ثم أصدر تراجان مرسوماً يعتبر المسيحيين الذين يرفضون القسم على آلهة الدولة في المحاكم خونة.  وهذا المرسوم جعل المسيحيين مواطنين خارجين عن القانون وملاحقين ويتعرضون لكل أنواع العقوبات في القرنين التاليين.  وفي عام 303 م أصدر ديوكليتيان أمراً بحرق الكنائس والكتب وطرد المسيحيين من الوظائف الحكومية والجيش.   

عندما أصبح قسطنطين إمبراطوراً كانت الديانة المسيحية قد أصبحت  واقعاً يصعب تجاهله، في الإمبراطورية وخارجها.  فمنذ ثلاثة قرون ومنذ أن بعث الله السيد المسيح هادياً  للبشرية، أخذ معتنقوالديانة الجديدة في ازديادٍ  مستمر في أقاليم مختلفة من العالم، ليس في منطقة شرق المتوسط فحسب وإنما في جنوب وجنوب شرق أوروبا وفي مصر وشمال إفريقيا وفي بعض أجزاء الجزيرة العربية وفارس والهند.  لقد وصلت المسيحية الى الهند في مرحلة مبكرةٍ جداً، فبعض الباحثين يدعون أنها وصلت الى الهند في زمن المسيح عليه السلام.

وكان عليه السلام قد ولد من السيدة مريم بصورةٍ إعجازية دون أب.  وتعتبر مريم أعظم امرأة في كل العصور حسب الموروث الإسلامي، كما أنها تحتل مكانةً غايةً في الأهمية في الديانة المسيحية.  كانت أبوة السيد المسيح وبالتالي طبيعته موضع اختلاف شديد  بين أتباعه في القرون التالية.  كما أصبحت نقطة الخلاف الأساسية بين المسلمين وغالبية المسيحيين، حيث اتفقت مع بعضهم.

لثلاثة قرون كان أتباع الدين الجديد ملاحقين ويتعرضون للتنكيل الشديد على أيدي السلطات الرومانية الحاكمة، بينما لاقوا تسامحاً نسبياً في أراضي الدولة الفارسية، فاصبحت فارس ملاذاً آمناً للمسيحيين، واستمرت كذلك بعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية بالنسبة للمذاهب المخالفة للمذهب الرسمي للإمبراطورية.

في الإمبراطورية الرومانية، ورغم عدائها الشديد ومقاومتها الدموية استمر الدين الجديد في الانتشار حتى وصل الى إيطاليا واليونان وجزر البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة الى سوريا ومصر والحبشة والنوبة وبعض أجزاء الجزيرة العربية.  ولم تعرف المسيحية اضطهاداً كما عرفته في أقاليم الإمبراطورية، باستثناء - ربما - ما حصل في اليمن لاحقاً على يدي ذي نواس كما سنأتي عليه فيما بعد.  ففي فارس كان حكامها متسامحين مع المسيحيين، وفي القرون اللاحقة كانت بلاد فارس ملاذاً آمناً لأتباع المذاهب "المارقة" رومانياً، بعد أن أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية.  ولم تقاوم المسيحية في الجزيرة العربية عند بدء انتشارها في القرون الأولى،  وكذلك في الهند، حيث وصلت الدعوة الجديدة إلى الأجزاء الجنوبية الغربية منها في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً، فيما يعرف الآن بولاية كيرالا، حيث يشكل المسيحيون ثلث سكان الولاية.

وعودةً إلى الإمبراطورية الرومانية، حيث كان الوضع في عام 312 م- وهوالعام  الذي حسم فيه قسطنطين الوضع لصالحه بانتصاره على خصومه- لا يحتمل تجاهل هذه القوة المتعاظمة، والاستمرار باضطهاد معتنقيها، وخصوصاً أنها انتشرت في أرجاء مختلفة من الإمبراطورية وبالذات في ولاياتها الشرقية الغنية بمواردها والمعروفة بكثرة سكانها.  فقرر بالاشتراك مع شريكه في الحكم الأغسطس ليسينيوس أن يصدرا  مرسوم ميلان الشهير،  والذي أعطى للمسيحيين حرية العبادة وأعاد لهم ممتلكاتهم المصادرة، دون أن تصبح المسيحية الدين الرسمي للبلاد، ودون أن يعتنق أباطرتها الدين الجديد.

 وقد أظهر قسطنطين ميلاً تدريجياً نحوالمسيحية، انتهى باعتناقها كلياً بعد فترةٍ من التردد والتأرجح بين الديانة الجديدة والوثنية.

إن بناء القسطنطينية وإيقاف اضطهاد أتباع الديانة المسيحية كانا الحدثين الأهم في عهد قسطنطين، وهما وإن بدا خلاف ذلك فهما مترابطان.  فالإمبراطورية الرومانية التي كانت تمتد من جنوب إسكتلندة الى الضفة الغربية للفرات، كانت في حالة تآكل في ولاياتها الغربية، فقد أصبحت هجمات الجرمان تشكل تهديداً جدياً لمناطق واسعة من غرب أوروبا، فجاءت الخطوتان لنقل مركز ثقل الإمبراطورية نحوالشرق جغرافياً وعقائدياً.  فقد قطع سكان الولايات الشرقية شوطاً كبيراً في اعتناقهم للديانة المسيحية، رغم الاضطهاد الشديد.  وكانت جارة الإمبراطورية الشرقية، الإمبراطورية الفارسية، متسامحة مع الدين الجديد ومع أي دين (فلم تحاول فرض ديانتها على العرب الواقعين تحت هيمنتها على سبيل المثال)، وكانت تنافس الإمبراطورية الرومانية على هذه الولايات، فكان نقل العاصمة والاقتراب من مركز المسيحية خطوتين تهدفان ضمان الشرق الغني والاستراتيجي، والمتحول الى المسيحية.  

