إدارة بلا تعليمات - الفصل الثاني - موروثات سلبية
 
 


مصادر أمراض الإدارة

منذ أن بدأ الإنسان بممارسة الإدارة بأشكالها البدائية مع بداية ظهور التشكيلات السكانية الأولى، سواءً أكانت ثابتة أم متنقلة، أخذ بمراكمة الخبرات الناجمة عن تجاربه، والتي بدأت بالانتقال من جيلٍ إلى جيل كموروث إنساني.  وسواءً أكان هذا الموروث يتضمن مفاهيم صالحة لفترة معينة أو لحالة معينة، أو حتى مفاهيم خاطئة تماماً، فإنها استمرت بالتراكم وبالتوارث من جيلٍ إلى آخر حتى وصلت إلى زماننا هذا، ووصلت إلينا، سواء من خلال التأثير على المنظرين في علم الإدارة، أو على شكل موروثات فولكلورية راسخة في ذهنية البشر. وقد صمدت أنماط إدارية كانت سائدة في زمن العبودية وفي زمن الإقطاع إلى زماننا على الرغم من إنتهاء العبودية والإقطاع وعلاقات الإنتاج المرتبطة فيهما. وفيما يلي نستعرض بعض المصادر التي أفرزت بعض الموروثات، والتي تركت تأثيراً على أنماطنا الإدارية كعرب بشكلٍ نسبي ومتفاوت:

 

الجيوش

لقد تأسست الجيوش النظامية مع تأسيس الدول كضرورة بقاء، وللحفاظ على حدود الدولة أو توسيعها، وفي بعض الحالات كانت أداة تأسيس لهذه النظم في المقام الأول، أي أن الجيش سبق الدولة. وقد تأسس من عددٍ من الأفراد الذين يمتلكون قابليات قتالية من نوعٍ ما واستعداداً للتفرغ لذلك والبذل لتحقيق الأهداف المحددة من قبل رأس الدولة، الذي أُطلق عليه اسم القائد العام بالإضافة إلى مسماه السياسي، الذي ربما كان شيخاً أو أميراً أو ملكاً أو سلطاناً أو قيصراً أو امبراطوراً، إلخ..

لقد ظهرت ضرورة وجود قائد من خلال تجارب البشرية الأولى في الاقتتال.  فليس من الصعب تخيل معارك بدون قادة، بالمعنى الفعلي للكلمة، فقد كانت تنشب نزاعات في قرانا إلى عهد قريب، تستخدم فيها أسلحة نارية من قبل فريقين بدون قائد ولكنهم كانوا يمارسون الاقتتال ضمن توحد فطري وبسيط في إرادتهم الجماعية. وقد كان ذلك ممكناً لعدم حاجتهم للجوء إلى خططٍ معقدة ومناورات وخدع وعدم حاجتهم لخطوط مواصلات ووسائل اتصال وتموين.  وهذا ما أظهر ضرورة فرز قيادة في مرحلة مبكرة جداً، فظهرت القيادة، وظهرت سلسلة القيادة. ومنذ البداية كان واضحاً أن نمط القيادة لا يمكن أن يكون ديمقراطياً. فلا يمكن تخيل قائد ميداني -على سبيل المثال- يجمع قواته ليتخذ قراراً بانسحاب تكتيكي من ميدان المعركة بالتشاور معهم والتصويت على القرار.  ومن هنا انقسم الجسم العسكري إلى فريقين؛ الأول صانع القرار والذي يعطي الأوامر والتعليمات، والثاني الذي ينفذها.  ولمزيد من الدقة هناك فريق ثالث، وهو الذي ينقل الأوامر، أي يتلقاها من الفريق الأول ويعطيها للفريق الثاني. فأصبح القائد يسمى commander أي الآمر، كما أصبح هناك "مأمور". فتكون هناك ثقافة قائمة على الأوامر والانضباط المطلق، و"نفذ أولاً ثم اعترض" ، وهي ثقافة، في العموم، لا تشجع التفكير والاجتهاد و"الرأي". وقد جهدت الجيوش وتفننت، عبر التاريخ، بإجهاد الجنود وحرمانهم من أوقات الفراغ التي قد تثار فيها نقاشات وتكون آراء وقناعات لا تخدم غرض القيادة. وهذا، بمعزل عن أين ومتى حدث ويحدث، يمكن أن يكون مفهوما في الأوساط العسكرية، ولكن لا يوجد ما يبرر نقل هذه الثقافة والمفاهيم ونمط العلاقات إلى المؤسسات المدنية والاحتداء بها.

ويسعى كثيرٌ من الإداريين، سواءً منهم من عمل في الجيش أم لم يعمل، للاحتداء في الجيش في ظروف عمل يسودها التسيب وغياب التنظيم. وهم إلى حدٍ بعيد محقون، فالجيوش راكمت عبر السنين إرثاً إدارياً كبيراً وفعالاً يضمن، بصورةٍ نسبية، عمل آلياته بشكل فعال، وخصوصاً أثناء الطوارئ، ولكن المؤسسات الاقتصادية بحاجة إلى نهج إداري يشجع المشاركة والنقد والصراحة.

وفي العموم عُرفت الجيوش بالتنظيم. كما عرف قادتها الحاجة إلى هذا التنظيم في مرحلةٍ مبكرةٍ جداً وعملوا على تطويره وتحسينه، وبذلك تكون إرثاً كبيراً قدم للبشرية خدمات جليلة. في عام 1914، العام الذي بدأت فيه الحرب العالمية الأولى، أصدر لينين، قائد الثورة البلشفية في روسيا آنذاك، منشوراً يطلب من كوادر الحزب الانضمام إلى الجيش وتنظيم الحزب على نسقه، ويشرح بالتفصيل القدرات التنظيمية العالية التي يمتلكها الجيش والتي ينبغي للحزب تعلمها ولكوادره الاقتداء بها.  

ومع هذا نكرر أن هذا ليس مبرراً لأن تكون هذه الأنماط الإدارية هي "الحل" للمؤسسات المدنية، حتى المتسيبة منها، والتي تعاني من مشاكل، كما أنها بالتأكيد ليست الجواب لأزماتنا الإدارية. فيما يلي استعراض لبعض سمات الإدارة العسكرية التي تجعلها لا تناسب المؤسسات الاقتصادية المدنية:

 

§  أمر وتنفيذ: يقوم نشاط العسكريين على إصدار الأوامر وتنفيذها، وقلما سُمح للمتلقي أن يناقش التعليمات. وحقيقةً أن طبيعة العمل العسكري لا تحتمل مثل هذا النقاش في معظم الأحوال. وبالتالي فإن التواصل غالباً ما يكون أحادي الاتجاه.

§  تأثير الرتب: لا يمكن لعمل الفريق أن يظهر كنهج، لأن الفريق غالباً ما يتكون من أشخاص برتب مختلفة، وبالتالي لا تصبح المشاركة كاملة بسبب الحرج والتخوف من أصحاب الرتب الأعلى.  

§  ربط الحركة بالإيعاز: في جميع جيوش العالم يتلقى المجندون الجدد برنامج تدريبي مكثف، يتضمن في بداياته حركات جسمانية ينفذها المجندون في مجموعة معينة  معاً عند سماعهم إيعاز يصدر عن المدرب. ويستمر هذا المنهاج لعدة أسابيع أو حتى عدة أشهر. وهو يهدف إلى خلق آلية تلقائية في داخل المجند تجعله ينفذ الأوامر بدون تفكير أو تمحيص أو تردد. إنها تهدف لهذه الغاية أكثر مما تهدف إلى رفع اللياقة البدنية أو تعلم السير في عرض عسكري، كما هو معروف.

 

ويبدو أن أحداً ما، منذ عصور قديمة اكتشف أهمية وضرورة هذا التحول في التركيبة الذهنية للمجند قبل تعليمه أساليب القتال وأنواع الأسلحة، وقبل قبوله بشكل نهائي في أوساط الجيش. وإذا ما كان هذا النهج صحيح أم غير ذلك في الجيوش ليس من اختصاص هذا الكتاب، ولكن هل تحتاج شركات الإنشاءات أو المصانع مثل هذا الإنسان؟.  أعتقد وببساطة أن أنماط العلاقة التي يجب أن تسود في أوساط مؤسساتنا ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين يجب أن تكون أكثر ديمقراطية من ذلك. فمؤسساتنا بحاجة إلى الإنسان الواعي المنتمي القادر على التفاعل مع ما يجري حوله. ولإدارة تتحمل تبعات ذلك من نقد وحوار وتحمل تراجعات مؤقتة.

 

§     سلسلة القيادة: يفتخر العسكريون عادةً بوجود "سلسلة القيادة" في المؤسسة العسكرية.  وهي -في الحقيقة- تشكل العمود الفقري للتنظيم العسكري. كما تشكل الناقل الأساسي للمعلومات والتعليمات. ولكن هذه السلسلة طويلة ولا تسمح بالتواصل الأفقي، وهو إن لم يكن محبباً في الجيوش فهو ضروري في المؤسسات الاقتصادية ومفيد.

