صلاح الدين الايوبي
ولد صلاح
الدين في
تكريت
في
العراق
عام
532
هـ
1138
م
يوم غادر
والده
نجم الدين أيوب
قلعة
تكريت
لأنه قتل جندياً من حاميتها، ويرجع نسب
الأيوبيين على أغلب الروابات إلى
عائلة
أيوب بن شاذي بن مروان
الكردية
من أهل مدينة دوين في
أرمينيا
. توجه نجم الدين والد صلاح الدين بعد ذلك إلى
بعلبك
حيث حصل على وظيفة رفيعة فيها وبعد سبع سنوات انتقل إلى
دمشق
، وقضى صلاح الدين طفولته في دمشق حيث أمضى فترة
شبابه في بلاط
الملك العادل نور الدين محمود زنكي
أمير
دمشق
وتلقى
علومه
في دمشق وبرع في دراساته في العلوم الدينية
والعلمية.
كانت
الدولة العباسية
قد ضعفت وتجزأت إلى عدّة دويلات، وكان
الفاطميون
يحكمون
مصر
ويمرون في حالة ضعف شديد
، وكان
الصليبيون
يحتلون سواحل بلاد الشام والقدس
، وكانت تنشر إمارات
إسلامية عديدة هنا وهناك
.
ارسل نور الدين زنكي جيشاً الى مصر لمساعدة احد طرفي نزاع ( شاور
وضرغام ) بقيادة اسد الدين شيركوه عم صلاح
الدين فإصطحبه معه وكان عمره 26 عاماً. تمكن اسد الدين من قتل ضرغام واعادة لشاور لمنصبه
( مع بقاء الخليفة الفاطمي الذي كان لا يملك من الامر شيئاً ) ولكن سرعان ما غدر
شاور باسد الدين واستعان بالفرنجة عليه فإنسحب أسد الدين إلى الشام، ولكن نور
الدين جهز له جيشا اكبر ووجهه الى مصر ثانية.
لمع نجم صلاح الدين في اول لقاء تم بين جيش عمه والجيش المكون من
تحالف من الفرنجة والفاطميين بالقرب من الجيزة حيث قاد القلب وتمكن من استيعاب
الصدمة الاولى بل واسر احد امراء الفرنج.
ولكن سرعان ما غادروا مصر بناء على اتفاق مفاده ان يغادر كلا الجيشين
الصليبي والزنكوي مصر.
ولكن سرعان ما اضطر شيركوه الى غزو مصر للمرة الثالثة عندما وصلت
اخبار عن توجه الفرنجة لغزوها. هذه المرة
تمكن شيركوه من فرض سيطرته وتم التخلص من شاور بقرار من الخليفة الفاطمي الذي عين
شيركوه وزيراً.
أصبح شيركوه المرسل إلى مصر من قبل نور الدين زنكي التابع ولو إسمياً
للخلافة العباسية وزيراً للخليفة الفاطمي. وكانت الخلافة الفاطمية قد بلغت درجة عالية من
الضعف بحيث كان الحكم الفعلي بيد الوزراء.
وبذا اصبح اسد الدين شيركوه الحاكم الفعلي لمصر. ولكن شيركوه توفي بعد شهرين فعين الخليفة صلاح
الدين وزيراً مكان عمه.
واجه صلاح الدين في بداية حكمه بعض المصاعب من بينها محاولة إغتيال،
ولكن التحدي الاكبر جاء سريعاً عندما هاجم تحالف صليبي بيزنطي مدينة دمياط
الساحلية سنة 1169. فأرسل صلاح الدين
جيشاً للدفاع عن المدينة فصمدت خمسين يوماً حيث تم فك الحصار بإنسحاب الأسطول
البيزنطي – الذي تعرض لعاصفة وغرق معظمه – وإنسحاب الجيش الصليبي براً حيث تعقبه
صلاح الدين حتى غزة.
في العام 1171 تم تصفية الدولة الفاطمية وعادت مصر بتبعيتها إلى الدولة
العباسية في بغداد والدولة الزنكية بقيادة نور الدين زنكي . ولكن سرعان ما وقع الخلاف بين صلاح الدين ونور
الدين وبدا عندما اظهر صلاح الدين بعض التردد في تصفية الدولة الفاطمية وتدريجياً
فقدت الثقة بينهما، فحاول نور الدين غزو مصر عدة مرات لعزل صلاح الدين ولكنه لم
يوفق بسبب الاوضاع في الشام إلى أن توفي سنة 1174 فأصبح صلاح الدين الحاكم المطلق
لمصر التي وسع رقعتها جنوباً في ارض النوبة وضم اليمن ودخلت الحجاز في طاعته
طوعاً.
تولى حكم الشام ابن نور الدين زنكي الذي كان عمره احد عشر سنة وكان
مقر حكمه في دمشق ثم انتقل الى حلب، بينما حكم الموصل إبن عمه إبن مودود، فدخلت
الجبهة الشرقية بحالة من الإرتباك والشرذمة مما حدا بأهل دمشق أن يدعو صلاح الدين
لضمها. فسار على رأس جيش ودخل المدينة سنة
1174.