خارطة رقم 1

 

مات قسطنطين مسيحياً، ولكن خلفه ابن عمٍ له سرعان ما ارتد إلى الوثنية.  كان جوليان قيصراً في زمن قسطنطين وحكم لمدة سنتين (361-363 م).  أعاد فتح المعابد الوثنية وأزال جميع الشارات المسيحية من الأعلام وبيارق الجيش وعزل المدرسين المسيحيين من المدارس. إلا أنه لم يضطهد المسيحيين، ومع هذا فقد كانت هذه انتكاسةً كبيرة لم تزل إلا بموته،  وبمجيء جوفيان لمدة سنة، ثم فالنتيان الذي فضل أن يحكم من روما وترك أخاه فالينز إمبراطوراً شريكاً يمارس الحكم من القسطنطينية [13] .  حكم فالنز لمدة أربع عشرة سنة (364- 378 م).  أصبحت المسيحية أكثر انتشاراً كما أصبحت ديانة روما القديمة الوثنية نداً هزيلاً، وأثبتت رِدة جوليان أنها أعجز من أن تستطيع عكس اتجاه التاريخ، فالعالم لم يعد متقبلاً للديانة القديمة، حيث تغلغلت في الجيش والمجتمع الرومانيين.  وبهذا استقرت المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية،  يدين بها نسبة عالية من سكانها،  وبتزايدٍ مستمر.  كان فالنز مسيحياً يتبع المذهب الآريوسي، فكان غير مقبولٍ في أوساط الطبقة الحاكمة، فكثرت الفتن في عهده، وانتهى حكمه بموته في معركة، وبموته ينتهي حكم أسرة قسطنطين ويبدأ حكم أسرة ثيودوسيس، الذي كان أرثودوكسياً، فأعاد الاستقرار الاجتماعي في البلاد،  وأعاد  للمسيحية سيطرتها،  فاضطهد الوثنيين ولاحقهم.  وفي عام 392 م أصدر  تيودوسيوس مرسوماً يحرم فيه تقديم القرابين ووضع الأكاليل وممارسة الكهانة وما الى ذلك من المراسيم الوثنية [14] .  وفي زمنه أخذت العقيدة المسيحية شكلها النهائي متمثلةً بمذهب نيقية، وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية، ولم يعد للأديان والمذاهب الأخرى وجود رسمي.  إلا أن الاختلاف المذهبي لم ينتهِ، بل استمر مستعراً  لثلاثة قرونٍ أخرى على الأقل.

 

الاختلافات المذهبية

أصبح للكنيسة دورٌ لا يقل أهميةً عن دور السلطة السياسية، إلا أن هذا لا يعني أنهما كانا نقيضين، فكانت الكنيسة عوناً للإمبراطور في حروبه مع أعداء الإمبراطورية الذين غالباً ما كانوا أعداء العقيدة.  وكذلك غالباً ما ساندت الكنيسة الإمبراطور في نزاعاته مع خصومه السياسيين داخل الإمبراطورية.

وكان الإمبراطور يساند الكنيسة  في البت في الخلافات المذهبية التي كانت تظهر من فترة لأخرى على شكل اجتهادات يقوم بها بعض رجالات الكنيسة من بطاركة وغيرهم، وكان معظم الاختلاف يتعلق بطبيعة السيد المسيح عليه السلام.

ويعزى هذا الاختلاف الى حقيقة بقاء المسيحية ديناً مطارداً ومقموعاً، ويعمل أتباعه بسرية شديدة لمدة ثلاثة قرون.  فكان يتعذر عقد الاجتماعات وتنظيم النقاشات وإجراء الأبحاث وتدوين النصوص ونسخها ونقلها من مكان الى آخر.  فقمع الدولة الرومانية لم يتوقف عند حد.  وقد استشهد المئات والآلاف في محاولاتهم نشر العقيدة وتوثيق أدبياتها وفي طليعتها الإنجيل.

وقد شهد القرن الأول والقرن الثاني انتشاراً محدوداً للديانة المسيحية، ولم يتعرض أتباعها للاضطهاد المنظم في هذين القرنين.  ولكن في القرن الثالث أخذ الدين بالانتشار، وبدأ يتغلغل في الجيش.  فبدأ الأباطرة في قمع وملاحقة واضطهاد المسيحيين في جميع أنحاء الإمبراطورية [15] .

ولوأجرينا مقارنة بين نشأة الدين  المسيحي مع نشأة الدين الإسلامي، لوضعنا ما يعرف بالمرحلة المكية، أي الفترة التي عاشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة، مقابل فترة القرون الثلاثة الأولى من التاريخ المسيحي.  في التاريخ الإسلامي لا يوجد الكثير من المعلومات عن المرحلة المكية، التي لم تتجاوز ثلاث عشرة سنة، كما لم تُرْوأحاديث نبوية تذكر عن هذه المرحلة مقابل آلاف الأحاديث المروية عن الرسول (ص) في المرحلة المدنية.  وهذا مفهوم.  حيث كانت الأولوية للبقاء وللاستمرار. 

كان هناك جدلٌ شديد حول مذهب آريوس، الذي كان مرفوضاً من قبل الكنيسة في كلٍ من القسطنطينية وروما.  وكان آريوس راهباً مصرياً قال :" بما أن الأب كان قبل الابن، ثم حدث الابن، وهوكلمة له.  وهومحدث وتجسدت الكلمة في مريم فصارت المسيح،

 فهومخلوق.  وقد فوض الأب إليه كل شيء،  فخلق السماوات والأرض وما فيهما ". [16]   للرد على هذا الطرح عمدت الكنيسة إلى صياغة مذهبها بتقرير الصفة الإلهية للابن، وأنه من نفس جوهر الأب. وترتب على ذلك ان جرت مناظرات ومناقشات حول العلاقة بين الطبيعة الإلهية والبشرية للسيد المسيح.  فعقد مجمعٌ في نيقية في زمن قسطنطين.

وفي اواخر القرن الرابع للميلاد ظهر مذهبٌ في إنطاكية يقول بطبيعتين للسيد المسيح لم تتحدا اتحاداً كاملاً في شخصه.  وتطور هذا الطرح الى أن للسيد المسيح طبيعة بشرية مكتملة، ونهى عن وصف مريم على أنها أم الإله، بل والدة المسيح لأنها لم تلد إلا بشراً. 

