إن التحول في أساليب العمل خطوة ضرورية تتماشى مع التحول في شخصيات العاملين أفراداً وجماعات. ونقصد بأساليب العمل؛ النظم والقوانين والتقاليد والمواقف المرتبطة بالعمل اليومي للمؤسسة وحتى التوقعات.
يجب ترسيخ تقاليد عمل تسمح بممارسة انماط العمل الجديدة ولا تقف عائقاً في سبيل تطبيقها. مثل تقبل النقد والتشاور وطلب المساعدة وإشراك الآخرين وغير ذلك من العادات والتقاليد الإيجابية التي تسهل إقامة علاقات عمل من نمط جديد قائمة على الإحترام المتبادل والتعاون والعمل الجماعي.
وكذلك ترسيخ تقاليد ومسلكيات تسهل العمل الجماعي وتساعد على إشاعة جو مريح في اوساط المؤسسة، مثل حسن الإستماع، وعدم إصدار الأحكام المستعجلة والإكثار من الجدل وكثرة الكلام والمشاركة.
يجب العمل على إحداث تحول في الأخلاقيات والمسلكيات السائدة في أوساط المؤسسة. بحيث يتم تخلص العاملين من المسلكيات السلبية والمواقف المرتبطة بها، مثل تلك التي تقف في طريق العمل الجماعي وتضعف روح الفريق وتشيع إنعدام الثقة بين الزملاء مما لا يخدم الجهد الهادف إلى بناء ثقافة تسهل التحول العام نحو الأنماط الجديدة المبتغاة. مثل الفردية والانانية والشللية والتحاسد وعدم حب الاخرين او حب الخير لهم.
وهنالك عدد من الطرق لعمل ذلك ؛ فبالإمكان البدء بإعداد قائمة بالمسلكيات التي تود الإدارة أن تراها تختفي من اوساط العاملين وذلك من خلال فهم واقع المؤسسة والعاملين فيها وطبيعة إحتياجاتها. ثم البدء بمحاربة هذه المسلكيات عند ظهورها والتوعية باهمية الابتعاد عنها وتركها. كما يجب خلق رأي عام لا يتقبلها ويقاومها.
يجب أن يجري تحول في أليات صنع القرار وأساليبه، بحيث تمكن اكبر قطاع من العاملين من المشاركة في صنعه. كما يجب تبني آلية تسمح بمناقشة مشروع القرار على اكثر من مستوى، بحيث يتم إشراك وظائف متعددة، والأخذ بملاحظاتهم. يجب أن لا يُسمح بتكون معسكرين؛ واحد يصنع القرار والآخر ينفذه. إن مشاركة منفذ القرار في صنعه يرتقي بالمؤسسة وعلاقاتها وثقافتها ونتائجها إلى مستويات أعلى.
ويأتي هذا التحول من خلال وضع آليات وتقاليد جديدة لصنع القرارات، توظف لجان متعددة الوظائف، وتجعل المسئول يعتاد الإستماع لأي نقد أو مقترح أو مساهمة مهما كان مصدرها، بل يجب أن يتقبل ذلك بمنتهى رحابة الصدر حتى يصبح قدوة للمراتب الادارية الادنى. كما يجب إعتياد طرح أفكار في إجتماعات عامة يشارك فيها جمهور المؤسسة، من عمال ومشرفين وفنيي صيانة إلخ..
لا شك أن تطبيق مثل هذا النهج في مجتمعات لا يتوفر الوعي السياسي لدى مواطنيها، ولم تنضج التجربة الديمقراطية فيها بعد، سيواجه بعض الصعوبات، التي تظهر على شكل ظهور المزاجية والشللية والشخصنة أثناء ممارسة صنع القرار، ولكن التطبيق التدريجي والمرتبط بالتوعية سيجعل من هذا النهج آلية تضيف تميزاً مهماً للمؤسسة.
كما صنع القرار جماعياً ينفذ جماعياً، وكما أُشرك قطاع واسع من العاملين في صنع القرار، فإن المنفذين أو جزءاً منهم يكونون قد \شاركوا في صنع القرار، وبالتالي فإن تفهمهم لحيثياته وإقتناعهم فيه يساعد على تنفيذ أفضل وأسرع له.
