ما هي التعليمات؟. ولماذا تعطى التعليمات؟. يبدو هذا السؤال بسيطاً وساذجاً. فالتعليمات
instructions
تعطى من فرد أو مجموعة أفراد في الهرم الوظيفي إلى فرد آخر أو مجموعة أخرى من الأفراد، عادةً ما تكون من مرتبة وظيفية أدنى، لغاية تنفيذ مهمة معينة ومحددة ضمن إطار زمني محدد.
فالتعليمات هي أمر بالقيام بعمل معين، يحدد ماهية العمل، ومن يقوم به، وغالباً ما يكون ضمن إطار زمني محدد. وهو نظام قديم وشائع جداً، وعملياً لا يعرف العالم غيره. ففي الجيوش، في زمن السلم والحرب، تنفذ المهام المختلفة من قبل الأفراد والجماعات من خلال إصدار تعليمات أو أوامر من قبل ضابطٍ برتبةٍ معينة، إلى مرؤوسيه. وقد تكون مكتوبة أو منطوقة أو بإشارة أو باستخدام صافرة إلخ.. وكذلك في جميع المؤسسات الإقتصادية ودوائر الدولة والجمعيات والأحزاب وحتى في عصابات الإجرام والمنظمات السرية.
وفي جميع الأحوال لا تُناقش التعليمات، أو هكذا يُفترض في العموم، فنادراً ما يُسمح للمتلقي أن يبدي رأيه. كما لا يُسمح له بإجراء تغييرات على المهمة، حتى لو كانت للأفضل. الأمر الذي يلغي قدرات المنفذين الذهنية ويحرم المؤسسة من مورد مهم بمشاركاتهم، وكذلك يلغي كينونتهم ويلغي إنسانيتهم. وهذا ما يجعل هذا النمط من التعامل غير مقبول. فإذا كان مبرراً في الجيوش لأسبابٍ عديدة. فلا يوجد ما يبرر إستمرار وجوده في المؤسسات المدنية.
إنه نمط من الصعب حمله إلى القرن الحادي والعشرين وإستمرار العمل به.
لقد استعرضنا في الفصل السابق سمات المؤسسات التقليدية القائمة على إصدار تعليمات وتوجيهات من قبل فئة قليلة تشكل الإدارة العليا وتنفيذ هذه التعليمات بحذافيرها من قبل الغالبية العظمى من الجسم الوظيفي للمؤسسة. والأمر لا يقتصر على إعطاء تعليمات
instructions
،
ولكن غالباً ما يكون هناك أهداف
targets
مطلوب تحقيقها وفق برنامج زمني
timeframe
،
سواء كانت مبيعات أو إنتاج أو تحقيق كفاءة أو غير ذلك.. وغالباً ما يكون هناك موازنة
budget
تحدد المصاريف بأنواعها والمداخيل والأرباح، شهراً بشهر. كما يلجأ البعض لوضع خطط وتحديد محطات للتنفيذ
milestones
،
يتم تحديد حجم الإنجاز في كلٍ منها. وهذه كلها قيود
وعوائق ينجم عنها، إذا ما أصبحت أصناماً يتوجب تبجيلها، موظف سلبي مرعوب طوال الوقت يحتاج رئيسه لكل صغيرة وكبيرة وعاجز عن المبادرة والتحدي وعديم الإبداع والارتجال وغير منتمٍ ويكره عمله ويخاف رئيسه ولا يحترمه، وينبع ذلك كله من هاجس عدم تنفيذ الخطط وتحقيق أرقام الموازنة. وهذا قطعاً يؤدي إلى نتائج سيئة
.
وفيما يلي إستعراض ملخص للسلبيات الراسخة في هذه المؤسسات والتي تحد من تقدمها وتجعل نتائجها أقل دائماً، كما تجعلها هشة في مواجهة الأزمات:
§
بطء في تنفيذ القرارات: إن آلية صنع القرار المحصورة في شخصٍ واحدٍ تتطلب الرجوع إليه أثناء تنفيذ التعليمات، ففي هذه المؤسسات لا مجال للمبادرة أو الارتجال. وهذا يجعل تنفيذ القرارات يأخذ وقتاً أطول بسبب الحاجة المحتملة لتعليمات تفصيلية وإضافية لتحقيق الغاية. وهذا ينجم عن طبيعة العلاقات القائمة في المؤسسة والثقافة السائدة فيها، والتي أدت، مع مرور الوقت، إلى مسخ شخوص العاملين فيها إلى أفراد يخافون العقاب ويعجزون عن المبادرة ويبذلون جهداً كبيراً لتغطية ظهورهم ولا يأبهون فيما عدا ذلك.
§
احتمالية أعلى لقرارات خاطئة : عندما يحرم العاملون من صلاحية الاجتهاد، تُترك مهمة وصلاحية تفسير التعليمات للشخص الذي وضعها والذي غالباً ما يكون بعيداً عن ميدان العمل، فهو لا يستطيع أن يتواجد في أكثر من مكان، وبالتالي فإن تفسيراته وتوجيهاته ضعيفة الارتباط بالواقع، الأمر الذي يزيد من احتمالية وقوع أخطاء.
§
تغييب موارد بشرية هامة : إن النظام القائم في المؤسسات التي تقوم على إعطاء تعليمات وتنفيذها بحذافيرها، إنما تقسم العاملين في المؤسسة إلى قسمين؛ القسم الأول يسمح له بإتخاذ القرارات (أي بالتفكير والابتكار) بينما يحرم القسم الآخر (وهو الأكثرية) من هذه الفرصة، أي يمنع عليهم التفكير، وهذا يعني حرمان المؤسسة من مورد هام جداً، وهو القدرات الذهنية للغالبية العظمى من العاملين.
§
تفشي قيم سلبية : ينجم عن أساليب العمل هذه تفشي قيم سلبية عديدة مثل الفردية والشللية والانتهازية والكذب. كما تتطور أيضاً قدرات ومهارات موظفة سلبياً مثل الإبداع في اختراع الأعذار والتبرير وإيجاد الحجج.
§
تفشي البيروقراطية: في المؤسسات التي لا يستطيع الموظف أن يجتهد تتفشى البيروقراطية في أوساطها وتنطبع أساليب العمل وعلاقاته بهذا الطابع. فتكثر التعليمات وتزيد معها القيود والخاسر الأكبر هو العمل.
§
تراجع الانتماء : يتكون الانتماء ضمن أجواء محددة يسودها الثقة والاحترام، وفي هذه المؤسسات لا يوجد ثقة ولا يدل أسلوب التعاون على وجود إحترام، وبالتالي فإن الموظف سيكره مكان العمل، وقد يتلبد إحساسه تدريجياً بحيث لا يمكن أن يكون منتمياً.
§
نتائج أسوأ : إن العاملين في هذا النوع من المؤسسات لا تهمهم النتائج بالدرجة الأولى، وإنما يهمهم أن يكونوا في وضع لا يوجه إليهم أي لوم أو يُحملوا أي مسؤولية. فإذا كان اللوم يقع على غيرهم فلا تهمهم النتائج. هذا بالإضافة إلى أسباب أخرى عديدة تحتم الحصول على نتائج متدنية، مثل ضعف الانتماء والتعاون بين العاملين إلخ..
§
نسبة تدوير موظفين أعلى: في المؤسسات التي لا يشعر الموظف فيها بقيمته ولا يُقدر قيمة عمله، ولا يُعطى الفرصة للتعبير عن نفسه وإثبات ذاته وتسودها أجواء مسمومة، في هذه المؤسسات يمضي الموظفون كثيراً من وقتهم يطالعون إعلانات التوظيف في الجرائد.
§
تراجع الإبداع : بما أن الإبداع هو اللجوء إلى خيارات غير تقليدية فإن المجازفة تزداد نتيجةً للدخول في تجربةٍ جديدة، الأمر الذي يجعل الموظفين لا يجازفون خوفاً من العقاب الذي يشكل جزءاً من ثقافة المؤسسة ونهجها.
§
غياب المبادرة: في مؤسسات يُقسم موظفوها إلى آمر ومأمور، تعتبر المبادرة محرمة عرفاً. فيُتوقع من الموظفين تنفيذ التعليمات بطريقةٍ محددة ووفق برنامج زمني محدد، ولا يُتوقع منهم إيجاد طرق بديلة، أو تحقيق أهداف مختلفة بعض الشيء عن ما هو مطلوب. فهذا محرم. ولا يشجع العاملون على توجه كهذا، كما أن ثقافة المؤسسة لا تدعو إلى ذلك. وتقتل روح المبادرة ايضاً من خلال معاقبة من يبادر ويخطئ، وعدم تقدير من يبادر ويصيب، بل ربما البحث عن ثغرات في المنجز الذي حققه الموظف المبادر. كما أن التحاسد السائد بين العاملين يجعل المبادرة أمراً مستهجناً.
§
إشاعة الخوف بدل الاحترام : في هذا النوع من المؤسسات يخاف العاملون مدراءهم أكثر مما يحترمونهم. ويصبح الخوف جزءاً من ثقافة المؤسسة. كما يفخر مدراء مؤسساتهم بأن مرؤوسيهم يخافونهم. والعلاقة القائمة على الخوف ينجم عنها موظف مهزوز وعاجز ولا يستطيع تحمل المسئولية، وعطاؤه محدود وأخطاؤه قاتلة.
§
ضعف القدرة على التحدي لدى العاملين: في هذا النوع من المؤسسات يفقد العاملون بها قدرتهم ورغبتهم على التحدي بالسعي لتحقيق أهداف وتنفيذ مشاريع تتضمن بعض المجازفة. ويعود ذلك لخوفهم من إحتمالية عدم تحقيق الهدف المرسوم، وهي إحتمالية عالية نسبياً هنا، وبالتالي تعرضهم للحرج أو العقاب. وينبع ذلك من الثقافة السائدة التي تميل على الدوام إلى توجيه اللوم وعدم تفهم الظروف المحيطة بالمحاولة.
وهناك سمات سلبية كثيرة تنجم عن هذه التوجهات نشهدها ونعاني منها في الكثير من المؤسسات الصناعية والتجارية والخدمية.
لقد تطورت البشرية في العشرة آلاف سنة الماضية تطوراً كبيراً فاق ما أنجزته طوال حياة الإنسان على الأرض، التي تقدر بأكثر من مليون عام. إن المتتبع لتقدم البشرية في علومها المختلفة يلاحظ تسارع هذا التقدم بشكل واضح. فقد إعتمد على قواه العضلية لما يقارب المليون عام، ثم دجن الحيوانات، وإستخدم بعضها للتنقل وكمصدر للطاقة، وإستمر هذا الوضع حتى إكتشف مصادر أخرى للطاقة ؛ مثل الطاقة المائية وطاقة الرياح. ثم إكتشف الإنسان الطاقة البخارية قبل ما يزيد قليلاً عن قرنين. ثم إكتشف الطاقة الكهربائية قبل قرن ونصف وإكتشف آله الإحتراق الداخلي بنفس الفترة بعد ذلك بقليل. ثم إكتشف الطاقة النووية ودخل بعد ذلك عصر الحاسوب. وبعد ذلك بدأ عصر المعلوماتية. وهكذا نرى أن كل حقبة أصغر من سابقتها. وهذا ينطبق على كل مناحي حياة الإنسان، فقد كان إيقاع تقدم البشرية متسارعاً على الدوام، فحقق في العقود الأخيرة تقدماً كبيراً في شتى فروع العلم والمعرفة، والإدارة لم تكن استثناءً.
لقد بدأ علم الإدارة الحديث قبل أقل من قرن ونصف. وقد تدرجت المفاهيم الإدارية من السيطرة المطلقة على العاملين وحركتهم بطريقة تشبه إدارة العبيد
slave driving
في الحقول وفي المشاريع الإنشائية العظيمة التي خلدتها البشرية، إلى أفكار حديثة، وطروحات وحتى تجارب جديدة، يبدو بعضها مستغرباً، مثل " الفرق الموجهه ذاتياً "
self directed teams
و " المجموعات غير المرؤوسة "
bossless teams
و" حلقات الجودة "
quality circles
ومفهوم المشاركة
participation
ومفهوم الديمقراطية التنظيمية
organizational democracy
وغير ذلك.
إن الحديث عن الجودة الشاملة وإعطاء الصلاحيات للعاملين كان مستهجناً وغير مقبول قبل نصف قرن، وقد أصبحت هذه المفاهيم، الآن، مقبولة تماماً من قبل قطاع واسع من الإداريين في العالم ولا يعارضها أحد. لقد أصبحت هذه المفاهيم مقبولة تماماً، وإن لم تكن مطبقة في كل مكان. وهذا ما سينطبق على المفاهيم الأحدث، فستصبح أكثر تقبلاً خلال سنوات. وهذا ما قد ينطبق على ما هو مطروح في هذا الكتاب، الذي أرجو من القارئ العزيز، إذا لم يجده مقنعاً، أن لا يقابله بالاستهجان.
إن الوعي العام لدى شرائح المجتمع المختلفة في تحسن مستمر، وهذا ينطبق على جميع المجتمعات في جميع أنحاء العالم. وترتبط المفاهيم الجديدة بالوعي ؛ وعي الإدارة العليا ووعي الإدارة الوسطى ووعي العمال وجميع العاملين في المهن المساندة الأخرى. وحقيقة أن نجاح أفكار جديدة لا يمكن أن تنجح في غياب الوعي.
وبالتالي فإن تزايد الوعي، لدينا ولدى الآخرين، سيتطلب تغيير أنماط الإدارة المعمول بها حالياً هنا وفي كل مكان. فالمشاركة، على سبيل المثال، لا يمكن أن تأتي أُكلها في غياب الوعي.
إن أنماط وأساليب الإدارة المعمول بها، في بلادنا وفي معظم بلاد العالم، والقائمة على عدم إحترام الإنسان وتقدير قدراته، وبالتالي هدرها، لا يمكن إستمرار العمل بها في القرن الجديد. حقيقةً إن تزايد الوعي المهني والفكري والسياسي سيخلق واقعاً جديداً ستُرفض معه هذه الأنماط والأساليب.
إن الوعي ضروري ولكنه ليس شرطاً لتحديث نظم الإدارة وتبني أساليب حديثة. وبالتالي لا ينبغي أن يستخدم ذلك كعذر لعدم الإقدام على تبني أنماط جديدة وحديثة. فهذه الأنماط والأساليب تسرع من حركة التوعية وتساعد على تحول الشخصية العامة لمجتمع العاملين في المؤسسة وفي المجتمع ككل.
إن المدارس الإدارية ليست نظماً يتم تبنيها بكليتها أو تركها تماماً. فالإختيار ليس بين بال أو سيكام، أو بين تيار كهربائي 50 هيرتز أو 60 هيرتز. فبالإمكان إنتقاء ما يناسب المؤسسة، وإنتقاء القدر المناسب. فعند الحديث عن إعطاء الصلاحيات، مثلاً، بالإمكان عمل ذلك بطرق عديدة وبمقادير ودرجات مختلفة، كما يرى صاحب القرار وما يناسب وضع المؤسسة الخاص.
وفيما يلي إستعراض لبعض الأفكار ولبعض المقترحات لمفاهيم مستمدة من طروحات متداولة عالمياً ومن موروثات ثقافية ودينية :
لقد درجت العادة منذ القديم على ممارسة المؤسسات، بأنواعها، لنشاطها بقيام المراتب الإدارية العليا بإعطاء المراتب الأدنى تعليمات للقيام بمهام محددة تشكل بمجملها نشاط المؤسسة العام. لقد تطرقنا في الفصل السابق إلى مساوئ نظام إعطاء التعليمات بالطريقة التقليدية. لهذا نعتقد بضرورة التركيز على التعليم. تثقيف وتوعية وتدريب جميع العاملين في المؤسسة بمواقعهم المختلفة دون استثناء، وبشكل منسق ومتسق يسعى إلى تحقيق أهداف محددة. إن الوعي والمهارات والمعارف الإدارية والقدرات الفنية المتراكمة لدى العاملين، مضافاً إلى ذلك تدريبات خاصة تعزز سلوكيات وقيم إيجابية مثل عمل الفريق والإبداع الجماعي تفتح الباب لإيجاد بديل للتعليمات أحادية الإتجاه، كإعطاء الاتجاه العام لما يراد فعله. فيتم تنفيذ المهمة المتوقعة بالطريقة المثلى. ويتم ذلك من خلال فريق واعٍ متفاهم ومتكامل يملك المهارة والتجربة.
من الضروري والمفيد أن يتحول المدير إلى مدرب ومعلم. ولا غرابة أن تسمية معلم و "أسطى" وهي مشتقة من أستاذ كانت تطلق على القائمين على المشاريع الحرفية. ففي العقود الأخيرة ظهرت دعوات في الغرب تدعو إلى تحول المدراء إلى مدربين وموجهين
coaches, mentors
،
بعد إعطاء الصلاحيات لفرق العمل التي يرأسونها.
وقد قُدر لي أن أطلع على تجربة شركة مقاولات عربية كبيرة، كانت يطلق في أوساطها على قدامى المهندسين لقب معلم، بينما يأنف بعض المهندسين، في مواقع أخرى وضمن ثقافة مختلفة، أن يخاطبوا بهذا اللقب.
تكلمنا أعلاه عن أهمية التعليم وهنا نؤكد على أهمية التوعية. وبينما التعليم هو مراكمة المعارف بأنواعها، فالتوعية هي التعريف بقضايا محددة؛ مثل معرفة الجوانب المختلفة لقضية معينة وأهدافها وتسمى توعية سياسية، ومعرفة الحقوق والواجبات المهنية وتسمى التوعية المهنية، وهي أيضاً تتضمن الإيمان بأهداف المؤسسة وأولوياتها وثقافتها. والتوعية المهنية هي ما يهمنا هنا. وتأتي من خلال التوجيه وممارسات عامة تعمق حس الموظف بالانتماء وتحفزه. وهذه التوعية تخلق دافعاً ذاتياً لدى الموظف يتفوق في تأثيره على سلطة الإدارة والخوف من عقابها أو السعي لإرضائها.
ولهذا النهج فوائده على المديين القريب والبعيد. وهو يعزز الاعتماد على الذات. ويصبح التعاطي مع الأزمات أكثر كفاءةً. كما يسهل من استقلالية الفروع والأقسام المختلفة وخصوصاً الموجودة منها في مكانٍ بعيد، حيث تصبح القدرة على اتخاذ قرارات بشيءٍ من الاستقلالية.
وفي المؤسسات التي تهيمن فيها السلطة على الأداء العام من خلال هيبتها وتخويفها واحتفاظها بخيوط صنع القرار، في هذه المؤسسات تترسخ قناعة لدى العاملين أن الحلول هي أيضاً تأتي من الأعلى، فتنعدم قدرتهم على المبادرة، ويتخوفون دائماً من غضب الإدارة العليا، وقد يضطر بعضهم إلى الكذب سعياً وراء رضاها أو لتجنب غضبها، الأمر الذي ينجم عنه تفشي قيم سلبية كثيرة من بينها النفاق.
ينبغي تشجيع العاملين على المبادرة، وهذا لا يأتي بحثهم على ذلك بقدر ما يأتي من خلال تحمل تبعاتها. وبما أن المبادرة هي قيام شخصٍ باتخاذ قرار أو القيام بعمل لم يعتد عليه، فإن ذلك يعني أن احتمال أن يكون القرار غير صائب، وأن العمل لم ينفذ كما يُفترض. وذلك لعدم تمرس هذا الشخص وقلة خبرته.
وانعدام المبادرة وتخوف العاملين من الإقدام عليها، بسبب عدم تشجيع الإدارة عليها، مضار لا حصر لها. فآلية صنع القرار، التي تحتم انتظار التعليمات من المخول باتخاذها -والذي غالباً ما يكون بعيداً عن الميدان- عقيمة وتكلف خسارة كبيرة في الوقت والمال والموارد.
وفي المؤسسات التي تشجع المبادرة، والتي غالباً ما تتبنى برامج تدريبية ترفع من مهارات ومعارف وقدرات العاملين جميعاً فيها، فإن للمبادرة فرصاً أفضل لتقديم حلول أنجع من انتظار الحلول من فوق. في هذه المؤسسات لا يخاف العاملون من الخطأ، لأن الإدارة لا تعاقب الذي يخطئ بسبب مبادرة قام بها لإنقاذ وضعٍ ما. وهذا ما يزيد من فرصهم للتوصل لحلول أفضل، لأنهم يقدمون على ذلك بثقةٍ أكبر ودون تردد.
وللمبادرة قواعدها التي ينبغي ترسيخها في أوساط المؤسسة، فلا يجوز أن يتسبب إنتشار المبادرة بنشر الفوضى، وهذا يحصل، على سبيل المثال، في حال قيام أكثر من مبادرة حيال المسألة نفسها. كما أن القيام بمبادرات لتحقيق مآرب شخصية أو بدون مبرر لا يخدم صالح المؤسسة. ولكن هذه الممارسات، سواء كانت عفوية أو متعمدة، تختفي تدريجياً مع ترسيخ هذا النهج الراقي وتعزيز ثقافة توجهه وتقويه.
