تعد شخصية نابليون القيادية من أكثر النماذج القيادية في تاريخ العالم أحقية للدراسة والتأمل. فهو ينتمي إلى ذلك النوع من القادة الذين يقاس أدائهم بطريقة صعودهم وبالطريقة التي مارسوا فيها القيادة، وليس بالنتائج التي صنعوها، فقد مات نابليون منفياً في جزيرة نائية، وهُدم كل ما بنى في حياته، ولم يترك إمبراطورية كما كان يأمل..
نابليون إبن الثورة الفرنسية، فهو صنيعها، إن لم يكن من صانعيها، فقد ظهر بعد تفجيرها بسنين. ولولا الثورة لما نبغ ولربما عاش حياة عادية في مسقط رأسه، جزيرة كورسيكا، حيث ولد لأبوين إيطاليين سنة 1769م .
عندما قامت الثورة الفرنسية كان عمر نابليون عشرين سنة، حيث إنضم إلى جيش الجمهورية الأولى وأصبح ضابط مدفعية.
ما يهمنا من سيرته بعض الجوانب التي سنلقي الضوء عليها في السطور التالية.
عرفت المنطقة العربية نابليون من خلال حملته على مصر. ففي العام 1798م قاد أسطول فرنسي إلى سواحل مصر الشمالية الغربية وتمكن من إنزال جيشه بنجاح وإحتلال مدن الساحل والتقدم إلى القاهرة والسيطرة عليها بعد معركة حُسمت بساعات قرب الأهرام، وما لبث أن سيطر على معظم الأراضي المصرية. وكانت مصر ، حينذاك تحت الحكم العثماني، ولكن السلطة الفعلية كانت بيد المماليك، الذين كانوا يحكمون البلاد بعسف وغباء شديدين، مما جعل مصر تنتقل من أسوأ نظام إلى حكم يًُظهر ويتعامل بمبادئ الثورة الفرنسية ، ولو ظاهريا. ومرت البلاد بصدمة حضارية عبرت عنها بالنهضة التي قادها محمد علي بعد إنسحاب نابليون.
كان المسوغ الذي أطلقه نابليون لحملته هو أنه جاء ليعاقب المماليك على سوء معاملتهم للتجار الفرنسيين. كما إدعى أنه لا يريد فصل مصر عن الدولة العثمانية، وأنه لا يعادي الإسلام. ولكن الدوافع الصحيحة للحملة كانت قطع الطريق على الإنكليز في محاولتهم للسيطرة على الهند وطريق الهند، حيث أجرى إتصالات مع السلطان الهندي الثائر على الإنكليز تيبو ونسق معه ووعده بالمساعدة.
لقد ذهب بعض المؤرخون إلى أن نابليون تظاهر بالإسلام أو أسلم فعلاً، وهذا لايبدو صحيحاَ، فقد أورد الجبرتي، المؤرخ المصري المعاصر، معظم المنشورات التي كان الفرنسيون يوزعونها لتهدأة الشعب المصري، ولم يرد في أي منها ذكر لإسلامه، إنما كان يكرر عبارة أنه محب للمسلمين ولنبي المسلمين، وكانت منشوراته تحتوي على آيات قرآنية ومفردات دينية إسلامية بكثرة. أي أنه لم يكذب ولم يدلس ولكنه مارس الإنتهازية السياسية بقوة. مثل إدعائه أنه لا يعادي السلطان العثماني وأنه يريد الخير لمصر وشعب مصر. وهذا الخير ، إما أن يكون خيراً يحمل تعريف فرنسي، أو أنه ليس خيراً على الإطلاق.
حاول نابليون غزو الشام. فتمكن من إجتياح الساحل الفلسطيني لغاية عكا ، التي كان يحكم بها أحمد باشا الجزار، بإنتداب عثماني. وإرتكب مجازر فظيعة ، وخاصة في يافا حيث قتل أربعة آلاف أسير ، حسب أحد مناشيره. ولكنه
عانى أولى هزائمه أمام أسوار عكا. ولم تكن واترلو أولى معاركه الخاسرة كما يكرر المؤرخون الأوربيون. وعاد نابليون إلى مصر وأعلن أنه إنتصر، ويبدو أنه لم يكن مقتنعاً تماماً بما يقول فأدرج خمسة عشر سبباً لإرتداده عن عكا في منشور وزعه الفرنسيون على المصريين.
ولم يذكر سبباً حقيقياً لذلك، وهو أن المحاصرين في عكا قاموا برمي عدد من الصحف الفرنسية إلى الجيش الفرنسي المعسكر خارج الأسوار، كانوا قد حصلوا عليها من الأسطول الإنكليزي الذي قدم دعماً للجزار ساهم في تعزيز قدرات عكا على الصمود. وكانت الجرائد تحتوي أخبار ومقالات عن الصراع على السلطة في فرنسا، مما أوقظ في نابليون حساً بأنه مهمش، وأن عليه العودة إلى بلاده ليكون لاعباً في صراع السلطة. وفعلاً سرعان ما غادر سراً إلى فرنسا تاركاً القيادة في مصر بيد مساعده كليبر، الذي تم إغتياله لاحقاً.
في فرنسا تمكن نابليون من إعتلاء سدة الحكم. فقد عاد برصيد كبير فرنسياً. فهو الذي سيطر على القاهرة، التي عجز عن السيطرة عليها لويس التاسع، فقد حاول الفرنسيون إحتلال مصر على الأقل مرتين وفشلوا أثناء الحروب الصليبية.
وفي فرنسا قاد جيوش بلاده ضد أوربا برمتها فهدم عروش وكسر جيوش وقضى على الكثير من النظم والترتيبات التي كانت عالقة منذ العصور الوسطى، فمهد لتوحيد ألمانيا، التي توحدت تحت إحتلاله، وبسبب حروبه تم إلغاء الكثير من الإمتيازات الإقطاعية في أقطار أوربية عديدة، مثل إسبانيا. وأوقظ روسيا من سباتها، وحدثت تحولات إجتماعية واسعة. ولكنه هُزم. وأرسل إلى جزيرة إلبا منفياً. ثم إستطاع الهرب إلى فرنسا، حيث سيطر على الدولة الفرنسية من جديد. ولكنه سرعان ما مني بهزيمة ساحقة، ونُفي إلى جزيرة نائية ولم يعد إلى مسرح السياسة الأوربي.
كان نابليون قائداً فذاً عانى من شدة الطموح، وكان يمتلك كاريزما عالية. كما كان قائداً ميدانياً مميزاً.
في ختام هذه العجالة أود أن أشير إلى ثلاث حقائق حول أسلوب قيادته؛ الأولى أنه كان يتواجد في أكثر المواقع ضعفاً في ميدان المعركة. وإذا ما إنضم إلى إجتماع لم يكن يأبه أن يجلس في الصدر، فقد كان يقول حيثما أجلس هو الصدر. وكان يمتلك قدرة عالية على التركيز فقد كان يسيطر على عقله وتفكيره سيطرة تامة؛ وكان يشبه عقله بالخزانة ذات الأدراج، يفتح درجاً محدداً فيفكر بموضوع محدد، ثم يغلقه ويفتح آخر فيفكر بموضوع آخر، وهكذا.. ويمكن أن يغلق جميع الأدراج ولايفكر بشيء فينام. وكان يعرف عنه قدرته على النوم على ظهر الحصان في وسط المعركة.. لدقائق.
نديم أسـعد