كان فريدريك الثاني ( 1212 - 1250 ) قد بلغ السادسة عشرة عندما إعتلى عرش الإمبراطورية الرومانية المقدرسة، فتوجه إلى روما حيث أعلن ولاءه للبابا. ثم توجه إلى ألمانيا حيث رحبت به جميع المانيا ما عدا سكسونيا. دار الصراع على صعيد أوربي، هذه المرة، فإنخرطت فرنسا وإنجلترة، فمر ست سنوات منذ تُوج فريدريك في كاتدرائية مينز سنة 1212 إلى إن إستتب الأمر تماماً له في العام 1218. وقد سجل الفرنسيون نصراً كاسحاً ضد الإنكليز سنة 1214 في موقعة حاسمة. وفي العام 1218 تراجع أوتو الرابع إلى سكسونيا، وإستسلم أتباعه.
وكان فريدريك الثاني شخصية فريدة فقد كان محباً للعلم والأدب ويتقن اللغة العربية وثماني لغات أخرى، وكان يكتب ويقرأ سبعة لغات في وقت كان فيه بعض ملوك أوربا لا يتقنون قراءة وكتابة لغة واحدة. وكان يسمى أعجوبة الدنيا Stupor mundi، وقد ساعد فريدريك على إيجاد مدرسة جديدة في الشعر في صقلية، وقد أستخدم في بلاطه شكل من أشكال اللغة الإيطالية سبق إستخدام اللهجة التوسكانية بقرن كامل. وقد كان لهذه اللغة، التي نشأت في أوساط مؤثرات عربية قوية، أثر كبير على تكوين اللغة الإيطالية، كما أن المدرسة الصقلية الشعرية كانت معروفة لشعراء مثل دانتي.
توفي البابا القوي إنوسنت الثالث سنة 1216 فتحرر فريدريك الثاني من سيطرته، وهو صاحب الفضل عليه في تنصيبه. وخلفه هونوريوس الثالث، الذي كان هادئ الطبع وركز جهوده على متابعة الحروب الصليبية.
وكان فريدريك الثاني قد وعد إنوسنت الثالث بالقيام بحملة صليبية سنة 1215، قبل وفاته بقليل، ولكنه لم ينفذ ما وعد، وأخذ يماطل. كما إستمر بالمماطلة مع البابا الجديد هونوريوس الثالث.
كما وعد البابا إنوسنت الثالث بفصل صقلية عن الإمبراطورية، ولكنه لم يوفي بوعده، بل مضى في تعزيز الوحدة بينهما بتتويج إبنه الرضيع ملكاً على صقلية والإمبراطورية معاً. فحنق عليه البابا هونوريوس الرابع. لقد كان فريدريك يعتبر ميراث صقلية، المستعادة مؤخراً من العرب، " أكثر مجداً من كل ممتلكاتنا "، كما كانت أكثر ثراءاً، فقد كانت ضرائب صقلية ومواردها الأخرى تمول جهود فريدريك الحربية.
وفي العام 1220 تم تتويج فريدريك في روما بعد أن أعطى وعداً بالقيام بحملة صليبية. وكان البابا شديد التوق لتنظيم حملة جديدة بعد فشل حملة جون برين على مصر في 1219/1221م. وليشجع البابا فريدريك عرض عليه الزواج من يولاند وريثة عرش مملكة القدس اللاتينية. قبل فريدريك العرض وجدد وعده بالقيام بحملة صليبية، ولكنه طلب أن يكون الزواج في صقلية. وفعلاً تم الزواج سنة 1225، ولكن فريدريك لم يوفي بوعده، بل زاد الأمر تعقيداً عندما فرض قوانين مشددة على رجال الدين. كما عقد مجمعاً في مريمونا أعلن فيه تمسكه في حقوقه في لومبارديا، مما نشر الفزع في المدن اللومباردية، التي بادرت إلى إغلاق الممرات الجبلية في الألب. مات هونوريوس سنة 1227 قبل أن يبدي أي رد فعل على أعمال فريدريك. وجاء خلفه جريجوري التاسع صاحب إرادة قوية، فأصر على فريدريك أن ينفذ وعوده. فقام فريدريك بالإبحار من برينديزي بإتجاه الشرق، ولكنه عاد خلال أيام بحجة المرض. ولكن البابا لم يقبل ذلك العذر فأصدر بحقه قرار الحرمان.
