لو قيض لي أن أعود إلى وثنية أجدادي، لما عبدت صنماً أو كوكباً أو إنساناً أو حيواناً. وإنما كنت لأختار القطار. ليس لضخامته أو لجبروته الميكانيكي أو لجماله، ولكن لأنه عامل توحيد فعال.
فهو يقرب بين الشعوب ويمازج بين الثقافات.
لقد أدرك ذلك مخترعوه وصانعوه الأوائل؛ الإنكليز، فنشروا خطوط السكة الحديدية في جزيرتهم الوعرة في جميع الإتجاهات، كما بنوها في جميع البلدان التي إستعمروها لغايات تسهيل تنقل أدوات الإحتلال والإستعمار الخاصة بهم. لقد فعلوا ذلك في الهند وفي أستراليا وجنوب إفريقيا وشرقها، ما عدا الدول العربية. بل بالعكس حرصوا على أن يبقى خط الحديد الحجازي مدمراً، وجعلوا الخط الذي يربط شمال سوريا بشمال العراق يمر بالأراضي التركية.
الخط الوحيد الذي بناه الإنكليز – حسب علمي – هو الذي ربط عكا مع صور عبر نفق الناقورة، وقد أنشأوا ذلك الخط عام 1943 لغايات التمهيد لحملة الحلفاء ضد حكومة فيشي الموالية لألمانيا النازية في سوريا ولبنان.
لقد وعى الإنكليز الإمكانيات التوحيدية للسكة الحديدية فعززوا شرذمتنا بإستبعادها، فلم يشجعوا النظم التي سارت بركبهم على بناء خطوط تربط بين الدول ولا حتى داخل كل دولة على حدة.
ظهر هذا التوجه جلياً في العام 1927، حيث عقد مؤتمر حيفا، برعاية إنكليزية، وبمشاركة مصرية وأردنية وسعودية وفرنسية وتركية. الهدف كان إحياء خط الحديد الحجازي. إنتهى المؤتمر دون قرارات، فلم يكن أي من المشاركين يرغب بتحقيق أهداف المؤتمر. إنتهى المؤتمر بفضيحة، لدرجة أن مندوب السعودية، وكان عراقياً، خجل أن يعود إلى السعودية فذهب إلى العراق.
قامت بعض الدول العربية ببناء عدد من الخطوط الحديدية. ولكن ضمن حدود دولهم. حتى في الإمارات العربية المتحدة، وهي تجربة وحدوية ناجحة ، قامت حكومة إمارة دبي ببناء شبكة قطارات ( مترو )، ولكنها إقتصرت على حدود الإمارة. كم ستكون عظيمة لو كانت عابرة للإمارات، وكم ستكون أعظم لو كانت عابرة لدول الخليج فربطت مسقط بالبصرة. هل تنقصنا الإمكانبات أم تعوزنا الحاجة إلى ذلك.
الربط بين الدول العربية لا يحتاج الكثير. ففي أكثر الدول يوجد شبكات محلية. لو ترك ذلك إلى القطاع الخاص لتم تنفيذه منذ عقود. القضية تطغى عليها أبعاد سياسية وعقائدية، سيأتي قريباً زمن القطار، زمن إختفاء الحدود وزمن إختزال المسافات.
[ اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً ]
نديم أسـعد