عند وقوع أزمة في كثيرٍ من المؤسسات التقليدية، يتجه الاهتمام، بدايةً، إلى معرفة من هو المتسبب في الأزمة، وعلى من يجب أن يقع اللوم، بدلاً من المباشرة في إيجاد حل والشروع في تطبيقه.
وفي المؤسسات التي تنخر بأمراض مثل الشللية، قد يسمح البعض للأزمة أن تتفاقم لأن المتسبب في حدوثها لا يهم هؤلاء البعض.
منذ سنوات كنت في زيارة لدولةٍ عربية، وقد زرت هناك معرضاً للكتاب في أرض المعارض في العاصمة. وفي اليوم التالي شبّ حريق في المعرض. وفي مساء ذلك اليوم استمعت في الإذاعة المحلية تغطية للحدث، حيث زار أحد الوزراء موقع الحادث. وقد سجل مايكرفون الإذاعة حديث بين الوزير ومسئول في الموقع؛ حيث كان هم الوزير أن يعرف لمن تعود "اللمبة" التي تسببت في الحريق؛ لوزارة الصناعة التي تعود إليها أرض المعارض، أم إلى وزارة الثقافة التي نظمت معرض الكتاب؟!.
في المؤسسات التقدمية (ذات التفكير التقدمي) يهرع الجميع لإيجاد حل للأزمة، كما يتعاون الجميع في تطبيق الحل والخروج من الأزمة. وبعد الانتهاء من الأزمة، قد يجلس الجميع لمناقشة الأزمة، ليس لمعرفة لمن يوجهون سهام لومهم، بل من أجل استقاء الدروس والعبر.
يعتز كثيرٌ من المدراء التقليديين بأن مرؤوسيهم يخافونهم ويتبجحون بذلك. بينما يشعر آخرون كثيرون بسعادةٍ غامرةٍ عندما يلاحظون ذلك.
وهنا نود لو نستبدل الاحترام بالخوف. وهذا ليس أمراً مستحدثاً، فقد كان الرسول (ص) يحافظ على علاقة مشوبة بالاحترام مع صحابته، وهم رعاياه ومرؤوسيه وأتباعه (رعاياه كحاكم ومرؤوسيه كرئيس دولة وأتباعه كصاحب عقيدة). وقد نُهي عن التلويح بعصا صغيرة كان يحملها بصورةٍ عفوية لاحتمال أن تخيف جلساءه.
إن الخوف من المدير يخلق حاجزاً يمنع حدوث تواصل فعال بين الطرفين، الرئيس والمرؤوس. وغياب التواصل أو ضعفه ينجم عنه تغذية عكسية لا تعكس الواقع. فيصبح المدير يعرف القليل عن مؤسسته. وذلك بسبب ارتباك الناقل واحتمال لجوئه إلى الكذب أو إخفاء جزء من الحقيقة بسبب الرهبة. كما أن الإحساس بالخوف يجعل الأفراد يتكلمون أقل ما يمكن ويظهرون أمام المدير أقل ما أمكنهم، وبالتالي لا يبادرون إلى طرح أفكار جريئة أو غير تقليدية لما في ذلك من مجازفة. إن الخوف يقتل الإبداع كما يقتل المبادرة. كما يضعف الانتماء والقدرة على التركيز. كما يتسبب في تفضيل أولئك الذين لا يخافون العقاب أو يعتادونه، لأسباب تتعلق في احترامهم لذاتهم، فيصبح أساس الترقيات مغلوطاً تماماً مما يضع أشخاصاً انتهازيين على قمة الهرم الوظيفي للمؤسسة يكرسون ثقافة الخوف بدورهم بحيث تصبح سمة دائمة تنطبع بها المؤسسة وتنعكس على أدائها عموماً.
إن المؤسسات التي يسودها الخوف، والتي عادةً ما يلجأ القائمون عليها إلى عقوبات قاسية، وهذا ما يسبب إشاعة الخوف، في هذه المؤسسات يلجأ الموظفون إلى التستر على بعضهم، ليس بدافع التضامن فيما بينهم، ولكن لخوفهم من إيقاع عقوبة مبالغة على أحدهم.
ومن جهةٍ أخرى، فإن الاحترام المتبادل يجعل المرؤوس يعطي كل ما لديه، فيبدع العاملون ويتعاونون على وضع حلول جماعية. إن الجو المشوب بالاحترام يسود به عمل الفريق ويكثر العصف الفكري الجماعي، فلا أحد يخاف أو يخجل من طرح أية فكرة تخطر على باله. وتسود ثقافة تشجع التراجع عن الخطأ وتقبل النقد والبعد عن لوم الآخرين وإصدار احكام سريعة. إن الاحترام المتبادل يشيع المودة بين الزملاء وفي أوساط المؤسسة عموماً.
إن العلاقة السائدة، في العادة، بين الإداريين الذين يتعاملون مع الأفراد، مثل المشرفين في خطوط الإنتاج أو مراقبي العمال في المشاريع الإنشائية أو الضباط مع الجنود في الجيوش، إن هذه العلاقة لا تنحصر بكونها قائمة إما على الاحترام أو على الخوف، فهذا تبسيط ساذج. فهناك العديد من المشاعر يمكن أن تسود بين المرؤوسين والرؤساء، كما يمكن أن يسود خليطٍ من اثنين أو أكثر من هذه المشاعر. فقد تكون العلاقة مشوبة بالود والمحبة، كما يمكن أن تكون علاقة كراهية وبغض وإزدراء، إضافةً إلى الاحترام والتقدير، كما يمكن للخوف أن يكون سيد الموقف.
يمكن أن يكون المدير بوضع يخافه مرؤوسيه ويحترمونه ويحبونه، كما يمكن أن يُخاف وأن يُكره ويُزدرى. يعتقد بعض الإداريين أن الخوف محركٌ قوي، يسهل عليهم تمرير خططهم وبرامجهم. من النماذج على ذلك مدربو الفرق الرياضية. فقد قرأت مقالاً كتبه لاعب في فريق امريكي مشهور عن مدرب الفريق، أنه عندما كان يصرخ في بداية الاجتماعات في وجه أعضاء الفريق " إجلسوا " فينصاعون دون أن ينظر أحدهم إذا ما كان هناك كرسي أم لا. لقد كانوا ينفذون الإيعاز بالجلوس دون تردد. وهذا مبعثه الخوف الشديد. إن هذا النموذج، والذي أصبح يُحتدى ويُقلد في العالم، له سلبياته. لقد أفسد روح الرياضة وغير مفهومها من أساسه.. ولكن ليس هذا موضوعنا.
القيم
مقابل
النظم
values vs procedures
تعتمد المؤسسات، في العادة، في ضبط الأمور في أوساط عامليها على وجود مجموعة من النظم التي تضعها للقيام بالعمل اليومي للمؤسسة ولضمان حدٍ معقولٍ من الإلتزام في أوساطها. بينما يعتمد بعض الإداريين على نشر قيم إيجابية في أوساط العاملين تشكل حافزاً لهم للإلتزام بأهداف المؤسسة الساعية إلى جودةٍ أعلى وكلفةٍ أقل، وغير ذلك من الأهداف الإستراتيجية والتكتيكية. إن التحفز النابع من قيم متأصلة في الفرد أقوى من ذلك الناجم عن الخوف من مخالفة النظم والتعليمات.
لذلك ينبغي التركيز على إشاعة القيم الإيجابية في أوساط المؤسسة والإعتماد على ذلك في تسيير أعمالها أكثر من الإعتماد على خوف العاملين من مخالفة النظم والتعرض لعقوبة محتملة نتيجةً لذلك. إن الموظف الذي تحركه القيم التي يعتقد ويتمسك بها قد يحيد النظم أحياناً من أجل صالح المؤسسة بمنتهى الوعي، الأمر الذي قد يتسبب في تجنب أزمة مكلفة.
إن الدعوة لإعطاء مزيد من الصلاحيات لأعضاء الفريق قديمة نسبياً، وقد كانت الدوافع وراء ذلك كثيرة، من بينها إدارة وقت إفضل بالنسبة للمدير نفسه، فهو بإعطاء الصلاحيات
empowerment
يمارس عملية تكليف
delegation
أي يعطي جزءاً من العمل المناط به لواحدٍ أو أكثر من مرؤوسيه. وهذا دافع يفيد المدير اكثر مما يفيد المؤسسة وتنظيمها. كما أن من الدوافع التي تقف وراء إعطاء الصلاحيات الاستفادة من قدرات الإدارات الوسطى ومساعدي الإدارة العليا على المبادرة والابتكار وتدريبهم وتشجيعهم على ذلك.
وفي السنوات الأخيرة ظهرت دعوة إلى تشكيل فرق تتمتع بصلاحيات عالية جداً، بحيث تمارس كافة النشاطات الضرورية لإتمام النشاط المكلفة به، سواء كان إنتاجياً أو تجارياً أو زراعياً أو إنشائياً أو خدمياً. وذلك من خلال تحول دور المدير إلى دور توجيهي وتعليمي وتوعوي. وقد سماها منظروها في الغرب "الفرق الموجهة ذاتياً"
Self Directed
Teams
. وقد بدأت تجارب من هذا النوع بالظهور في بعض كبريات الشركات الأميريكية.
وتتولى الفرق الموجهة ذاتياً جميع المهام والمسؤوليات التي يتولاها في العادة المشرف. فالفريق يخطط و ينفذ ويطور ويقيم الأعمال المناطة به. كما يمكن أن يقيموا علاقات مباشرة مع الزبائن والموردين
.
وفي العموم يظهر الموظف المتمتع بالصلاحيات إنتماء اكبر ويقدم عطاء اكثر ويعمل بكفاءةٍ أعلى.
توصف المؤسسة بأنها موجهة نتائجياً
result oriented
إذا كانت تركز في قياس أدائها على النتائج النهائية؛ المبيعات والأرباح وغير ذلك. ولا يهم في هذه المؤسسات الجهد الذي بُذل في المحاولة للوصول إلى النتائج، مهما كان كبيراً، طالما أن النتائج المرجوة غير محققة.
وهناك نهج آخر يعطي الجهد المبذول لتحقيق الأهداف أهمية خاصة. وتوصف هذه المؤسسات بأنها موجهة جهدياً
effort oriented
. ويذهب البعض إلى قياس الأداء على أساس الجهد المبذول دون إهمال النتائج.
إن قياس الأداء بالنتائج نهج غربي بالأساس، وقد ظهر بسبب كون معظم المؤسسات الكبيرة مساهمة ويهم إداراتها أن تظهر النتائج، على الدوام، إيجابية في أعين المساهمين والمساهمين المحتملين [2]. وهم بذلك، لا يسمحون بتدني النتائج لبعض الوقت بسبب عملية تحسين أو توسعة. كما أن إهتمام كثير من المدراء الغربيين بالنتائج فقط ينبع من حقيقة أنهم لا يعرفون تفاصيل العمل في المؤسسات التي يديرون، وهذا نابع من كونهم من خلفيات مختلفة أو بسبب طبيعة المؤسسات الكبيرة والمتنوعة النشاط
[3]
. إن هذا التوجه يحول المؤسسة إلى منظمة تهتم بالنتائج قصيرة المدى، كما يحول العاملين فيها إلى معسكرين ؛ ناجحين وفاشلين.
لا شك أن النتائج مهمة ولكن المحاولة والجهد المبذول لتحقيق النتائج يجب أن يُقدر أيضاً، ورب محاولة تحقق 75% من النتائج المطلوبة أفضل من نتائج تعادل المطلوب تماماً. إن شيوع ثقافة تقدير الجهد تشجع القائمين على نشاط المؤسسة على تبني أهداف تنطوي على تحدي، بينما ينزع القائمون على نشاط المؤسسة التي تركز على النتائج إلى تبني أهداف آمنة لكي يضمنوا تحقيقها، فلا يتعرضون للحرج. وهذا ما يفسر تفضيل تحقيق 75% في حالة على تحقيق 100% في حالةٍ أخرى. فلو تبنى أحد الباعة هدفاً لمبيعاته السنوية يبلغ مائة ألف دينار وحقق مبيعات فعلية في نهاية العام مقدارها خمسة وسبعين ألف دينار، بينما تبنى زميلاً له (يعمل في شركة مشابهة) هدفاً مقداره خمسون ألف دينار وحقق مبيعات مقدارها خمسون ألف دينار فإن المقارنة الفعلية يجب أن تكون بين المبلغين وليس بين النسبتين المئويتين.
هناك الكثير من الأعمال جماعية بطبيعتها، ولا يملك العاملون بها خياراً آخر سوى إتقان عمل الفريق، والاستمرار به. ولكن هناك أعمال أخرى يمكن أن تنفذ بصورةٍ جماعية كما يمكن أن تنفذ بصورةٍ فردية. ومن الأمثلة على الحالة الأولى أعمال الإنتاج والإنشاءات. ومن الأمثلة على الحالة الثانية الأعمال الإدارية والتي تتطلب اتخاذ قرارات وتنفيذها. حيث يمكن لكل فرد أن يبني مملكته الخاصة، يمارس عمله بها بالطريقة التي يعتقد أنها مقنعة لرؤسائه، مجتهداً قدر استطاعته أن يكون مكتفياً ذاتياً. كما يمكن أن يسود عمل الفريق بين العاملين بحيث يعتادون التشاور ومساعدة بعضهم البعض. ويمكن كذلك أن يمارسوا الإبداع الجماعي، من خلال جلسات عصف فكري، يتناولون بها التحديات التي تواجه الفريق أو أحد العاملين فيه، ووسائل الارتقاء بعملهم، والتوصل إلى منتجات جديدة وتحسين عمليات الإنتاج وأساليب التسويق وتحسين الأداء بشكلٍٍ عام.
إن إيجابيات العمل الجماعي أكثر من أن تحصى، ولا تخفى على أحد. ولكن لماذا يختار كثيرون العمل الفردي على العمل الجماعي؟. وللإجابة على ذلك يجب التأكيد على أن العمل الجماعي له قواعده وأصوله. وبالتالي فهناك تجارب فاشلة ناجمة عن عدم الإعداد الجيد وعدم تحضير أعضاء الفريق للعمل الجماعي. إن العمل الجماعي يتطلب سلوكيات إيجابية عديدة على أعضاء الفريق اعتيادها؛ مثل احترام الآخرين وحسن الاستماع والاهتمام بأولويات الآخرين. كما يتطلب تفشي قيم إيجابية مثل الصدق والأمانة والبعد عن الفردية والأنانية. ومن هنا يلجأ الكثيرون لخيار العمل الفردي نتيجةً لتجارب فاشلة، أو لخوفهم من الآخرين أو لتغلب الطبع الأناني لديهم.
تحتاج المؤسسات الصناعية والتجارية والخدمية وغيرها إلى إبداع كل موظفٍ فيها من أجل أداء أفضل وارتقاء مستمر بنشاط المؤسسة العام. هذا إذا كانت من النوع الطموح وتتبنى تفكيراً تقدمياً.
وتحتاج المؤسسة إلى ضم جهود العاملين فيها في جهدهم الإبداعي للتوصل إلى حلول وأفكار أفضل.
وإذا كان للإبداع الفردي قواعده، فإن للإبداع الجماعي قواعده أيضاً. فلتشجيع الإبداع عموماً؛ يجب أن يُقدر ويُشجع ويُستفاد من نتاجه، كما يجب مكافئة المبدع والتعامل معه على هذا الأساس.
أما بالنسبة للإبداع الجماعي، فإن جهداً يجب أن يبذل لكي لا تتحول جلسات الإبداع الجماعي إلى مبارزات كلامية. كما يجب نشر تقاليد وآداب تجعل من الجهد الجماعي منتجاً؛ مثل عدم المقاطعة أثناء النقاش والتراجع عن الخطأ بسهولة وروح رياضية، وتقبل رفض الآخرين للفكرة، والتمرس على التتابع والتكامل في التفكير (مثل سباق التتابع)، وعدم المبالاه لمن تنسب الفكرة عند تبلورها في نهاية المطاف. كما أن هناك تكتيكات حديثة مبتدعة تسهل التوصل إلى أفكار جديدة تماماً؛ منها طريقة القبعات الست، التي تحدثنا عنها في فصلٍ سابق.
يجب بذر ثقافة تساعد على هذه الممارسة الجماعية، وتدريب أعضاء الفريق على أساليب وطقوس هذه الممارسة وتشجيعهم عليها.
وتتحسن نوعية الإبداع وكميته إذا ما تخلص المساهمون في عملية الإبداع من الأنانية وأظهروا قدراً معقولاً من الإيثار.
ويتم الإبداع الجماعي في جلسات العصف الدماغي المخصصة لوضع حلول لمشاكل قائمة ومحتملة، أو للبحث عن أفكار جديدة لمنتجات جديدة، أو البحث في وسائل تحسين الخدمات التي تقدمها مؤسسة خدمية معينة، وغير ذلك. وفي هذه الحالة يطرح أحد المشاركين فكرةً ما، فيقوم آخر بتطوير الفكرة وثالث يضيف عليها شيئاً بحيث قد تفقد هويتها الأصلية، هذا دون تحسس الشخص الذي اقترحها أولاً.
إن الإبداع سيزداد غزارةً لو تخلص المبدعون من "الحقوق". إن الحقوق بدعة غربية. والتخلص من حقوق المبدعين في إبداعاتهم يعزز الجهد الإبداعي في أوساطنا، فهي تحد من إستفادة الآخرين منها وتجعل من إمكانية تناول أحدهم لإبداع شخص آخر وقيامه بالبناء عليه وتطويره والإرتقاء به أمراً أكثر تعقيداً. هذا النهج يجب أن يُشجع وبشكلٍ خاص في العالم الثالث، الذي يحتاج إلى إبداع أكثر غزارة من أجل اللحاق بالعالم الأول من خلال إتكاء المبدعين على بعضهم.
وهناك قصة طريفة عن اختراع اليابانيين للسوبر شيب
super chip
.
ففي السبعينات كان اليابانيون يبذلون جهداً كبيراً للحاق بالغرب في حقل الإلكترونيات. وكانوا يعملون على التوصل إلى تكنولوجيا صناعة الشيب
IC
. وفي هذه الأثناء نشرت الصحف الاميريكية خبراً عن إنتاج السوبر شيب، الذي يفوق سابقه بمئات الألوف من المرات. فوقع اليابانيون بإحباطٍ شديد، فالفجوة اتسعت. فقامت الحكومة اليابانية بإعداد مركز أبحاث خاص جمعت فيه علماء وتقنيين وإداريين من شركات الإلكترونيات المعروفة سوني وسانيو وناشونال وغيرها لتحقيق غاية محددة، وهي اللحاق بالغرب من خلال التوصل إلى تقنيات إنتاج الشيب والسوبر شيب. وقد بدأ عمل الفريق بكلمة توجيهية من قبل أحد المسئولين، الذي طلب منهم تناسي انتماءاتهم لشركاتهم مؤقتاً والانتماء لليابان التي تتطلب مصلحتها الوطنية التوصل إلى الهدف الذي تشكل من أجله الفريق. كما طلب منهم الترفع فوق أنانياتهم.
لقد نجح الفريق خلال أشهر في صنع الشيب والسوبر شيب. ثم تبين أن الأميركيين لم يتوصلوا لتقنيات صناعة السوبر شيب، إنما كانت إحدى تهويلات الصحافة الاميريكية. لقد كان اليابانيون هم الذين صنعوا هذا الاختراق الذي أدى إلى ثورة المعلوماتية وتفوق اليابان الصناعي.
هناك مقولة قديمة تقول "درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج"، وهذا ينطبق على صحة الإنسان كما ينطبق على صحة المؤسسات وأدائها. والأعمال الوقائية أقل كلفة، من الإجراءات العلاجية.
وتسمى العمليات العلاجية بلغة معاصرة "إطفاء حرائق"، ويعني ذلك أن الإجراء يبدأ بعد حدوث المشكلة، وربما استفحالها. الأمر الذي يعني أن هناك خسائر، مهما كانت أعمال الإطفاء فعالة وكفؤة. ويطلق على الإدارة التي لا يتعدى جهدها حل المشاكل والتعامل مع الأزمات إدارة إطفاء الحرائق، وهي نوع سلبي من الإدارات.
أما الوقاية فهي مجموعة من الإجراءات يتم إتباعها بشكل منظم وعلى الدوام، سواء كان هناك بوادر تراجعات أم لا. إنها تكلفة متكررة على الدوام، وتشكل عبئاً مالياً وتنظيمياً على المؤسسة. ولهذا لا ينتهجها البعض، على الرغم من إقتناعهم بالوقاية كخيار.
ولكن في أي مؤسسة، مهما كان نشاطها، وفي أي ظرف تعمل، فإن مقارنة كلفة الوقاية مع كلفة العلاج، والأضرار الناجمة عن المشكلة منذ لحظة حدوثها لغاية إيقاف نزيفها، إن هذه المقارنة لصالح الوقاية في جميع الحالات وجميع الظروف.