ينبغي لآليات المتابعة أن تأخذ أشكالاً أخرى. فتفرغ من مضمونها الرقابي الإستخباري أحياناً السائد في كثيرٍ من المؤسسات. وتأخذ شكل حضور إشرافي وإداري يرعى الجهد العام المقدم من قبل العاملين لتحقيق غايات المؤسسة ومهامها. إنه حضور توجيهي أبوي يسعى إلى تصحيح المسار كلما ظهر خروجاً عنه. ويسعى إلى فعل ذلك بمرحلةٍ مبكرةٍ جداً، قبل أن يستفحل الخطأ ويصبح مكلفاً. آليات المتابعة يجب أن تهتم بتصحيح الخطأ أكثر من تحديد من هو المسئول عنه.
ينبغي تطوير القدرة على كشف تراجعات الأداء. ويتم بتحسين وسائل الإتصال الداخلي في المؤسسة بحيث يتم تمرير المعلومات بشكل دقيق وفعال، على شكل تقارير، كما يتم الإطلاع عليها بشكل يسهل معه كشف أي تراجع في النتائج. وهذا بشكل عام يتطلب توفير ما يلي:
1.
دقة إستنباط المعلومات عن الأداء، لإعداد التقارير الدورية عنه.
2.
غياب الخجل والخوف عن الإفصاح عن التتاائج المتراجعة، وعدم محاولة إخفائها أو تزويقها.
3.
سرعة نقل التقارير، من خلال وجود قنوات إتصال فعالة داخل المؤسسة.
4.
وجود نظام تقارير مصمم جيداً، يسهل معه ملاحظة التغيير.
5.
وجود إداريين، في مختلف المراتب، يتعاملون إيجابياً مع وقتهم، بحيث يديرونه بكل كفاءة، الأمر الذي يعطي الوقت المناسب للمدير للإطلاع على التقارير.
تنشغل الإدارات المختلفة ؛ العليا والوسطى والإشرافية، في العادة في وضع حلول لمشاكل وأزمات وتراجعات، بمختلف انواعها، سواء كانت تتعلق بالنتائج أو بنقص الطاقة الإنتاجية او مشاكل تتعلق بإحتياجات السوق أو القوى البشرية وغير ذلك. في الواقع إن وضع الحلول وإيجادها وإختيارها هو الوظيفة الرئيسية للإداريين. وفي مؤسسة من نوعٍ جديد (!) ينبغي لآليات وضع الحلول أن تأخذ شكلاً جديداً يتماشى مع التوقعات الجديدة والثقافة الجديدة.
يجب أن يتسم التغيير في إشراك قطاع واسع من العاملين في وضع الحل. وذلك من خلال آليات جديدة مثل لجان متعددة الوظائف، التي يشارك فيها مجموعات ينتمون إلى وظائف متعددة. بحيث يستفاد من خبراتهم المختلفة، كما يهيئهم ذلك لتطبيق الحل المتفق عليه.
كما يجب تحسين آليات مراكمة الخبرات، بحيث يتم نشر هذه الخبرات عند حدوثها. وكذلك حفظ معلومات وبيانات تتعلق بهذه الخبرات والتجارب، ليسهل إستعادتها بشكل موثق عند اللزوم.
تطبق الحلول بشكل جماعي من قبل الذين شاركوا في صنع المشكلة في المقام الاول والذين ساهموا في وضع الحل على مستوى آخر. وبالتالي فإن الحل ينفذ بقناعة أفضل وبصورة أسرع. كما أن إنتهاج أسلوب المشاركة يجعل من إمكانية تكرار الأخطاء أقل.
ينبغي للسلسلة القيادية أن تأخذ شكلاً آخر، فتتخلى عن طولها ونحولها. فبدلاً من أن تمر بأفراد، تمر بجماعات وفرق. كما تأخذ تفرعات جانبية من خلال إقامة علاقات بين الأقسام المختلفة، التي يفترض تقليدياً أن تعمل بالتوازي.