كما أن هذه السلسلة تتصف بغياب المرونة، وحرص أركانها على عدم تخطيهم وتغييبهم مهما كانت الضرورات.

أما في المؤسسات الاقتصادية فإن السلسلة الطويلة غير مرغوبة، فهي تقلل من كفاءة المؤسسة. كما أن المرونة ضرورية في مؤسسات تتعامل مع عالم متغير، فوجود سلسلسة قيادة طويلة ومبجلة لا تترك مكاناً للمرونة المطلوبة.

  

§     الخوف من الخطأ والعقاب: لقد بنيت جميع جيوش العالم على إشاعة الخوف في أوساط الرتب المتدنية من الخطأ أو عدم الإنجاز، وهذا ينطبق على كافة التنظيمات المسلحة بما في ذلك العصابات غير النظامية. يخاف الجندي من العريف وهذا يخاف من الضابط، وبدوره يخاف الضابط من الضابط الأعلى رتبة. وهذا في الجيش له ما يبرره، وحقيقةً لا يمكن تخيل جيش لا تسود أوساطه هذه العلاقة. وفي بعض المراحل تتحلل الجيوش وتتفكك عندما تفقد هذه الخاصية. مثلما حدث في روسيا القيصرية في بداية عام 1917، وكما حدث في إيران الشاهنشاهية في1979. وهنا نود أن نشير إلى أن تحلل الجيوش يؤدي إلى تحلل الدول.

 

وعلى الرغم من ضرورة هذا النوع من العلاقة فإنها تكلف الجيوش خسارة كبيرة؛ وهي القدرات الذهنية لآلاف وأحياناً ملايين البشر الذي يتكون منهم الجيش، حيث تعطل قدراتهم على الإبداع وعلى إبداء الرأي في التعليمات التي تطرح عليهم وعلى النقد والتغذية العكسية، وهذا فيه مضيعة لقدرات جبارة. ولكن في الجيوش لا يوجد آليات للاستفادة منها، كما لا توجد الرغبة لذلك.

ويحدث في بعض المؤسسات المدنية أن يسعى البعض للاحتداء بالجيش، نتيجةً لاطلاعه على تجربته، بحيث يعمل على إشاعة الخوف في مؤسسته من خلال وسائل عديدة منها العقوبات المبالغ فيها والتعامل بأسلوب فظ وخشن وبالصراخ إلخ.. وهذا ينجم عنه موظف مرعوب وغير منتمٍ وعاجز. وهذا ما لا تريده مؤسساتنا الصناعية والتجارية والخدمية. فهي، في جهدها لبناء تنمية وطنية مستدامة، بحاجة لتضافر جهد العاملين جميعاً، وبحاجة للعقول مثل حاجتها للسواعد.

  

§        تغييب المبادرة والمشاركة والاجتهاد: إن التقاليد القاسية المتفشية في المؤسسات العسكرية لا تسمح بالمبادرة ولا تقدر المشاركة ولا ترحب بالاجتهاد. وهذا ناجم عن كون التركيبة بحد ذاتها لا تقبل بهذه المسلكيات، كما يجدها غالبية أصحاب الرتب العالية مزعجة، ولا يحتملونها. بل إنها تتناقض مع المنظومة القيمية العسكرية بشكلٍ عام ولا تجد مكاناً لها ضمن هذه المنظومة. فهي تتناقض مع الانضباط الصارم والإصرار الدائم على تطبيق التعليمات والتقيد بسلسلة القيادة، كما أن الحيز الذي يحتله الخوف والعقاب والخوف من العقاب والخوف من تفويت ترقية والخوف من الفشل لا يترك للمبادرة والمشاركة والاجتهاد مكاناً.

 

بالإضافة الى الجانب الإداري، امتلكت الجيوش القدرة على الاهتمام بالجانب المعنوي.  وقد وظفت لهذه الغاية أساليب ووسائل متنوعة وعديدة. وقد اعتمدت على كل ما هو متاح من خطابة ونشرات مطبوعة إلى استخدام الإذاعات والمحطات التلفزيونية. وعلى الرغم من حاجة المؤسسات الاقتصادية لبرامج توعوية لتعميق الحس بالانتماء لدى عامليها بمختلف مواقعهم. وربما يتطلب الأمر أن تتعلم المؤسسات المدنية من الجيوش الاهتمام بالجانب المعنوي، ولكن عليها أن تحرص أن تكون هذه البرامج معدة لبناء حالة معنوية قائمة على الوعي والولاء للمؤسسة وليس لإدارتها وتحث العاملين على تبني قيم إيجابية والعمل على تغيير طباعهم نحو الأفضل سواءً في العمل أوفي خارجه.

لا يستطيع أحد مطالبة المؤسسات العسكرية أن تغير أنماط التعامل السائدة في أوساطها، كما لا ينبغي سحب هذه الأنماط على الحياة المدنية، وبالتحديد على المؤسسات الاقتصادية. فما يصح في الأولى لا ينفع الثانية بل يعيق تقدمها ويقف حجر عثرة في طريق تبني نظم حديثة تفجر طاقات الإبداع لدى العاملين كافة، وتعزز من انتمائهم مما يخلق مؤسسات ناجحة تُحقق بجهودها التنمية الوطنية العصية على الزوال.

 

التمثل بالنظم القديمة

هذه النظم المدرجة لاحقاً، مثل النظم القبلية والإقطاعية والمشيخات الصغيرة التي تواجدت في أماكن وعهود مختلفة، لعبت دور الدولة في مراحل ضعفها وانشغالها أو قبل تشكلها وإنتهج الكثيرون الإقتداء بها وبالتالي فقد نتج عنها موروث إداري من الصعب، ومن الخطأ تجاهله.

وفي ما يلي استعراض لبعض السمات للأنماط الإدارية التي كانت سائدة في إدارة شؤون القبيلة أو القرية أو الإقطاعية، وحتى في الأشكال البدائية للدولة التي كانت تظهر هنا وهناك لبعض الوقت:

·        غياب الهيكلية التنظيمية

·        ديمقراطية محدودة وغير مؤسسية

·        سيادة المصلحة الشخصية

·        تفشي المزاجية

·        هيمنة العلاقات العائلية 

·        إطلاق الاحكام السطحية

·        عدم القدرة على التراجع عن الخطأ 

·        عدم تقبل النقد

·        عدم اختيار الافضل للمواقع القيادية والمهنية

·        غياب المؤسسية

·        شيوع العمل الفردي 

·        الميل إلى الاستبداد   

·        تبسيط الامور أكثر مما يجب

 

وفيما يلي نستعرض ببعض التفصيل هذه النظم:

 

المشيخة (إدارة المجتمع الرعوي)  

يستمد نظام المشيخة قوته من ترابط أبناء القبيلة، وهذا يشكل مصدر الشرعية لسلطة الشيخ، كما يشكل مصدر قوة للقبيلة ككل. وتقوم القبيلة على رابطة الدم، القرابة من ناحية الأب. ولكن هذا الوضع ليس دقيقاً تماماً، فهناك كثيرٌ ممن التحقوا بالقبيلة بصورةٍ أم بأخرى وأصبحوا ينتسبون إليها، وكان هذا معروفاً لدى العرب منذ الجاهلية. كما عرف العرب  تحالفات قبلية أدت إلى الاندماج الكامل، فقبيلة "المنتفق" في جنوب العراق، وتحديداً في منطقة الناصرية، إنما هي تحالف قبائل عديدة، وسُموا بذلك لأنهم اتفقوا.. ولكن هذا لا يضعف الولاء للقبيلة، ففي معركة أحد خلصت راية قريش لعبدٍ حبشي لم يكن يتقن اللغة العربية تماماً، فقضى دفاعاً عنها وهو يقول "اللهم هل أعزرت"، يريد أن يقول "أعذرت".

في المناطق القبلية، في مختلف أنحاء العالم، وعبر العصور، اكتسبت القبائل نوعاً من الحكم الذاتي، وقد كان هذا الترتيب مريحاً للسلطة المركزية وللقبيلة على حدٍ سواء. فهو يشبع نزعة الاستقلال الفطرية لدى المجتمعات القبلية ويريح الدولة من احتمال تمرد هذه القبائل.  وفي الجزيرة العربية قبل الإسلام، لم تكن هناك سلطة مركزية، فكان دور زعامة القبيلة كبيراً في إدارة شؤونها، الأمر الذي أكسبها خبرات كبيرة لا يستهان بها، يمكن أن تكون مصدراً ملهماً تؤخذ إيجابياته وتترك سلبياته.

لقد أدارت القبيلة شؤونها في غياب دولة القانون ودولة المؤسسات، وفي غياب أنماط الإدارة المستوردة من الغرب.

 

المخترة (إدارة المجتمع الزراعي)  

إذا كانت المدينة هي أُم الدولة، فإن القرية هي أُم المدينة. وبالتالي فإن إدارة القرية، والتي نسميها مخترة في معظم البلاد العربية، قد تكون أقدم أنواع الإدارات والقيادات.  خاصة وأن الزعامة القبلية، والمرتبطة في البداوة، يُرجح أن تكون حالة متأخرة نسبياً.