ثم توجه الى حماة واخذها بيسر ولكنه عدل عن حصار حمص لمناعتها فتوجه
الى حلب، وأثناء حصارها تعرض صلاح الدين لمحاولة إغتيال من قبل الحشاشين. وبلغه أن ريموند الثالث حاكم طرابلس الصليبي
جهز جيشاً لمهاجمة حمص فإنطلق على رأس جيش للقاءه ولمساندة حمص مما جعل ريموند
يتراجع. فدخل صلاح الدين المدينة وتسلمها.
إضطر صلاح الدين لفك الحصار عن حلب عندما بلغه ان امير الموصل قد جهز
جيشاً لمحاربته، فتراجع الى حماة حيث التقى بجيشه مع جيش الموصل الذي انضم اليه
جيش حلب فهزمهم بعد عدة محاولات لتجنب القتال.
كنتيجة لهزيمتهم تنازل الزنكيون عن عدد من المدن في الشام.
بعد المعركة أسند الخليفة إليه السلطة على مصر والحجاز واجزاء كبيرة
من الشام، فتعزز حكمه. ثم عاد الى القاهرة
حيث ركز على تنظيم الدولة وتحصبن مدنها واستمر على ذلك لمدة سنتين إلى أن قام
الصليبيون بمهاجمة دمشق ناقضين بذلك الهدنة، فجهز صلاح الدين جيشه وهاجم فلسطين
واخذ عدد من المدن الى ان وصل الى اسوار القدس الا انه تجنب المواجهة مع جيوش
الصليبيين فتراجع بجيشه الى منطقة الرملة حيث هاجمهم الصليبيون وهزموهم سنة 1177،
فعاد صلاح الدين الى القاهرة.
إستعد صلاح الدين لقتال الصليبيين مجدداً وفي العام التالي كان جيشه
يتحرك في شمال سوريا في مواجهة الإمارات الصليبية. وإستمر في منازلات دامت لمدة سنتين، إنتصر في
كثير من المواقع وعزز وجود جيوش المسلمين في مواجهة مدن وحصون الصليبيين، وبينما
كان في صفد يستعد لمهاجمة القدس إذ عرض عليه ملك القدس بلدوين هدنة فقبلها وعاد
الى القاهرة.
نجح صلاح
الدين في أن يجمع
مصر
وسوريا
والحجاز
وا
ليمن
واجزاء من العراق
,
وليبيا والاناضول
في دولة إسلامية موحدة قوية تحيط
بمملكة القدس
والإمارات الصليبية الاخرى، فتفرغ لمحاربة
الصليبيين. وجاءت الفرصة حين غدر حاكم
الكرك الصليبي وهاجم قافلة حجاج وإستولى عليها حيث ذكرت بعض المصادر أن أخت صلاح
الدين كانت في القافلة. وكان صلاح الدين حينذاك
في دمشق فأمر على الفور بتجهيز الجيوش وتحرك لغزو وتأديب امير الكرك. حاصر الكرك مرتين دون فائدة لحصانة قلعتها ولكنه
حقق بعض الانجازات في فلسطين دون ان تقع مواجهة شاملة مع جيش صليبي كبير.
في هذه
الاثناء عاد وحاول ضم الموصل ولكنه فشل وعاد الى دمشق مريضاً.
في العام 1185 توفي ملك بيت المقدس بلدوين الرابع الذي كان مجذوماً
فخلفه بلدوين الخامس الذي مات خلال سنة فتولت والدته سيبيلا الحكم ثم تزوجت من غي
لوسينان الذي كان متشدداً ويسير على درب امير الكرك الذي اصبح ملكاً ولكن هذا لم
يرق لكثير من امراء الصليبيين ومن بينهم امير طرابلس ريموند الثالث " القمص
" فراسل صلاح الدين وتنازل له عن طبريا الامر الذي اغضب ملك القدس الجديد مما
دفعه الى التصدي لصلاح الدين لمنعه من استلام مدينة طبريا وجمع جيشاً انضم اليه جميع
امراء الصليبيين ومن بينهم امير طرابلس نفسه واجتمعوا بالقرب من قرون حطين شمال
غرب طبريا حيث سبقهم جيش صلاح الدين وعسكر قرب نبع الماء ومنعهم من الوصول اليه
فعانوا من العطش لدرجة أنهم هاجموا جيش صلاح
الدين الذي كان يحول بينهم وبين نبع الماء طلباً لمياه الشرب فقُتل من الفريقين
عدد من الجنود، وكانت النتيجة انهم هزموا المسلمين في أول النهار ولكن دارت
الدوائر عليهم في آخر النهار، فانقض
جيش صلاح الدين
على الجيش الصليبي ومزقوا صفوفه حيث خسروا خيرة جنودهم، وقُتل العديد من
فرسانهم وكبار قادتهم، ووقع ملك
القدس
وامير
الكرك
وغيرهم من كبارامراء وقادة الصليبيين بالأسر
أما ريموند الثالث
امير
طرابلس، فقد تظاهر بالهجوم على المسلمين، فمر
بين صفوفهم وذهب بجيشه ولم يرجع وكأنه أنهزم، واتجه إلى مدينة
صور
.