بقي هذا المذهب محصوراً ضمن دوائر صغيرة في سورية. ولكن عندما تولى نسطوريوس، السوري الأصل، بطريركية القسطنطينية، عمل على فرض هذا المذهب على الكنيسة.  وقد كان متكلماً وجريئاً،  وطالب الإمبراطور بتطهير الأرض من المتهرطقين، أي خصوم مذهبه.  ثم ظهر له ندٌ قوي، وهوكيرلس بطريرك الإسكندرية، الذي اعتبر السيد المسيح إنساناً اتحدت فيه الطبيعتان البشرية والإلهية، وأيده بابا روما وكثيرٌ من رجال الدين.  فتغلب على نسطوريوس على الرغم من دعم الإمبراطور له.  فعقد مجمع إفيسوس سنة 431 م حيث حكم على نسطوريوس بالزندقة ونفي إلى مصر [17] .

ومع هذا لم تحسم الأمور تماماً.  إذ اتحدت كنيستا روما والقسطنطينية ضد كنيسة الإسكندرية، وتجاوزتا طرحها، إذ قررتا أن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية، أصبحتا عند التجسيد طبيعة واحدة، إذ ذابت الطبيعة البشرية في الطبيعة الإلهية [18] .لقد أنكر نسطوريوس ومؤيدوه الطبيعة الإلهية للمسيح، بينما أنكر كيرلس ومؤيدوه الطبيعة البشرية للمسيح،  وهذا ما أدى الى ظهور المذهب المونوفيزي والقائل بطبيعة واحدة إلهية.  وقد لقي المذهب الجديد معارضة شديدة في القسطنطينية.  لم تحسم الأمور لصالح أيٍ من المذاهب لفترةٍ من الزمن رغم عقد مجمع في عام 449 م.

وفي عام 451م دعا الإمبراطور لعقد مجمع في خلقيدونيا في آسيا الصغرى.  حيث تم الاتفاق على استبعاد النسطورية والمونوفيزية، باعتبار كلٍ من الطبيعتين كاملة ومستقلة عن الأخرى وغير قابلة للانقسام.  حيث اعتبر هذا انتصاراً للقسطنطينية، وخرجت باعتبارها تلي روما في الأهمية [19] .

على أن المذهب النسطوري لم يتلاشَ، فقد ازدهر خارج الإمبراطورية،  في فارس وغيرها.  وقد استمر هذا المذهب في الوجود في العراق لغاية القرن التاسع عشر فاختفى عندما تحول أتباعه  الى  كنائس غربية نتيجةً لجهد المبشرين. وقد ذكرت بعض المصادر أن أحد قادة هولاكو، عندما هاجم بغداد في القرن الثالث عشر كان على المذهب النسطوري، الأمر الذي يدل أن هذا المذهب انتشر انتشاراً واسعاً حتى وصل شرقاً الى منغوليا.

لقد تسببت الخلافات الدينية وقرارات المجامع الكنسية، مثل مجمع خلقيدونيا، في تعميق الهوة، وخلق حالة ترتقي إلى مستوى العداء.  فقد كتب يعقوبي معاصر :" في سنة 560 م كثرت خطايا الآمديين (أهالي مدينة آمد – ديار بكر) زنا وكذب وظلم وبخل وعداوة وما هوأتعس منها كلها، مما أثار غضب الله، أنهم أخذوا جميعهم بمجمع خلقيدونيا..  فسلط الله عليهم رجزه القاسي .. حتى مر بهم القديس يعقوب البرادعي، فوعظهم ونصحهم ودعا لهم".  فكان أتباع الكنائس المخالفة للرومان ومذهبهم، وخصوصاً اولئك الذين يعيشون في أراضي الدولة الفارسية، يعدون مواطنين صالحين فيها، حيث أنهم كانوا موالين تماماً للدولة الفارسية، التي لم تعرضهم لاضطهاد منظم على الإطلاق.   

تجددت الخلافات في زمن زينون، الذي حاول تقديم حلٍ توفيقيٍ، رفضه البابا.  فوقع الخلاف والقطيعة بين القسطنطينية وروما.  وبدلاً من التقريب، ظهر خلافٌ جديد.

جرت محاولات توفيقية في زمن جستنيان لم تكلل بالنجاح تماماً.  حيث كانت الخلافات العقيدية تزداد عمقاً.  وبعد انتهاء الحرب مع الفرس بانتصار بيزنطة واستعادة أرمينيا وسوريا ومصر، ساد الاعتقاد في الأوساط الكنسية أن الخلاف المذهبي ساعد على فقدان هذه الأقاليم لفارس في الجولة الأولى من الحرب، وأنه من الضروري القيام بجهد لتقريب المذاهب.  فحاول البطريرك سيرجيوس الاستفادة من عقيدة الإرادة الواحدة التي ظهرت في الشرق في هذه الأثناء، حيث ساد اعتقاد أن ما للمسيح من طبيعتين تتسمان بإرادة واحدة.  اعتقد البطريرك أن هذه العقيدة ممكن أن تؤدي إلى التوفيق بين المذهب الخلقدوني والمونوفيزي.  وافق كثيرون على طرح سيرجيوس، ولكن المعارضة جاءت هذه المرة من بطريرك القدس صفرونيوس سنة 634 م.  الأمر الذي جعل سيرجيوس يجري بعض التعديلات أقرت في مجمعين عقدا في القسطنطينية في عامي 638 و639،  ووجدا قبول الجميع، إلا أن هذا المذهب انهار بوفاة سيرجيوس، حيث تنكر له الجميع هرقل والبابا وغيرهم.  وهذا التراجع لا يمكن عزله عن الأحداث المهمة التي جرت في هذه الأثناء، وهي الفتوح الإسلامية وفقدان الأقاليم " المشاكسة " عقائدياً.  حيث اختل التوازن لصالح روما.

عقد مجمع مسكوني سادس في القسطنطينية عام 680/681  تم فيه التخلي نهائياً عن مذهب الإرادة الواحدة ومذهب الطبيعة الواحدة،  حيث أثبتت بيزنطة أنها لا ترغب في تسوية نزاعات مذهبية مع أقاليم لم تعد تابعة لها، على الرغم من مشاركة بطاركة إنطاكية والقدس والإسكندرية في هذا المجمع.