وقد تأسست القرية مع بدء ممارسة الزراعة من قبل الإنسان. وبالتالي تم تأسيس التجمعات السكانية الأولى بالقرب من مصادر المياه، التي لم تكن بالضرورة أنهاراً كبيرة، بل ينابيع وجداول صغيرة. ولم تكن التجمعات السكانية الأولى ثابتة تماماً، ولكن أصبحت كذلك عندما تعلم الإنسان البناء بالحجر والطين والخشب. 

ومنذ البداية احتاج سكان هذه المستوطنات إلى قيادة لتنظيم استخدام الموارد المائية، واستخدام الأرض المشاع المحيطة بالقرية، ولفض النزاعات بين السكان.

وقد استمد منصب المختار شرعيته من اختيار السكان له بأكثريتهم. وتتكون القرية في العادة من عدة عشائر، وبالتالي فإن المختار سيكون شيخ أكبر العشائر عدداً أو أكثرها ملكية للأرض، أو قد يكون شخصاً أجمع عليه شيوخ عشائر القرية. ويحدث أحياناً أن تكون القرية مسكونة من قبل عشيرة واحدة، وبالتالي فإن المختار يكون، في العادة، كبير هذه العشيرة.  ولتسهيل الاختيار تحولت المخترة إلى وراثة، فعند وفاة مختار يتم توريث المخترة لابنه الأكبر أو لأخيه. كما أخذت الحكومات، أو من يمثلها، تتدخل في هذا الاختيار.   

لا يستمد المختار سلطاته من ولاء القبيلة ولا من قوة عسكرية تحت تصرفه؛ فهو مختار على عشائر عديدة، أو بطون عديدة ضمن عشيرة واحدة، وبالتالي فإن الحفاظ على السلطة يبقى الهاجس الأكبر لدى المختار في العموم. الأمر الذي يجعله، في الغالب، ينزع نحو انتهاج  كثير من الجهود السياسية البسيطة الساذجة ولكن الماكرة، أكسب المخاتير عبر العصور سمات شخصية محددة تكاد تكون نفسها في جميع الأقطار استخدموها لأغراضهم الشخصية لغايات البقاء والحفاظ على مواقعهم.

لقد كان نظام المخترة يلعب دوراً هاماً في ملء الفراغ في السلطة في الفترات التي ضعفت فيه هذه السلطة، وهذا ما جعله نظاماً لا يُستغنى عنه، فقد استطاع الصمود عبر آلاف السنين، وبقي في قرانا بغض النظر عن الحاكم. فحتى المحتل الأجنبي كان يجري كثيراً من التغييرات ما عدا نظام المخترة، الذي كان يعمل على الاستفادة منه، باستمالة القائمين عليه. 

لقد كان نظام المخترة نظاماً استبدادياً في العموم، مع وجود استثناءات بالطبع، وقد عانى القرويون كثيراً على أيدي مخاتير كل ما يهمهم هو مصالحهم الشخصية وبقاؤهم في المنصب، حتى لو اضطروا إلى أساليب غير أخلاقية مثل العمل على تفرقة أهل القرية وبقائهم منقسمين، من خلال ضرب العشائر والحمائل بعضها ببعض.  لقد استمد المختار قوته من الخوف، ليس خوف أهل القرية من العقاب، مثل السجن أو الجلد أو الإعدام، وإنما الخوف من معاداة المختار المعروف بدهائه وقدراته التآمرية العالية وصلاته ومعارفه.

لم يكن المختار أو العمدة يمتلك جهازاً إدارياً بالمعنى الشائع. ولكن في بعض الأقاليم نضج هذا النظام لدرجة تشكل معه شكل بسيط من أشكال التنظيم الإداري.  وهذه الأقاليم عُرفت بثرائها النسبي، من خلال زراعة مروية متطورة (قائمة على التصدير) زيتون، قطن، تمور. أو في قرى تعتمد على صيد السمك أو التعدين (مثل استخراج الملح) وغير ذلك.  في بعض هذه القرى، احتاج المختار إلى مساعدين؛ حرس وقائد للحرس، أشخاص لتنظيم الري وتوزيع المياه، وآخرين يعملون طوال العام والبعض بشكلٍ موسمي لغايات محددة.

لقد لعب المخاتير دوراً مهماً في خدمة السلطة، وقد ظهر ذلك في مهمتين أساسيتين؛ الأولى جمع الضرائب بأنواعها، والثانية هي التجنيد، وخاصة في زمن الحروب.

وهذا النظام لم ينقرض بعد، وعلى الرغم من ظهور مجالس قروية وبلدية، منتخبة ومعينة، في القرى، إلا أن المخاتير لا يزالون يلعبون دوراً يختلف خطره من بلدٍ إلى آخر.  ولكن الأخطر أن هذا النظام ترك إرثاً عميقاً في ذهنية أجيال عديدة من إداريينا، الذين تبوؤا مواقع إدارية في الحكومة أو في القطاع الخاص، جعل بعضهم يتصرف مثل المخاتير في دوائرهم وفي شركاتهم، بصورة متفاوتة نسبياً.

يشكل هذا الإرث أحد مصادر الانحراف في الأنماط الإدارية المعمول بها في منطقتنا، ويجب العمل على استئصالها، لكيلا يتحول مدراؤنا إلى مخاتير. 

 

الإقطاع

قام الإقطاع في مختلف أنحاء العالم على أساس الملكية الكبيرة للأرض الزراعية.  وأين ما برزت هذه الظاهرة تقف وراءها أسباب في الغالب لها علاقة بالتطورات السياسية والاجتماعية في البلاد أو الأقاليم في العقود أو القرون الأخيرة. فنادراً ما تعود الملكية الكبيرة للأرض إلى الشراء أو الاستصلاح، وإنما إلى "منحة" من الحاكم لشخصٍ أو لعائلة خدم الدولة أو مطلوب منه أن يخدمها وبحاجة إلى ما يعزز مكانته.  كما يمكن أن تتكون الملكية الكبيرة باغتصاب أراضي الفلاحين، المكونة من قطع صغيرة، بمساندة السلطة أو بمباركتها.

وقد انتشر الإقطاع في بلاد عربية عديدة جنباً إلى جنب مع نظام الملكيات الصغيرة. 

وقد عرفت بلاد الشام عدداً من الإقطاعيات التي كانت تشكل قوى سياسية محلية يبرز دورها في أوقات ضعف السلطة المركزية (في عهد العثمانيين مثلاً)، مثل أوقات انشغالها في حروب خارجية أو التعامل مع ثورة داخلية. والشكل التقليدي لهذه الإقطاعيات (إن صح التعبير)  هو وجود عائلة تملك معظم الأراضي في إقليم يتكون من عدة قرى، من خمس إلى عشر قرى أو أكثر وتمتلك قلعة، عبارة عن بيوت حجرية متراصة تشكل مربعاً أو مستطيلاً وتتكون من طابقين.  وأغلب الظن أن معظمها لم يبن كقلعة في الأصل لاختلافها عن القلاع النموذجية الموجودة في القاهرة وحلب وعجلون.

وتعتمد العائلة الإقطاعية في أمنها إما على مجموعة من المجندين المتفرغين الذين يتقاضون رواتب أو أرزاق  منتظمة مقابل تفرغهم وخدماتهم، أو على شباب العائلة الذين يمارسون القوة واستعراضها حيثما لزم.

وقد خاضت بعض هذه العائلات الإقطاعية تجارب إقامة أشكال مختلفة من الدولة ؛ مثل الزيادنة، عائلة ظاهر العمر في شمال فلسطين وشمال الأردن وجنوب لبنان، والشهابيين في لبنان، وعائلة حمدان في الجولان وعائلة بابان الكردية في شمال العراق [1] . 

كما ظهرت في العقود الأخيرة من عمر الدولة العثمانية ظاهرة تملك كبار موظفي الدولة لملكيات كبيرة، وهؤلاء، في الغالب، من سكان المدن الكبيرة.

لقد مارس الإقطاعيون إدارة أراضيهم، بالإضافة إلى إدارة شؤون مناطقهم بما في ذلك ما يتعلق بأصحاب الملكيات الأخرى الواقعة ضمن مناطق نفوذهم. لقد اتسمت أساليبهم بالتجبر والتخلف، مع لمسة أبوية تظهر عند اللزوم. لقد كان الإقطاعي يتصرف حسب المثل العامي القائل "مفتح في بلاد عميان" فيتصرف دون رادع.   

وعلى ما يبدو أن لهذا النمط من العلاقات الذي ساد في أريافنا لفترة طويلة، ترك بصماته على الموروث الإداري في ذهنيتنا العربية. فبعض المدراء يتصرفون وكأن الشركة أو الدائرة التي يرأسون إقطاعيةٌ ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، كأنها حق شرعي وقابل للدوام إلى الأبد.

