القديس والسلطان
جاءت الحملة الصليبية الخامسة في أحلك الظروف التي يمكن أن تمر بها أمة، فقد كان جنكيز خان يقود جيوشه المغولية يإتجاه بغداد يدمر ويحرق ويقتل، فيما يمكن أن يعد أقسى حروب البشرية عبر التاريخ، وكانت الحرب الصليبية قد دخلت قرنها الثاني منذ عقدين حين قرر صناع القرار في أوربا الغربية أن الهجوم القادم ينبغي أن يستهدف مصر، فهي قلب العالم العربي، ولكن الحملة الصليبية الرابعة، التي تم تنظيمها في العام 1204، تم حرفها لتوجه ضد القسطنطينية، فجاءت الحملة الخامسة في العام 1219 لتحقق نفس الغرض، فتمكنت من السيطرة على مدينة دمياط المصرية الساحلية وأخذوا في الإستعداد للتقدم إلى الداخل المصري، حيث حدث معارك كثيرة في شمال الدلتا. وبينما كان الملك الكامل يتصدى بجيشه للضغط الفرنجي، قدم لهم خمسة عروض سلام، رفضوها جميعها، تضمنت العروض تسليم مدن لهم في فلسطين، حتى تضمن العرض الأخير تسليم القدس، ولكنهم رفضوا.
رافق الحملة القديس فرانسيس وبعض من أتباعه، لم يأتي فرانسيس إلى الشرق لمحاربة المسلمين " أعداء المسيح "، كما كانت صيحات الكراهية في جنبات أوربا تطلق عليهم، إنما جاء ليتكلم مع المسلمين بسلام، حتى " لو كلفه ذلك حياته "، وكان فرانسيس راهباً عالماً متنوراً يحظى بأحترام واسع، وقد أصبح له تبعية أو أخوة سميت بالرهبنة أو ألأخوة الفرانسيسكانية. وكان بفكره يختلف عن ما كان رائجاً في أوربا في ذلك الوقت لدرجة أنه حورب وعانى بشدة، ولكنه ترك أثراً كبيراً بفضل تبعيته الواسعة. في دمياط، إعترض فرانسيس على المذابح التي إرتكبها الجيش الفرنجي بحق أهل دمياط بعد السيطرة عليها.
ولكن الحرب تغيرت إتجاهاتها، فقد إنضم إلى الملك الكامل إثنين من إخوته، اللذان كانا يحكمان في الشام، جاء كل منهما ومعه جيشه، معتذرين للخليفة العباسي الذي طلب مساعدتهما للوقوف بوجه جنكيز خان، الذي كان قد وصل إلى أربيل. إنهزم الفرنج، وتوقف القتال، عند ذلك قرر فرانسيس ومعه مرافق واحد أن يسير بإتجاه جيش الكامل عابراً خط القتل المتوقف، حيث أمسك به بعض الجنود وأخذوه للسلطان.
وهناك امضى عشرين يوماً في ضيافة السلطان وبعض حاشيته، كان من بينهم الفقيه فخر الدين الفارسي، في حوار وإستكشاف، طمع فيه كل طرف أن يقنع الطرف الآخر بصحة دينه، ولكن، قطعاً، بطريقة حضارية، فقد كانا رجلين متنورين يؤمنان بالإختلاف والتعايش مع الإختلاف . وكانت أهم إكتشافات فرانسيس أن المسلمين ليسوا أعداء المسيح عليه السلام وأنهم يعبدون الرب نفسه. كما أعجب فرانسيس بالدعوات المتكررة للصلاة لدى المسلمين، الصلوات الخمس، وأعجب بتقديرهم الشديد لكتابهم، القرآن.
وأُعجب، كذلك، الملك الكامل بالقديس فرانسيس، لدرجة أنه أمن له السفر إلى الأراضي المقدسة، وطلب منه الدعاء، كما منح أتباعه خصوصية في الأماكن المقدسة. لقد حقق فرانسيس بالكلمة الطيبة ما لم تستطع الجيوش تحقيقه، كما ترك الملك الكامل أثراً طيباً يبدو واضحاً على كتابات المؤرخين الأوربيين عنه.
أصحاب النوايا الحسنة وذوي البصيرة الثاقبة يبحثون عن القواسم المشتركة، ويجدونها ويصنعون إرثاً يُفتخر به.
نديم أسـعد