عقد مجمعٌ آخر في 691/692 م في القسطنطسنية.  ركز هذا المجمع على الطقوس والشعائر، حيث أجريت بعض الإصلاحات وتم التخلص من بعض العوالق الوثنية.  وقد برزت بعض الخلافات في هذا المجمع بين القسطنطينية وروما.

في مرحلة ما بعد الصدام مع المسلمين،  ظهرت دعوات الى تنقية الدين والرجوع بالكنيسة إلى ما كانت عليه في أول عهدها من البساطة، وتمثل هذا بمعارضة الصور والإيقونات، التي انتشرت انتشاراً واسعاً في الكنائس والبيوت .

تبنى الإمبراطور ليوالثالث مذهب اللاإيقونية وعمد إلى إزالة الصور والإيقونات من الكنائس والأماكن العامة.  لاقى هذا الأمر معارضة شديدة، وساعد على توسيع الهوة بين روما والقسطنطينية أدى في نهاية المطاف بالبابا جريجوري الثالث إلى عقد مجمع في روما رفض التوجه الجديد.  وبهذا بدأت القطيعة بين القسطنطينية وروما، وانهارت فكرة الوحدة التي تمسكت بها الإمبراطورية والبابوية [20] . تعزز الخلاف بعد ما يقارب نصف قرن عندما توج البابا في روما شارلمان إمبراطوراً.  فأصبح الخلاف سياسياً ومذهبياً.

ضعفت اللاإيقونية بموت ليو الثالث.  ومع هذا فقد تعذر رأب الصدع.  وقد أخذت القطيعة شكلاً رسمياً في مجمع عقد في القسطنطينية عام 867 م الذي اتخذ قرارات رفض فيها بعض الجوانب العقيدية التي تبنتها كنيسة روما.

أصبحت القطيعة بين الكنيستين نهائية في العام 1045 م.  وذلك بعد صراع طويل ركزت روما فيه على الشرعية التي استمدتها من القديس بطرس، بحيث أصرت على دورها القيادي.  ولم تكن السياسة مغيبةً تماماً.  فقد أصبح الشرخ واضحاً بين الإمبراطوريتين، التي أصبح لكلٍ منهما مصالحة الخاصة، وحتى ثقافته الخاصة، فقد كانت بيزنطة تبتعد عن الثقافة اللاتينية ببطء، كما أخذت ثقافة روما نفسها بالتطور. وخلال العقود التالية، اضطرت بيزنطة الى طلب مساعدة روما ضد النفوذ الإسلامي بعد معركة ملاذكرد، التي أخرجت بيزنطة من آسيا الصغرى نهائياُ، وجاءت المساعدة على شكل حملات عُرفت بالصليبية، تحت شعار " مسيحيوالغرب في مساعدة مسيحيي الشرق"، ولكنها لم تؤدِ إلى التقريب  بين الكنيستين، بل أقرت أن هناك شرقاً وغرباً. 

 

العرب والمسيحية

ذكرنا سابقاً أن المسيحية أصبحت دين الدولة الرومانية في بداية القرن الرابع، وتُجمع بعض المصادر أن بعض القبائل العربية الشمالية تحولت الى المسيحية في نفس القرن.  وقد كان ذلك على أيدي بعض الزهاد والمتعبدين الذين انقطعوا في الصحراء للعبادة، حيث كانوا يحتكون مع القبائل العربية التي كانت تتنقل سعياً وراء الماء والكلأ. وقد ورد ذكر كنائس الديار العربية في رسالة أُرسلت الى البابا اسطفانوس ( 254-257 ) . [21] وفي تلك الحقبة كانت الخلافات المذهبية محتدمة بين التيارات العقيدية المختلفة.  فقد تحدثنا في مكانٍ سابقٍ من هذا الفصل عن الخلافات المذهبية في أوساط أتباع الديانة المسيحية.  وقد كان للعرب دورهم في النقاشات والحوارات التي كانت تدور في مدن العالم القديم المختلفة مثل الإسكندرية والقدس وإنطاكية والقسطنطينية وروما وغيرها من مراكز الدعوة المسيحية، ولم يكن دورالعرب يعادل دورالسريان، الذين تربطهم بالعرب صلات عرقية ولغوية. وكانت لإنطاكية مكانةٌ خاصة في مجريات الأحداث، وفيها سُمي أتباع السيد المسيح بالمسيحيين.  وكان للعرب نزعة شديدة نحوالاستقلال الروحي، فقد ذكرت بعض المصادر اليونانية [22] اسم ملكة عربية حكمت في القرن الرابع،  في جنوب سورية،  وكانت تدين بالمسيحية، واسمها ماوية، وكانت تطالب بتنصيب أُسقف عربي اسمه موسى.  وقد خاضت حروباً طاحنة مع الدولة الرومانية لتحقيق ذلك.  وقد عاصرت الإمبراطور الروماني فالينز الذي حكم من 364 الى 378 م .

وقد حكمت بعد أن توفي زوجها الذي لم يُذكر اسمه.  وذكر روفينوس: " أشعلت ماوية ملكة القبائل السرقينية ( العربية ) نار حرب شعواء في فلسطين ومنطقة الثغور العربية، خربت بها القلاع والمدن والقرى، ولقد أضعفت بهذا القتال المتواصل القوات الرومانية " [23] .ويظهر أن اسمها معاوية، وليس ماوية، حيث أُسقطت العين، فيذكر يعقوب الرهاوي في تاريخه:  " أغار العرب على بلاد الروم .. وملكت عليهم امرأة اسمها معاوية .. وعقدوا السلم " [24] .  أي عقدوا صلحاً بعد قتال فيما بينهم.  ويذكر يعقوب أن هذا حدث في زمن الإمبراطور الروماني  فالينز الذي يسميه واليس، ويؤكد واقعة موته حرقاً على أيدي أعدائه، في حرب أخرى، مع أعداء آخرين.  واسم معاوية، في صيغة مؤنث،  ومن غير المستبعد أنه كان يطلق على امرأة في القرن الرابع.