 

الموروث الاستعما ري  

وقعت الغالبية العظمى من دول العالم تحت الاستعمار الأوروبي لفترات متفاوتة.  وقد شكلت الدول الاستعمارية إدارات لتسيير أمور هذه المستعمرات. وبما أن هذه الإدارات سبقت حكومات الاستقلال التي ورثتها عملياً، فإن تأثير هذه الإدارات لا زال قوياً على الأنماط الإدارية المتبعة في معظم الدول العربية المختلفة.  وقد تعرضت معظم الدول العربية، وكذلك معظم دول آسيا وإفريقيا وأميريكا الجنوبية للاستعمار؛ فمنذ القرن السادس عشر بدأ عدد من الدول الأوروبية بغزو واحتلال بقاع مختلفة من العالم ومصادرة سيادتها السياسية، من خلال ضمها وتملكها وإدارتها بصورةٍ مباشرة.

وقد بدأت بذلك دولتا البرتغال وإسبانيا ثم سرعان ما دخلت هولندا في القرن التالي ثم تبعتها بريطانيا وفرنسا وبلجيكا. وكان آخر المنضمين على هذا النادي ألمانيا وإيطاليا.  كما مارست روسيا القيصرية توسعاً استعمارياً استيطانياً في وسط آسيا وشرقها شمل ملايين الكيلومترات المربعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

أما الدول العربية فقد وقعت جميعها تحت الاستعمار باستثناء شمال اليمن والحجاز ونجد. وقد عانى بعضها من استعمارين أو ثلاثة.

لقد سعى الاستعمار إلى القضاء على النظام القديم بسلبياته وإيجابياته. فقد قضى على النظام السياسي والإداري والعسكري للدولة المستعمَرة، واستبدلها بنظام استعماري قائم على التمسك بالمناصب العليا لأبناء الدولة المستعمِرة، وبهذا اختفت خبرات وقدرات ومهارات كانت موجودة في البلد من خلال إدارته لنفسه لزمنٍ طويل.

ثم قضى على التجارة الدولية سواءً الاستيراد أو التصدير أو الترانزيت من خلال احتكارها من قبل شركات أسسها لهذه الغاية.  وهنا أيضاً قضى على إرثٍ قديمٍ كان يدر على البلاد واقتصادها بالنقد والخبرة. 

كما قضى على معظم الصناعة من خلال طرح بضائعه الأقل ثمناً (بعد الثورة الصناعية)  فبدلاً من نقل الثورة الصناعية استخدمها لتحقيق غاياته الاستعمارية.  وقضى بذلك على كل المهارات الفنية والإدارية والنظم والعلاقات والتراكمات الرأسمالية المرتبطة بذلك.     

لقد تدخلت الإدارات الاستعمارية في كل شيء، حتى في تعيين المفتين وأئمة المساجد.  وبالتالي تم تشويه الثقافة القومية والوطنية للأقاليم المستعمَرة دون محاولة إكسابها ثقافة بديلة، اللهم باستثناء محاولات الفرنسيين العقيمة فرض اللغة الفرنسية على الجزائر وعلى مستعمراتها الأخرى.  فلم يعمد الاستعماريون إلى بناء جامعات في الدول المستعمَرة، على سبيل المثال، أو حتى مدارس، بل تركوا وراءهم قلاع وسجون ومعسكرات.  لقد كان بإمكان الاستعمار الأوروبي أن يدرب جيلاً كاملاً على وسائل الإدارة وأنماطها ويهيئه لإدارة شؤونه بنفسه، ولكنه لم يفعل، وكانت لديه الفرصة والإمكانيات. هناك الكثير من القيم الأوروبية الإيجابية، مثل المؤسسية والديمقراطية واحترام الوقت وغير ذلك، كان من الممكن إكسابها للنخبة المتعاونة مع القوى الاستعمارية والمهادنة لها.  بل لقد حرمت الإدارات الاستعمارية الفرنسية على مثقفي مستعمراتها المناداة بالحرية والإخاء والمساواة، شعارات الثورة الفرنسية التي تغنت بها أجيال عديدة من الفرنسيين.

وقد جاء الاستعمار الاوروبي بعد حكم عثماني دام عدة قرون أُهمل فيها التعليم وتخلفت الإدارات الحكومية، ولم تواكب الدولة العثمانية مستجدات الثورة الصناعية، من اختراعات وتطورات وأنماط صناعية جديدة، على الرغم من وجود صلة مع أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلم تكن الدولة العثمانية معزولة عن أوروبا في زمن نهضتها، فقد كانت الدولة العثمانية على علاقة طيبة مع هذه الدولة الأوروبية أو تلك.. فرنسا.. ألمانيا. 

لقد انتهت الحقبة الاستعمارية ومعظم البلاد العربية تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية؛ من نقص في الثروات والخبرات والبنى التحتية.

وفي السنوات القليلة السابقة للاستقلال، وتحت ضغط حركات التحرر، أقام المستعمرون إدارات لتسيير شؤون المستعمرات، وقد أدارت هذه الإدارات البلاد لعقدين أو ثلاثة وفي بعض الحالات لأكثر من ذلك. وكان من المفترض ان تكون هذه الإدارات المشتركة والمؤقتة تشكل إعداداً وتدريباً للسكان المحليين على كيفية الحكم.  ولكنها أكسبت العاملين في هذه الإدارات سمات وتقاليد ومواقف لم تساعد كثيراً في سنوات الاستقلال الأولى بعد رحيل المستعمر.  فقد فقدت هذه الإدارات الصلة تماماً مع الموروث القديم نتيجةً للفجوة الزمنية بين وصول المستعمر وتشكيل هذه الإدارات، كما لم يكن اختيار أفرادها على أساس موضوعي وعلمي، بل تم اختيار بعض أبناء العائلات المتعاونة مع المستعمر من بين أشباه المتعلمين.  كما لم يقدم لهم تدريب نظامي، وبالتالي أصبح غياب التدريب موروثاً آخر، بالإضافة إلى المحسوبية في الاختيار. كما لم يكن هناك وجود للعمل المؤسسي، وكان التخطيط مغيباً، واعتاد الجميع على البرامج قصيرة المدى، وشاعت الجهوية والتمييز وعدم تساوي الفرص.  لقد نشأت القيم السلبية وشكلت موروثاً ما زلنا نرى آثاره في الإدارات الحكومية وتسربت إلى إدارات القطاع الخاص.

 

الإدارات الحكومية في فترة ما بعد الاستعمار

في معظم البلدان كانت الإدارات الحكومية استمراراً للإدارات الاستعمارية. وبالتالي فقد ورثت عنها كثير من الخصائص السلبية المذكورة آنفاً. وفي العموم كانت سنون الحكم الأولى في معظم الدول المستقلة كثيرة التخبط. فقد عرفت بعضها الانقلابات العسكرية، وبالتالي فإن حكم العسكر أصبح سمة أخرى لهذه الفترة وجلب معه الكثير من المؤثرات السلبية على الذهنية الإدارية العربية في العقود التالية.

 

التأميم (القطاع العام )

لجأتبعضالدولالعربية إلى خيار التأميم، وهو خيار اشتراكي، وقد بدأ في مصر بسبب رفض رجال الأعمال، الصناعيين والتجار والمقاولين، التعاون في الخطة الخمسية الأولى التي وضعتها حكومة الثورة في بداية الخمسينات. وكان لهذا الإجراء أن جرد مؤسسات صناعية وإنشائية وخدمية من إداراتها الخاصة بما عُهد عنها من خبرة وحرص ومرونة، وسلمها إما إلى إدارات عينتها الحكومة لا تتمتع بالكفاءة الإدارية، أو عينوا أصحابها السابقين مدراء عليها بعد أن جردوهم من كل دافع للاستمرار. الأمر الذي أدى إلى القضاء على هذه المؤسسات تدريجياً.  لقد أدى التأميم إلى ضياع جهد جيل أو جيلين من البناء التنموي.

لقد تبعت عدد من الدول العربية نهج التأميم فاتسمت المؤسسات المؤممة بالترهل وسوء الإدارة وتدني الكفاءة وغياب التطوير وضعف الدافعية للعمل والتحسين.  كما كانت الكلف عالية والجودة في تراجع مستمر.  لقد قضى التأميم على صناعات واعدة؛ من "ياسين للزجاج" التي كانت تغطي حاجة معظم الدول العربية من الزجاج، فتم تأميمها ودمجها مع مصنع زجاج آخر، كان منافساً، فلم يعد المصنع الجديد يكفي مصر لوحدها خلال سنوات قليلة، حيث أصبحت تستورد المنتجات الزجاجية، ومصنع "فتاح باشا" العراقي  للبطانيات والحرامات ذات الجودة العالية، و"الشركة الخماسية" لإنتاج الأقمشة السورية التي كانت تشغل أكثر من خمسة عشر ألف عامل. لقد اختفت هذه الصناعات جميعاً في نهاية المطاف، وغيرها الكثير، وتركت وراءها إرثاً ثقيلاً، أثر بدوره على الأنماط الإدارية الشائعة.  من هذه الموروثات؛ العمالة الزائدة وتقديم الولاء على الكفاءة. فقد كانت الحكومات تسعى، في ظل اقتصاد متوقف عن النمو، إلى حل مشكلة البطالة من خلال تشغيل المزيد من العمال والمهندسين والموظفين الإداريين، الأمر الذي لم يؤد إلى أعباء مالية إضافية فحسب بل تسبب أيضاً في تدني الإنتاجية. كما تحول مقياس اختيار مدراء هذه المؤسسات، وتلك التي أسستها الدولة فيما بعد، من الكفاءة إلى الولاء، فأصبح صغار الضباط الأحرار يديرون اقتصاد البلاد، بينما تبوأ كبارهم المناصب السياسية العليا في البلاد. لقد أصبح هذا تقليداً، فأخذ البعض يفضل الولاء على الكفاءة، فلو كان الولاء للمؤسسة لفهمنا ذلك، ولكن الولاء المطلوب كان لصاحب القرار.. للمعلم.