لم يهتز فريدريك من قرار البابا، فقد إستطاع أن يحرض أهل روما على البابا، مما إضطره إلى الفرار منها في سنة 1228. وفي نفس السنة غادر فريدريك إلى الأراضي المقدسة على رأس قوة صغيرة.
وكان فريدريك تربطه علاقة صداقة مع الملك الأيوبي الكامل، وكان بينهما مراسلات. فطلب الكامل مساعدته ضد الملك المعظم، الذي نازعه الحكم، وعرض الكامل على فريدريك مدينة القدس. ولكن الملك المعظم مات قبل وصول فريدريك إلى المنطقة، الذي طالب بالقدس فور وصوله. فوقع الكامل في الحرج. فمضت بينهما مفاوضات طويلة، إلى أن إتفقا على تسليم المدينة وفق شروط تضمن حقوق المسلمين. ودخل فريدريك المدينة المقدسة في آذار 1229 دون أن يحتفل بذلك أحد، فقد قاطعه الصليبيون بسبب قرار الحرمان الذي أصدره البابا، فقام بتتويج نفسه بنفسه في كنيسة القيامة، لرفض رجال الدين التعامل معه. لم تفرح أوربا بإستعادة القدس، بل يقال إن بعض الأوربيين كتب يحرض الكامل على عدم تسليم المدينة لفريدريك.
عاد فريدريك إلى أوربا، ليجد إشاعة مفادها أنه مات في البلاد المقدسة، ثم ووجه بقرار حرمان آخر سنة 1239، فرد عليه بطرد رجال الكنيسة من لومبارديا وتعيين إبنه إنزيو كرئيس لكنيستها، الذي قام بضم اقاليم اخرى كانت تتبع، ولو إسمياً، للدولة البابوية. وفي نفس السنة إستولى فريدريك على توسكانيا وهاجم روما ولكنه لم يتمكن من إقتحامها، فعاد إلى الجنوب، وفي طريقه نهب جيشه بينيفنتو التي كانت من ممتلكات البابا. توفي البابا سنة 1240، بينما كان فريدريك يعد لمهاجمة روما. ولإثبات أن صراعه كان مع البابا وليس مع الكنيسة تراجع فريدريك وأطلق سراح رجال الدين الذين كانوا بحوزته. ولكن هذا لم يغير شيئاً، إذ هوجمت قواته من قبل جيش روما، فأعاد الكرة على روما ثانيةً، وتكرر المشهد إلى أن إعتلى إنوسنت الرابع سدة البابوية سنة 1243م، بعد سنتين من الفوضى، حيث تعذر إنتخاب بابا خلال السنتين.
سُر فريدريك لإختيار إنوسنت الرابع، فقد كان من أسرة إمبراطورية، وكان لديه أقارب في معسكر فريدريك. ولكن إنوسنت الرابع أثبت بسرعة أنه أشد أعداءه ضراوة. فالصراع كان بين مؤسستين ولم يكن بين أشخاص. عندما أُنتخب إنوسنت الرابع كانت المفاوضات جارية بين الطرفين، ولكنها لم تؤدي إلى حل. فقد تمسكت البابوية بالسيطرة على الموقف بين الإمبراطور والمدن اللومباردية. لقد كان فريدريك مستعداً للتساهل في كل القضايا، بما في ذلك الكنسية منها. وإزاء إصرار البابا على متابعة سياسة جريجوري التاسع قام الإمبراطور بمهاجمة روما بقواته المكونة من المسلمين سنة 1244. ففر البابا إلى جنوا ومنها إلى فرنسا، حيث دعا إلى عقد مجمع في ليون سنة 1245 لمناقشة الصراع بين البابوية والإمبراطورية. قرر المجمع عزل فريدريك، إلا أنه أعطاه حرية إختيار خلفاً له. وقام فريدريك بالتوجه إلى ملوك أوربا، الذين لم يفعلوا شيء، على الرغم من تخوفهم من تعاظم دور الكنيسة. حاول البابا العمل على زعزعة مكانة فريدريك في ألمانيا، فبإستثناء بعض الأساقفة بقيت غالبية ألمانيا موالية للإمبراطور. وفي السنوات التالية أحرزت الإمبراطورية تقدماً كبيراً فقد تحقق بناء إمبراطورية تمتد من شمال ألمانيا إلى صقلية. فأصبح فريدريك يفكر في غزو ليون حيث يقيم إنوسنت الرابع. ولكن إشتعلت ثورة في مدينة بارما سنة 1247، لم تتمكن القوات الإمبراطورية من إخمادها. كما ثار أمراء أبوليا، في جنوب إيطاليا، وإشتدت مقاومة مدن شمال إيطاليا. وقام البابا بإختيار اميراً هولندياً ملكاً على ألمانيا. وفي سنة 1250 بدأت كفة الإمبراطور ترجح عندما حقق عدداً من الإنتصارات في شمال إيطاليا، كما إنتصر كونراد إبن الإمبراطور على الأمير الهولندي المعين ملكاً على ألمانيا. ولكن فريدريك لم يعش ليعزز هذه الإنتصارات، فمات في نفس السنة. وبموته إنتهت الصفة العالمية للإمبراطورية، وإنتهى الصراع، فقد كان فريدريك آخر الأباطرة العظام الذين تمسكوا بهذه الفكرة. وخرجت البابوية من الصراع منتصرة قوية.