ويذكر مؤلف آخر اسمه سوزومينوس عاش في النصف الأول من القرن السادس أن :      "ماوية فيلارخة العرب .. نقضت الاتفاقية مع الرومان" وتم "تجديدها على يد الأسقف موسى الذي تم تنصيبه".  وذلك بعد أن أرسل الرومان مبعوثاً لطلب الصلح، فوافقت وتم تنصيب موسى [25] .  لقد سُفكت دماء كثيرة من أجل منصب ديني، يبدوالأمر مستهجناً، فإذا لا بد وأن كان لماوية أسبابها الأُخرى لكل هذه الحروب، فمن المستبعد أن يقبل بذلك موسى الذي "عرف بالتقوى وبكراماته وأعماله الدينية" [26] .  وفي القرن التالي عندما تبنى الحارث بن جبلة الغساني هدفاً مشابهاً، لم يلجأ الى العنف لتحقيق هدفه.

في العام 378 مات فالينز حرقاً في إحدى معاركه مع القوط والهون واللان، كما ذكرنا أعلاه.  والذين لم يلبثوا ان حاصروا القسطنطينية.  وقد لعبت بعض القوات العربية التي كانت ماوية قد بعثتها " بوصفها حليفة لبيزنطة " دوراً هاماً.  وقد أكد مؤرخ معاصر أن الكتيبة العربية هي التي حسمت الدفاع عن القسطنطينية [27] .  وتختم المستشرقة الروسية نينا فكتورفنا حديثها عن ماوية بالعبارة التالية : " ولا يمثل تاريخ ماوية سوى حلقة من سلسلة العلاقات التي ربطت العرب بالامبراطورية ".  وكانت سياسة الإمبراطورية موجهة نحو إحلال الوفاق  ما أمكن مع القبائل العربية وربطها بمعاهداتٍ واتفاقياتٍ تجعل منهم حلفاء حتى يكونوا في وضع يمكنهم من تقديم العون لها في كفاحها مع البرابرة الآخرين ".  أي استخدام البرابرة العرب ضد البرابرة القوط والهون والآفار وغيرهم. 

وقد كان العرب، في العموم، يختلفون مذهبياً مع بيزنطة.  ومن غير المفهوم لماذا اختار العرب،  من ماوية الى ملوك الغساسنة، الحارث والمنذر، ومروراً بنساطرة الحيرة ونجران، مذهباً مغايراً لمذهب حليفهم الكبير. والسؤال نفسه ينطبق على المصريين والسريان والأحباش. الذين لم يعادوا بيزنطة، ولم يتبنوا مذهبها، ولم ترضَ عنهم تماماً.  

ولكن لماذا لا يوجه السؤال لبيزنطة نفسها التي كانت تختار الاختلاف باستمرار، وخصوصاً فيما يتعلق بطبيعة السيد المسيح عليه السلام.  والحقيقة أنها كانت تختلف مع مسيحيي الشرق كلهم تقريباً، أقباط وعرب وسريان وأحباش ونوبيين وحتى هنود وفرس.

لقد تعاملت روما ( الجديدة ) مع بقية العالم على أنهم برابرة، تتحالف مع بعضهم لمحاربة الآخر.  فكيف لها أن تتبع إنساناً ينتمي إلى أحد الشعوب البربرية،  فكان لابد من نفي الطبيعة البشرية عن شخص السيد المسيح لنفي انتمائه إلى شعبٍ آخر ينتمي إلى الشرق البربري. والمتتبع لتطور الخلافات المذهبية يلاحظ جنوح كنيستي القسطنطينية وروما باستمرار باتجاه تأليه السيد المسيح، والابتعاد التدريجي عن الإيمان بطبيعته البشرية.                  

من أشهر الشخصيات العربية التي كانت تدين بالمسيحية، عدي بن حاتم الطائي.  وهوابن حاتم الذي اشتهر بالكرم.  وقد وقعت أُخته سفانة في أسر المسلمين في معركة نجا منها إلى الشام.  وكانت تصيح بالرسول كلما مر بها :" هلك الوالد، وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك." فسألها الرسول (ص) : " من هو وافدك ؟." فقالت : "عدي بن حاتم".  فقال : "الفار من الله ورسوله".  وكررت ذلك عدة مرات، فأطلق سراحها، وجهزها وسافرت الى الشام لتلتقي بعدي.  أقنعت سفانة عدياَ أن يفد على الرسول( ص).  دخل عدي على الرسول في المسجد وقدم نفسه، فأخذه الى بيته.  فقال له الرسول(ص) : " إيه يا عدي بن حاتم.  ألم تكن ركوسياً ؟."  ويفسر ابن هشام الركوسية بدين بين المسيحية والصابئة.  والأقرب الى المنطق أن يكون هذا مذهباً مسيحياً.  فرد عدي :"بلى".  ثم سأله الرسول : "ألم تكن تسير في قومك بالمرباع".  فقال :"بلى".  فقال الرسول :"فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك".  ومضى الحوار على هذا النحو، حيث انتهى بإسلام عدي [28] .  كان لعدي دورٌ نشط في فترة الفتوحات، كما كان من قادة علي بن أبي طالب.   

وكان ممن وفد على الرسول (ص) في العام العاشر الجارود بن عمروبن المعلا مع وفد عبد القيس، الذي كان يدين بالمسيحية [29] . وكان قبيلة عبد القيس يسكنون البحرين، التي كانت ولاية فارسية.  فسُر الرسول لقدومه ولإسلامه.  ولكنه سأله سؤالاً : "يا محمد، إني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني ؟" فرد عليه الرسول بالإيجاب.

وكان للجارود موقف مضاد للردة، عندما حاول أحد أحفاد المناذرة أن يرتد ويرد البحرين معه [30] .  ومات شهيداً في بلاد فارس سنة 21 [31] .  

 وحتى عندما سجل التاريخ أول حالة تحول من الإسلام الى المسيحية، كانت الى مذهب مغاير لمذهب بيزنطة، وهومذهب الحبشة المونوفيزي فقد تحول عبيد الله بن جحش الى المسيحية، وكان بين الذين هاجروا الى الحبشة واطلع على ديانتها، وكان يقول للمسلمين عندما كان يلتقي ببعضهم في مهجرهم : " أبصرنا وصأصأتم". ويقصد بذلك أن أتباع  الديانة المسيحية أبصروا طريقهم، بينما أتباع الديانة الإسلامية يلتمسون البصر، كدينٍ جديد [32] .