    

التوطين (تغييب منافسة الأجنبي)  

ولا يقصد بذلك الاستيطان، وإنما النسبة للوطن. وهي ظاهرة لا تعرف بهذا الاسم، لأنها تُعرف بأسماء مختلفة في بلدان مختلفة. فعُرفت بالتمصير في مصر، وبالتكويت في الكويت، وبالسعودة في السعودية وهكذا..

ففي العام 1961 قررت الحكومة المصرية طرد غير المصريين من مصر.  وكانت مصر قد  أصبحت مكاناً لجذب وافدين من جنسيات مختلفة عربية وأوروبية منذ أواسط القرن التاسع عشر، فكان هناك آلاف اليونانيين والإيطاليين وغيرهم من الجنسيات الأوروبية.  فتقرر إبعادهم إلى بلادهم.  ففقدت مصر بذلك مهارات فنية وقدرات إدارية كثيرة.  كما فقدت التنوع الذي يضفي على المجتمع سمات تشجع الإبداع من خلال حرص الفئات المختلفة تعزيز مكانتها ومن خلال التنافس فيما بينها.

وبعد ظهور النفط في دول الخليج، والدول العربية الأخرى، أصبحت هذه الدول أماكن جذب لطالبي العمل من الدول العربية والدول الأخرى المجاورة، وفيما بعد، من دول بعيدة غيرها. 

وعلى الرغم من أن الوافدين جاؤوا لخدمة هذه الدول وشعوبها.  فإنهم كانوا أيضاً منافسين لأبناء البلد في الكثير من الوظائف، كما كانوا ينافسونهم في الترقيات والترفيعات والتعيينات.  ولم تكن المنافسة لصالح ابن البلد لأكثر من سبب؛ الأول أن الوافد قادم من خلفية تملكت ثقافة العمل منذ زمن، وتمرس أبناؤها على العمل المهني والوظيفي.  والثاني أن الوافد يعمل بعقلية وذهنية المغترب، المتحرر من كافة القيود الاجتماعية والأسرية.  ولضمان حقوق أبناء البلد قامت الحكومات بتطبيق سياسات خاصة "تحمي" بها أبناء البلد من منافسة الوافدين، مثل حصر بعض الوظائف عليهم، وإيجاد نظام رواتب منفصل خاص بأبناء البلد، وكذلك خص الترفيع بهم وهكذا.. وقد كان هذا أمراً "وطنياً" في ظاهره جعل الحكومات تكسب رضى شعوبها. ولكن على المدى البعيد حرمت جيلاً كاملاً من أبناء البلد الفرصة في المنافسة الحرة والعادلة مع زملاء لهم، من جنسيات مختلفة، وتحفيزهم بذلك على تطوير قدراتهم وإثبات ذاتهم. ونجم عن هذا الواقع الكثير من الاتكالية وعدم الجدية وترك القيام بالعمل –فعلياً-  للزملاء الوافدين.  لقد فقدت هذه الشعوب وهذه الدول فرصة ذهبية لخلق جيل متمرس متمكن من المعارف الإدارية والمهنية.  فهذه الشعوب، أقصد شعوب الخليج، شعوب كادحة وتملكت قدرات عجيبة على البقاء في أسوأ الظروف، وتاريخها في القرون الطويلة التي سبقت اكتشاف النفط، يثبت ذلك. ولو تُركت المنافسة حرة، لنجم حال أفضل من الحال.

 

آثار الموروثات القديمة :

لقد استعرضنا فيما سبق بعض مصادرالتأثير على الإرث والذهنية الإدارية لدى الإداري العربي. وفيما يلي نستعرض بعض الأمثلة لأشكال ظهور هذه التأثيرات :

 

1.     التعامل مع الإدارة وكأنها مشيخة : وذلك من خلال تجميد النظم والقوانين وتغييب المؤسسية والتصرف بأريحية تامة، يستشير المدير من يتواجد في محيطه، ويأخذ من الآراء ما يروق له،  ويتصرف كشيخ قبيلة.  ويحرص على أن يصبح محبوباً ولو على حساب الصالح العام، فهو حريص على رضا رعيته، وخصوصاً أولئك القريبين منه.  إن التشبه بهذا النمط من الإدارة، والذي أثبت جدواه عبر قرون طويلة من تاريخ البشرية، لا يصلح لإدارة المؤسسات الاقتصادية، وخصوصاً إذا ما أُريد تبني أساليب علمية حديثة وتقدمية.  إنه نمط لا يصلح للقرن الجديد.

2.     التعامل مع الإدارة وكأنها مخترة : يوصف الكثير من الإداريين على أنهم مخاتير، ويقصد بذلك أنهم يتبعون أساليب قديمة ويشبهون بالمخاتير.  وهذا ليس سلبياً بالضرورة، فليس كل قديم وموروث غير مقبول.  ولكن المخترة ليست النموذج الذي نتمنى أن يتبعه إداريونا، عن وعي منهم أو عن غير وعي.  

3.     تعامل المدير مع مؤسسته كأنها إقطاعية: كثيراً ما نسمع عن بعض مدراء المؤسسات العامة والكبيرة وصفاً بأنه يتصرف وكأن المؤسسة "إقطاعية ورثها عن أبيه". وهذا ينجم في العادة عن ممارسات يقوم بها وكأنه يملك المؤسسة بكاملها ويملك البشر الذين يعملون بها، فيبدأ بالتصرف بمقدرات وأموال المؤسسة على هواه بمزاجية عالية، كما يفقد القدرة على التمييز بين ماله الخاص ومال المؤسسة. وعادةً ما يظهر هذا التصرف في حال غياب الرقابة، من مجلس الإدارة مثلاً، ولكنه يظهر لوجود هذه العقلية التي تستبيح المال العام، ولا تأبه بمصالح الآخرين. 

4.     تعامل بعض المدراء مع مرؤوسيهم مثل المستعمرين: وهذا يظهر بشكل خاص مع بعض المتعلمين في الخارج، حيث يتعاملون مع مجتمعاتهم بقرف وازدراء، فقد تشكلت لديهم في غربتهم مُثُل وقيم تقدس الغرب. كما كفروا بكل ما هو محلي، ولم يعد يعجبهم أي شيء. وقد كانت هذه الظاهرة أوضح منذ نصف قرن أو أكثر، ليس في الدول العربية فحسب، وإنما في العالم الثالث عموماً.  وهي لا تزال تظهر لدى البعض على شكل رفض القيم الوطنية والقومية والدينية بالمطلق والاستهزاء بها. هؤلاء لا يمكن أن يساهموا في التغيير، وهم لا يستطيعون فرض ثقافة بديلة في مجتمعاتهم، فهم أشبه بالمستعمر الذي حكم البلاد وعمل على تدمير ثقافتها وقيمها، بالإضافة إلى نهب ثرواتها.

 

أنماط الإدارة المستوردة من الغرب

لقد تحول الغرب إلى دور المانح والمعلم والقدوة بنظر كثير من أبناء الشرق في القرون الأخيرة، ولم يكن التلقي والتعلم انتقائياً في كثيرٍ من الأحوال، كما لم يكن الاقتداء مدروساً في أحيان كثيرة أخرى. فلم يراعِ الكثيرون الفوارق الثقافية والتاريخية. كما نجم عن هذه الفروقات الثقافية سوء فهم كبير أدى هذا الأمر إلى الحصول على :

 

§        أفكار مستوردة وصلت بصورة مشوهة أو غير قابلة للتطبيق.

لقد اكتسب الكثير من المتلقين في العالم الثالث معارف ومهارات من خلال دراستهم في مدارس الغرب وجامعاته أو اطلاعهم على تجاربه في الإدارة من خلال المعايشة أو القراءة أو التدريب. وقد وصلت الكثير من هذه المعارف والمهارات إلى البعض بصورةٍ مشوهة ومغلوطة. وخصوصاً عند محاولة تطبيق تجارب في بيئة مختلفة ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً دون تحوير أو تعديل.