كثيراً ما تتحول خطط الإنتاج إلى سيف معلق فوق رقاب العاملين في الإنتاج على مختلف مراتبهم. والمقصود هنا الهدف المطلوب بلوغه من كل خط أو وحدة إنتاج ضمن خطة عامة ذات إطار زمني محدد. وهذا الهدف قد يكون تم تحديده بناءً على حسابات أملتها تواريخ توريد الطلبيات. وبالتالي فهي ضرورة تمليها رغبة المؤسسة في إرضاء زبائنها والحفاظ عليهم. كما قد يكون هذا الهدف المراد بلوغه جزءاً من خطة عامة للدولة، تباهى بها مسئول أو يراد بها التغطية على إخفاق في سنوات سابقة أو في مجالات أخرى. وهذا يحدث كثيراً في دول العالم الثالث. لا مانع أن تتبنى المؤسسة أهدافاً صعبة تطلب الكثير من التحدي، ولكن يجب أن يكون ذلك مفهوماً لكافة أعضاء الفريق بحيث يعملون بإقتناعهم لمواجهة تحدي تحقيق أرقام إنتاج أعلى من المعتاد مدفوعين بوعيهم وتقدير الإدارة لجهدهم ووجود نظام تحفيز مادي يمنح مكافآت خاصة وجزيلة مقابل التعامل مع التحديات.
في جميع الأحوال ينبغي أن لا يتحول هذا الهدف إلى مقياسٍٍٍ جامد ينجم عنه توتر وإحباط في صفوف العاملين. فهناك ظروف تحيط بالعمليات الإنتاجية تجعل من علاقة الجهد بالنتائج علاقةً غايةً في التعقيد. فقد يكون، في بعض الحالات بلوغ 90% من الهدف يستحق التقدير أكثر من تخطي الهدف بكامله.
ونقصد بالمشاركة هو إشراك العاملين كافةً في صنع القرارات وتحمل مسئولية المجهود العام لنشاط المؤسسة، وذلك ضمن سياق نسبي.
وقد تاخذ المشاركة أشكالاً عديدة؛ تتراوح من مجرد إسماع الصوت إلى التمثيل في مجالس الإدارة. وإسماع الصوت قد يأخذ قنوات متعددة، أبسطها الاستماع إلى العاملين في مواقع عملهم أثناء جولات الإداريين، أو إبقاء أبواب الإداريين مفتوحة.
وفي جميع الأحوال، سواء كانت حول الحد الأدنى ام كانت حول الحد الأعلى، فلا جدوى للحديث عن المشاركة إذا لم تكن جزءاً من ثقافة المؤسسة، يؤمن بأهميتها جميع العاملين، بما في ذلك الإدارة العليا، التي تشجعها، وتتحمل تبعاتها، وتساعد على خلق والمحافظة على تقاليد وآداب خاصة تجعل من الممارسة أمراً مقبولاً وفعالاً ومفيداً.
إن المشاركة قد تضطر الإدارة إلى الإستماع إلى كثيرٍ من الآراء غير الناضجة والسخيفة أحياناً. ولكن كثيراً ما تطفو إلى السطح آراء وأفكار وحلول قيمة للغاية. وهذا يأتي من كون هذه الآراء تأتي من اطراف تنظر إلى الأمور من زاوية مختلفة، كما أنها كثيراً ما تأتي من أشخاص لم يعتادوا صنع القرارات، ولكنهم يمتلكون المعارف التقنية والفنية، كما يتحسسون ويتفهمون إحتياجات وإمكانات القوى البشرية أكثر من أعضاء الإدارة العليا، وبالتالي فإن آراءهم كثيراً ما تأتي بجديد.
وفي المؤسسات الكبيرة يستحسن أن تأخذ المشاركة طابعاً مؤسسياً من خلال خلق قنوات ومنابر وأدوات دائمة ومنظمة تحكمها أسس وتقاليد راسخة، من هذه الأدوات:
1.
اللجان المتعددة الوظائف
multi-functional committees
: وهذا نهج معروف في اليابان والغرب، وتتشكل من أفراد يعملون بوظائف مختلفة؛ مشرفين ومدراء إنتاج وعمال وفنيين صيانة ومصممين وباعة وغيرهم. وتهدف هذه اللجان في العادة إلى تحسين الجودة، ولكن من الممكن أن تخدم أغراضاً أخرى، ولكنها في كل الأحوال وسيلة مشاركة هامة.
2.
لجان التطوير: وهي لجان يشارك فيها ممثلون عن الأقسام المختلفة ومن مراتب وظيفية مختلفة، تجتمع دورياً لمناقشة وسائل وطرق تحسين وتطوير مناحي نشاط المؤسسة المهني المختلفة، من منتجات وعمليات إنتاج وجودة ومواعيد توريد إلخ..
3.
إجتماعات عامة دورية: ويشارك بها الجميع، ويترك المجال فيها لمن يريد أن يطرح قضية أو يستفسر عن مسألة.
4.
إصدار مجلة دورية للمؤسسة: بحيث يسمح للجميع في المشاركة من خلال نشر آراء ومقترحات وأفكار على صفحاتها.
5.
صندوق إقتراحات: يوضع في مكان سهل الوصول إليه، ويفتح بشكل دوري وتستعرض جميع الإقتراحات بمنتهى الجدية، ويتم الإستفادة من ما هو مفيد منها.
6.
.... وكما ذكرنا أعلاه، المشاركة في مجلس إدارة الشركة.
لقد قال عمر بن الخطاب: "أخطأ عمر وأصابت إمرأة". ويقصد هنا أخطأ الحاكم وأصاب مواطن أو مواطنة من عامة الشعب.
يتزايد الإدراك بأهمية رضى العاملين وتأثير ذلك على الأداء العام للمؤسسة لدى الكثير من المدراء في بقاع مختلفة من العالم. بينما لا يزال هناك كثيرٌ من الإداريين الذين يعتقدون أن بإمكانهم حمل مرؤوسيهم على تنفيذ المهام الموكلة إليهم مهما كانت حالتهم الذهنية و النفسية والمعنوية، حتى لو كانوا غير راضين عن أوضاعهم. والحقيقة أن نوعية الأداء والنتائج لا يمكن أن تكون نفسها، وخصوصاً في أوساط أولئك الذين يقدمون خدمات
service
providers
لزملائهم أو لزبائن المؤسسة. فهم بحاجة، أكثر من غيرهم، إلى الحالة الذهنية التي تمكنهم من تقديم خدماتهم على الوجه الذي تتمناه المؤسسة.
ويتحقق رضى العاملين من خلال المعاملة الحسنة وتقدير الجهود المبذولة والتعويض المادي المناسب ووجود الحد الأدنى من الأمان الوظيفي. كما أن الحصول على إمتيازات أخرى مثل الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي تعزز حالة الرضى. ينعكس رضى الموظفين على إنتمائهم ويجعل نسبة التدوير أقل بكثير ويرفع من سوية التعاون ضمن الفريق ويزيد من إنتاجية المؤسسة.
لقد تكلمنا في فصلٍ سابق عن التجارب الإدارية التقليدية المتاحة لدينا، والتي تركت أثراً عميقاً في وجداننا، مما ساهم في تشكيل موروث إداري كامن يظهر تاثيره في أداء بعض مديرينا، مثل التشبه بشيوخ القبائل والمخاتير أو تقليد الأنماط الإدارية المتبعة في الجيوش وغير ذلك، أو النقل العميائي عن الآخرين. وفيما يلي سنتطرق إلى بعض الموروثات الإيجابية التي قمنا بهجرها ولم نعد نمارسها أو نتبناها. فهناك الكثير من الموروثات الثقافية والدينية الإيجابية لم يعد من بيننا الكثيرون ممن يتمسك بها، كما لم يسع أحد، بشكلٍ جدي ومنظم لجعل هذه الموروثات الأخلاقية والسلوكية جزءاً من إرثٍ إداري، يصبح جزءاً عضوياً من مدرسة إدارية عربية تستفيد من القيم والأنماط السلوكية القومية والدينية المتاحة.
لماذا يتشبه البعض بالشيوخ والقادة العسكريين والمخاتير ويتمسكون بقيم مقتبسة من الغرب، تكون قد وصل بعضها إلينا مشوهاً، أو قد تم العدول عنها في بلد منشأها في الوقت الذي نبدأ نحن بتطبيقها لدينا – لماذا نستمر بهذه الممارسات عن وعي وعن غير وعي – ولا يتشبه أحد منا بالأنبياء ومنهم النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام الذي كان قائداً قدوة وإدارياً فذاً.
فهناك الكثير من العادات والقيم والمسلكيات التي كانت شائعة جداً في المجتمع العربي والإسلامي، والتي بَعُد أكثرنا عنها، والتي لو إستعنا بها، بطريقةٍ أو بأخرى، يمكن أن تشكل القاعدة الأخلاقية التي يمكن أن تبنى عليها برامج تنمية شاملة ومستدامة. وقد استعرضنا في فصلٍ سابق الكثير من الصفات والخصائص التي ممكن أن يتصف بها الإنسان، وقد تعرضنا بشئٍ من التفصيل لبعضها، وأهميتها بالنسبة للمؤسسات الاقتصادية بأنواعها. والأنماط السلوكية المدرجة فيما يلي، كانت جزءاً من ثقافتنا القومية والدينية والوطنية، ولكن تم إبتعاد البعض منا عن بعضها. وهذه نماذج منها:
البعد عن الكبر:
لقد كان العرب يكرهون التكبرويعتبرونه نقيصة كبيرة. ثم جاء الإسلام وأكد على هذه القيمة العظيمة وشجعها. فوردت آيات كثيرة وأحاديث تحض على الإبتعاد عن الكبر بأشكاله، سواء بالحديث أو طريقة المشي أو التعامل مع الآخرين. وقد عرف التواضع عن الكثير من الحكام والقادة والولاه والعلماء، الذين كانوا يظهرون من ضروب التواضع والبعد عن الكبر ما جعل منهم نموذجاً للآخرين وجعلهم حديث المؤرخين الى زماننا. والأمثلة لا تقتصر على رجال صدر الإسلام، وإنما امتدت لغاية عهود التخلف الذي بدأ في أواسط الألفية الثانية. فبدأ يظهر الكبر على حكام لم يفعلوا شيئاً وقادة شهدوا على هزائم وعلماء نقلة، لقد تكبر هؤلاء ولم يتكبر الوليد بن عبد الملك، ولم يتكبر موسى بن نصير، ولم يتكبر الغزالي. لقد تكبر هؤلاء مع فشلهم، أو على الأقل دون إضافة إيجابية لتاريخ الأمة وتراثها. وهكذا إستمر هذا النهج، نهج الكبر والخيلاء والإحساس بالعظمة لدى كثيرين إلى زماننا، وإمتد إلى مديرينا ومسئولينا بمختلف مراتبهم.
لا يخفى على أحد سلبيات الكبر، فهو يخلق فجوة بين المتكبر والآخرين، فجوة في زمن يدعو عقلاء الإدارة ومنظروها إلى المزيد من التواصل والمشاركة والصلاحيات. كما أن هذه الخلة تجعل صاحبها مكروهاً في زمن يُطرح فيه أُسلوب الإدارة الودودة والمحبة. وهي أيضاً تخلق خللاً في التواصل وتحد من الإبداع، كما تجعل صاحبها يجد صعوبة في التراجع عن أخطائه.
الصدق :
الصدق وهو التعبير الدقيق عن الحقيقة بشتى وسائل الإتصال، سواء كانت محكية أو مكتوبة أو بالإشارة أو بالإيماء أو بالعرض، وإظهارها وعدم إخفائها جزئياً أو كلياً. وعندما نقرأ في كتاب إنكليزي عن
honesty
فيكون المقصود " عدم الكذب "
، وهي خاصية شددت عليها جميع الأديان والثقافات، والإسلام من بينها، وقد ورد آيات وأحاديث كثيرة تنهى عن الكذب وتحض على الصدق. وقد كانت هذه الفضيلة تحتل مكاناً رفيعاً في المنظومة القيمية لدى العرب والمسلمين لقرونٍ عديدة، ولكن في زماننا، وخصوصاً في الأوساط الاقتصادية، أصبح الكذب والتفنن به، وسيلةً للتقدم والإرتقاء. بل ساء الوضع فأصبحت الخيارات معدومة بين الكذب والصدق، فلا خيار إلا الأول ؛ وهذا إما لأن الرواية الصادقة لا يشجع عليها أحد ولا يقبلها أحد، أو أن المتكلم سيعد كاذباً في جميع الأحوال.
لقد غرق الكثيرون في مستنقع الكذب الذي تصعب النجاة منه، كما تصعب النجاة معه، فهو يقدم حلولاً مؤقتة، أي يؤجل تفجير العواقب. لقد أصبح الكذب مقبولاً لدى الكثيرين، ولم يعد يُزدرى كما كان في السابق.
إن التغيير الشامل الضروري لتحقيق تنمية ناجحة يجب أن يبدأ بالتشجيع على الصدق وتقبله وافتراضه.
الوفاء بالعهد:
تحتلهذهالقيمة العظيمة مكانةً خاصة في المنظومة القيمية الإسلامية، فهي تقترن بالإيمان وتعتبر من أهم صفات المؤمن. كمل أنها أساساً قيمة عربية أي إرتبطت بأخلاق العرب، فقبل الإسلام، كان العرب، على جاهليتهم، يحافظون على العهود إلى حدٍ كبير. وقصة العربي الذي وعد أن يعود بعد عام إلى الحيرة ليُعدم من قبل ملكها، وحضوره في الموعد تعد نموذجاً لما كان يتخلق به العرب. وهناك قصة طريفة تروى أن حذيفة بن اليمان، الصحابي المعروف، وقع في قبضة قريش . فأطلقوا سراحه بعد أن أخذوا منه تعهداً بعدم حربهم وسر الرسول بعودته سالماً ولكنه إعترض على إشتراكه بمعركة بدر طالباً منه أن يفي بعهده على الرغم من النقص الشديد بعدد المقاتلين.
وهذه الفضيلة لازمت التجار المسلمين الأوائل في ترحالهم إلى الهند والملايو وإندونيسيا في الشرق، وشرق إفريقيا ووسطها وغربها في الغرب. وقد ساعدت على تقبل ما جاء به العرب من دين ولغة وثقافة وأنماط تعامل. وهذا ما ساعد على انتشار دين العرب ولغتهم.
لقد تغير الحال وأصبح التمسك بالوعود والعهود قضية موازين قوى وظروف ومصلحة آنية. وعلى صعيد التجارة والصناعة والنشاط الاقتصادي عموماً فانتشار هذه القيمة يطبع الحياة الاقتصادية بطابعٍ مشوب بالثقة والأريحية والقدرة على التوقع والتخطيط السليم والبعد عن المجازفة. إن هذه القيمة ضرورية لبناء إقتصاد قادر على الصمود أمام التحديات الداخلية والخارجية.
الالتزام بالإتفاقات:
وهذه من القيم العربية القديمة، فهي تعود إلى أيام الجاهلية. فقد كان العرب يظهرون درجة عالية من الإلتزام بنظام تحريم الإقتتال في الأشهر الحرم، وهي أربعة، حيث كان القتال والأخذ بالثأر والغزو يتوقف فيها تماماً. وكانوا يفعلون ذلك بدافع الضرورة، أكثر من ما يكون بدوافع دينية أو قانونية أو خوف من سلطة مركزية. لقد كان الواقع العام يحتم ضرورة وجود نظام كهذا، فقد كان الغزو والسبي والنهب عملية مستمرة. وكانت درجة الالتزام مدهشة، ولم يسجل التاريخ سوى حالات خرق قليلة جداً فبالمائة سنة التي سبقت الإسلام، لا يتعدى عدد هذه الحالات أكثر من ثلاث. وهذه الفضيلة العظيمة تثير الإعجاب فلو تقيدنا بها في معاملاتنا في نشاطاتنا الإقتصادية لأحدثت فرقاً كبيراً.
الحلم :
وهذه إحدى الفضائل التي كان العرب يعتزون بها، ويفاخرون بها الأمم، في الجاهلية والإسلام. وقد اشتهر الكثير من الحلماء بين العرب مثل معاوية بن ابي سفيان والأحنف بن قيس. وقد عُرفوا بقدرتهم على تحمل منتقديهم والتسامح معهم مهما كان الانتقاد قاسياً أو جارحاً. وقد وصف الأحنف الحلم بأن " هو الذل يا ابن أخي، أفتصبر عليه "
لشخصٍ طلب منه أن يعلمه كيف يكون حليماً. وفي الحقيقة أن معظم الخلفاء، عبر العصور المختلفة، إن لم يكن جميعهم، كانوا يظهرون قدراً كبيراً من الحلم. كما لم تقتصر هذه الفضيلة على الخلفاء والحكام، بل كانت من الخصائص الثقافية العربية، يمارسها الجميع، ويتوقعونها، وهذا، ربما، جعل الناس أجرأ في التعبير عن ما يجول بخواطرهم.
وقد إختفت هذه الخاصية القومية في العصر الحاضر إلى درجةٍ كبيرة. ولم يعد هناك ذلك الهامش العريض لتحمل أقوال وتصرفات الآخرين. وقد انحصرت هذه الخاصية، بشكلٍ خاص، لدى الحكام فلم يعد يعرف نماذج مثل معاوية والمأمون وغيرهم إلا القليل.
وفي المجال الاقتصادي هذه الخاصية مطلوب ممارستها وإنتهاجها من قبل المدراء والمسؤولين، الأمر الذي يدعم حالة التواصل بين العاملين وإدارات المؤسسات، كما يعزز الجو الأسري في أوساط المؤسسة، ويقوي الانتماء.
مقابلة الإساءة بالإحسان:
إن مقابلة الإساءة بالإحسان، ليست خاصية بقدر ما هي سلاح أو أداة
tool
تمكن مستخدمها من تحويل الخصوم إلى أصدقاء، ومن تحويل المنتقدين إلى مؤيدين، ومن تحويل السلبيين إلى إيجابيين. وهذا في العموم يترك أثراً طيباً على جميع العاملين ويُكسب القادة إحتراماً عميقاً. كما يعزز الحس بالإنتماء ويحول المشاكسين إلى منضبطين. وقد أشتهر بذلك الكثير من القادة والساسة، وأثبت أنه أُسلوب فعال جداً. على الرغم من أن هذا النهج لا يلبي غريزة حب الإنتقام ومعاقبة المخطئ التي يتصف بها البعض أو الخوف من أن يفسر ذلك على أنه ضعف، ولكن هذه غرائز ونزعات لا ينبغي لقائدٍ أن يتسم بها.
العفو عند المقدرة :
لقد كانت هذه من بين الفضائل التي يعتز بها العرب ويمتاز بها ذوو النفوذ والقوة منهم. وهناك روايات كثيرة عن حكام وأشخاص يمتلكون القدرة على إيقاع القصاص، ولكنهم أسقطوا حقهم وسامحوا رغم قدرتهم على تنفيذ ما يكونون قد توعدوا به من قبل. لقد أصبحت هذه الفضيلة جزءاً من ثقافة خاصة، جعلت إحتمال وقوعها عالياً، الأمر الذي كان يشجع المطلوبين للدولة على تسليم أنفسهم لأحد أركان الدولة، أو لرأسها مباشرةً آملين أن يحصلوا على العفو. وهذه فائدة أخرى لهذه المسلكية بالإضافة إلى حقن الدماء وإحتواء الأضغان.
وفي زماننا يحتاج مدراؤنا القائمون على مؤسساتنا الإقتصادية أن يستعيدوا هذه الخلة، فلا يصرون على تطبيق العقوبات بشكلٍ جامد، وإنما يمارسون بعض التسامح فإن ذلك يترك أثراً كبيراً على الشخص ويجعله اكثر ولاءً وانتماءً.
تقدير الإبداع :
إن تقدير الإبداع ضروري ومهم، فهو يشجع المبدعين ويدفعهم نحو مزيد من الإبداع. وقد كان العرب يقدرون الإبداع أشد تقدير، حكاماً ومحكومين. وكان ذلك قبل الإسلام وبعده. وكان الحكام، خلفاء وملوك وولاة يكافئون المبدعين. على مختلف أنواع إبداعاتهم، سواء كانت أدبية أو علمية أو غير ذلك.
وقد غير الرسول (ص) استراتيجيته بكاملها قبيل معركة بدر بناءً على إقتراح تقدم به أحد المقاتلين. وكان الخلفاء يشجعون المبدعين من شعراء وكتاب ومترجمين ومخترعين ومهندسين على نتاجهم، وكانت المكافئات المالية جزيلة، كما كان الكتاب والعلماء يحظون على وظائف مرموقة في الدولة. وهكذا ترسخ تقليد يتقبل الإبداع والابتكار ويقدره، وقد كانت مكافئة الرسول (ص) لصاحب الفكرة هو قبولها.
كما ترسخ تقليد آخر وهو عدم الحرص على ما سمي فيما بعد ب " الحقوق ". فلم يكن المؤلفون يهتمون كثيراً بأن ينسبوا مؤلفاتهم لأنفسهم بقدر اهتمامهم بتقديم مؤلفهم للمستفيدين المحتملين. فقد كان بعض المؤلفين يؤلفون كتباً وينسبونها إلى غيرهم، على أنها مترجمة. كما أن كثيراً من الأعمال الأدبية لم يعرف كاتبوها، مثل ألف ليلة وليلة، كما أن في الأدب العربي يوجد العشرات من القصائد التي لم يسجل التاريخ أسماء الشعراء الذين ألفوها.