ينبغي لهذه العلاقة أن تتحول عن مضمونها التقليدي، فيصبح الرئيس في خدمة المرؤوس. وهذا ليس نمطاً من الهرطقة. ففي المؤسسات الحديثة ذات التفكير التقدمي
forward thinking organizations
يُتوقع من المدير أن يقدم جميع انواع الدعم للعاملين معه وان يهيئ لهم جميع الظروف التي تمكنهم من القيام بما يطلبه منهم، وكذلك يتوجب عليه توجيههم وتدريبهم وتشجيعهم وضمان بقائهم في حالة معنوية جيدة ودافعية عالية. وبالتالي فإن مفهوم الرئاسة يفرغ من مضمون المشيخة والمخترة والزعامة.
ينبغي العمل على تحول ثقافة المؤسسة بحيث يتم التخلص من بعض الثقافات والقيم السلبية المترسبة عبر سنين من عمر المؤسسة، مثل الفزع من الأخطاء والأزمات و إعتبارها فرصة لإجراء تحسينات، وكذلك ثقافة اللوم المنتشرة في كثير من المؤسسات، والتي تدفع العاملين على التراشق باللوم لبعضهم البعض، الأمر الذي ينجم عنه أجواء محمومة في أوساط المؤسسة.
كما ينبغي لثقافة المؤسسة أن تساعد على تطبيق النظم والتقاليد والآليات المدرجة في هذا الفصل.
ينبغي تحسين التواصل في أوساط تنظيم المؤسسة في جميع الإتجاهات. وهذا يتطلب ثقافة جديدة تخلو من التحسس الذي نراه في كثير من المؤسسات لدى إطلاع " الآخرين " على " خصوصيات " القسم أو خط الإنتاج أو الفرع. وهذا يعني التخلص من مفهوم وجود آخرين في المؤسسة، ووجود خصوصيات يجب أن لا يطلع عليها أحد من هؤلاء الآخرين. وذلك من خلال تنمية روح الفريق الواحد الكبير وتغييب ثقافة الخجل من التحدث عن المشاكل وبحثها من قبل الجميع.
إن تفعيل قنوات الإتصال في جميع الإتجاهات تتطلب إيجاد وسائل إتصال شمولية، أقرب إلى وسائل الإعلام
mass media
، التي توصل المعلومات إلى جميع العاملين (أو إلى معظمهم) بحيث يهتم بها من له علاقة، ويتعامل الآخرون مع المعلومة للإطلاع والعلم، ما لم يكن لديهم ما ينبهون إليه أو يقترحونه.
من الوسائل التي يمكن أن تفي بالغرض ؛ إذاعة داخلية، أو بريد إلكتروني أو الإجتماعات العامة. وهذه جميعاً وسائل إتصال فعالة يمكن إستخدامها، كما يمكن إبداع وسائل مبتكرة وبسيطة تناسب خصوصية المؤسسة. أذكر أنني اطلعت على تجربة كانت مستخدمة في إحدى السفارات، وهي إستخدام لوح في مكان مركزي يكتب عليه ملاحظات ومعلومات يطلع عليها الجميع ولكن شخصاً محدداً أو أكثر يقومون بما هو أكثر من الإطلاع وهو التعامل مع ما هو مكتوب كما هو مطلوب.
يتجه ا
لعالم بإتجاه ما يسمى "الفرق الموجهة ذاتياً"
self directed teams
، وهو توجه جديد نسبياً، ويدعو إلى بناء فرق عمل قادرة على تسيير نفسها بقدراتها الذاتية. ويذهب البعض إلى إعتماد كامل على الذات إلى درجة تعيين موظفين جدد في الفريق.
وهذا يصبح ممكناً، بالمنظور النسبي، بالتوعية والتدريب ورفع الدافعية وإعطاء الموظفين درجةً معقولةً من الأمان الوظيفي والفوائد المادية، وبالتالي خلق حالة من الإنتماء العميق، وتعميق تفهم العاملين لغايات المؤسسة ورسالتها.