 

§        أفكار مستوردة قديمة (لم تعد سارية في بلاد منشئها) .

على الرغم من تراجع الإداريين في الغرب عن بعض المفاهيم والأنماط التي كانت سائدة في بلادهم، وتبني أنماط جديدة فإن البعض في الشرق لا يزال يتمسك بهذه الأنماط التي تم التخلي عنها.

فبعد الحرب العالمية الثانية ظهرت مجموعة من المفكرين في الولايات المتحدة مثل إدوارد ديمنج وبيتر دركر ووارن بينيس دعوا إلى البعد عن الإدارة البيروقراطية القائمة على إصدار التعليمات من الأعلى إلى الأسفل وإفساح المجال للمشاركة والقيادة الديمقراطية والإدارة الذاتية [2] . وفيما بعد طالب آخرون بإنهاء الإدارة وإحلال القيادة مكانها، لما هو معروف من فروقات بين الإدارة والقيادة، ودعوا لتأسيس الفرق ذاتية الإدارة وتطبيق الديمقراطية المنظماتية [3] .  كما دعا فريقٌ آخر إلى بناء المؤسسات الخالية من الحواجز ؛ الحواجز الأفقية القائمة بين الأقسام الوظيفية المختلفة وإزالة الحواجز العمودية القائمة بين الإدارات المختلفة والحواجز الجغرافية القائمة بين الأسواق والثقافات المختلفة وإزالة الحواجز القائمة بين المؤسسة وزبائنها [4] .

وتأتي هذه الأفكار والطروحات تحت وقع تطور وسائل الاتصال وعولمة الصناعة والتجارة وانفتاح الشعوب والمجتمعات والثقافات على بعضها وتزايد توقعات العاملين في المؤسسات بحيث يتعاظم دورهم في إدارة مؤسساتهم من خلال المشاركة وإسماع أصواتهم وتقدير جهودهم.

 

" على الطريقة الأمريكية "

على الرغم من أن الكثيرين بيننا ينظرون إلى أنماط الإدارة الغربية على أنها مصدر للتعلم ونموذج للاحداء. وهناك الكثيرون ممن تلقوا علومهم في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية (لدرجةٍ أقل حالياً) وعادوا إلى بلادهم منبهرين من التجربة الأمريكية، يلجأ بعضهم  لاستعمال الكلمة السحرية بأن ما يفعلوه هو على الطريقة الأمريكية.  لقد سمعت هذا التوصيف في أكثر من بلد عربي، فقد فاخر أحد المدراء في بغداد الثمانينيات بأنه غير نظام الملفات في مؤسسته، من نظام قديم (لم يعد له هوية !)  إلى نظام جديد على الطريقة الأمريكية. كما أذكر أن أحد المدراء في الأردن برر تدني الرواتب في مصنعه أمام ضيفه بأن الرواتب تدفع على الطريقة الأمريكية أي أن هناك علاوات أخرى تعتمد على الإنتاجية تضاف على الراتب. كما أذكر كيف كان خريجو الجامعات الأمريكية في الخليج ينظرون إلى رؤسائهم الذين تخرجوا قبل عقد او أكثر من جامعات عربية، ويعتقدون بقوة أنهم يجب إحالتهم إلى تقاعد مبكر ليتولوا هم إدارة المؤسسات المختلفة.

أرجو أن لا يفهم من هذه المقدمة أنني ضد التجربة الأمريكية، أو حتى أنني لست معجباً بها، فأنا معجب بها فعلاً، ولكني لست منبهراً بها، ولا آخذ نتاجها، ولا نتاج أي تجربة أخرى، بصورةٍ مسلم بها. 

وعلى صعيد الإدارة، فإن كثيراً من الكتاب والأساتذة الأمريكان يقرون بخطط مدارسهم الإدارية مقارنةً مع المدرسة اليابانية، وأخذ الأمريكيون يحاولون الاستفادة من التجربة اليابانية، فظهرت فروع لمعهد كايزن وغيره في كثير من المدن الأمريكية، كما كتب كثيرٌ من الكتاب الأمريكيون عن هذه التجربة مطالبين مواطنيهم الاستفادة من هذه التجربة والاحتداء بها. هذا في وقتٍ لا نزال فيه منبهرين بالتجربة الأمريكية.

يقول شارلز ويفر في كتابه عن "إدارة الجودة الشاملة" بوضوح أنه "يشترك المدراء في الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى في مجموعة من المواقف المشتركة حول إدارة المؤسسات. فهناك دليل واضح أن هذه المواقف والسياسات، بدلاً من أن تساعد أصبحت تحد من فاعلية هذه المؤسسات. والنتائج الأكثر ضرراً لهذه المواقف والسياسات هو وقوفها حائلاً دون استثمار المؤسسات والمدراء لطاقاتهم كاملة " [5] .

ويمضي الكاتب مستعرضاً هذه السياسات، ويعزي بعضها إلى كتابات كتاب مؤثرين مثل آدم سميث، الذي كتب قبل 200 سنة لو أن كل فرد أعطي الفرصة لتحقيق مصالحه الشخصية فإن "يداً خفية" سترشد الاقتصاد بحيث يعم الخير على الغالبية. كما كتب الفيلسوف والعالم هيربرت سبنسر في أواسط القرن التاسع عشر أن بعض الناس تناسبهم بعض البيئات أكثر من غيرهم، وهؤلاء هم الذين سيصمدون، وهذا ما أدى إلى فلسفة البقاء للأفضل، الأمر الذي يعني أن البقاء للقوي والعدواني aggressive . وهذا ما جعل الرغبة بالظهور بمظهر العدواني تتملك الكثير من الأميريكان رغبة منهم بتحقيق الذات.

وهذه الفلسفات وغيرها غرست في العقلية الغربية فردية قاسية ومنافسة حادة وتوقع، على الدوام، وجود رابحين وخاسرين [6] . وهذا ما انعكس على نمط الحياة الغربي، وخصوصاً الأنجلو سكسوني على جانبي المحيط الأطلسي، من الإدارة إلى الرياضة. فعلى صعيد الإدارة أصبح المدراء الغربيون يرون عالمهم كغابة [7] يمكن أن يمارسوا القتل فيها كما يمكن أن يُقتلوا. وهذا ما انطبق على علاقاتهم خارج المؤسسة وفي داخلها.  فعم استغلال المرؤوسين، وتملق الرؤساء، وصراع الزملاء. وهذا يتطلب جهداً، كان من الممكن أن يُستخدم في متابعة أعمال المؤسسة.  وعلى الرغم من كلفة المنافسة بالنسبة للأفراد والمؤسسات، على الصعيد الشخصي والرسمي، فإن معظم المدراء الأميريكان لا يرون فوائد التعاون، كبديل للتنافس.  فهم يعتقدون أن هناك رابحون وخاسرون، ومقابل كل رابح يوجد خاسر [8] .      

كما يتطرق إلى كتابات فريدريك تيلر، أبو الإدارة العلمية، الذي قال أن هناك طريقة فضلى لإتمام أي عمل يمكن التوصل إليها. وفي المصانع حيث يتم التوصل إلى هذه الطريقة الفضلى، فيتم تدريب العمال عليها على أنها أفضل طريقة وبالتالي الطريقة الوحيدة [9] .  الأمر الذي يغلق الأبواب تماماً أمام الابتكار والإبداع والمشاركة والتحسين والتطوير.  وهذا أيضاً ترك أثره على أنماط الإدارة وعلى العلاقات السائدة في المصانع والمؤسسات الأخرى.

ويتطرق الكاتب إلى توجه الإدارات الأمريكية إلى النتائج، مع تركيز خاص على النتائج قصيرة المدى. ويعزي ذلك إلى كون أكثر المؤسسات مساهمة ويهمها أن تكون نتائجها الربعية (التي هي قصيرة المدى)  جيدة لترك انطباع إيجابي على المساهمين والمستثمرين في الأسهم. كما يعزي اهتمام المدراء الأمريكان في النتائج لعدم درايتهم في التفاصيل، ويعزي عدم دراية المدراء في التفاصيل إلى حجم المؤسسات وتعيين مدراء من خلفيات مختلفة [10] .  وفي مكان آخر من هذا الكتاب يناقش الفرق بين أن تكون المؤسسات "موجهة نتائجياً" أو "موجهة جهدياً".

لقد تركت هذه الفلسفات أثرها الشديد على نمط الإدارة الغربية، وقد بدأ الكثير من الكتاب يطلقون صفارات إنذار، ويطالبون بالتغيير والاقتداء باليابانيين. ومن بينهم دكتور ديمينج، الذي فشل في تسويق أفكاره حول إدارة الجودة الشاملة على الأمريكيين، ومن الواضح أن السبب عدم رغبة الأمريكيين في تبني النظام والفلسفة المرتبطة به، لأن النتائج لن تظهر على المدى القصير. ولم يتقبل الأمريكيون إدارة الجودة الشاملة إلا بعد تجربتها ونجاحها في اليابان، على الرغم من أن مبتكرها أميريكي.