وينطبق الأمر نفسه على الاكتشافات العلمية. فهناك كم هائل من الاكتشافات والابتكارات والإضافات العلمية والصناعية وتلك المتعلقة بالمعاملات التجارية والتعليم والإدارة وغير ذلك. فمعظم النتاج البشري في ما بين القرنين الثامن والخامس عشر ينسب إلى العرب والمسلمين، في عشرات المدن العربية والإسلامية، التي شكلت مراكز للإبداع البشري والممتدة من دلهي إلى غرناطة. ولم يكن هناك حرص شديد على أن يخلد اسم المخترع أو المبتكر، وإلا لكان وصلنا الكثير من أسماء هؤلاء المخترعين.
وعلى عكس ذلك كان الأوربيون، فنحن نعرف مخترع الطباعة والآلة البخارية والدراجة الهوائية على سبيل المثال، بينما لا نعرف مخترع الجلفنة والفولاذ الدمشقي (المشهور) وقماش الموسلين، وهي جميعاً مخترعات عربية.
والحقيقة أن فكرة الحقوق والملكية الفكرية تعتبر معيقاً لتقدم البشرية، وبالتالي فإن النهج الذي كان معمولاً به في الزمن العربي هو أصح وأكثر تقدمية. وقد كان الكتاب يكتبون كتباً تكمل كتباً كان آخرون قد كتبوها قبل جيل أو جيلين في نفس الموضوع. وكان ذلك يغني الفكر الإنساني وينوعه.
وفي العموم يقدر الغربيون الإبداع تقديراً كبيراً، كما أنهم يميزونه لدى ظهوره (مهما كان طفيفاً ) ، ويشجعونه ويرعونه، وهم على هذا الحال لثلاثة أو أربعة قرون منذ جاليليو. أما واقعنا المعاصر، فهو مناقض للواقع الغربي ومناقض لما كنا عليه في السابق. فنحن، أو أكثرنا، يقابل الإبداع بالتجاهل أو بالحسد ويبذل كثيرون جهداً لأن يثبتوا أن الفكرة المطروحة ليست مبتكرة وإنما مقتبسة ومنقولة ومكررة. كما لا يساعد الكثيرون منا على الإستفادة من الفكرة، أي الى ترجمة الإبداع الى شيء مفيد وعملي. وما رد الفعل التلقائي لنكتة مبتكرة ووصفها بأنها " قديمة " إلا تعامل سلبي مع حالة إبداعية إنتشر في ثقافتنا.
لقد كان نيلز بوهر (أو بور، كما يلفظ الإسم) يقول: عندما تظهر الافكار الجديدة تبدو مشوشة وغريبة. وتكون مفهومة بنسبة 50% لصاحبها، وتبقى لغزاً بالنسبة للآخرين. فما لم تكن الفكرة غريبة فلا أمل منها
. هذا ما كان يقوله شخص بقدرات بوهر الإبداعية عن الإبداع.
إن الأفكار الجديدة التي تنمو في رحم فكرة غريبة، بل مستهجنة أحياناً، لا تصدر دائماً عن مفكرين أو مخترعين محترفين، وإنما عن ممارسين عاديين، ولكن بحاجة إلى من يلتقطها، في مرحلة المخاض، وأن ينميها ويشذبها بالتشجيع والدعم وتوفير الأجواء الملائمة، وقد يكون هذا على يد المدير أو زميل في العمل أو على يد المجتمع، الذي تتفشى في أوساطه ثقافة تشجيع الإبداع ودعمه وتقديره.
يعتقد الكثيرون أن الأمة توقفت عن إنجاب المبدعين، وهذا غير صحيح، كما أنه غير ممكن، فالمبدعون المحتملون يولدون يومياً، ولكنا نأدهم أطفالاً ونقمعهم شباباً بالثقافة السلبية التي تشربناها عبر عصور الانحطاط، والمملوئة حسداً تجاه الآخرين بيننا، ودونية تجاه الآخرين في العالم الأكثر تقدماً، والعمى عن ملاحظة الابتكار، والعجز عن استثمار الجديد المبدع. لم نكن كذلك فتخلفنا، نحاول أن نتعلم من الغرب ولا يبدو أننا نحرز تقدما.
وهنا مثال آخر للتخلي عن الموروث والفشل في الاقتباس عن الغير.
تقبل الاختلاف:
هذه خاصية شرقية (آسيوية) بشكلٍ عام، وما يعطي هذه الفضيلة ألَقها الخاص، هو النقيض الأوروبي الرافض، تاريخياً، للاختلاف.
وقد كان العرب لا يكترثون لاختلاف الأفكار أو المعتقدات الدينية، فلم يسجل التاريخ أي حرب أو اقتتال لأسباب دينية، بإستثناء حادث الأخدود. وبعد الإسلام إستمر العرب، بعد إسلامهم بتحمل الاختلاف الديني والمذهبي والسياسي. وقد كانت هذه الممارسات معروفة عن الحكام وعن عامة الناس.
ولم يعد لهذه القيمة وجود يذكر في ثقافتنا المعاصرة. فعلى صعيد المؤسسات، الخاصة والعامة، لا يتقبل معظم المدراء الإختلاف. ويحقدون على متبنيه. بل يلجأون إلى أساليب مختلفة لمعاقبته. ويعتبرون طرح رأي مخالف إهانة لهم، ويتصرفون بناء على ذلك. فهم يشخصنون الإختلاف. ولا يميلون إلى نسيان هذه المواقف. ففي مجتمعاتنا التي تشق طريقاً ديموقراطياً، وبدأت بممارسة نوع من الإنتخابات، ينقسم المجتمع على نفسه في كل مرة تجري إنتخابات لا تنمحي آثارها حتى يأتي موعد الإنتخابات التالية فتحل أحقاد جديدة محل أحقاد قديمة.
إن عدم تحمل الإختلاف تجعل الطرف الأضعف لا يجرؤ على التعبير ويحجب الآراء المزعجة مهما كانت مهمة كمعلومات. فقد حدث في سبعينيات القرن السابق في الهند أن أعلنت حالة الطوارئ، وعلا نجم سانجي غاندي ابن رئيسة الوزراء آنذاك السيدة إنديرا غاندي، الذي لم يكن سياسياً منتخباً، ولكنه أصبح ثاني أقوى شخص في الهند. وعندما حل موعد الانتخابات للمرة الثانية بعد تأجيل سنة، طلب سانجي من مدير أحد أجهزة المعلومات التي تديرها الحكومة الهندية دراسة النتائج المحتملة لانتخابات في حال تنظيمها، فكانت نتيجة الدراسة أن الحزب سيخسر. فقام سانجي بتوبيخ المدير وطلب منه إعادة الدراسة. ولم تكن المحاولة الثانية تختلف في نتيجتها أو في رد الفعل عليها عن الأولى. ولكن الثالثة كانت كما يريد سانجي، فقد أعد مدير المركز تقريراً ذكر فيه أن نتيجة الانتخابات القادمة ستكون في صالح الحزب الحاكم، الأمر الذي جعل سانجي سعيداً، وتم بناءً على ذلك تحديد موعد للإنتخابات. حيث كانت نتائجها كما توقع المركز في دراسته الأولى. وما حصل في الهند ذات التقاليد الديمقراطية بشكل عارض يحدث يومياً في معظم بلداننا العربية التي لا يوجد بها حرية تعبير ولا تسمح للرأي المزعج والمخالف أن يُسمع. هذه هي القاعدة لدينا، وقد ترسخ هذا النهج في ثقافتنا، فأصبح الأب والمدير والأستاذ والوزير والزعيم لا يحتملون الاختلاف. لقد تحولنا من النقيض إلى النقيض، وما أحوجنا إلى إستعادة قيمة هامة لم تكن غريبة علينا يوماً.
توخي الدقة :
لم يعد للدقة مكان في تعاملاتنا. فقد أصبحنا أُمة تقبل بالتقريب وأشباه الحقائق وتتكاسل في تحري دقة المعلومات عند نقلها. فهل كان هذا شأن العرب دائماً؟. والواقع أن العرب كانوا عكس ذلك تماماً. فقد نشأ لدى العرب علمٌ جديد في نهاية القرن الهجري الأول، هو علم الحديث. وتطور مع هذا العلم أسلوب تدقيق فعال لا يقبل الخطأ. فقد إعتمد الجمع على النقل والإسناد، فأخذ جامعو الحديث بتدقيق سلسلة الناقلين واحداً واحداً من ناحية صدقهم وقدرتهم على الحفظ وضمان إتصال أحدهم بالآخر ومعاصرة آخرهم للرسول (ص) وتواجده في المناسبة التي قيل فيها الحديث. وقد ترك لنا المؤرخون روايات عن هؤلاء المحدثون، وكيف كانوا يعملون. فقد ذكروا رواية عن راوٍ سافر من العراق إلى الحجاز ليروي حديثاً عن شخصٍ معين سمع عنه. فلما وصل مكان إقامته وسأل عنه وجده يعمل على الإمساك بحصانٍ هارب ممسكاً بطرف ثوبه داعياً الحصان ليأكل منه. ولما إقترب الحصان ليضع رأسه في الثوب ليأكل أمسك الرجل به وترك ثوبه الذي لم يكن يحتوي على طعام. فما كان للمحدث إلا أن أحجم عن سؤاله عن الحديث قائلاً له أن من يخدع حيواناً يمكن أن يكذب، وبالتالي فهو ليس بأهلٍ للرواية. ومن يقرأ كتب تحقيق الحديث يرى نمطاً علمياً مثيراً للإعجاب. وقد انعكس ذلك لاحقاً على البحث العلمي وعلى الكتابة والتأريخ.
الثبات:
وهو إتساق الأعمال والأقوال مع بعضها البعض بمعزل عن الزمان والحالة النفسية والوضع العام. وهذه صفة يفقدها كثيرٌ من مدرائنا ومسؤولينا والقائمين على مؤسساتنا الإقتصادية والتعليمية والحزبية وغيرها. فتجد التقلب الناجم عن مزاجية وإنتهازية وغياب كامل للمؤسسية، هو القاعدة. وقد كان العرب والمسلمون يتمسكون بمواقفهم لأنها نابعة من مبادئ لا يحيدون عنها، ويمارسون ما أُشتهروا به من ممارسات إيجابية على الدوام. فقصة الرجل الذي أعطى أعرابياً مبلغاً ضخماً، فقال له رفيقه أن الأعرابي لا يعرفه ويكفيه مبلغ زهيد، فكان رده أنه يعرف نفسه.
إن الثبات خاصية يجب أن يتصف بها المسؤولون جميعاً بمختلف مواقعهم ومراتبهم واختصاصاتهم، فيتصرفون حسب سياسات ثابتة وليس حسب الحالة المزاجية. وبغياب الثبات تأخذ الإدارة نسقاً غير علمي وبعيداً عن الموضوعية يستحيل معها التخطيط وتوقع النتائج على المديين القريب والمتوسط يصبح أمراً عسيراً، أما التخطيط البعيد المدى فهو مضيعة للوقت.
إن الشخص المتقلب غير الثابت في أفكاره وقراراته وردود فعله وأسلوب عمله لا يرتاح الناس في العمل معه، فقد يجد نفسه معزولاً. كما أن الذين يضطرون للتعامل معه يتخذون من الاحتياطات ما يجعل الأمر غير مريح له شخصياً.
إن هيمنة حالة الثبات والاتساق شرط أساسي لبناء ثقافة في المؤسسة، من خلال مراكمة ممارسات وتنمية تقاليد وترسيخ مبادئ غير متناقضة ومتجانسة بحيث تتفاعل وتتطور وتنتشر لتصبح ثقافة تعطي المؤسسة هويتها.
كما أنه لا يمكن بناء نظام مؤسسي قائم على نظم وتعليمات وأساليب عمل ثابتة ولا تتغير بناء على مزاجية مدير أو حدث طارئ يجعله يعيد النظر ببعض النظم المعمول بها..
العدل:
إن العدل من أهم القيم والفضائل التي حضت عليها الأديان جميعاً. وقد مارس العرب العدل بشكلٍ مثير للإعجاب. وقد أشتهر قضاة في العصرين الأموي والعباسي فرضوا العدل بدون خوف أو وجل، كما كان عمر وعلي قضاة مثل ما كانوا خلفاء. وكان العدل السمة السائدة عموماً للحكام والولاة. وقد جلس خلفاء مثل الوليد بن عبدالملك للتحاكم أمام قضاة كمواطنين عاديين.
إن ممارسة العدل والبعد عن الظلم في أوساط المؤسسات الإقتصادية ضرورة أساسية، سواء بمعاملة جميع العاملين حسب الأسس الموضوعية ذاتها، سواء بالترفيع أو بالتعويض المادي وغير ذلك.
وعلى العكس من ذلك فإن معاملة العاملين بطريقة لا تتسم بالمساواة والعدل، تخلق حالة من الإحباط تتراجع معها الدافعية ويضعف بسببها الإنتماء.
والإنصاف مطلوب في التعامل مع الزبائن والموردين من أجل إقامة علاقة ترتقي إلى شراكة تضمن إستمرارية العلاقة القائمة على جودة السلعة والخدمة.
البعد عن الفساد :
من اكبر التحديات التي تواجه برامج التنمية في دول العالم الثالث هو الفساد. والفساد بأنواعه حاربه الإسلام. وقد إبتعد معظم الخلفاء عن الفساد، وإن تعامل الكثيرون منهم في مراحل متأخرة، مع أموال الدولة على أنها أموالهم.
إن إبعاد الفساد ومحاربته في حياتنا الإقتصادية شرط أساسي لتحقيق تقدم. إن الشركة التي يعشش فيها الفساد لا يمكن أن تكون ناجحة بأية مقاييس، وخصوصاً إذا كانت إدارتها العليا تشارك في ذلك. إن مؤسسة يمارس فيها بعض أشكال الفساد لا يمكن أن تستمر. وبالتالي يجب عدم المساومة في محاربة الفساد وعدم القبول بأدنى أشكاله وأقلها ضرراً.
احترام الوقت :
لم تكن وسائل قياس الوقت قد تطورت وإنتشرت في القرون الوسطى كما هي اليوم، وبالتالي فإن المقارنة الشاملة للموقف من الوقت بين أبناء العصرين غير منصفة. ولكن في التراث العربي والإسلامي الكثير من المؤشرات التي تحض على إحترام الوقت. فهناك المقولة المشهورة " الوقت كالسيف إذا لم تقطعه قطعك "، وهذا يدل على فهم صحيح للوقت كمورد فهو لا ينتظر ولا يتباطئ ليلبي إحتياجات شخصٍ معين أو قدراته أو ظروفه، فهو قد يكون في صفك إذا أحسنت التعامل معه، كما يمكن أن يتحول إلى خصم إذا أسأت إستخدامه.
وكذلك " لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد "، الذي يتضمن حكمة أزلية باقية. وهو قاعدة يقوم عليها التخطيط التكتيكي في المؤسسات الصناعية، وغيرها من المؤسسات الاقتصادية، القائم على تجزيء العمل على أساس أُطر زمنية، بحيث ينفذ كل جزء في وقت محدد.
وفي الشرع الإسلامي هناك تركيز قوي على العلاقة بين الإنسان والوقت. فالصلوات الخمس، وتوزيعها على النهار بطوله ؛ منذ الفجر إلى ما بعد الغروب، والتأكيد على القيام بها في موعدها، وتم التأكيد على " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً "
وهذا التأكيد له مغزاه. فالمسلم الملتزم بالصلاة في مواعيدها، قلما يحتاج إلى ساعة لتذكيره بالوقت، كما أن، وهذا الأهم، يصبح إحساسه بالوقت قوي، أو على الأقل يُفترض ذلك.
كما ان مواقيت بداية الأشهر القمرية ومن بينها رمضان وذو الحجة تعزز هذا الحس بالوقت على صعيد الشهر والسنة.
وقد كان لهذا تأثير على ممارسات العرب في حياتهم اليومية، وعلى علاقتهم مع الوقت، في سياق إيقاع حياة ابسط مما هو سائد في زماننا، ووسائل قياس الوقت الأقل دقة. فقد كانوا يحترمون المواعيد وكانوا يتقيدون بها، وكانوا ينظمون أيامهم وأسابيعهم وأشهرهم بشكلٍ بناء وفعال يمكنهم من القيام بأعمالهم بصورة مرضية إلى حدٍ بعيد. والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما في زمن التردي، فلم يعد للوقت قيمة في نظر أكثرنا، ولم تعد العلاقة بالوقت قائمة على الاحترام. كما أن الحس بالوقت أصبح ضعيفاً والقدرة على تنظيمه غير فعالة. لقد تفشت ثقافة غير منسجمة مع الوقت كمورد ولا تسعى للتصالح معه. فأصبح من السهل تأجيل عمل اليوم إلى غد، وبعد غد. وأصبح أفراد يتواعدون على لقاء، ويحددون الوقت بشكل مطاط ؛ مثل بعد العصر أو بين المغرب والعشاء أو غير ذلك. ورغم هذه المطاطية تجد التقيد بهذا الموعد ضعيف الأمر الذي يدل على عدم إحترام الوقت وتقديره.
احترام الآخرين:
إن احترام الآخرين وتقديرهم خلقٌ وممارسة حميدة. وقد كانت سائدة لدى العرب في غالبيتهم، فلم يكونوا يستصغرون الآخرين ولم يكونوا يتعالون على بعض، بل كانوا إذا تكلموا إختاروا الألفاظ اللائقة، وإذا تكلم الآخرون أصغوا إليهم باهتمام، وكان الإحترام يظهر على كافة تصرفاتهم سواء كانوا في موضع طلب حاجة أو إعطائها، أو تقديم النصح أو تلقيه، وعند السؤال وعند الإجابة، وبعد الإسلام تخلص العرب من كثيرٍ من جلافة الصحراء التي كانت تطبع كلامهم وتصرفاتهم، وأصبحوا يفاخرون بآدابهم وانماطهم السلوكية. وقد يبدو ذلك مبالغاً، كما أرجو أن لا يُفهم على أنه ضرب من الشوفينية والحس القومي المبالغ فيه، ولكن عُرف عن العرب إحترامهم لأعدائهم.
وفي زماننا يعتبر التعامل الفظ الخالي من الاحترام في أوساط مجتمعاتنا الاقتصادية إحدى أهم المشاكل التي تواجه عملية التنمية. فسوء المعاملة يعتبر من بين الأسباب التي تجعل الكثير من الشباب يفضلون المكوث في البيت على العمل. كما يتسبب سوء المعاملة في زيادة الإستقالات، أي إرتفاع نسبة التدوير. ولا يمكن بناء مؤسسات صناعية وتجارية وخدمية وغيرها على هذا النوع من العلاقات. والذين ينتهجون أسلوب الصراخ وتوجيه الإهانات لمرؤوسيهم، وهو أمرٌ شائع بصورةٍ كبيرة، إنما يوجهون دعوةً لتراجع الانتماء وتقليص الإخلاص وقتل الإبداع والمبادرة لدى هؤلاء المرؤوسين.
وعلى عكس ذلك فإن التعامل القائم على الاحترام وتقدير النفس البشرية، بغض النظر عن الموقع الوظيفي والعمر والجنس، يخلق أجواءً إيجابية تولد في رحمها ثقافة تقدمية وبناءة.
الجلد :
إن الجلد خاصية جسمانية وذهنية. وتنم عن قدرة تحمل لفترةٍ زمنية طويلة. وفي زماننا نسمع من كثيرٍ من العاملين بمواقع مختلفة أن العمل متعب، وقد يترك بعضهم العمل لهذا السبب. ومقارنة هذا الجيل مع الأجيال السابقة، نجد أن أبناء هذا الجيل يشكون من عمل لا يعتبر شاقاً إذا ما قورن مع الجهد الذي كان أجدادنا وجداتنا يبذلونه في الحقول في مواسم الحصاد وحراثة الأرض والعناية بالأشجار المثمرة. وكيف كانوا ينتقلون إلى هذه الحقول التي قد تكون بعيدة عن مكان السكن في القرية والعمل فيها لساعات طويلة.
يجب إعتبار هذه الشكوى عيباً من شاب في مقتبل العمر، لقد كانت الأجيال السابقة تعيب مثل هذه الشكوى، وتعتبرها ضرباً من ضروب الميوعة. كما يجب تشجيع الشباب على تحمل العمل الشاق في سبيل تعلم مهنة وبناء أسرة.
التكافل :
هذه فضيلة يتصف بها مجتمع بكاملة وليس فرداً أو أفراداً محدودي العدد. وقد كانت المجتمعات الإسلامية متكافلة في طبيعتها، وهذا ما حض علية الإسلام. ولم تختف هذه الخاصية من المجتمعات الإسلامية، وإنما تراجع إيقاعها وتأثيرها في عهود التراجع السياسي والإقتصادي التي عانت منها الأمة لقرون.