وهذا يظهر إلى الوجود موظفين، بما في ذلك مدراء، مسيرين ذاتياً
self driven
. موظفين يملكون القدرة على المبادرة وعلى الأداء الجماعي. بكل ما يتطلبه العمل الجماعي من التحلي بخصائص مثل التمسك بالموضوعية وتقبل النقد والتراجع عن الخطأ وقبول المشاركة في فضل إنجاز عمل أو إبداع فكرة وغير ذلك من الفضائل، وكذلك التخلص من العقلية السائدة في بعض الأوساط والتي تعيق التكامل والتعاون، وبالتالي تجعل ظهور هذا النوع من الفرق غير ممكن.
كما يذهب بعض فلاسفة الإدارة بإتجاه ما يسمونه " فرق غير مرؤوسة "
bossless
teams
، وهي فرق موجهة ذاتياً بلغت درجة من النضج أن لا تحتاج إلى من يقودها. وهذا يبدو مناقضاً للطبيعة البشرية. ولكن بالوعي والتدريب يمكن الوصول إلى حالة قريبة بصورة نسبية من ما توحيه التسمية، ولو بتغيير مفهوم القيادة، بحيث يًغيب نموذج المدير الذي يذكر الناس على الدوام أنه هو الريس
boss
.
لقد قيم أحد الأشخاص إحدى المؤسسات التي لا يلجأ مديرها إلى تذكير العاملين بنفسه بإستمرار، فهو يترك العمل المؤسسي يعبر عن نفسه، فقال أنها، أي المؤسسة، تسير "بالبركة" وكأن لا يوجد من يقودها، وقد إعتبر ذلك نقيصة، ولكن سرعان ما غير ذلك الرأي من خلال التعامل مع العاملين من مختلف المراتب الوظيفية، فقد وجد أنهم يتمتعون بحس عميق بالإنتماء ويملكون قدرة كبيرة على المبادرة.
ينبغي ترسيخ عقيدة التحسين المستمر من خلال الإرتقاء بنظم وأساليب ومنتجات المؤسسة ومهارات ودافعيات العاملين فيها. وهذا يأتي بالتوعية والتعليم لخلق قناعة بأهمية التحسين المستمر وبأساليبه وآلياته. فهناك دائماً مجال للتحسين، والتحسين غير القابل للنقض، لا بد وأن يكون بمشاركة قطاع عريض من العاملين في المؤسسة، وأن يكون، كذلك مستمراً بخطوات صغيرة متلاحقة. يجب أن يصبح التحسين المستمر هاجس جميع العاملين، بحيث يسعى كلٌ من موقعه إلى الإرتقاء بالأداء العام، من خلال تقديم مقترحات تناقش في إجتماعات يشارك فيها عاملون في وظائف شتى ذات علاقة، الأمر الذي يغني الفكرة ويشبعها نقاشاً ويجعل تطبيقها سلساً ومقبولاً.
من الشروط الأساسية لبناء ثقافة تقدمية ونظام إداري حديث، سيادة المؤسسية في العمل المهني، والبعد عن الفردية والمزاجية والعمل القائم على شخص واحد
one man show
.
والمؤسسية المبالغ فيها والتي تفرخ نظاماً بيروقراطياً يخلق قيوداً تحد من تقدم المؤسسة ونموها وتحولها إلى كيان مشلول عاجز عن المبادرة والتصرف في الأزمات.
إن المؤسسية المطلوبة تعطي أدواراً لجميع العاملين وتشجعهم على العمل الذكي بتوافق كامل فيما بينهم، مع ترك مجال للإجتهاد والمبادرة.
إستعرضنا في هذا الفصل التغييرات الضرورية في النظم وأساليب العمل التي يجب أن تحدث من أجل تسهيل التغيير المراد إحداثه في المؤسسة. إن هذه التغييرات شرط أساسي لنجاح التغيير العام، ولا بد أن تسير جنباً إلى جنب ضمن جهد التغيير العام، بحيث يساهم في صنعها العاملون الذين، بنفس الوقت، يسعون لتغيير أنفسهم، أو على الأقل ينخرطون في جهد عام يسعى لهذه الغاية.