ومبتكر إدارة الجودة الشاملة، دكتور إدوارد ديمنج، هو أيضاً من منتقدي أنماط الإدارة الغربية، بل هو من أشدهم، وقد استفاد من تجربته اليابانية حيث علم وتعلم. ويعدد خمسة أمراض قاتلة في أساليب الإدارة الغربية، ندرجها فيما يلي: [11]

 

1.     انعدام ثبات الأهداف: lack of constancy of purpose من خلال اعتماد الإدارات على الأرباح الربعية لمؤسساتهم كمقياس لنجاح هذه المؤسسات في أعين المساهمين، وليس على تحسين الجودة والمنتجات والخدمات المقدمة للحفاظ على الزبائن.

2.     التركيز على الأرباح قصيرة المدى: يركز الكثير من المدراء الأميريكان على النتائج والأرباح قصيرة المدى. ويأتي هذا بسبب أن معظم المؤسسات الكبيرة مساهمة، وتتأثر أسعار الأسهم بأي تراجع لأرباح هذه المؤسسات. مما ترك  أثراً سلبياً على نمط تفكير المدير الامريكي بشكلٍ عام، فمعظم خططه قصيرة المدى. وعلى العكس من ذلك فإن المدير الياباني يسعى لجعل مؤسسته الأولى في مجال عملها في العالم من ناحية الجودة والإنتاجية ورضى الزبائن، أما الأرباح فإنها ستتبع. [12] وقد أدى الحرص الدائم على إعطاء انطباع بملاءة المؤسسة مالياً أن ركن القائمون عليها إلى أداء استعراضي يهدف إلى تجميل المؤسسة أمام المساهمين أكثر مما يهدف إلى تحسين المنتجات والعمليات والنظم.

3.     أساليب تقييم الأداء: على الرغم من أن نظم تقييم الأداء تدفع العاملين إلى التميز في عملهم، فإن لهذه النظم سلبيات أيضاً. ففي المؤسسات التي تطبق فيها نظم التقييم بشكل منتظم وظاهر، تصبح حمى التميز طاغية على جميع مناحي أداء المؤسسة، وتطبعها بسمات خاصة، منها الفردية والحرص على الظهور بمظهر التميز، من خلال التركيز على النشاطات التي تركز عليها الإدارة في نظم القياس والتقييم التي تعتمدها وإهمال الجوانب غير الخاضعة للقياس والتي، في العادة، تظهر نتائجها على المدى البعيد.  فهي تدعم الأداء قصير المدى، فلا يكافئ أحد لأنه قام بعمل سيقطف ثماره في المستقبل.  كما أنها تقتل التخطيط البعيد المدى، لأن نتائجه لا تظهر على الفور. 

كما أنها تخلق الكثير من المرارة في أوساط العاملين في الطريقة التي تُجرى بها.

4.     سرعة حركة المدراء: ببقائهم لفترات قصيرة في مناصبهم. فالمدراء العامون، أو الرؤساء كما يسمون في اميريكا، يتنقلون بكثرة، ويتم تغييرهم بسرعة.  الأمر الذي يزعزع الاستقرار في الشركات، و يستبعد التخطيط بعيد المدى.  كما أن المدير الجديد، غالباً ما يلغي كثير من النظم والتعليمات والتقاليد التي كان معمولاً بها في زمن المدير السابق، ولا يعقل أن تكون جميعاً تستحق التغيير. كما أنه في العادة يجري بعض التغييرات في الإدارة العليا، فيصطحب معه بعض الحاشية من مكان عمله القديم، فيضطر إلى خلق شواغر لهم بطرق تترك أثراً سيئاً على معنويات العاملين، الذين يتمتعون بمعنويات منخفضة أصلاً نتيجةً لحالة الترقب التي عاشوها في المرحلة الانتقالية.

5.     إدارة الشركات بناء على الارقام الظاهرة visible figures : مثل النتائج المالية.  وهي على أهميتها، لا يمكن أن تكون الأساس الذي تُبنى عليه سياسات الشركة ويُحكم على أدائها، فكما يقول الدكتور ديمنج أن من يعتمد على هذه الأرقام  لإدارة شركته، سينتهي به المطاف بدون أرقام وبدون شركة. ويقترح التركيز على عدد من المقاييس، نذكر منها ما يلي :

أ‌-      زيادة المبيعات أو تراجعها نتيجة تحسن رضى الزبائن أو تراجعه.

ب‌-  التحسن في الجودة والإنتاجية الناجم عن برامج التحسين المستمر.

ت‌-  التحسن في الجودة والإنتاجية ضمن مشروع محدد.

ث‌-  تراجع في الأداء العام، كما يقاس سنوياً.

 

كان هذا استعراضلمآخذ الدكتور ديمينج على أنماط الإدارة الغربية، وهو في وضع يسمح له بأن يكون ناقداً موضوعياً، فهو أمريكي وأستاذ مرموق في الإدارة وهو شاهد على عملية تحول تاريخية في أنماط الإدارة اليابانية، وضعت اليابان في المكان الذي تحتله الآن. وقد عاصر الدكتور ديمنج فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة واليابان وهي فترة أُعيد فيها تشكيل العالم، ليس من زاوية الجغرافية السياسية وإنما اقتصادياً وإدارياً ومالياً.

وينتقد آخرون المقولة الشائعة في الغرب if aint broken don’t fix it   والتي تعني "لا تصلح الشيء ما لم يكن بحاجة إلى تصليح"، وهذا يتناقض مع مبدأ التحسين المستمر، القائم على الاعتقاد بأن هناك دائماً مجالاً للتحسين.

وتعقيباً على هذه المقولة المتأصلة بالذهنية الأمريكية يعطي مؤلفو كتاب "نهاية الإدارة الأمريكيين ستة أسباب لإصلاحها "على الرغم من أنها ليست مكسورة" من بينها أنه من الممكن أن يكون هناك كسر غير ظاهر وقد تكون الشركات المنافسة منشغلة في عملية إصلاح بينما نعتقد أن الإصلاح غير ضروري كما يمكن أن يؤدي الامتناع عن الإصلاح إلى الإهمال وعموماً الأمر يتعلق بالتحسين والتطوير والاهتمام [13] . 

كما أن هناك مقولة أخرى شائعة في الغرب وهي business is business ويعني ذلك "الشغل شغل" أي لا دخل للعواطف والمبادئ في التعاملات التجارية.  وهذا ما لا نتمنى أن نراه في أوساطنا التجارية والصناعية، فهناك بعد إنساني وأخلاقي وديني يجب أن لا نتجاهله، وبهذا البعد حقق العرب ما حققوه عندما شكلوا الحلقة الرئيسة في التجارة العالمية وكان لهم دور أساسي في حركة الإبداع الإنساني، بما في ذلك الابتكار والتجديد في مجال الإدارة.

وهكذا نرى أن أوروبا وأميريكا، اللتين قامتا بالثورة الصناعية، تعانيان من مشاكل في أساليب وأنماط الإدارة السائدة لديهما، الأمر الذي يفرض علينا القيام بعملية انتقاء دقيقة لاختيار ما يناسبنا من نظم وأنماط وطرق في الإدارة، فواقعنا لا يحتمل نقل دماء ملوثة. لقد تعلم اليابانيون الكثير من الغرب ولكنهم لم يقتبسوا عنهم فلسفتهم في الإدارة، كما هي.

نختم باستعراض قواعد رمسفيلد الثمانية. وهو دونالد رمسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي.  وهو وزير دفاع في زمنين متباعدين ونائب ومدير عام لأكثر من شركة كبيرة من ضمنها  General Instruments .  وقد اعتبرته مجلة فورشن "أحد أقوى عشرة مدراء bosses في أميريكا" في عام 1980. وقد وضع ثماني قواعد، بعد أن أصبح ضمن طاقم البيت الأبيض، نستعرضها فيما يلي، ليس إعجاباً بالرجل، بل في سياق النقاش الجاري على هذه الصفحات:

1.     لا تحكم قبضتك (أيها المدير) بالسيطرة الزائدة مثل طيار مبتدئ.  تنحى جانباً عن التيار بحيث تستطيع الملاحظة والقياس والتحسين.

2.     إذا كان لديك شك ارفع القرار إلى الرئيس.

3.     كن دقيقاً؛ فنقص الدقة خطير إذا كان هامش الخطأ صغيراً.

4.     تعلم أن تقول لا أعرف. 

5.     إذا لم يُوجه إليك النقد، فهذا يعني أنك لا تفعل الكثير.

6.     انظر إلى ما هو مفقود.  كثير من المساعدين يستطيعون أن يخبروا رئيسهم كيف يحسنون ما هو مطروح أو ما هو الخلل، ولكن قلائل يستطيعون أن يروا ما هو غير موجود.

7.     احذر من الأفكار التي تم تسويقها لأنها جريئة ومثيرة وإبداعية وجديدة.  فهناك الكثير من الأفكار المتصفة بهذه الصفات ولكنها أيضاً تتصف بالحمق.

8.     إن أهم موارد الرئيس كلماته ووقته. ساعده على ت خ صيصهما allocate بعناية.

 

ربما لا يريد البعض أن يتعلم من رمسفيلد، وأنا منهم، ولكن بإمكاننا أن نتعلم عنه، فهو نموذج لما لا نريد.


ماذا لدينا :

لقد رشح لدينا، في أقطارنا العربية المختلفة، تراكمات غير مدروسة في العلوم الإدارية نجم عن ذلك واقع غير متجانس وغير منسجم مع ثقافتنا. وفيما يلي استعراض لأهم سمات هذا الواقع: 

 

إدارة قائمة على التعليمات:

وتتسم هذه الإدارة بما يلي :

§        التمسك الجامد بالتعليمات.  

§        إعطاء التعليمات بطريقة أحادية الاتجاه أي غير قابلة للنقاش.

§        التعليمات الجاهزة لا تعبر عن احترام لقدرات البشر وتلغي أمكانياتهم الإبداعية.  

§        الآمر commander مهمته إعطاء الأوامر وليس حل المشكلات أو منع حدوثها.

وفي العموم الإدارة القائمة على التعليمات تناقض مبدأ المشاركة وتهدر موارد بشرية متاحة ومتوفرة بدون تكلفة إضافية.

 

أداء الحد الأدنى :

من علامات انحطاط المؤسسات ميلها اللاإرادي نحو "أداء الحد الأدنى" من قبل المراتب الإدارية المختلفة، وبدء تقبل الإدارة العليا نتائج هذا الأداء والتعايش معه.  ويبرر ذلك على أنه هو الأداء الممكن والمتاح، ولا يمكن الحصول على أداء أفضل.

ويحدث ذلك، في العادة تدريجياً، نتيجةً لعددٍ من الأسباب.  وقد تكون هذه الأسباب لها علاقة بمدخلات الإنتاج، بأن تكون دون المستوى من ناحية المواصفات، وبالتالي فإنها ستسبب في جودة متدنية وتراجع الكفاءة، أو قد تكون أدوات الإنتاج، التي إذا ما كانت قديمة أو غير ملائمة سينجم عنها تراجعاً في الأداء العام، أو قد يكون العاملون لا يمتلكون المهارات الفنية والمهنية المطلوبة التي تمكنهم من تقديم الأداء المقبول، أو غير ذلك.  إن أخطر ما في أداء الحد الأدنى هو اعتياد تقبله، والتعايش معه، وهو يتحول إلى حالة ذهنية،  ويؤدي إلى استسلام إلى واقع متراجع، ولا يتوقف عن التراجع.  كما أنه نقيض لمبدأ التحسين المستمر الذي يجب أن يكون دأب المؤسسة بعامليها وإدارتها على الدوام، بغض النظر عن الموارد المتاحة،  للحصول على النتائج الأفضل ضمن ما هو متاح.  وعدم التعذر بموارد غير ملائمة، ودون السماح بتسرب ثقافة أعذار وتفشيها في أوساط المؤسسة. 

ويتجلى أداء الحد الأدنى بالمظاهر التالية :

§        تدني كفاءة العاملين، كأفراد وفرق.

§        غياب المبادرة، الناجم عن حالة إحباط دائمة، بحيث تصبح غير مرحب بها وغير مقبولة.

§        غياب الإبداع، في ظروف مطلوب فيها الإبداع، ولكن تفشي الإحباط لا يشجع على ظهوره والمبادرة به.

§        تراجع النتائج في جميع أشكالها.

 

·        الموارد البشرية : 

§        هدر موارد بشرية هامة (عدم إعطائها فرصة وقتل مبادرتها وإبداعها)  0

§        غياب الانتماء.

§        نسبة تدوير موظفين عالية مكلفة.

 

·        التنظيم 

§        الهرم العمودي، أي هرم تنظيمي متعدد الطبقات ينجم عنه بيروقراطية وبطء في نقل المعلومات وتنفيذ الخطط.

§        انعدام التواصل الأفقي بين أقسام المؤسسة المختلفة مما يحرمها من التعلم من تجارب بعضها البعض.

§        تعدد الحواجز مثل الحواجز بين المراتب الوظيفية والحواجز بين الأقسام والحواجز الجغرافية وغيرها، التي تحد من نقل التجارب والتعاون للخروج من الأزمات.

§        طول قنوات الاتصال بسبب الحواجز وتفشي البيروقراطية وتدني نجاعة وسائل الاتصال القائمة في بعض المؤسسات.

§        طول قنوات التغذية العكسية وبطؤها الناجم عن عقم الاتصال وعن منظومة تقارير لا تعكس الواقع وتنقصها الدقة وآليات تفاعل غير فعالة مع مضامين هذه التقارير.

§        بطء صنع القرار ناجم عن وضع تنظيمي مترهل وإدارات تنقصها القيادة.

§        بطء تنفيذ القرارات ناجم عن غياب أو ضعف ثقافة تقدير الوقت.

 

·        الثقافة 

تتفشى ثقافات سلبية في معظم مؤسساتنا مثل:

§        المزاجية.

§        الخوف.

§        الفردية.

§        الأعذار.

§        اللوم.

 

·        أساليب العمل

وتتفشى في معظم مؤسساتنا أنماط سلبية في أساليب تسيير نشاطها، مثل: 

§        مركزية صنع القرار.

§        التعامل العقيم مع الأزمات.

§        تقييم الأداء بطريقةٍ منحازةٍ وغير مؤسسية ونظامية.

§        غياب العمل الجماعي.

§        البيروقراطية.

§        الفردية.

§        تغييب المؤسسية.

§        غياب المشاركة.

§        عدم تقبل النقد والتراجع عن الأخطاء.

§        غياب الشفافية والصراحة.

وغيرها من المسلكيات وأساليب العمل، هذا دون التطرق إلى الفساد والجهوية والشللية.

 

هذا هو نموذج لكثير من المؤسسات العاملة في عالمنا العربي والتي أفرزها الواقع.  وبطبيعة الحال هناك استثناءات، فمدى تغلغل القيم السلبية أمرٌ نسبية.  في الفصول التالية سوف نتعرض لعمليات التغيير الممكن القيام بها للوصول إلى وضع أفضل.

 


الفصل الثالث

هذا الإنسان

 

عند الحديث عن الإدارة وعن التعليمات، فإننا نتحدث عن ممارسة يقوم بها إنسان، وهذه الممارسة تتطلب القيام بأعمال ينفذها إنسان آخر أو مجموعة من بني الإنسان.    

وهذا الكائن يحلو لكثيرين أن يطلقوا عليه وصف "عنصر لين" soft element ، وذلك لاحتمالية أن تأخذ شخصيته أي شكل،  ولصعوبة تكهن ردود فعله، ولتقلبه وإمكانية إفساده وإصلاحه بيسر نسبي.

وفي قصة خلق الإنسان، كما وردت في القرآن، يتضح من يومه الأول أن لديه القابلية لأن يكون "فاسداً"  و "مدمراً لذاته" ولكنه قادر على أمور كثيرة، ومن بينها المبادرة.  " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون.  وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين.  قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون". [14]

حسب النص القرآني الكريم فقد توقع الملائكة أن يكون هذا الكائن المشروع فاسداً (معادياً للبيئة)  وقادراً على سفك الدماء؛ دمائه هو بالذات، أي قادر على إفناء جنسه. وأثبت الخالق عز وجل أن هذا المخلوق لديه قابلية عالية للتعلم.  

 

هذا الإنسان بحاجة إلى رعاية وبحاجة إلى تشكيل.  لقد أجمع علماء النفس على أن الإنسان تتشكل بنيته التربوية تحت تأثير عوامل ثلاثة:

العامل الوراثي : وهو عامل هام جداً في تحديد ملامح شخصية الإنسان، والمرشح أن يرث صفات سلوكية وقدرات ذهنية وملامح أخرى عن والديه وأقاربه الآخرين.  وهذه الموروثات لا يمكن تغييرها كموروث


[1]  الطبقات الإجتماعية في لبنان، سليم نصر و كلود دوبار.

[2] The End of Management, Kenneth Cloke & Joan Goldsmith.

[3] The End of Management.

[4] The Bounderless Organization, Ron Ashkenas, Dave Ulrich, Todd Jick & Steve Kerr.

[5] TQM, Astep By Step To Implementation. Charles Weaver.

[6] نفس المصدر

[7] نفس المصدر

[8] نفس المصدر

[9] نفس المصدر

[10] نفس المصدر

[11] Out Of The Crisis, W. Edward Deming.

[12] Dr. Yoshi Tsurumi , New York Times , May 1st, 1983.  As quoted by Deming.

[13] End of Management, Kenneth Cloke & Joan Goldsmith.

[14]  سورة البفرة، آيات 30 ألى 33.

 
 

 


تعليقات

لا يوجد تعليقات

الإسم 
البريد الإليكتروني (ليس للنشر)
التعليق
هل توافق على الانضمام لمجموعتنا البريدية؟
  أرسل

 

Counter