وهذه فضيلة تناسب أي مجتمع، بما في ذلك مجتمعات الموظفين في الشركات والمؤسسات والدوائر الحكومية. والتكافل ممارسة لا يمانعها أحد، فبطبيعتهم يسعد بنو البشر بالإنتماء إلى جماعة، وبوجوده ضمن دائرة من المهتمين. وهي عبارة عن أخذ وعطاء، لا يشترط أن يتساويا حسابياً، كما لا ينبغي أن ينظر إلى المعادلة من هذه الزاوية، فالفرد يعطي ويعطي لشهور ولسنين ربما، دون أن يأخذ، ولكن في احد الأيام ربما يأخذ أكثر مما أعطى طوال السنين. وهذا ينطبق على العطاء المعنوي مثلما ينطبق على العطاء المادي.
إن وجود التكافل في مؤسسةٍ ما، كنهجٍ عام، يزيد من إحساس الموظفين بالأمان ويعمق انتماءهم ويقلل من نسبة الاستقالات فيها. وقد تنشأ حالة التكافل بمبادرة من الموظفين أو من إدارة المؤسسة، التي يمكن أن تعطي شكلاً مؤسسياً لهذه العلاقة وتديمها وتعززها.
الحياء :
يتمتع أبناء القرى بخلقٍ خاصٍ بهم نابع من إمتناعهم عن القيام بأعمال تسيء إلى سمعة قراهم وللعائلات التي ينتمون إليها في هذه القرى. هذا الدافع الفطري المتوارث يشكل رادعاً قوياً طالما كان دعامةً لمنظومتنا الخلقية طوال قرون. فالقرى عادةً ما تتكون من عدة عشائر، وحتى لو كانت مقطونة من قبل عشيرة واحدة فإن هذه العشيرة تتكون بدورها من بطون وأفخاذ. وهذه التكوينات السكانية سواء كانت عشائر أو حمائل أو بطون تقف من بعضها البعض موقف المنافسة الدائمة، على الرغم من علاقة الجوار والمصاهرة الحتميتين، وهذا مستمر منذ تأسيس هذه التشكيلات الإجتماعية. وهذه المنافسة في الغالب توظف إيجابياً. فتخلق لدى أبناء القرية الحرص على عدم التصرف بطريقةٍ تُسيء للتشكيل الاجتماعي الذي ينتمون إليه، سواء كان عشيرة أو بطن من عشيرة أو القرية ككل عندما يكونون خارجها. فهناك قوة كابحة تحد من التصرفات غير المقبولة إجتماعياً، إنه نوعٌ من الحياء. وفي زماننا ذابت الفروقات بين القرية والمدينة، ولم يعد لهذه القوة الكابحة الكثير من التأثير.
أليست خسارة كبيرة أن يخسر مجتمعنا هذه القوة المقومة التي تعمل بفعالية عالية. ولكن هل يستطيع أحد أن يعيد عجلة الزمن إلى الوراء. لا أحد، وليس هذا هو المطلوب. ولكن بإمكان المؤسسات الكبرى الحريصة على سمعتها وعلى سمعة منتجاتها أن تخلق هذا الحرص لدى العاملين فيها بجعلهم لا يجازفون بتعريض سمعة مؤسستهم للمخاطر من خلال إنتاج منتجات متدنية الجودة أو تقديم خدمات دون المستوى المقبول أو التصرف بصورةٍ غير مقبولة. وهذا ممكن بتحقيق درجة عالية من الرضى لدى العاملين وتوعيتهم وتوجيههم بهذا الاتجاه.
لقد تكلمنا عن رضى العاملين في كتاب " ثقافة الجودة الشاملة " والعوامل التي تحققها من مادية ومعنوية وأمان وظيفي وتأمين صحي. في مؤسسة يشعر موظفوها بالأمان يحرصون أشد الحرص على سمعتها ومكانتها، خصوصاً إذا ما خضعوا لبرنامج توجيهي يعمق هذا الحرص، قد يتضمن مرافقة العاملين في الإنتاج لفريق التسويق في جولاتهم، أو التواجد في المعارض التي تبيع منتجات المؤسسة لرصد ردود فعل الزبائن وتحسس ردود فعلهم.
الفزعة :
لقد تطرقت إلى الفزعة في كتابي السابقين " قادة لا مدراء " و" ثقافة الجودة الشاملة "، ولا أجد مناصاً من التطرق إليها هنا، محكوماً بالسياق، كنهج ومسلكية بدأت بالإختفاء. وأدعو إلى الإستفادة من " النخوة " المتوطنة في ذهنيتنا لمأسسة الفزعة والإستفادة منها في مؤسساتنا الصناعية والإنشائية والزراعية، مع بذل التعويض المادي والمعنوي المناسبين للفزيعة.
التعاضد :
تعتبر الرابطة القبلية المتسمة بالتعاضد بين أفراد القبيلة رابطة قوية وغير محدودة. وقد استفاد الإسلام من هذه الرابطة في الفتوحات، على الرغم من نبذ الدين الإسلامي للعصبية القبلية. فلماذا لا تسعى المؤسسات التي تسعى إلى خلق جو أسري في أوساطها وإشاعة ثقافة تقدمية فيها أن تقتدي بالقبيلة وتشيع حالة من التعاضد بين العاملين فيها مما يعزز الحس الأسري بينهم ويعمق روح الفريق، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على الإنتاجية والأداء العام.
وعن كيفية عمل ذلك، أود أن أقول أننا هنا نتعلم من أنفسنا، فنحن، جميعنا، قبليون بطبيعتنا. لندع المؤسسة تأخذ دور القبيلة في حماية أبنائها، فقد كانت، بل ولا تزال، تلعب دور الشرطة والقضاء والتأمين الصحي والتأمين على الحياة والتأمين على الممتلكات والبنك، كما كانت مصدر الأمان والملجأ عند الحاجة. فلتصبح مؤسساتنا كذلك. فشخص يمضي عمره في خدمة المؤسسة التي يعمل بها يستحق أكثر من الراتب في مقابل انتمائه إليها وتفانيه في خدمتها، فلماذا لا تقف مؤسسته بجانبه في حال مرض والده أو تعرضت سيارته لحادث أو تعرضه لاعتداء إلخ.. لماذا على هذا الموظف اللجوء إلى أحدٍ خارج المؤسسة، وهي بيته الثاني، الذي يمضي فيه معظم نهاره كل يوم، لماذا يلجأ إلى أقاربه، الذين يحتك معهم أقل بكثير مما يحتك مع زملائه، لماذا لا تقف مؤسسته والعاملين فيها معه، فهناك قواسم مصلحية مشتركة.
وأعتقد أنه لا داعي لأن نستعرض مزايا هذا الوضع وفوائده. فتفاني العاملين لن يكون له مثيل، وسيخلق ذلك جواً أُسرياً ينعكس إيجاباً على نتائج المؤسسة.
القائد المعلم:
في فصلٍ آخر من هذا الكتاب تحدثنا عن التحول، التحول في الشخصية العامة للمؤسسة، في ثقافتها وأساليب عملها ومسلكيات العاملين بها، وهذا يأتي من خلال دور المدير في تعليم وتوعية العاملين معه في المؤسسة وتثقيفهم ميدانياً، بحيث يلعب دور المدرب والمعلم، فيصبح قائداً معلماً
coach leader
. وهذا أمرٌ غير مستغرب عن تراثنا القديم ؛ فقد كان الرسول (ص) معلماً نموذجياً لصحابته، وكان يمارس القيادة باسلوبٍ تعليمي بنيوي خلق جيلاً من القادة المعلمين بدورهم. وكذلك كان الخلفاء الراشدون، ومعظم خلفاء بني أمية وكثير من خلفاء العباسيين، ومن أبرزهم الخليفة المأمون الذي كان مدرسة.
وإستمر هذا النهج فتكرس مفهوم المسؤول المعلم، لدرجة أصبح يسمى " معلم ".
وفي زماننا لا يفضل غالبية مدرائنا موظفين من غير ذوي الخبرة. فتجد جميع الشركات تعلن عن الحاجة إلى " محاسب بخبرة ثلاث سنوات في إحتساب التكاليف " أو.. " مهندس صناعي بخبرة خمس سنوات في مجال موازنة خطوط الإنتاج ". فلا يريدون أن يبذلوا جهداً في تدريب خريجين جدد مثلاً، أو إعادة تدريب أشخاص من خلفيات مختلفة. وهذا، في الواقع، إن جاز في الغرب، لا يجوز في العالم الثالث، حيث يوجد واجبات على القطاع الخاص تجاه المجتمع، من بينها تأهيل كفاءات من بين خريجين الجامعات والمعاهد.
كما أن التعليم لا يقتصر على الموظفين الجدد، بل يجب أن يكون عملية مستمرة في المؤسسات ذات التفكير التقدمي. بتراكم المعارف وتعزيز مفاهيم قائمة وتوسيع ثقافة ومدارك العاملين وتشبيعهم بثقافة المؤسسة. وأفضل من يقوم بذلك هو المدير والقائد، فتأثيره أكبر من مدربٍ من الخارج.
القائد الأب:
لقد كانت العلاقة التي تربط القائد برعيته، لدى العرب وغيرهم قديماً، تتسم بالأُبوة. وقد ترسخ هذا الربط من نمط القيادة القبلية. فقد كان شيوخ القبائل العربية يتعاملون مع أبناء قبيلتهم وكأنهم أبناؤهم، من ناحية العطف والحماية ونصح الصغير والإستماع إلى الكبير. وهذه العلاقة الأبوية
patriarchal
صبغت القيادة الشرقية بهذه الصفة لقرون طويلة.
وقد اختفت هذه الخاصية من نمط القيادة العربي مع الوقت، وفُقدت في زمنٍ كان هناك محاولات للتعلم من الغرب، ومثلما حدث في مناحي عديدة من حياتنا الإقتصادية والثقافية؛ فقد تم التخلص من النمط القديم قبل تبني نمط حديث مستورد لتجربته وتطبيقه.
لماذا لا نستعيد هذه اللمسة الإنسانية لأساليب القيادة المتبعة في حياتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها ؟. وخاصةً أن معلمينا في الغرب بدؤوا يتحولون إلى أنماط أرحم في الإدارة ويتكلم بعضهم عن " الإدارة الودودة "
compassionate management
.
إن الإدارة الإنسانية إرثٌ شرقيٌ قديم فلماذا لا تتحول العلاقات في مؤسساتنا إلى علاقات ود وتعاون، فتُرسخ قيم إيجابية كثيرة وتساعد على تفجير الطاقات الإبداعية لدى شباب كانوا بحاجة إلى سندٍ ووجدوه في المدير القائد الأب.
الاعتزاز بالمهنة:
لم يكن العرب مهنيين بطبيعتهم، باستثناء أهل اليمن. وخلال القرون الهجرية الأولى تغير مفهوم العروبة وتبدل الموقف من المهن، فقد تعربت شعوب كثيرة في بلاد الشام والعراق ومصر وأصبح الكثيرون يعملون بمهن مختلفة.
وقد كان اصحاب المهن، في العالم القديم أجمع، يعتزون بمهنهم. فكانوا يسمون بها، ويشكلون مجتمعاتهم الخاصة بهم، ويتزاوجون فيما بينهم، ويطيعون " شيخ الكار "، الذي يفصل في النزاعات فيما بينهم و بينهم وبين زبائنهم ومورديهم. وقد كان إعتزازهم بالمهنة ينعكس، بالدرجة الأولى، على جودة عملهم ومنتجاتهم. وقد كان فخر أصحاب المهن بمهنيتهم هو الضامن الأكبر للجودة لغاية الثورة الصناعية.
وقد تلاشى إعتزاز المهنيين بمهنهم، بمختلف أنحاء العالم، بسبب تغير أساليب الإنتاج التي جاءت مع الثورة الصناعية، فقد اختفت علاقة المهني بالمنتج، فلم يعد يقوم بإنتاج القطعة بالكامل، فالعامل يساهم بإنتاج مرحلة واحدة من مراحل عديدة في الانتاج، وبالتالي فلا يوجد صلة عاطفية بين العامل وإنتاجه.
لقد خسرت الصناعة هذه العلاقة التي كانت دافعاً قوياً لاهتمام المهنيين بجودة منتجاتهم. وبالمقارنة مع واقع الصناعة اليوم، فإن الضمانات التي يفترض أن تضمن الجودة والمتمثلة بنظم وتعليمات وفاحصين يقومون بعملهم في محطات مختلفة على طول خط الإنتاج وفق نظم متفق عليها مسبقاً، هذه الضمانات جميعاً اقل تأثيراً من ضمانة العامل النابعة من اعتزازه بعمله ومهنته وفخره بها.
لهذا، ومن أجل جودة أفضل، ومن أجل إيجاد علاقات أفضل في أوساط المصانع والمشاغل، يجب العمل على استعادة إعتزاز العامل بعمله. وذلك من خلال التوعية والتثقيف، وكذلك من خلال بعض الإجراءات التي تقوي علاقة العامل بالمُنْتَج مثل إطلاعه على آراء الزبائن وملاحظاتهم بحيث يفخر العمال بإنتاجهم كفريق وبالتالي يحرصون على المحافظة على جودته عالية.
الموقف الأخلاقي من الجودة :
في العصور القديمة كان العمال يعتزون بما تنتج أيديهم، والأكثر من ذلك كانوا يعتقدون أنه من العيب إنتاج او تسويق سلع سيئة الجودة. وهذا كان يدفعهم باستمرار للحفاظ على مستويات جودة عالية. فكان هناك دافع ذاتي لإنتاج جودة عالية. وهذا ما جعل الصناعة تستمر قرون طويلة منذ فجر التاريخ إلى بداية الثورة الصناعية بتحقيق مستويات جودة عالية. فقد أشتهر بعض الأقاليم أو المدن ببعض السلع ذات الجودة العالية التي كانت تصدر إلى أقطارٍ بعيدة. فقد أشتهرت الصين بالسلع الخزفية التي حملت ولا تزال تحمل اسمها، وقد كانت تصدر إلى جميع مدن العالم القديم، بنفس الجودة. وأشتهرت فارس بصناعة السجاد، وكانت تصدر إلى الشرق والغرب بجودة عالية جداً. كما أشتهرت مصر بنوع من الملابس المسماة بالقباطي وكانت تصدر إلى دول كثيرة بجودة عالية، كما كانت مصر تصدر ورق البردى إلى إن اخترع الصينيون الورق وإنتشرت صناعته في مدن عربية عديدة وأشتهرت به، كما أشتهرت بعض المدن العربية بالسكر وأخرى بالجلود والصناعات الجلدية. لقد كانت الجودة المتدنية تعتبر قضية أخلاقية، لا يقبل بها الصانع ورب العمل والصانعون المنافسون (حرصاً على السمعة العامة) والتاجر الناقل وحاكم الإقليم، بل وربما مجتمع المدينة بأسره. وكانت هذه الرقابة الذاتية ذات فعالية عالية.
بالإمكان استعادة هذه الرقابة الذاتية، التي اختفت في زمن الإنتاج بالجملة، باستعادة البعد الأخلاقي للجودة، وذلك من خلال التوعية والتوجيه، وتعميق الحرص على سمعة المصنع والبلاد بتقوية الإنتماء وتعزيز الحس الوطني.
البعد البيئي:
لم تصبح البيئة تشكل قضية تشغل وسائل الإعلام ويتظاهر من أجلها الآلاف، وبهذا القدر من الأهمية إلا في الخمسين سنة الماضية. ومع هذا فيوجد في تراثنا الإسلامي دلائل تشير إلى إهتمام مبكر في البيئة يعود إلى زمن الرسول (ص). فقد حرم الرسول قطع بعض الأنواع من الأشجار والنباتات في منطقة مكة. كما أن تحريم الصيد في منطقة الحرم يعتبر دعوة للحفاظ على الثروة الحيوانية البرية، ودعوة لتفهم ضرورة عدم الإسراف في صيدها في مناطق أخرى. كما أن إتفاق الرسول (ص) مع أهل الطائف، حين قدموا عليه ليسلموا، تضمن ما يمكن أن نطلق عليه أول محمية طبيعية في التاريخ، حيث منع صيد وقطع أشجار منطقة قرب الطائف إسمها " وج "
.
وهذا حافز قوي لأجيالنا لأن تتملك حساً بيئياً، بالحفاظ على الغطاء الأخضر، والحرص على عدم الإضرار بالمخزون المائي الجوفي وبعدم التخلص من المخلفات الصناعية الصلبة والسائلة بطريقةٍ خاطئة، وتجنب تلويث الهواء وغير ذلك.
نتناول الصناعة كأحد النشاطات الإقتصادية، والتي يمكن أن تكون تجارة أو خدمات أو إنشاءات أو زراعة أو غير ذلك، كمثال للعلاقة مع المجتمع المحيط وما ينبغي أن تكون عليه.
ولدت الصناعة في فجر التاريخ، في رحم المجتمع. فقد خطى الإنسان خطاه الأولى في الصناعة لخدمة المجتمع وقد مارسها في مكان سكنه، وقد كان الصانع فرد من أفراد المجتمع وكانت صناعاته الاولى قائمة على إبداعات جاءت لتلبية حاجات مجتمعه.
لقد سبقت الصناعة أنماط الإنتاج الأخرى في الظهور، فقد سبقت الزراعة وتربية المواشي والبناء. فأغلب الظن أن أول ما قام الإنسان بصناعته هو رأس حربة إستخدمها في الصيد أولاً ثم في صراعه مع أخيه الإنسان لاحقاً. وقد كان ذلك قبل أن يعرف الإنسان تدجين الحيوانات والزراعة وفن البناء.
وقد فعل ذلك في مكان سكنه، الذي غالباً ما كان ذلك كهفاً. وضمن تجمع سكاني محدد. بدأ الإنسان بصناعة أدواته بنفسه، ولكن بعد إكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات وتعلم البناء وصناعة الألبسة، إتسعت إحتياجات المجتمع إلى مزيد من السلع المصنعة ؛ من أدوات زراعية ولوازم تربية المواشي ومعدات بناء وآلات الغزل والنسيج والخياطة على بدائيتها، وكذلك أواني لحفظ المنتجات الزراعية وإستخلاص مواد قابلة للإستعمال من منتجات زراعية مثل الدقيق والزيت وغيرها. وجاء مع هذا التوسع تقسيم عمل واسع النطاق. فأصبح الصناع لا يمتهنون الزراعة، وكذلك البناؤون لا يعرفون الكثير عن رعي قطعان الماشية.
لقد نشأت الصناعة في رحم المجتمع، وقد تقوت العلاقة بين المجتمع والصناعات القائمة في رحابه، وفيما بعد حين أدى فائض الإنتاج وتحسن وسائل النقل في العصور القديمة، إلى ظهور التجارة البينية العابرة لحدود الأقاليم والمجتمعات والدول. فأصبحت بعض الأقاليم أو بعض المدن مشهورة ببعض السلع. فأصبحت هذه السلع، وجودتها العالية، وسمعتها الطيبة، مصدر فخر لأبناء هذا المجتمع، سواء أولئك المنخرطين في هذه الصناعة أو غيرهم. كما أخذ العاملون في إنتاج هذه السلع ذات السيط الواسع يحرصون على جودة منتجاتهم لحرصهم على سمعة بلدهم وشعبهم. وقد شكل هذا دافعاً قوياً لضمان الجودة وتوكيدها لقرون طويلة. وبذلك إشتهرت الخزفيات الصينية والسجاد العجمي والقباطي المصرية والبرد اليمانية والسيوف الهندوانية والسفن العدولية (المنسوبة إلى ميناء عدولي في الحبشة). وفي عصور لاحقة إشتهرت سلع أخرى كثيرة منسوبة إلى مدن شرق أوسطية عديدة. ولا يزال إنتساب منتجات معينة إلى مجتمعات محددة دارج ومتبع ؛ فهناك الصابون النابلسي والسمن البلقاوي والجميد الكركي وغيرها من المنتجات.
ولكن هذا الحال لم يستمر. فجاءت الثورة الصناعية، وجلبت معها نظم جديدة وعلاقات جديدة وأنماط جديدة. فأخذت الصناعات تتجمع، وتبتعد عن أماكن السكن، مصطحبه معها ضجيجها وقذارتها وروائحها، ولكي تخفي عن بقية المجتمع علاقات إنتاج غير مقبولة. فبدأت المدن الصناعية بالظهور.. على أطراف المدن. بعيدة بعض الشيء عن المجتمع. وهكذا خرجت الصناعة من رحم المجتمع دون أن تسمح بقطع الحبل السري الذي يربطها به، فلم تستغني عنه ولم تقطع علاقاتها به، وإن لم تستمر هذه العلاقة على شكلها العضوي الذي إستمر لقرون.
مهما إبتعدت الصناعة، ببُناها التحتية، عن مجتمعها فهي تبقى بحاجهٍ إليه، وستبقى كذلك في الظروف الصحية والطبيعية. ومهما أحاطت نفسها بأسوار، فإنها تحتفظ بنوافذ خمس، تطل من خلالها على المجتمع، وهذه النوافذ تأخذ شكل منافذ لحركة الداخلين والخارجين، من أشخاص ومدخلات ومنتجات وأفكار ومؤثرات مختلفة.