وقد كانت الحيرة مركز إشعاعٍ للعقيدة المسيحية، على الرغم من أن دين دولة المناذرة لم يكن المسيحية، كذلك لم تكن فارس.  وكانت " بيع الحيرة " أي كنائسها وأديرتها، مراكز ثقافية هامة، وجدت فيها وثائق تاريخية أفادت بعض مؤرخي العهد الإسلامي.  اندثرت الحيرة ببناء الكوفة بالقرب منها، حيث هجرها أهلها بالتدريج، وفي مرحلة مليئة بالأحداث مثل مرحلة حكم الحجاج، في الربع الثالث من القرن الأول، لم يكن لها ذكر.

كان يوجد جالية مسيحية هامة في مدينة جنديسابور، وهم يونانيون هربوا من اضطهاد الرومان في بداية تحولهم الى المسيحية، حيث رحب بهم شاه فارس.  وكانوا يمارسون الطب ويعلمونه.  وبالإمكان القول أنه كانت هناك كلية طب في جنديسابور.  وعلى ما يبدوأنهم تحولوا الى المسيحية التي هربوا منها.  وفي عهد العباسيين، تم نقلهم الى بغداد.

 

بدايات الصراع بين الشرق والغرب

مما لا شك فيه أن الصراع بين الشرق والغرب، قد بدأ قبل المسيحية والإسلام بزمنٍٍ طويل.  فعلى الأغلب أن بداية الاحتكاك بين ما يمكن أن يسمى شرقاً وما يمكن أن يسمى غرباً، كانت على ضفاف البسفور، وربما كانت بين الحثيين والإغريق.  وقد أسس الحثيون دولتهم في الأناضول، وهم شعب أوروبي، Indo-European وقد شكلت هذه الدولة  قوة لها ثقلها في المنطقة.  فتوسعت جنوباً في الأراضي السورية، واصطدمت مع الفراعنة، كما تحاربت مع قوىً يونانية مختلفة.   وقد كانوا أول مَن اكتشف الحديد، أوعلى الأقل كانوا أول من تمكن من صهره وتشكيله، حسب أغلب الروايات، فاستعملوه في صناعة السيوف والرماح والعربات والدروع والسلاح  بشكلٍ عام.  وقد سهل هذا  في نصرهم على الفراعنة، الذين كانوا يستخدمون الأسلحة النحاسية، حيث جرت المعركة الحاسمة بينهم على أرض فلسطين.  كما غزا شعبٌ أوروبيٌ الساحل الفلسطيني الجنوبي، فقد استقرالفلسطينيون في الأرض التي أعطوها اسمهم.  وقد كان هذا حدثاً موغلاً في القدم، ولا يوجد أدلة علمية تدعمه.

ثم ظهر الفنيقيون كقوة بحرية غطت نشاطاتها سواحل البحر الأبيض المتوسط.  لقد أعطى الفنيقيون العالم الألف باء.  بدأ ذكر الفنيقيين منذ حوالي سبعةٍ وثلاثين قرناً، حيث اتخذوا من مدن صيدا وصور، في جنوب لبنان، عواصم لهم. 

أتقن الفنيقيون صناعة السفن، كما أتقنوا فن الملاحة، وبالتالي لا بد أن يعزى لهم تقدم الإنسانية في هذين المجالين. وقد كان الفينيقيون أول أُمة بحرية في التاريخ [33] .  وهذا ما مكنهم من غزو اليونان، التي اكتشفوا فيها مناجم فضة، وعملوا في استخراجه، وبنوا فيها عدة مستوطنات.  وغزوا كذلك إسبانيا وأماكن أخرى متعددة حول المتوسط، جنوبه وشماله وجزره، راجع الخارطة رقم 2.

  خريطة رقم 2

 

وبهذا يُعتبر الاستعمار الفينيقي، الحلقة الأولى في سلسلة الغزوومحاولات الاستعمار بين ساحلي   المتوسط ؛ الجنوبي والشرقي من جهة  والشمالي  والغربي من   جهةٍ  أُخرى،   أي ا لشرق والغرب، بتعبيرٍ أسهل وأكثر انتشاراً.

وفي مرحلةٍ لاحقة اضطرت أميرة فينيقية من صيدا الى الهرب بزوجها الذي أراد أخوها الملك أن يقتله.  هربت أليسا  في عدة سفنٍ مع بعض الأعوان.  ورست السفن في موقع تونس المعاصرة، وأسسوا  قرطاجة، التي نمت لتصبح منافساً تجارياً وعسكرياً قوياً لروما. 

خاضت روما وقرطاجة - التي تقع كل منهما في قارة ويفصل بينهما بحر- ثلاثة حروب.  كان هدف كل منهما في حربه، ليس أقل من القضاء على الآخر.  وقد سمى الرومان هذه الحروب الحروب البيونية.  وقد قال أحد مؤرخي الرومان عن هذه الحروب : "لقد خاضت قرطاجة Carthage ثلاثة حروب؛ في الأولى أصبحت غنية وفي الثانية أصبحت قوية وفي الثالثة اختفت من الوجود".  في ثاني هذه الحروب، حاول القائد القرطاجي هنيبعل احتلال روما بعبور الألب انطلاقاً من مستعمرة فنيقية في إسبانيا، حيث عانى جيشه البرد والإنهاك، حيث فشلت الحملة رغم وصوله الى روما وحصاره لها.  وفي الحرب الثالثة حاصر الرومان قرطاجة بدورهم، ودخلوها في عام 146ق. م.، بعد أن تم الاتفاق على شروط الاستسلام، وبعد دخول المدينة، نقضوا الاتفاق وأحرقوا المدينة بكاملها، وحرثوا الأرض، حتى اختفت معالم المدينة تماماً.  ويروى أن سفينة قرطاجية جانحة، ذات خمسة صفوف، تم استيلاء الرومان عليها، واستطاعوا بناء 130 نسخة منها خلال ستين يوماً.  استطاعت روما أن تُجري تحولاً نوعياً على حجم وشكل أُسطولها [34] .  ساعدها في حسم نتائج الصراع لصالحها.         