قام صلاح الدين بإعدام امير الكرك واكرم ملك القدس وسائر الأمراء وكان
متساهلاً مع الأسرى عموماً مما جعل له سمعة طيبة في الغرب لا تزال أصداءها باقية.
بعد المعركة إتجه صلاح الدين الى مدن وقلاع الساحل الفلسطيني ومن ثم
اللبناني فحررها جميعها
ولم يصمد في وجهه غير
مدينتيّ
طرابلس
وصور
وقسمًا من إمارة
أنطاكية
. ثم توج لحصار القدس وفتحها وفتمكن من ذلك بعد حصار
دام 14 يوم رغم قلة المدافعين حيث إستسلمت الحامية بشروط. دخل صلاح الدين المدينة وامر بتنظيف المسجد
الاقصى وقبة الصخرة وفتحهما للصلاة ففرح بذلك المسلمون بعد انقطاع دام قرابة 90
سنة.
بقيت صور في يد الفرنج وكان يلجأ اليها الهاربون من القلاع والمدن
المحررة فإحتشد بها عدد كبير من فرسان الفرنج. فإستغلوا حشدهم هذا وهاجموا عكا
التي كانت منذ بداية الحروب الصليبية ميناءهم الرئيس، فحاصروها. فقام صلاح الدين بتوجيه جيش لمساعدة المدينة من
الخارج، إستمر الحصار وما تخلله من قتال خارج الاسوار لمدة سنتين دون تحقيق غلبة
لطرفٍ على آخر. الى ان وصلت الحملة
الصليبية الثالثة فتمكن الصليبيون من إجتياح المدينة.
كان نتيجة لهزيمة حطين وفقدان بيت المقدس ان دعا البابا غريغوري
الثامن ملوك اوربا لتنظيم حملة صليبية جديدة فلبى النداء امبراطور الامبراطورية
الرومانية المقدسة فريدريك برباروسا وملك إنجلترا ريتشارد قلب الاسد وملك فرنسا
فيليب أغسطس.
علم صلاح الدين بالحملة منذ تحركها من اوربا، والملفت للنظر انه تلقى
العديد من الرسائل تخبره بأخبار الحملة من الروم والسلاجقة والارمن وغيرهم. بدأ صلاح الدين الاستعداد لمواجهة الجيوش
القادمة، فأوفد كاتبه الى الخليفة الناصر وكاتب جميع الامراء فأبدى الجميع
إستعدادهم للتعاون.
لم يتمكن فريدريك من الوصول الى سوريا حيث مات غرقاً في نهر في
كيليكيا، ووصل جيشه منهكا وقد فني جزءاً
كبيراً منه ورجع عدد من الامراء الى المانيا.
وبقيت الحملة بقيادة ملكي انجلترا وفرنسا الذين كانت علاقاتهما تتسم
بالعداء الازلي.
وصلت الجيوش الى عكا كما وصلت
اساطيل اسكندنافية وفلمنكية وانكليزية فتمكنوا من دخول المدينة، وغادر بعد ذلك
فيليب إلى بلاده. بادر الجيش الصليبي إلى
الهجوم بقيادة ريتشارد قلب الاسد، حيث سلك طريق الساحل مستفيداً من التفوق البحري،
وإستولى على يافا، وإقترب من القدس بعد أن حقق إنتصاراً آخر في أرسوف، شمالي يافا،
وهو الأول للصليبيين في معركة مفتوحة منذ حطين، ولكنه جوبه بجيش إسلامي قوي. فلجأ العاهلين المنهكين إلى التفاوض . إتفق صلاح الدين وريتشارد على هدنة في العام
1192 م، فيما سمي بإتفاق الرملة، حيث تبقى
القدس بيد المسلمين وتفتح أمام حجاج أوربا.
غادر ريتشارد إلى أوربا، حيث ترك وراءه مملكة صليبية تمتد على طول ساحل
البحر من صور إلى يافا.
وفي العام التالي 1193م، توفي
صلاح الدين في دمشق، ودفن فيها بعد مرض إستمر عدة أيام، وقد حافظ على نفس الهدوء
والتواضع والمسلك الأخلاقي حتى اللحظة الأخيرة من عمره. فقد ورد في رواية أبي المحاسن أن الطبيب أشار
عليه أن يشرب الماء فاتراً، فطلب ماءاً ليشرب، فوجده حاراً، فطلب أن يبرد، فجاءه
بارداً، فلم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى هذه الكلمات : سبحان الله ألا يمكن لأحد
تعديل الماء. فقال القاصي الفاضل لمؤلف
سيرة صلاح الدين : أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو
كان بعض الناس لضرب بالقدح رأس من أحضره.
رحم الله صلاح الدين كان نموذجاً قيادياً من نوع فريد؛ خاض حروب كثيرة
وكان يكره سفك الدماء وكان يتحلى بأخلاق رفيعة وكان كريماً رحيماً ودوداً حتى مع
أعداءه. كان يدرك اهمية المعلومات ويعرف كيف يحصل عليها وكيف يستثمرها.
كما كان يحسن توقيت تحركاته ويدير
الموارد بأفضل طريقة.