1.
نافذة مدخلات الإنتاج والخدمات التي يحتاج إليها المصنع من محيطه، بشكلٍ كليٍ أو جزئي. كما يحتاج إلى خدمات أساسية مثل الماء والكهرباء والهاتف وأنواع أخرى من الخدمات كالنقل والشحن وغير ذلك.
2.
نافذة العاملين الذين يحتاج إليهم المصنع للعمل في الوظائف المختلفة، الإنتاجية منها والإدارية.
3.
نافذة الزبائن التي تشكل من خلالها علاقة ينبغي أن تتصف بالإيجابية على الدوام.
4.
نافذة المساهمين والمستثمرين والشركاء التي يجب أن تتسم بالرضى، فرضى المساهمين والمساهمين المحتملين بالنسبة لشركة مساهمة غاية أساسية، وكذلك رضى الشركاء والمالكين.
5.
نافذة المؤثرات الثقافية :
تشكل هذه النوافذ الخمسة قنوات وشرايين تربط الصناعة بالمجتمع. وقد يختفي أحدها أو أكثر من واحد. فمثلاً إذا كانت الصناعة قائمة على صناعة منتجات لتصديرها إلى أسواق خارجية، فإن إحدى النوافذ لا تظهر إلى الوجود، وهي نافذة الزبائن. وإذا كان المصنع يعتمد، في إنتاجه، على مدخلات مستوردة، فإنه يقفل نافذه أخرى. وكذلك يفعل إذا كان المالكين من الأجانب، ويفعل الشيء نفسه إذا كان عمال المصنع من العمالة الوافدة.
وهنا قد يظهر ما يمكن أن نسميه "النموذج السلبي" الذي لا نتمنى أن يسود. وهو المصنع المملوك لأجانب، والذي يوظف عمالة وافدة. ويستورد مدخلات الإنتاج بالكامل. ويصدر كامل منتجاته إلى أسواق أجنبية. هذا النوع من المصانع لا نتوقع أن يكون متواصل مع مجتمع لا يعنيه في أُمورٍ ذات بال. فقد تصبح العلاقة، علاقة فواتير خدمات ؛ فواتير الماء والكهرباء والهاتف.
هذا النموذج لا نتمنى أن يعم وينتشر ولكن هناك مصانع لا تنتمي إلى هذا النموذج، ومع هذا فهي لا تقف موقفاً إيجابياً من المجتمع الذي تعيش في كنفه.
يتوقع المجتمع من الصناعة ما يلي :
1.
أن تساعد على حل مشكلة البطالة في المجتمع. ومشكلة البطالة لا تخفى على أحد. كما أن هناك ميلاً لدى الكثير من الصناعيين، وغيرهم من أرباب العمل، إلى الاعتماد على عمالة وافدة، لأسباب مختلفة. وبالتالي بالإمكان أن نضيف أن المجتمع يتوقع من القائمين على الصناعة أن يكونوا أكثر صبراً مع العمال الأردنيين ويستثمروا بعض الوقت والمال في تدريبهم وتوجيههم.
2.
تدريب الخريجين فبعض المصانع يسعى الى الحصول على خبرات جاهزة. وهذا ما نراه في اعلانات التوظيف، حيث تطلب الشركات محاسبين ومهندسين ومدراء انتاج بخبرة خمس سنوات. فقلة ينتهجون سياسة طويلة الامد بتدريب خريجين جدد قبل الحاجة الفعلية لهم بحيث يكونون جاهزين تماماً عندما تأتي الحاجة الفعلية لهم. وهذا له إيجابيات عديدة، منها أن تدريب الخريجين الجدد يعني تدريبهم على إحتياجات المصنع المحددة ويتضمن، كذلك، إكسابهم ثقافة المؤسسة وأيضاً ضخ خبرات مهنية وفنية وإدارية في أوساط المجتمع الذي يكون المصنع جزءاً منه ؟.
3.
تزويد المجتمع بمنتجات كان يستوردها.
4.
أن تلعب دوراً في البحث العلمي ودعم الجامعات وتدريب الطلاب.
5.
القيام بأعمال خيرية.
6.
التفاعل مع المجتمع من خلال مشاركته أفراحه وأحزانه وإحياء مناسباته واحترام تقاليده ومعتقداته.
7.
المشاركة في قيادة المجتمع من خلال الاشتراك في لجان ومجالس استشارية وتوجيهية للإستفادة من تجربة القطاع الخاص.
وواقع الصناعة يختلف عن توقعات المجتمع. فبينما تجد بعض المصانع تقترب من الحالة النموذجية، تجد الكثيرين لا يبالون ولا يجدون الوقت لممارسة واجباتهم، بينما تجد آخرين لا يعرفون هذه الواجبات، ولا ينتبهون إلى مراعاة بعض الأمور ويعود ذلك إلى عدد من الأسباب، من بينها :
1.
غياب ثقافة التعاون والتكامل والتعاضد مع المجتمع.
2.
غياب الوعي والحس الوطني لدى بعض الصناعيين، ويعود ذلك إلى شيوع مفهوم خاطئ للوطنية، فالبعض يعتقد أن الوطنية تمارس في حال تعرض البلاد إلى خطر خارجي فقط.
3.
تعثر بعض المصانع، وإنشغال القائمين عليها بحل مشاكل متتابعة، لدرجة يعتقد بعضهم معها أن المجتمع مدين لهم في حل مشاكلهم.
4.
غياب المصلحة.
5.
تراكم تجارب سلبية فرضت على المصنع التقوقع.
وهذه جميعاً يمكن حلها بتضافر جهود الجهات ذات العلاقة مثل غرف الصناعة وجمعيات المستثمرين وبعض الجهات الحكومية. بحيث يعمل هؤلاء على نشر الوعي والقيام بنشاطات تواصلية جماعية مع المجتمع.
لقد لاحظنا عند تعداد الأسباب التي تقف وراء سلبية بعض المصانع، وجود أسباب لها علاقة بالمجتمع نفسه، أسباب تسبب بها المجتمع بثقافاته وقيمه وتقاليده. وهذا أمر يجب أن لا يكون مستغرباً. فالمجتمع هو الوعاء الأكبر، هو الذي يغذي الصناعة بعامليها ويغذيها كذلك بأفكارها ومفاهيمها. ففي مجتمع تسود كافة أركانه فضيلة التعاون والتكافل والتعاضد، لا يمكن، في الغالب، أن تنشأ فيه صناعة منسلخة لا تبالي ولا تأبه لهموم مجتمعها. وعلى العكس من ذلك فإن مجتمعاً متشرذماً منقسماً على نفسه تتفشى فيه الفردية يسود فيه الظلم، لا يمكن أن يفرز صناعة منتمية متفاعلة و معطاءة. وهنا ينحصر النقاش في الإطار العام، أما إذا ما إنتقلنا إلى محاولة تقييم نظرة مجتمعنا إلى الصناعة فلنحاول الدخول في بعض التفاصيل. وهذا ينطبق على مجتمعات شرقية كثيرة :
1.
لا ينظر أبناء مجتمعنا إلى الصناعة على أنها ذخر وطني. على عكس ما هو موجود في الدول الصناعية.
2.
لا يسعى غالبية أبناء المجتمع إلى دعم المنتجات الوطنية.
3.
يفضل الكثيرون من أبناء المجتمع الوظيفة الحكومية على العمل في الصناعة.
4.
العزوف الجزئي للموسرين عن الإستثمار في الصناعة. ونمط هذا الإستثمار.
5.
ينجم عن نقص ثقافة العمل في بعض أجزاء مجتمعنا، ممارسات سلبية كثيرة تنعكس على العاملين في المصانع، مثل كثرة الغياب و التدوير العالي.
6.
هناك نظرة سلبية إلى المال العام.
إن هذا الوضع السائد الآن في العلاقات بين الصناعة ومجتمعها، في أغلبها، ليست صحية، ويجب العمل على تغيير هذا الواقع، من خلال مشاركة أطراف عديدة في وضع برنامج عمل يسعى إلى بناء علاقات نموذجية يعم خيرها على المجتمع وعلى الصناعة. بل قد يعتمد مستقبل أبنائنا على خلق علاقة صحية تساعد على تنمية صناعية مستدامة تؤدي إلى إستقلال إقتصادي لأمتنا، ولاستغلال ثرواتها في المكان الصحيح.
وبالتالي العمل على خلق علاقات نموذجية بين الصناعة والمجتمع تنمو في ظلها الصناعة ويزدهر بالتالي المجتمع. وهذه العلاقات تتصف بثنائية المجتمع الحاضن والمصنع المنتمي.
ويعبر المصنع عن انتمائه من خلال عدد من الممارسات التي تعبر عن هذا الانتماء، مثل :
1.
الاهتمام بأبناء هذا المجتمع الذين يعملون في المصنع. بالمعاملة الحسنة وإعطائهم حقوقهم التي يستحقون غير منقوصة وفي موعدها. وتشجيع المبدعين والمتميزين بعطائهم من بينهم معنوياً ومادياً. وإعطائهم ميزات مثل التأمين الصحي والضمان الإجتماعي والنقل وقروض للمحتاجين منهم. وإعطائهم الإحساس بحدٍ معقول من الأمان الوظيفي. وهذا كله يخلق موظفاً منتمياً لمؤسسته على طريق خلق مؤسسة منتمية لمجتمعها.
2.
بذل الجهد والمال على تدريب الموظفين ورفع كفاءاتهم ومهاراتهم الفنية والمهنية والادارية. وهذه خدمة يستفيد منها المجتمع بشكلٍ عام وليس المصنع نفسه فقط.
3.
إقامة علاقات مع أهالي وعائلات العاملين. من خلال دعوتهم إلى المصنع وإشراكهم في إحتفالاته ومناسباته.
4.
مشاركة المجتمع مناسباته الإجتماعية والدينية. وإحياءها داخل المصنع.
5.
تبني إحدى الفعاليات التربوية أو الثقافية أو الرياضية أو الإنسانية، من خلال الدعم المادي المتواصل، والذي يتناسب مع قدرات المؤسسة الصناعية ورغبة القائمين عليها. وكذلك الرعاية المعنوية. وهذا النظام يربط دار أيتام مثلاً بأحد المصانع، أو منتدى ثقافي في إحدى القرى بمصنعٍ آخر. بل يمكن ربط إحدى القرى بأحد المصانع، بحيث يعمل أبناء هذا القرية في هذا المصنع، ويقوم المصنع بتقديم الدعم لفعاليات القرية بقدر ما هو ممكن.
6.
إقامة علاقات جيدة مع الجامعات والمعاهد العلمية، لما فيه مصلحة الطرفين ومصلحة المجتمع.
7.
الحرص على سمعة البلد من خلال الالتزام بالاتفاقيات المبرمة مع جهات أجنبية ومن خلال إنتاج منتجات عالية الجودة وتقديم خدمات جيدة.
أما المجتمع الحاضن لصناعته الحاني عليها فيمتاز بما يلي :
1.
النظر إلى أي مصنع جديد يُنشأ على الأرض الأردنية على أنه منجز وطني ويجب الحفاظ عليه.
2.
الإقبال على شراء المنتجات الوطنية وتفضيلها على غيرها.
3.
سيادة ثقافة عمل إيجابية في أوساط المجتمع، تظهر من خلال إنضباط أبناء هذا المجتمع بمتطلبات العمل الأساسية وهي الحضور والثبات والإلتزام.
4.
تنمية نظرة إيجابية نحو الممتلكات العامة، بما في ذلك ممتلكات المصانع من ماكينات وأثاث ومواد إنتاج وغيرها بالحفاظ عليها، والنهي عن العبث بها وإتلافها.
5.
تشجيع أبناء المجتمع على العمل في الصناعة بالعمل على تغيير ثقافة السعي نحو الوظيفة الحكومية أو القعود في البيت.
6.
تقديم دعم ومساعدة من قبل الجهات المختصة، والتي تشكل جزءاً من المجتمع، مثل:
§
الجامعات
، التي يشكل التعاون بينها وبين الصناعة حالة نموذجية للتعاون إذا ما كان هناك تعاون قائم على التكامل الهادف لخدمة الطرفين والمجتمع ككل. ويمكن لهذا التعاون أن يأخذ أشكالاً عديدة؛ مثل تدريب طلاب السنوات النهائية في المصانع وخصوصاً الذين يدرسون علوم ذات علاقة. كما يمكن أن تعقد دورات وورش عمل للعاملين في المصانع لرفع قدراتهم الإدارية والمهنية بمساعدة أساتذة جامعيين. ويمكن للصناعة أن تستفيد من ورش ومختبرات الجامعات في تصنيع قطع غيار وخطوط إنتاج متكاملة. كما يمكن أن يتعاون الطرفين لتطوير منتجات جديدة، أو لحل مشكلة تقنية لا يستطيع مصنع حلها لعدم وجود مختبر أو لنقص المعرفة النظرية للعاملين فيه. إن برنامج " دكتور لكل مصنع " حالة متقدمة للتعاون الذي يضفي على الصناعة رغبة في التطور ويفتح باباً عريضاً للبحث العلمي ولتحسين النظم الإدارية وتطوير عمليات الإنتاج.
§
مراكز التدريب المهني
، والتي تلعب دوراً في تدريب الشباب والشابات على المهن المختلفة التي تحتاج إليها الصناعة، فيجب أن تتسم العلاقة بدرجة عالية من التنسيق.
§
النقابات
، التي يجب أن يصل التعاون معها إلى درجة تساعد على إعطائها دوراً أكبر لتأخذ دورها في عملية التنمية من أجل إقامة علاقات متوازنة بين العمال وأرباب العمل لتحقيق غايات مهمة مثل تعريف العمال بحقوقهم وواجباتهم وتوعيتهم.
§
الدوائر الحكومية
، مثل مراكز الجمرك ومكاتب العمل ومديريات الصناعة وغيرها ممن تتعامل معهم الصناعة بشكل يومي، الذين يتوجب أن يصل التنسيق بينها وبين ممثلين عن الصناعة إلى درجة عالية بحيث تخلق آلية لحل المصاعب التي يواجهها الطرفان.
إن الخسارة الناجمة عن الوضع الراهن جسيمة. وقد يكون الحل لمشكلة البطالة وتدني مستوى المعيشة والتخلف العلمي الذي نعاني منه يكمن بوجود علاقة أفضل بين مجتمعنا وصناعتنا. إن الطموح لا يتوقف عند الحد الأدنى، ولا ينبغى له. فالمجتمع يشكل بالنسبة للمصنع مصدراً للقيم الإيجابية ويشكل بالتالي عنصر توازن يعمل على تدعيم الصناعة وإدامتها.
كما يشكل المجتمع مصدراً للصناعيين، الذين يأتون من أوساط المجتمع من التجار والمقاولين والموسرين من أبناء المجتمع. وبالتالي فتحول مزيد من الأفراد إلى صناعيين يدعم الصناعة ويقويها، وخاصة إذا ما تم إختيار الصناعة الجديدة بحيث تكون مكملة للصناعات القائمة بدلاً من أن تكون منافسة لها.
ويمكن أن يشكل المجتمع بهيئاته العلمية والبحثية والأكاديمية مصدراً للإبداع والإبتكار. والتعاون مع الصناعة يعطي الإبتكارات والإبداعات روحاً ويخرجها من الجرنالات العلمية إلى قاعات الإنتاج. الأمر الذي يشجع المبدعين ويعطي للصناعة المحلية خصوصية بين منافسيها في الخارج. كما يخلق في المجتمع ثقافة جديدة تقدر الإبداع وتستطيع أن ترصده وتأخذ بيده.
خاتمة
لا يخفى على أحد أن الأمة تمر في مرحلة تخلف في جميع مناحي حياتها؛ السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية، وهذا ليس ضرباً من جلد الذات.
وهذا كتاب في الإدارة، كمحاولة متواضعة لإنسان يتمنى أن يرى أمته في حالٍ أفضل، ومن هنا نختم هذا الطرح بتوجيه عدد من الأسئلة، التي نرجو أن لا تحمل أكثر مما تحتمل:
·
لماذا لا يبدأ كل منا بنفسه، ويبدأ بالتغير نحو ما هو أفضل لنفسه ولمجتمعه بتبني عدد من القيم الإيجابية ؟ ونبذ القيم السلبية وتركها؟.
·
لماذا لا نستذكر القيم والمسلكيات التي كانت سائدة في المجتمعات العربية والإسلامية عبر العصور، بما يساعد على سيادة أجواء بناءة في حياتنا الإقتصادية؟.
·
لماذا لا نعيد النظر بوسائل تلقينا العلوم الغربية، بحيث نتبنى ما هو مناسب ومفيد لنا ؟. ونمحص ما هو قيد التجربة في بلاده، وندقق بمدى ملائمة ما نود تبنيه ؟.
·
لماذا لا يولي علماؤنا الشرعيون أهمية خاصة للجسم الإقتصادي للأمة، من ناحية إشاعة القيم الإيجابية وإصدار دعوات وفتاوى تدعم هذا التوجه؟.
·
هل من الممكن إعتبار توزيع جزء من أرباح المؤسسة على صغار الموظفين زكاة، بحيث " يفرض " على رجل الأعمال الراغب بدفع الزكاة دفع جزء من أرباحه لموظفيه بحيث يعتبر ذلك زكاة؟. هل من الممكن أن تعرض هذه المسألة على بعض الفقهاء للإجابة عليها ؟. هل يمكن إعتبار صغار الموظفين من العاملين عليها، بحيث تحق لهم الزكاة ؟.
ماذا بعد :
بناءً على هذه الأسس والممارسات والعلاقات والقواعد يصبح بالإمكان بناء مؤسسات إقتصادية تسودها ثقافات وتنظمها قوانين وتسود فيها تقاليد عمل تساعد على تقدمها وإزدهارها وتضمن نجاحها. وبالتالي يصبح بالإمكان بناء إقتصادات متينة ومستدامة. وعند ذلك يمكن ان نأمل أن يتم التحول إلى أنماط جديدة في العلاقات داخل هذه المؤسسات قائمة على المشاركة وتقدير إمكانيات الأفراد والجماعات وتبني أساليب تقدمية تفجر طاقات إبداعية بجهود جمهور العاملين فيها كافةً وتبني نظم تناسب المعطيات الجديدة التي يكتسبها عالم اليوم بإيقاعٍ سريع. عند ذلك نأمل أن نخطو في القرن الجديد بمفاهيم جديدة وأساليب جديدة، مثل :
إن صياغة التعليمات توحي بهامش حركة محدود مسموح به. فإعطاء تعليمات لشخص واعي ولديه صلاحيات ويستطيع أن يعمل بمفرده، ممكن أن تكون على شكل " طرح فكرة " أو " مشروع " فيكون ذلك بصيغة إقتراح. وقد يكون الإقتراح بصيغة سؤال ؛ مثل : " ماذا لو فعلنا كذا ؟. " أو صيغة تضمن إحترام المتلقي " ما رأيك في أن نفعل كذا ؟. " إن هذا الأسلوب له إيجابيات كثيرة، فهو ينطوي على إحترام للنفس البشرية، كما أنه يعطي هامشاً للإجتهاد. وهذا الأسلوب يجب أن لا يستخدم مع الإداريين الذين يبحثون عن سبب لعدم الإنجاز وللتهرب من الواجب. ولكنه سيكون مفيداً في مؤسسات قطعت شوطاً في العمل المؤسسي والجماعي القائم على الوعي والحس القوي بالإتجاه
sense of direction
. وحقيقة أنه مطبق بصورةٍ نسبية، فكثير من المدراء، أو أصحاب المؤسسات، يتعاملون مع مساعديهم الذين أمضوا عمراً طويلاً مع بعضهم، وأقاموا لغة مشتركة فيما بينهم، بطريقة تبدأ بسؤال مثل " شو رأيك نصب بكرة ؟. " أو " ماذا تقول في أن نبدأ في إنتاج الصيفي غداً؟. " فهذه الصيغة هي مزيج من طلب المشورة وإعطاء التعليمات. فهذه الصيغة تحسس المتلقي بأنه موضع تقدير وتعزز إنتماءه. وهي قد تعني الشيء نفسه ؛ فعبارة " ماذا تقول في أن نتوقف عن العمل الإضافي ؟." تعني أن يبدي المتلقي رأيه في الموضوع وهو إيقاف العمل الإضافي، كما تعني أن يوقف العمل الإضافي فعلاً. وفي كلتا الحالتين يعبر الرئيس عن تقديره لمرؤوسه، وهو كذلك يشركه في الرأي. المطلوب تعميم هذا النهج على الرغم من إحتمالية وقوع أخطاء نتيجةً لعدم الوضوح أو لأن الطلب كان فضفاضاً. كما أنه قد يؤدي إلى تعذر البعض بأنه لم يطلب منهم بوضوح تنفيذ ما يراد تنفيذه. إن التدريب والتوعية ونشر القيم الإيجابية كفيل لاحصول على نتائج عظيمة.
بالإضافة إلى صياغة التعليمات يجب أن لا تكون التعليمات نهائية وغير قابلة للنقاش. وذلك من أجل إغناء الفكرة بالنقاش وبمساهمة الذين سيقومون بتنفيذ هذه التعليمات، فهم على دراية واسعة بالتفاصيل وبظروف العمل.
هذا ما لم يسبق ذلك نقاش تم إشراك قطاع واسع من المراتب الإدارية المختلفة وممثلين عن العمال. وفي العموم إن هامش الحرية الممنوح مع التعليمات يمكن أن يترسخ كتقليد في مؤسسة مهيئة لمثل هذه الممارسة، بحيث يُعطى بصورةٍ نسبية لأعضاء الإدارة الوسطى وغيرهم، الأمر الذي يعزز قدرتهم على المبادرة والاجتهاد والاعتماد على الذات، ولو بصورةٍ نسبية، الأمر الذي يرفع من سوية أدائهم ويهيئهم لمواقع أكبر.
من البديهي أن يُفهم من هذا الطرح أنه لا يعمم على جميع أنواع التعليمات وفي جميع الظروف، فإذا كان هناك حريق في المبنى فالدعوة لمشاركة الجميع في إطفائها لا تأخذ سوى صيغة واحدة.
ينبغي أن ترتبط التعليمات بإيجاز يحتوي توجيه وتوعيه. فلا يكون عبارة عن طلب تنفيذ أمرٍ ما دون توضيح لأهمية تنفيذ هذا العمل وحيثيات ذلك وكيفية تنفيذه بأفضل طريقة ممكنة. ففي مؤسسة ينتشر في أوساطها هذا النهج تصبح فيها التعليمات وسيلة تعلم ومراكمة معارف وخبرات. وهذا لا يعني أن يلقي المدير محاضرة مع كل طلب يطلبه، فهذا سيكون مملاً وعديم التأثير، ولكن هناك دائماً حالات تعطي المدير الذي يود أن يوعي فريقه الفرصة لفعل ذلك بشكل مؤثر ودون أن يكون مملاً.
وهو عملية نقل المعلومات في قنوات عمودية ضمن الهرم الوظيفي للمؤسسة. وهذه العملية يجب أن تكون فعالة بشكل مرضٍ. ولكي تكون كذلك ينبغي أن يكون إرتفاع الهرم ليس كبيراً، أي لا يوجد محطات أو طبقات
layers
وظيفية كثيرة فوق بعضها. والاتصال العمودي هو، تقليدياً، وسيلة إصدار التعليمات وتلقي التقارير. وبالتالي ينبغي أن يكون سريعاً وفعالاً، لضمان وصول التعليمات في موعدها، ولضمان أن تصل المعلومات واضحة ومفهومة وكاملة. ولتحقيق هذه الغايات ينبغي تحسين وسائل الإتصال وتطوير لغة الاتصال (حتى لو كانت اللغة الأصلية للعاملين ) وتدريب العاملين لتحسين مهارات الاتصال لديهم، والأهم إشاعة ثقافة تدعو إلى الاهتمام بالاتصال والارتقاء به.
وهذا ما يؤكد عليه دركر الذي يقول أن التواصل يجب أن لا يكون بين " الأنا " و " الأنت "، بل بين عضوين في " النحن " لكي يكون ناجحاً
.
والتواصل العمودي يُقسم إلى قسمين حسب الإتجاه ؛ من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى
، ويجب أن يكون فعالاً في كلا الإتجاهين.
التواصل الأفقي هو التواصل عبر قنوات أفقية في الهرم الوظيفي، وذلك يعني تواصلاً عبر الحواجز المقامة في العادة بين الأقسام المختلفة. ويسمى أيضاً تواصلاً جانبياً
lateral
.
وهذا النوع من التواصل يعتبره المدراء التقليديون غير ضروري، بل يتحسس منه العاملون في الإدارات الوسطى، ولا يشعرون بالراحة من إطلاع زملائهم على مشاكلهم. ولكن في المؤسسات التي تتبنى ثقافة قائمة على الانفتاح في المعلومات بين أقسامها المختلفة، فإن هذا النوع من التواصل يجب أن يكون موجوداً، بمعنى أنه مسموحٌ به، ويشجع الجميع على ممارسته وتسهيله والإستفادة منه. وبالتالي يجب إقامة قنوات لذلك، مثل الإجتماعات المشتركة وعقد ورشات عمل وندوات تناقش فيها المشاكل في الأقسام المختلفة. كما أن هناك أداة هامة وهي نظام المعايشة، حيث يمضي موظفٌ يعمل في أحد الأقسام يوماً كل شهر، مثلاً، في قسمٍ آخر، فيعلم ويتعلم ويطلع من تجارب هذا القسم.
ومن طرق الإتصال الأفقي، إقامة دوائر مركزية تعتمد على الوظيفة. مثل قسم جودة يجمع جميع العاملين في مجال الجودة في الأقسام المختلفة. فمشرف جودة يعمل في أحد الأقسام، يعتبر جزءاً من الأسرة الوظيفية لهذا القسم، وبنفس الوقت يرتبط بدائرة الجودة المركزية، حيث يستقي منها التوجهات والسياسات، كما يراجع تقارير الجودة ويشارك بندوات وورش عمل تهدف إلى رفع الكفاءة. وهذا النوع من الإتصال، وغيره، يشكل تواصلاً أُفقياً يغني تجربة المؤسسة.
تحدثنا عن التواصل العمودي، وهو النوع التقليدي من التواصل. ثم تطرقنا إلى التواصل الأفقي، وقد أشرنا أنه ضرورة للتوصل إلى حالة إنفتاح في المعلومات بين الأقسام المختلفة، التي يراها كثيرون، ومن بينهم كاتب هذه السطور، ميزة
ً
مهمةً على طريق بناء ثقافات تقدمية في المؤسسة. وهنا نعود للحديث عن التواصل الشمولي، والذي يعني أن تسير المعلومات من جهة محددة في جميع الإتجاهات، بغض النظر إن كانت هذه المعلومات تعني متلقيها أم لا.
والفارق بين التواصل الأفقي والعمودي من جهة، والتواصل الشمولي من جهة أخرى، هو أن للأول قطبين، مرسل ومستقبل، يعرفان بعضهما في أغلب الأحيان. بينما يوجد قطب واحد في الحالة الثانية، وهو المرسل، أما الاستقبال، فيتم من قبل الجميع، مثل الإذاعة.
ويهدف هذا النمط إلى إشاعة المعرفة والإشتراك في المعلومات ومراكمة الخبرات والمشاركة في تقديم الحلول. كما تقضي على ثقافة خوف البعض من معرفة الآخرين بمشاكلهم، وهي ثقافة بغيضة تؤدي إلى القوقعة وإقامة الحواجز والتحسس من مساعدة الآخرين.
إن تطبيق بعض المفاهيم التي نطرحها هنا، مثل التواصل الشمولي والتعليمات التي تأخذ صيغة مقترحات في مؤسسة غير جاهزة لذلك من حيث توفر الوعي والدافعية، يكون بمثابة رصاصة الرحمة التي تضع نهاية هذه المؤسسة بدلاً من أن تشكل مخرجاً من أزمتها. فتفشي القيم الإيجابية شرط أساسي لهذا النواع من التحول. يروي جاك ويلش، المدير السابق لجنرال إلكتريك أنه طلب من بعض مساعديه تطوير جهاز الرنين المغنطيسي ليصبح أكبر بحيث لا يشعر بعدم الإرتياح المرضى الذين يخافون من الأماكن الضيقة، فلم يأخذوا طلبه على محمل الجد لأنهم إعتقدوا أن تكبير الجهاز يقلل من دقته، وفي هذه الأثناء قامت شركة هيتاشي اليابانية بصنع جهاز أكبر وتم بيعه لمستشفيات كثيرة حول العالم، عند ذلك تحمس إداريو جنرال إليكتريك وركزوا جهودهم على تطوير جهاز أكبر، وحدث هذا متأخراً، فقد فقدت الشركة جزءاً من سوقها. ويعلق على ذلك جاك ويلش بأنه يتمنى لو كان أكثر حسماً في هذا الصدد
. ففي أوساط المؤسسات التي تسودها ثقافات سلبية ولا يتمتع القائمون عليها بالوعي وبعد النظر الكافيين، فإن المتابعة من قبل المدير يجب أن تكون حثيثة سواء أُعطيت التعليمات على شكل إقتراح أو على شكل أمر.
تترسخ في بعض المؤسسات قيم وفضائل وممارسات إيجابية على شكل تقاليد يعتاد عليها العاملون في المؤسسة، ولا يجدون صعوبة في التمسك بها. وفيما يلي ندرج بعض الأمثلة على هذه التقاليد، وهي لا تنحصر بها، فهناك الكثير من القيم الأخرى تطرقنا له تحت عناوين أخرى في هذا الكتاب:
1.
لوم الذات أولاً.. في حال حدوث تراجع في الأداء أو مشكلة من أي نوع، من الجميل أن يتفشى في أوساط المؤسسة تقليد أن يبحث الفرد عن التقصير في أدائه بدلاً من أن يرمي الخطأ على الآخرين، وبالتالي لوم نفسه قبل لوم الآخرين.
2.
عدم المسارعة إلى تحميل المسؤولية للآخرين.. وعلى نفس النسق، هذا تقليد آخر جميل يريح المؤسسة والعاملين بها من التراشق بالملامة بعد كل أزمة بدلاً من البحث عن مخرج من الأزمة والتعاون جميعاً على الخروج منها بإخلاص.
3.
عدم الخجل من الإقرار بالخطأ.. إن التخلص من خجل العاملين في الإفصاح عن وجود مشاكل لديهم، يعني التعامل مع المشاكل قبل أن تستفحل، فالعامل الذي لا يخجل ولا يخاف من الإعلان عن وجود مشكلة لديه، سواء تسبب هو فيها أم لا، سيقوم بعمل ذلك في مرحلةٍ مبكرة، وبالتالي فإن المساعدة التي سيتلقاها ستعمل على حل مشكلة في بداياتها، وبالتالي يكون حلها أسهل والخسارة الناجمة عنها أقل.
4.
عمل صحيح من المحاولة الأولى.. وهذا نهج وأسلوب عمل بالإمكان تحويله إلى تقليد. وهذا التقليد يحتاج إلى تدريب وتوعية وتركيز يؤدي إلى إنجاز سليم من المحاولة الأولى بحيث لا يحتاج الأفراد أو الفرق إلى إعادة المحاولة لتصليح خطأ تم في المحاولة الأولى، وينجم عن ذلك إيجابيات كثيرة، من كفاءة أعلى إلى كلفة أقل وجودة أفضل ومدة تنفيذ أقصر.
5.
تقبل مساعدة الآخرين مع عدم إبداء التحسس من ذلك بل يجب التقدم بطلب المساعدة بدون خجل، مع الأسف أن هذه النقيصة تكمن في نفوس الكثير من إداريينا مدفوعةً بحسٍ من المكابرة والخوف.
6.
نبذ ثقافة الأعذار.. يلجأ الكثير من الأفراد إلى إبداء الأعذار عند حدوث تقصير في عملهم ويتفنون في ذلك. وهذا النهج ينبغي نبذه والعمل على مواجهة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تراجع النتائج والتعامل معها بشجاعة وبصورةٍ مباشرة.
وهناك تقاليد عمل كثيرة أخرى ينبغي العمل على تعزيزها وأخرى ينبغي نبذها والتخلص منها.
يتعامل كثيرون مع الاخطاء والاخفاقات على أنها نهاية العالم. وتكون ردود فعلهم سلبية ومبالغاً بها. بينما يجب التعامل مع الخطأ على أنه فرصة لاكتشاف مواطن الضعف والقضاء عليها كمصادر للأخطاء وكأسباب للتراجعات. وبالتالي فعند وقوع إخفاق يجب التركيز على كيفية الخروج من المأزق الناجم عن حالة الإخفاق، ثم العمل على التعامل مع الأسباب التي أدت إلى وقوعه، لضمان عدم تكرارها، ثم التعامل مع الأشخاص الذين تسببوا في ذلك لغاية توجيههم وتقويمهم. إن الدارج، عند وقوع أزمة، البحث عن المتسبب، وإطلاق مدافع اللوم. ويقرر كثير من المدراء موقفهم ورد فعلهم على من هو المتسبب بصورةٍ مزاجية. كما يشرع البعض الآخر في معاقبة المتسبب قبل إيجاد المخرج من الأزمة. هذه ممارسات سلبية ينبغي تركها. وهي ليست الأسوأ، فهناك من يشرع في إيجاد كبش فداء للتضحية به وللنجاة بأنفسهم.
يعتبر الإختلاف جزءاً من الحياة اليومية للمؤسسات. وهذا الإختلاف يتطور إلى نزاع أحياناً. الأمر الذي يتطلب بذل جهد لاحتوائه من أجل الوصول إلى حلٍ للنزاع. وفيما يلي مقترح من أربع نقاط، كآلية لتحقيق هذه الغاية:
1.
كن منفتحاً
2.
تحقق من أوجه الخلاف الفعلية
3.
حلل طلبات الطرف الآخر إلى مكوناتها
4.
بناء على ذلك، حاول أن تجد حلاً يجعل الجميع يحققون أهدافهم
.
كما يمكن أن نضيف أنه من الممكن تعايش الإختلاف فهذا أمرٌ صحي ويتفق مع ثقافتنا الشرقية، عربية وغير عربية.
لقد أصبح معظم القائمين على المؤسسات الاقتصادية والمنظرين الإداريين يولون أهمية كبيرة لمعنويات العاملين ودافعيتهم. بينما لا يزال البعض يعتقد أن العاملين يتقاضون رواتب من أجل القيام بعملٍ محدد، فعليهم القيام به. وهؤلاء في تناقص فهم من أتباع النظرية
X
سيئة السيط أو بعض أشكالها.
ولا يكفي التركيز على المعنويات، بل يتوجب خلق حالة فكرية لدى العاملين، بتحويل القيم الإيجابية التي يفترض أن يتبناها العاملون إلى فكر، شكل من أشكال الأيدولوجيا .. إلى رسالة، وبالتالي خلق مغزى ومعنى لأدائهم ومواقفهم ونشاطهم.
وقد وجد أحد الكتاب أن الموظفين الذين يجدون معنى
meaning
لما يعملون، في العادة يكونون آخر من يتخلى عن مؤسساتهم، حتى وإن إنهارت تماماً لدرجة توقف معها دفع الرواتب
.
والسعي لخلق هذه الحالة ليس أمراً سهلاً، فهو مسعى في غاية الجدية، فإن فشل فقد تكون النتائج مدمرة. فعلى الذي يقود هذا المسعى، الذي غالباً ما يكون المدير، أن يؤمن بما يطرح، وأن يكون قادراً على ممارسة درجة عالية من الثبات، وأن يكون مقنعاً ويستمر بذلك. كما أن المبادئ المطروحة يجب أن تجد إنعكاسها على الوضع المادي للعاملين وعلى طبيعة العلاقات السائدة في أوساط المؤسسة.
هذه ليست دعوة لتحويل مؤسسة صناعية إلى حزب سياسي. ولكن دعوة للإستفادة من قوى هائلة كامنة في المجتمع، مثل رغبة أبناء المجتمع أن يروا بلادهم وقد أصبحت صناعية أو مستقلة إقتصادياً ويرون أبناء شعبهم يعيشون في بحبوحة.
-
الحرص على الإجماع : لقد بنيت الديمقراطية الغربية على حكم الأكثرية، وبالتالي تمرير سياساتها وإنتخاب قادتها من خلال ضمان موافقة نسبة متدنية. وهذا يعتبر أفضل بكثير من حكم الفرد، أو حكم أقلية من العسكريين أو حتى حكم حزب واحد. ولكنه لا يحقق درجة عالية من الإنصاف. ففي كثير من الحالات يفرض 30% من السكان إرادتهم على بقية السكان، لأن نسبة الإقتراع كانت 60% مثلاً وكان هناك ثلاث مرشحين، فحاز الأول على 30% والثاني على 25% والثالث على 5%. وأكرر أن هذا النظام أفضل مما عندنا، وربما لا يحق لنا نقده، لأننا لم نبلغه.
لقد بني نظام صنع القرار في الإسلام على الإجماع، وهو نظام لم يجرب طويلاً حتى نضعه موضع المقارنة مع النظام الغربي الموغل في القدم.
ولكيلا نتعمق في هذا الموضوع المثير للجدل، نحصر نقاشنا في آليات اتخاذ القرارات في المؤسسات الاقتصادية، فبدلاً من الاكتفاء برضى الأكثرية نعتقد أن الاتجاه نحو الإجماع أمرٌ بناء ومفيد ولا يترك آثاراً سلبية. وهذا ما هو معمولٌ به في شركة تويوتا، ف
أحد بنود
نظام تويوتا في الانتاج
TPS
ينص على إطالة التداول في صنع القرار من أجل الحصول على إجماع. وعلى ما يبدو أن هذه فضيلة آسيوية، فليس العرب واليابانيون وحدهم يحبذون هذا التوجه، فالفيتناميون حرصوا على الإجماع عندما بدأوا التفاوض مع الأميريكان في باريس في أواسط السبعينات، فقد مرت ستة أشهر والعالم يسمع ويقرأ عن الخلاف على طريقة الجلوس حول طاولة المفاوضات، وبينما كان العالم يضحك على طرافة الموقف، كان الفيتناميون مستمرين في حوارهم في داخل قيادة الحزب والدولة لإقناع الأقلية المعارضة للتفاوض، وفعلاً وبعد ستة أشهر حصلت القيادة على الإجماع، ودخلت المفاوضات موحدة، وكانت هي الرابح الوحيد في النهاية.
إن الاستهتار بالأقلية هي هضم لحقوقها وحقوق من يمثلون، سواء كانوا منتخبين أو مدراء أقسام في شركة ويمثلون وجهات نظر مرؤوسيهم. وفي العموم، قلما وُجد رأي لا قيمة له، كما أنه لا يوجد شخص لايستحق أن يصغى له.
إن السعي المضني نحو الإجماع واجبٌ يجب إنتهاجه. وفي الظروف الطبيعية والصحية، حيث لا توجد متاريس يستحكم خلفها أصحاب الآراء المختلفة، وحيث لا توجد شللية تحد من مرونة الأقلية وتجعل قراراتها مبنية على حسابات غير موضوعية، لا بأس من إطالة وقت التداول وتأجيله إلى جلسةٍ لاحقة بحيث يُعطى المتباحثون الفرصة لتقريب وجهات نظرهم.
وفي حال فشل الإدارة في الحصول على إجماع بعد مداولة طويلة، تكون قد أُعذرت، لأنها أعطت جميع وجهات النظر الفرصة للتعبير عن نفسها.
إن عدم تبني وجهة نظر المرء، تترك لديه مرارةً وغصة. وربما كان ذلك لدى الشرقيين مثلنا أكثر ما هو موجود لدى الغربيين. وهذه المرارة لدى هذا الشخص تعني إضافة شخص آخر إلى مجموع المستائين غير الراضين والذين قد يتحولون إلى معارضة لكل شيء. وفي هذا خسارة. فقليل من التعب والوقت تضمن رضى الجميع.
-
التشاور : وذلك بعرض مشروع القرار المقترح على أكبر عددٍ ممكن من أصحاب العلاقة. ويتم ذلك من خلال إجتماعات أو من خلال لقاءات فردية مع المدير. إن تدوين ملاحظات للإستفادة منها فيما بعد، يساعد في إتخاذ القرار لاحقاً.
-
النقد البناء : يجب تشجيع تقبل النقد، والتعامل معه على أنه وسيلة توجيه وتصحيح وليس قدح وتصغير. كما ينبغي توجيه الناقدين بحيث يبتعدون عن الشخصنة والمزاجية ويحافظون على موضوعيتهم في نقدهم. ثم عليهم أن لا يخافوا غضب الموجه إليهم النقد.
-
المكاشفة عند الاختلاف : تشجيع الإداريين، في حال وجود إختلاف في وجهات النظر فيما بينهم، أن يتكاشفوا، ويضعوا الخلاف في نصابه الصحيح والعمل على تقليصه. والبعد عن شخصنة الخلاف في جميع الأحوال.
-
تحمل الرأي المخالف : تشجيع الزملاء وأعضاء الفريق الواحد أن يتعايشوا مع خلافاتهم وأن يتقبلوها ويتحملوا تبعاتها، ويتكاشفوا فيما بينهم، مع حصر مساحات الإلتقاء أيضاً وتضييق حجم الإختلاف مع عدم التخوف منه وعدم إعطاء الموضوع جانباً شخصياً.
إن ممارسة وإعتياد الممارسات المدرجة أعلاه من قبل العاملين ترتقي بالمؤسسة إلى مستويات أعلى في الأداء وفي نتائجه وتجعل جو العمل مريحاً للجميع.
لقد سبق وتطرقنا إلى هذا الموضوع، ولكن نود أن نؤكد أن تنمية قدرة الأفراد والجماعات على الإبداع يُغني المؤسسة. وعلى الرغم من أن هذا الكلام يبدو بديهياً، فإن كثيراً من المدراء لا يحتملون إقتراحاً من بعض العاملين، ويرفضونه بشكلٍ تلقائي. وهذا يجب أن يتغير. فكثير من الحلول لمشاكل عويصة في الإنتاج والصيانة والبناء تأتي من الإدارت الإشرافية لقربها من موقع التنفيذ وامتلاكها للمعرفة الفنية، فهناك خسارة كبيرة من تغييب هذا القطاع العريض عن إبداء الرأي والمشاركة في النقاش بحرية وصنع القرار من خلال مياهمات إبداعية مهما كانت صغيرة.
وقد ينجم بعض الفوضى عن تشجيع الإبداع، فقد يحث تدفق آراء كثيرة ومتضاربة، فيحدث أن يستاء البعض لعدم العمل برأيه، كما قد لا يتعاون البعض الآخر في تطبيق فكرة وضعها زميلٌ له. وهذا غير مستبعد. فلا يجوز فتح المجال لتقديم إقتراحات والبحث عن حلول وإيجاد أفكار جديدة في جو لا يسوده الوعي، وفي مؤسسة تسيطر على أوساطها قيم سلبية مثل الأنانية والشللية.
إنطلاقاً من مقولة أن هناك دائماً ما يمكن تحسينه، على المؤسسة تبني برنامج للتحسين المستمر، ولا تكتفي بتحسينات عشوائية يتم اللجوء إليها كردود فعل لإخفاقات بل تحسينات مبرمجة يشارك بها الجميع عن وعي وتفهم.
لقد إهتم اليابانيون بالتحسين المستمر، وأكدوا على أهمية أن يكون مستمراً على شكل خطوات صغيرة متتابعة وأن يكون بمشاركة الجميع
. أما في الغرب فهناك مفهوم آخر وهو إعادة البناء
re
-
design
، وهو مناقض تماماً في الأسلوب للتحسين المستمر من ناحية أنه يأتي بتغييرات كبيرة شاملة عندما تكون الأوضاع على وشك الانهيار.
إن التحسين المستمر نهج وفلسفة.
يهتممعظمالناس بتحديدلمن يعود الفضل في إنجاز عملٍ ما، أو الفضل في اقتراحٍ ما. بل يتوقع كثيرون إعترافاً بذلك. وهذا حق. ولكن في المؤسسات التي يمارس فيها العمل الجماعي والإبداع الجماعي، قد يقف الحرص المبالغ فيه على تحديد صاحب الفضل، حجر عثرة في طريق تقدم الأداء الجماعي وتنمية روح الفريق.
ولذلك ينبغي إضفاء نظرة جديدة بعيدة عن الانانية، لا تعير إهتماماً لمن يعود الفضل في إقتراح فكرةٍ ما، لأن الفكرة في شكلها النهائي تطورت كنتاج لمساهمات عديدة لدرجة يصعب معها تحديد من يقف وراءها، هذا لو أردنا البحث في ذلك.
يجب الإكتفاء بأن الفضل يعود إلى الفريق وإلى المؤسسة، وأن الإنجاز سيدفعها إلى الأمام ويرتقي بأدائها.
وهذا النهج لا يذيب شخصية الفرد تماماً، فهناك دائماً تميز بين الأفراد من ناحية حجم ونوعية مساهماتهم، وبالتالي فإن " الحق " لا يضيع، فلا بأس أن تنسب بعض الأفكار إلى أفراد معينين حتى لو تم شحذ هذه الفكرة بمساعدة زملائه في الفريق، فهذه المساعدة تُرد في مناسبةٍ أخرى، بمعنى أن الفريق يكون قد إعتاد أن يساعد أعضاؤه بعضهم ويسعدهم أن يبرز من بينهم واحدٌ منهم.
إن سيادة الاحترام ضرورة لا تأتي كمنة من الإدارة ولكنها واجب يجب العمل به وإشاعته بين العاملين، وعدم تقبل أي تعامل يخرج عن حدود الإحترام. إن سيادة الإحترام تضمن الكرامة البشرية وتصونها، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على إنتماء الموظفين وحسهم بالطمأنينة، الأمر الذي بدوره ينعكس على أدائهم ونتائج مؤسستهم والارتقاء بها.
تعاني كثيرٌ من المؤسسات من جنوح إداراتها إلى العمل لتحقيق أهداف قصيرة المدى. وبالتالي عدم إيلاء المدى البعيد، بنتائجه وخططه وإمكانياته، أهمية كبيرة. وهذا أمرٌ خطير للغاية، وكثيراً ما تدفع بعض المؤسسات ثمناً لهذا النهج قد ينتهي بزوالها. وهذا النهج يأخذ منحى أكثر خطورة حين تتحول الإدارة إلى التضحية بالمكتسبات المحتملة في المستقبل البعيد والمتوسط من أجل مكتسبات فورية على المدى القريب.
ولذلك يجب على الإدارة إعطاء إحتياجات المستقبل حقها من العناية والتحضير ورصد الميزانيات والتدريب وتحديث التكنولوجيا ودراسات السوق إلخ..حتى لو أدى ذلك إلى رفع تكاليف المرحلة وتراجع نتائجها المالية. ويجب كذلك على مجالس الإدارة أن تعتاد أن تتفهم مثل هذا النهج، بل يجب تثقيف جمهور المساهمين وتوعيتهم لأهمية ذلك، وبالتالي تقبل نتائج متراجعة قليلاً بسبب توسعات أو برامج تدريب أو تحديث خطوط إنتاج أو غير ذلك.
تهدف كل مؤسسة في العالم إلى النمو والتوسع، وعلى أقل التقدير تسعى إلى البقاء. وهذا لا يأتي من فراغ ؛ بل بالإعداد المسبق الذي يبدأ بالوقت المناسب. فهناك كثير من الأمور والقضايا لا تحلها النقود لوحدها، وإنما تحتاج إلى مزيج من المال والوقت والجهد. من الأمثلة على ذلك إعداد الكوادر الإدارية. فللحصول على مدير إنتاج يعمل في مؤسسة تتبنى ثقافة محددة، وتعمل وفق نظم وتقاليد خاصة، لا يمكن أن يأتي ذلك من خلال إعلان في جريدة. أو من خلال توظيف خريج هندسة صناعية جديد. وذلك لأن هناك تدريب خاص في الشركة، وهناك ثقافة ينبغي لهذا المدير المحتمل أن يستوعبها ويتشربها، قبل أن يتسلم عمله ويصبح مؤتمناً على هذه الثقافة وعلى الحفاظ عليها وتدريب الآخرين عليها. فليس من المستغرب أن ندعو إلى تعيين شخص كهذا قبل البدء ببناء قاعة الإنتاج التي سيتولاها.
إن إختيار البعض، في بعض الظروف، السعي وراء نجاحات سريعة، إنما هو مثل تناول المخدرات سعياً وراء سعادة زائفة ومؤقتة. الأمر الذي يعطي إنطباعاً لا يمثل الواقع، بل يصرف النظر عن عيوب في النظام فلا يتم التعامل معها في حينه، وربما تستفحل بعد زمن ويصبح تصليحها أكثر كلفة أو مستحيلاً.
لقد تطرقنا إلى أهمية التوعية في مداخلات كثيرة في هذا الكتاب، وهو أمرٌ لا يخفى على أحد، فالجميع يعرف أهمية الوعي والمعرفة، ولكن قلائل الذين يسعون إلى نشر الوعي على صعيد الممارسة. ويعود ذلك الى أنهم لا يعرفون كيف ومتى يفعلون ذلك في خضم وزحام العمل اليومي. أو أنهم لا يريدون إنفاق مال أو تكريس وقت وجهد لهذه الغاية. وحقيقة أن العامل الواعي المسلح بالمعرفة يعتبر ذخراً ومصدر قوةٍ للمؤسسة التي يعمل بها. وهو قادر على المبادرة والتصرف في الأوقات الصعبة.
ينبغي العمل على التخلص من وجود قيم سلبية في أوساط المؤسسة التي تؤثر على الأداء العام، وتؤدي إلى تشكل ثقافة سلبية. وقد تطرقنا إلى العديد من الثقافات والقيم السلبية في مواضع أُخرى من هذا الكتاب. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها الكذب والشللية والمحسوبية وغيرها. ولا داعي لتكرارها هنا بالتفصيل. و يتم التخلص منها بالتوعية والتوجيه والقدوة الصالحة وتبني سياسات ثابتة ومتسقة وكذلك من خلال محاربتها بشتى السبل.
الرسول القدوة (ص)
لقد كان الرسول مثالاً يحتدى في أخلاقه وفي أساليب عمله. وفيما يلي إستعراض لبعض خصاله التي علمها لصحابته، والتي ينبغي الإقتداء بها.
الصدق والأمانة
لقد عرف الرسول بهاتين الصفتين قبل الإسلام، وقد كان يلقب بالأمين. وقد كانا من أهم دلائل النبوة. والصدق والأمانة يشكلان منبعي الفضائل جميعاً. وما أحوجنا إلى أن نقتدي برسولنا الكريم، فنخلص مجتمعنا، بل ونخلص العالم، من أمراض إجتماعية قاتلة ومدمرة ومعيقة للتقدم والرخاء.
الثبات
وهي التمسك بالآراء والمواقف في جميع الظروف والحالات الذهنية والمزاجية. وهذه خلة حميدة، من الجميل أن يتحلى بها إداريونا وأن يبتعدوا عن المزاجية والكيل بمكيالين والتردد بتبني مواقف وسياسات ثابتة وواضحة لا تتغير مع الأهواء والحالة المزاجية والظروف.
العدل
لقد كان الرسول يعدل بين الناس كافة، سواء بالمعاملة أو بالعطاء أو بفض نزاع. ولم يكن يكترث للوم لائم أو عتب مستاء. وكم نحن بحاجة إلى الإقتداء بهذه الفضيلة في مصانعنا، فيعدل القائمون عليها بين العاملين فيها بغض النظر عن قرابة أو محاباة أو مركز وظيفي.
القدرة على التحمل
لقد تحمل نبينا الكثير. تحمل الكثير في مكة، وتحمل الكثير في الطائف، وتحمل الكثير في المدينة. تحمل الكثير من قريش، ومن القبائل العربية في المواسم ومن منافقي المدينة ويهودها. لقد كان مثالاً يحتدى في التحمل في الغزوات، التي كانت تتضمن سفراً طويلاً، مع القليل من الزاد ومواجهة صنوف من المعاناة. وقد كانت غزوة تبوك من الأمثلة على المشقة وبعد المسافة والغزو في حرٍ شديد التي تحملها رغم تقدمه في السن.
القدرة على التحدي
لقد كان رسولنا كارهاً لسفك الدماء ولحالات العداء والحروب. إلا أنه كان يملك القدرة على التحدي، بغض النظر عن موازين القوى. وبعد أن أُذن له في القتال حول المسلمين إلى أُمة مقاتلة ورسخ فكراً عسكرياً فريداً تجلى فيما بعد في معركتي مؤتة واليرموك. لقد تحدى الرسول قريش كفرد. وتحدى بيزنطة بالمهاجرين والأنصار، ومات عليه السلام وهو يوصي بإرسال بعثة أسامة بن زيد لمحاربة الدولة البيزنطية التي كانت في أوج جبروتها بعد انتصارها على الفرس، وقد كان ضرباً من ضروب التحدي المحسوب بعبقريةٍ فذةٍ فريدة.
عطوف
لقد كان عطوفاً محباً ودوداً مع الجميع، الصغير قبل الكبير مع المرأة والرجل، وحتى مع الأسرى والأعداء. وقد ترك ذلك أثراً على مسيرة النبوة وأثرها. فقد أسلم كثيرون ممن كانوا يكرهونه ويتمنون موته بسبب معاملته الودية.
وهذه أيضاً من الصفات التي نتمنى أن تشيع في أوساط مصانعنا، فتسود المودة بين الزملاء فيزيد العطاء وتتحسن الدافعية لعملٍ أفضل.
يحترم الآخرين
لم يكن الرسول يتعامل مع الناس، جميعهم، بعنجهية أو كبر أو قلة إحترام. فقد كان يحترم الناس جميعاً. ولم يكن يتلفظ بألفاظ تنم عن غير ذلك، ولا تصدر عنه تصرفات لا تعبر عن إحترامه للآخرين، بل كان ينتقي أفضل الألفاظ ويتعامل مع الناس جميعاً بمنتهى الإحترام.
رُؤيوي
لقد كان الرسول يمتلك رؤيا خاصة، يستطيع أن يحلل الحاضر ويستنبط ما ينفع المستقبل. والأمثلة على ذلك كثيرة ومن بينها صلح الحديبية حيث كانت المعارضة شديدة على الصلح، ولكن في الأشهر القليلة القادمة إقتنع الجميع أنه كان على حق، فقد كان يدرك أن حركة التاريخ لصالحه.
وفي زماننا حيث نتطلع إلى رسولنا كقدوة، نتمنى أن يكون صانعو القرار لدينا ممن يمتلكون القدرة على الإستنباط الصحيح لما ينفع الأمة من خلال فهم الماضي والحاضر.
معلم ومربي
لم يكن الرسول قائداً يعطي الأوامر ويتوقع تنفيذها، إنما كان باني أجيال، فقد بنى قادة عظاماً لا يزال العالم يتحدث عن عظمتهم. فقد كان معلماً ومربياً وموجهاً، تبنى أساليب ناجعة إلى أبعد الحدود، هذه الأساليب لو تعلمناها لأفادتنا في صناعتنا وفي كافة مناحي حياتنا التنموية، فالمدير يجب أن يكون معلماً وموجهاً وليس آمراً.. هكذا كان رسولنا.
مؤدب
لقد كان الرسول مدرسة في الأدب والتأديب، وقد ترك لنا جملةً من الأحاديث التي تتحدث عن آداب الطعام والشراب والحديث وحتى قضاء الحاجة، الأمر الذي شكل ما يمكن أن نسميه إتيكيت إسلامي، سبق أُمم كثيرة في العالم.
الحس العميق بالتوقيت
لقد كان لديه (ص) حس عميق ودقيق في التوقيت
sense of timing
، وشهدت على ذلك جميع المعارك والغزوات والبعوث التي نظمها. فجميعها كانت موفقة من ناحية التوقيت، حتى تبوك التي جاءت في فصل الصيف، فصل الحر والثمار، كانت مقصودة لفرز النفاق وإظهاره.
دقيق
لقد إتسمت أحاديث الرسول وأفعاله بالدقة المتناهية، فلم يكن يترك مجالاً للتأويلات. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها قوله " انا مدينة العلم وعليٌ بابها، وإنه لا نبي بعدي ". ومنها أيضاً تعليماته لأبي عبيدة عند بعثه إلى نجران، وكذلك بعث خالد إلى دومة الجندل. فقد كانت أحاديثه دقيقة فيما يتعلق الأمر بضمونها وما تحتويه من معلومات ووصف.
وهذه صفة ضرورية للقائد والمدير، بحيث ينطق بحديث يقصد كل كلمة فيه ولا تنقصه تفصيلة هنا أو شرح هناك ولا يكتنفه الغموض.
إداري ناجح
لقد كان الرسول إدارياً ناجحاً، سواء في السلم والحرب. فهناك روايات عديدة تظهر فيها قدراته الإدارية الكبيرة في إدارة الموارد على نقصها وإدارة الأفراد على قلتهم وإدارة المعلومات، التي حرص على حصوله عليها بطرق لم تكن معروفة للعرب.
كاريزما
لقد كان للرسول شخصية شديدة التأثير جعلت كل من عرفه يتعلق به ويحبه. فقد إمتلك جميع العناصر المتصلة بالكاريزما؛ فقد كان ذا طلعة بهية ويمتلك الفصاحة والقدرة على الحديث كما كان موضوعياً في طرحه وغير متناقض.
مقنع
لقد كان يتمتع بقدرة عالية على الإقناع، فقد إمتلك المنطق والمعرفة والقدرة العالية على التاثير في الآخرين.
مستمع جيد
لقد كان الرسول يصغي للآخرين عندما يتكلمون، وذلك أدباً وإحتراماً ولكي يستمع فعلياً ويستوعب ما يقولون، ولذلك سماه المنافقون " أُذن ". وهذه التهمة لم يعمل على نفيها. وهذه صفة يجب أن يتصف بها جميع المسؤولين، فعدم الإستماع ظلم، أو على الأقل يؤدي إلى الظلم وإضاعة فرصة للتواصل. كما لم يعرف عنه مقاطعة محدثه.
شجاع
لقد إتصف الرسول بالشجاعة والجرأة. وقد ظهر ذلك على تصرفاته كافة، سواء في زمن السلم أم في زمن الحرب، والأمثلة على ذلك كثيرة. سواء في حديث هجرته إلى المدينة، حيث بقي لوحده لعدة أشهر بعد هجرة صحابته، أو في معاركه مثل أُحد وحنين وذات الرقاع، حيث أظهر شجاعة فائقة. كما لم يُعرف عنه التهور.
صبور
لقد ضرب الرسول المثل الأعلى في الصبر. فقد تحمل الكثير من عنت قريش في المرحلة المكية، كما تحمل الكثير من مشاق الدعوة وأعبائها. ولم يظهر أي مظهر من مظاهر الضعف طوال حياته، كما لم يقدم تنازلات تخفف عنه عبء تعديات خصومه وتجاوزاتهم.
كريم
لقد كان الرسول كريماً، وكان قدوة في ذلك يحض على الكرم والعطاء على الرغم من قلة إمكانياته، وكان أكثر ما يكون كرمه في رمضان.
متعامل كفؤ مع المعلومات :
يمتلك قدرة عالية في الحصول على المعلومات وفي الإستفادة منها. كما كان يستطلع ويسأل بإستمرارعن تحركات الجهات المعادية. وقد استطاع أن يجهض كثيراً من التحركات الموجهة ضد دولته الصاعدة قبل أن تنضج.
تجنب إخافة الناس:
كان الرسوال (ص) يحرص على أن لا تكون علاقته بصحابته علاقة خوف، وإنما علاقة إحترام ومحبة. وفي رواية انه كان ممسكاً بقطعة من سعفة نخل بيده، فجاءه جبريل ونهاه عن ذلك لأن ذلك يخيف الجالسين معه. فالخوف لا ينبغي أن يكون سمة العلاقة بينه وبين صحابته. وهذا ينسحب على الحاكم ورعيته، وعلى المدير ومرؤوسيه، لمن يريد أن يقتدي بالرسول عليه السلام. فالعلاقة القائمة على المحبة والإحترام أعمق وأكثر ديمومة من العلاقة القائمة على الخوف. وضمن سيادة الوعي، يصبح إحترام ومحبة رئيس العمل محرك قوي وفعال لدرجةٍ عالية. إن المدير الذي يحترمه مرؤوسوه أكثر مما يخافونه يعرف أكثر عن مؤسسته فتصله المعلومات الدقيقة بطريقةٍ سلسة وبيسر شديد.
محبة ومودة :
لقد كان الرسول ودوداً مع صحابته ومحباً لهم. وقد كان يترجم ذلك إلى الحرص عليهم وإلى معاملة حسنة معهم.
الإحترام
لقد كان الرسول يحترم الناس جميعاً لا يفرق بين ذكر وأنثى، أو بين صغير وكبير، أو صديق وعدو. لقد كان يحترم الناس في جميع الظروف.
معلم :
لقد كان الرسول (ص) معلماً وموجهاً ومربياً. لقد كان يقول " بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ". لقد استطاع أن يحول أُمة ممزقة ومتخلفة إلى أمةٍ ذات رسالة وحضارة. لقد كان الرسول معلماً ناجحاً جداً، وإذا ما حكمنا من خلال النتائج فهو أعظم معلم عرفته البشرية. لقد كان يمارس التوجيه والتعليم والتربية باستمرار، وقد استطاع أن يخرج جيلاً من القادة العظام، تخرجوا من مدرسته العظيمة.
ينبغي للمدير الذي يعتبر نفسه قائداً فيعطي حيزاً من وقته لتعليم وتدريب العاملين معه، والعمل كذلك على تعميق وإغناء وتجانس ثقافة المؤسسة التي يرأسها، اقتداءً بالرسول الكريم وغيره من الأنبياء والمصلحين والقادة العظام التي عرفتهم البشرية.
متواضع
لقد عرف عن الرسول كرهه للكبر، وحبه للتواضع وتشجيع أتباعه على التحلي بهذه الفضيلة التي يحبها الله سبحانه.
البعد عن الصراخ :
لم يكن الرسول يلجأ إلى الصراخ على من يعمل تحت إمرته، في جميع الأوقات، بما في ذلك زمن الحرب. وعندما كان يغضب كان يظهر عليه ذلك، ولكنه لم يكن يصرخ . وقد شهد بذلك خادمه الشخصي، أنس بن مالك رضي الله عنه، الذي أكد أنه لم يكن يصرخ عليه حتى عندما كان يخطئ. وهذا عكس ما يعتقد به كثيرٌ من مدرائنا، الذين يعتقدون أن الصراخ حقٌ طبيعي، اكتسبوه عندما تسلموا المنصب، وأنه أداة مهمة لإنجاز المهام وتسيير الأعمال. والحقيقة أن كثرة الصراخ تفقد المدير تأثيره، كما يؤدي إلى تآكل انتماء العاملين وعطائهم.