في الشرق تم تصفية الوجود السياسي والعسكري والثقافي للفنيقيين على يد الإسكندر المقدوني عام 333 ق.م.، ولم يسمح موقعها الجغرافي بين آشور ومصر، للدولة الفينيقية  من أن تبني إمبراطورية واسعة في الشرق، كما فعلت قرطاجة في الغرب [35]

لم يكن الفنيقيون الشعب الوحيد الذي عاش في الشام، فقد عاصرهم العديد من الدول والشعوب مثل الآراميين والعبرانيين والكنعانينن والأدوميين والمؤابيين، الذين كانوا يعيشون جنباً الى جنب، يتفاعلون ثقافياً ويتقاتلون ويمارسون التجارة مع بعض، ولا توجد دلائل تشير إلى محاولات لإقامة نظام سياسي موحد في سوريا جميعها. وقد عرفت البشرية عدة اكتشافات على أيدي هذه الشعوب في الألفية الثانية قبل الميلاد ؛ مثل تدجين القمح domesticisation ، تطوير زراعة الزيتون والكرمة والتين، وكان الفنيقيون هم الذين نقلوا زراعة الزيتون الى اليونان وإسبانيا [36] .  هذا إضافة للكتابة والتعدين.

لقد عرفت شعوب سوريا الغزل والنسيج والحياكة في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً.  فقد وُجدت بقايا مغازل تعود الى الألف الثالث [37] .  وقد وُجد ذكرٌ للصوف الكنعاني في حوالي 1500 ق.م.  أما القطن، الذي بدأت زراعته وغزله في الهند، فقد أحضره الآشوريون الى المنطقة، ونقله الفينيقيون إلى اليونان وأوروبا ومعه اسمه السامي [38] .  "واكتشفت الأبر والدبابيس في فلسطين قبل قدوم بني إسرائيل" [39]   أي من قبل الكنعانيين، حيث وجدت منها نماذج مختلفة في مواقع عديدة .  كما عُرفت الأزرار بأنواعها.  كما عُرفت زراعة الكتان في سوريا، حيث كان يُحتفل في موسم حصاده بمراسيم خاصة [40]     

عقدة الإسكندر

كانت اليونان بلاداً غير موحدة، حيث كانت تدير كل مدينة شؤونها بالطريقة التي تراها مناسبة، بشكلٍ مستقل.  وكانت كثيراً ما تنشب بينها نزاعات مسلحة.  وقد أحرزت هذه الإمارات تقدماً غير مسبوق في علوم الفلسفة والتاريخ والرياضيات والفيزياء والفنون والفلك والجغرافيا.  في الفلسفة أنجبت الأمة اليونانية فلاسفة لا تزال نتاجاتهم تُقرأ وتدرس، وفي التاريخ جعل المؤرخون اليونانيون من أنفسهم مرجعاً يصعب تجاوزه في تواريخ بعض الأمم لبعض الحقبات، وفي الرياضيات والفيزياء والعلوم الأخرى لا تزال بعض النظريات معتمدة وصحيحة.  وفي فن النحت بز اليونانيون سابقيهم من مصريين وفنيقيين وبابليين وهنود في هذا المجال، من ناحية الإتقان.  كما أن تقدمهم في الموسيقى، لا يزال أثره واضحاً في موسيقى أممٍ كثيرةٍ من بينها الموسيقى العربية.

لم يكن تقدم هذا العلوم في إسبارطة، على سبيل المثال، مثل ما هوفي أثينا.  فقد اهتم الإسبارطيون ببناء الجسم، بينما اهتم الأثينيون ببناء العقل.  ومع هذا التباين الواسع في أنماط التفكير كان الإبداع هوالعامل المشترك، فحتى في مجال الرياضة، فقد أعطت الأمة اليونانية للبشرية فكرة الألمبياد.  أخذت اللغة اليونانية الألف باء عن الفنيقيين، كما لا بد أنها استفادت من الحضارتين المصرية والبابلية العظيمتين في مجالاتٍ شتى، وأغنت بدورها اللغات الأوربية جميعاً بمفردات لا يمكن الاستغناء عنها.  واللغة اليونانية لا تنتمي الى مجموعة لغات، فليس لها شقيقات.  كما أن العرق اليوناني لا ينتمي إلى مجموعات الشعوب الأوروبية المعروفة، مثل السلاف مثلا ً، وإنما يُشكل مجموعة قائمة بذاتها .

وكانت اليونان قد هوجمت من قبل الفرس بمساعدة الفينيقيين، الذين كانوا، مثل سائر شعوب غرب آسيا ووادي النيل، يخضعون لحكمها ضمن إمبراطورية امتدت من البنجاب في شمال الهند الى ليبيا. 

في هذه الأجواء ولد الإسكندر لملك مقدونيا فيليب.  ونشأ طموحاً، مسكوناً بعقدة العظمة التي لا يجد بلاده الصغيرة قادرة على استيعابها.

فبمجرد أن تولى الحكم، بعد موت أبيه اغتيالاً، بينما كان منهمكاً في توحيد الإمارات اليونانية.  شرع في حملةٍ لتوسيع رقعة حكمه ولتوحيد العالم. 

اجتاح جيش الإسكندر-المقدر عدده بثلاثين إلى أربعين الفاً من المقاتلين المدربين- آسيا الصغرى حيث عبرها في عام 334 ق م،  والتقى مع جيش فارسي ضخم في شمال سوريا وانتصر عليه، ثم تحول الى سوريا حيث قضى على حضارات قديمة قدمت للإنسانية معارف جليلة ومهارات بديعة وأدياناً سماوية ووثنية، مثل الفنيقيين والآراميين والعبرانيين والأدوميين والمؤابيين والكنعانيين وغيرهم، وهذه الشعوب التي وإن كانت تحت حكم الفرس، فإنها كانت تتمتع بهامش حريةٍ جعلها تمارس ثقافاتها.