وطوال عهد فريدريك كان المسلمون في حالة عصيان في جبال الجزيرة الداخلية. ولكنه غادر الجزيرة سنة 1212 إلى ألمانيا وعاد سنة 1220بعد أن توج إمبراطوراً ، ولدى عودته بادر إلى إخضاع ثورة المسلمين في الجزيرة ، حيث قدر عدد الثوار بما يتراوح بين خمسة وعشرين وثلاثين ألف مقاتل. إنتهت الثورة بعقد الصلح بين الطرفين. وبعد أن إستتب الأمر له قام فريدريك بنقل ستين ألف من مسلمي صقلية إلى إيطاليا ، حيث رتب إقامتهم في لوسيرا في أبوليا ، وإستعان بهم في حروبه في إيطاليا ، وخاصةً ضد البابوية ، الأمر الذي زاد من كره المسلمين في أوربا ، التي كانت في حالة حرب معهم في الشرق وفي الأندلس. وتعتبر خطوة فريدريك هذه ، طرد العرب إلى الداخل، دلالة على ما كان عليه من دهاء ، فقد سارع بكسبهم وأخاف بهم إيطاليا. وبعد هذا التاريخ فرغت صقلية من العرب ، ولم يبقى منهم إلا القليل . وكان يتبع سياسة التهجير مع المعارضين له . وقد أقام في إيطاليا عدد آخر من التجمعات العربية الأصغر حجماً مثل فوجيا وجيروفالكو. ومما يثبت أن هذه التجمعات لم تعن حلاً للتخلص من العرب وخطرهم ، بل خطة لها أهدافها ، أنه أحضر عرباً آخرين من جزيرة جربة بعد إحدى غاراته عليها. وقامت حركة أخرى من قبل ما تبقى من المسلمين في صقلية سنة 1243 فعوقبوا بالتهجير كذلك إلى لوسيرا . وكان الملك الكامل الأيوبي قد كتب إلى فريدريك يطالبه بترك المسلمين وشأنهم ، أو يسمح بنقلهم إلى مصر ، فلم يستجب له .
لقد كان فريدريك شخصاً لم تلد أوربا العصور الوسطى مثله. فقد كان متنوراً محباً للعلم، بل كان عالماً. أسس جامعة نابولي وجلب لها المحاضرين، ووضع لها المناهج. وله مؤلفات مثل " أسئلة صقلية " نشر فيه عن أشهر علماء العالم العربي سلسلة من التساؤلات ذات الأهمية.
لا يزال المؤرخون الأوربيون يختلفون في تقييم شخصية فريدريك الثاني، وكذلك إختلف في تقييمه العرب، ولكن أحدهم، وهو سبط بن الجوزي، وصفه وصفاً عنصرياً فقال إن جسمه مغطى بالشعر الأحمر وأنه أصلع وضعيف النظر، وأضاف أنه لو كان عبداً لما تخطى ثمنه مائتي درهم.
ولكن أبو الفدا تكلم عنه بكلمات جميلة ، ووصفه بأنه أحد ملوك الفرنج الكرماء ، يهتم كثيراً بالفلسفة والمنطق والطب ويحب المسلمين.
توفي فريدريك في العام 1250 م . وحكم بعده إبنه كونراد لمدة أربع سنين.
نديم أسـعد