فتحت بعض المدن، التي كانت تتمتع بحكمٍ ذاتيٍ نسبي أبوابها للفاتح وجيشه، بينما قاومت أُخرى.  وكان من بين المدن التي قاومت، وحوصرت، واقتحمت، وعوقبت عقاباً شديداً صور الفينيقة وغزة الفلسطينية [41] .  ثم اتجه الى مصر، التي لم تمانع من استبدال محتلٍ بآخر.  وعاد بعد ذلك الى سوريا، ثم إلى شمال العراق، حيث خاض معركة أُخرى مع الفرس.  ثم اتجه الى بابل حيث دخلها باحتفالٍ كبير.  ثم زحف شرقاً حيث احتل بلاد فارس جميعها. 

وكانت آخر انتصاراته على ملك الهند الذي حشد جيشاً يفوق عدد جيش الإسكندر بكثير، ولكن جيش الإسكندر الصغير العدد نسيباً، الجيد التسليح والتدريب، والذي يستمد معنوياته من قيادة الإسكندر الفذة، والذي يُقاد من قبل قُواد يمتلكون الخبرة والانتماء والاندفاع، استطاع هذا الجيش أن يهزم جيش الهند، كما هزم جيوشاً كثيرة، معظمها فاق جيشه عددياً.

عاد الإسكندر أدراجه بعد أن بدأ الجيش يُظهر بعض التململ، مات الإسكندر شاباً وقد أدمن الشراب واخذ يتصرف تصرفات شاذة مثل قتله أحد أصدقائه، مات وعمره 33 سنة، في بابل .

انقسمت الأقاليم التي احتلها إلى ثلاثة أقسام؛ مقدونيا وسوريا ومصر، حيث حكم كل قسم أحد قادة الإسكندر.  أما الأقاليم البعيدة فقد استقلت .

لقد ترك الإسكندر انطباعاً قوياً في تاريخ الشعوب القديمة.  فبينما نظرت إليه أوروبا، التي لم يغزها، كقائد بطل، لم تنظر إليه شعوب الشرق نظرة تختلف عن ذلك، فكان الإعجاب مهيمناً على الانطباع الذي اكتسبه الإسكندر عبر التاريخ.  ولوأنه غزا أوروبا لربما تخلد في الذهنية الأوروبية بشكلٍ مختلف، لربما سمي "لص أوروبا" كما أُطلق على نابليون، أو"المغتصب" rapist ، كما أُطلق على هتلر.       

ولكن حملة الإسكندر لم ينجم عنها سوى الخراب، والقضاء على  حضاراتٍ عريقةٍ من جذورها، واختفاء مراكز إبداع من الوجود، وتدمير مدن،  بما فيها من أسرار العالم القديم، وقتل آلاف البشر من غير طائل.  وأكثر من هذا فقد ترك لنا الإسكندر ما يمكن أن نسميه    " عقدة الإسكندر ".  والتي هيمنت على كثيرٍ من الأوروبيين، فكلما اتجه قائد عسكري أوروبي الى الشرق حلم أن يكون إسكندراً آخر، فأخذ يقلده، ويحلم أن يسير على خطاه.  فبدءاً بيوليوس قيصر وجوليان وريتشارد قلب الأسد وفريدريك بربروسا ونابليون واللينبي وغورووغيرهم، وحتى عندما أطلق هتلر حملته الشرقية ضد روسيا أسماها "بربروسا" على اسم الإمبراطور الألماني الذي حارب في الشرق، أيام الحروب الصليبية، مثل الإسكندر.  وفي الحرب العالمية الثانية، لا بد أن هذه الخيلاء قد اعترت الجنرال الألماني رومل وهويتقدم شرقاً في ليبيا، وكذلك الجنرال باتون الأمريكي وهويتقدم شرقاً في أراضي المغرب العربي.  هذه العقدة ساهمت في إدامة الصراع بين الشرق والغرب، وقد أعطته بُعداً جديداً، وهوعدم اقتصار الصراع على الدول المتجاورة، وإنما خوض حملات تقطع مسافات كبيرة، وتحارب في أراضي غريبة، وتعتمد على خطوط إمداد طويلة تمتد في أراضي محتلة يسكنها شعوب معادية.  

 




[1]  شهداء فلسطسين تأليف أوسيبيوس القيساري عن تواريخ سريانية.

[2]  الإمبرطورية البيزنطية وحضارتها تأليف محمود سعيد عمران .

 سورة مريم 11 الى 21. [3]

 قصص الأنبياء في ظلال القرآن، لسيد قطب . [4]

 مريم 22 و23. [5]

 مريم 24 الى 26. [6]

 مريم 27 الى 32. [7]

[8]  قصص الأنبياء، ابن كثير.

 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، تأليف فيليب حتي . [9]

[10]  المسيحية والحضارة العربية، الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتي.

 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ، فيليب حتي. [11]

[12]  نفس المصدر .

 الدولة الرومانية وحضارتها . [13]

 الدولة البيزنطية. [14]

 تاريخ أوروبا للسيد الباز العريني . [15]

 تاريخ الجنس العربي ج 1 و2. [16]

 تاريخ الدولة البيزنطية . [17]

 الدولة البيزنطية.  [18]

 الدولة البيزنطية . [19]

 الدولة البيزنطية . [20]

[21]  المسيحية والحضارة العربية، د. جورج قنواتي.

  العرب على حدود بيزنطة وفارس، نقلاً عن روفينوس . [22]

  العرب على حدود بيزنطة وفارس . [23]

 تواريخ سريانية / تاريخ يعقوب الرهاوي . [24]

 العرب على حدود بيزنطة وفارس. [25]

 العرب على حدود بيزنطة وفارس نقلاً عن أمينوس مارسيليوس [26]

[27] العرب على حدود بيزنطة وفارس.

 السيرة النبوية لإبن هشام. [28]

 الإصابة في تمييز الصحابة . [29]

 السيرة النبوية لإبن هشام . [30]

 الإستيعاب في معرفة الأصحاب . [31]

 السيرة النبوية لابن هشام . [32]

 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين.  [33]

 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين. [34]

 نفس المصدر. [35]

 تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين. [36]

 نفس المصدر . [37]

 نفس المصدر . [38]

 نفس المصدر . [39]

 نفس المصدر . [40]

 تاريخ سوريا لبنان وفلسطين . [41]

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter